رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

(قُلْ) يا محمد (أَنْزَلَهُ) يعني : القرآن (١) (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يجازيكم على ما تسرّون من الكيد لرسوله ، مع علمكم ببطلان ما تلقونه وتختلقونه ، (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لم يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم إياها ، لمكابرتكم وعنادكم.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤)

(وَقالُوا) يعني : المشركين (ما لِهذَا الرَّسُولِ) سمّوه رسولا على وجه السخرية منهم والطّنز (٢) ، كقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].

__________________

(١) في ب : الفرقان.

(٢) الطّنز : السخرية (اللسان ، مادة : طنز).

٣٠١

(يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أنكروا أن يكون الرسول بشرا يأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعيشة.

يعنون : أنه يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن ذلك.

ثم تنزلوا إلى اقتراح كون الرسول بشرا مصحوبا بملك يعينه ويشهد بصدقه ، فذلك قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً).

ثم تنزلوا إلى اقتراح رسول يلقى إليه كنز من السماء يغنيه عن التردد في الأسواق.

ثم تنزلوا إلى اقتراح رسول له بستان يأكل منه يغنيه عن المشي في الأسواق ابتغاء الرزق ، فذلك قوله : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

قال المفسرون : قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا ، ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا يغنيك بها عن طلب المعيشة ، فنزلت هذه الآية (١).

وقرأ حمزة والكسائي : «نأكل منها» بالنون (٢).

قال أبو علي (٣) : المعنى : يكون له علينا مزيّة في الفضل بأكلنا من جنّته.

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر : «ويجعل» بالرفع على الاستئناف والإخبار

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ١٨٣ ـ ١٨٤) ، والوسيط (٣ / ٣٣٥).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٠٧) ، والكشف (٢ / ١٤٤) ، والنشر (٢ / ٣٣٣) ، والإتحاف (ص : ٣٢٧) ، والسبعة (ص : ٤٦٢).

(٣) الحجة (٣ / ٢٠٧).

٣٠٢

بأن الله يجعل ذلك لرسوله لا محالة. وقرأ الباقون بالجزم (١) ، عطفا على موضع" جعل".

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) المعنى : بل أتوا بأعجب من ذلك ، وهو تكذيبهم بالساعة مع وضوح آياتها وظهور [بيّناتها](٢) ، (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً).

(إِذا رَأَتْهُمْ) أنّث حملا على المعنى ؛ لأن السعير : النار المتلظّية ، والرؤية هاهنا مجاز ، ومعناها : المقابلة ، حتى كأنها تراهم ، وقريب منه قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا تتراءا ناراهما» (٣).

ومنه قولهم : داري تنظر إلى دارك.

(مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال السدي ومقاتل (٤) : من مسيرة خمسمائة عام (٥).

(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي : سمعوا صوت غليانها ، وشبّه ذلك بصوت المتغيظ.

وقال الزجاج (٦) : غليان تغيّظ.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٠٨) ، والكشف (٢ / ١٤٤) ، والنشر (٢ / ٣٣٣) ، والإتحاف (ص : ٣٢٧) ، والسبعة (ص : ٤٦٢).

(٢) في الأصل : بيانها. والتصويب من ب.

(٣) أخرجه أبو داود (٣ / ٤٥ ح ٢٦٤٥) ، والترمذي (٤ / ١٥٥ ح ١٦٠٤).

(٤) تفسير مقاتل (٢ / ٤٣٠) وفيه : مسيرة مائة سنة.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٦٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٣٨) وعزاه لابن أبي حاتم.

ولفظهما : من مسيرة مائة عام.

(٦) معاني الزجاج (٤ / ٥٩).

٣٠٣

قال عبيد بن عمير (١) : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرّب إلا خرّ لوجهه (٢).

وقال بعض المفسرين : المعنى : سمعوا فيها تغيّظ المعذّبين وزفيرهم (٣).

وقيل : يجوز أن يكون المعنى : إذا رأتهم الزبانية تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) قال المفسرون : تضيق عليهم كما يضيق الزّجّ (٤) على الرمح (٥).

(مُقَرَّنِينَ) موثّقين في السلاسل والأغلال ، أو مقرّنين مع شياطينهم ، (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الثّبور : الهلاك ، ودعواه أن يقال : واثبوراه.

(لا تَدْعُوا) على إضمار القول ، تقديره : فيقال لهم : لا تدعوا (الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) يشير إلى أن هلاكهم أكثر من أن يدعوه مرة واحدة.

وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها من خلفه ذريته من بعده وهو ينادي : واثبوراه ، وهم ينادون :

__________________

(١) عبيد بن عمير : مولى سيدنا ابن عباس (تقريب التهذيب ص : ٣٧٧).

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٨٧) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٣٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٣١٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٧٥).

(٤) الزّجّ : الحديدة التي تركّب في أسفل الرمح ، والجمع : زججة ، بوزن عنبة (اللسان : مادة : زجج).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٠) وزاد نسبته لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر.

٣٠٤

يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار فيقول : يا ثبوراه ، ويقولون : يا ثبورهم ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً).(١).

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦)

قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من السعير ، وصفة عذاب أهله خير (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) قال الزجاج (٢) : قد يقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان ، فلذلك وقع التفضيل بينهما.

(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي : ثوابا ومصيرا يصيرون إليه يوم القيامة.

وإنما قال : «كانت» لأن ما [وعد](٣) الله وجوده فهو في تحققه كالذي [كان](٤) ووجد ، أو يكون المعنى : كانت لهم في اللوح المحفوظ ، أو في علم الله تعالى.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ) أي : كان ذلك على ربك (وَعْداً) أي : موعودا (مَسْؤُلاً) مطلوبا سألوه لأنفسهم في الدنيا وسألته لهم [الرسل](٥) والملائكة ، مثل قولهم : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٢٤٩ ح ١٣٦٢٨). وقال عنه الهيثمي في مجمعه (١٠ / ٣٩٢) : رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح غير علي بن زيد وقد وثق.

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٦٠).

(٣) في الأصل : عد. والتصويب من ب.

(٤) زيادة من ب.

(٥) في الأصل : الرسول. والتصويب من ب.

٣٠٥

[البقرة : ٢٠١] ، (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] ، وقول الملائكة : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر : ٨].

وقيل : مسؤولا واجبا. تقول العرب : لأعطينّك ألفا وعدا مسؤولا ، بمعنى : أنه واجب لك فتسأله.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ) نحشرهم قرأ ابن عامر : «نحشرهم» ، وما يعبدون من دون الله فنقول بالنون فيهما. وقرأ ابن كثير وحفص : «يحشرهم ... فيقول» بالياء فيهما. وقرأ الباقون : «نحشرهم» بالنون ، «فيقول» بالياء (١).

فمن قرأهما بالياء حمله على قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ) ، ومن قرأ : «نحشرهم» بالنون «فيقول» بالياء ، فقد أفرد بعد أن جمع. ومن قرأهما بالنون أجراهما على لفظ الجمع للواحد العظيم.

قال مجاهد : (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني : عيسى وعزيرا والملائكة (٢).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٠٨ ـ ٥٠٩) ، والنشر (٢ / ٣٣٣) ، والإتحاف (ص : ٣٢٨) ، والسبعة (ص : ٤٦٢ ـ ٤٦٣).

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٨٩) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٧٢) ، ومجاهد (ص : ٤٤٨). وذكره ـ

٣٠٦

وقال عكرمة والضحاك : يعني : الأصنام (١).

قال ابن السائب : ينطقها الله (٢).

ويجوز أن يكون عامّا في الجميع.

قال صاحب الكشاف (٣) : إن قلت [كيف](٤) صح استعمال «ما» في العقلاء؟

قلت : هو [موضوع](٥) على العموم للعقلاء وغيرهم ، بدليل قولك إذا رأيت شبحا من بعيد : ما هو؟ فإذا قيل لك : إنسان ، قلت : من هو؟

(فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) فأمرتموهم بعبادتكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) والمقصود من هذا السؤال : تبكيت العابدين وتوبيخهم ، وإظهار فضيحتهم ، وزيادة حسرتهم عند تبرّئهم منهم.

(قالُوا سُبْحانَكَ) نزّهوا الله تعالى أن تكون معه آلهة ، أو هو خارج مخرج التعجب مما قيل لهم ، (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) أي : ما يصحّ ولا يصلح لنا (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ) أولياء ونعبدهم.

المعنى : فكيف يصح لنا أن نحمّل غيرنا على أن يتولّونا دونك.

وقرأت على الشيخين أبي البقاء العكبري وأبي عمرو الياسري لأبي جعفر : " أن

__________________

ـ السيوطي في الدر (٦ / ٢٤١) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٧٨).

(٢) ذكره النسفي في تفسيره (٣ / ١٦٣).

(٣) الكشاف (٣ / ٢٧٣).

(٤) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : موضع. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

٣٠٧

نتخذ" بضم النون وفتح الخاء (١) ، على البناء للمفعول ، وهي قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وزيد بن علي وجعفر بن محمد ومجاهد وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة.

ثم ذكروا سبب تركهم الإيمان فقالوا : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أطلت أعمارهم ووسّعت أرزاقهم ، (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) تركوا القرآن فلم يؤمنوا به ولم ينزجروا بمواعظه ، (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) قال ابن عباس : هلكى (٢).

قال أبو عبيدة (٣) : يقال : رجل بور وقوم بور ، لا يجمع ولا يثنّى ، وأنشد قول ابن الزبعرى :

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (٤)

قال (٥) : وقد سمعنا برجل بائر ، ورأيناهم ربما جمعوا فاعلا على فعل ، نحو : عائذ وعوذ.

قال المفسرون : فيقال حينئذ للكفار : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي : قد

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٣٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٢٨).

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٩٠) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٧٣). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) مجاز القرآن (٢ / ٧٢ ـ ٧٣).

(٤) البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي ، وقيل : لأبي سفيان بن الحارث ، وهو في : اللسان (مادة : بور) ، ومجاز القرآن (٢ / ٧٣) ، وغريب القرآن (ص : ٣١١) ، والطبري (١٣ / ٢١٩ ، ١٨ / ١٩١ ،) والقرطبي (١٣ / ١١ ، ١٦ ، ٢٦٩) ، وروح المعاني (١٨ / ٢٥٠ ، ٢٦ / ١٠٠) ، والماوردي (٤ / ١٣٧) ، وزاد المسير (٦ / ٧٩).

(٥) أي : أبو عبيدة.

٣٠٨

كذبكم المعبودون في قولكم أنهم آلهة (١).

وقرأت لابن كثير من رواية ابن شنبوذ عن قنبل : «بما يقولون» بالياء (٢) ، أي : كذبوكم بقولهم : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ).

(فَما) يستطيعون أي : فما يستطيع المعبودون (صَرْفاً) للعذاب عنكم (وَلا نَصْراً) لكم.

وقيل : المعنى : فلا يستطيع الكفار صرفا للعذاب عنهم ولا نصرا لأنفسهم.

وقرأ حفص : «تستطيعون» بالتاء (٣) ، على معنى : فما تستطيعون أيها الكفار صرفا للعذاب عنهم.

وحكى ابن قتيبة (٤) عن يونس البصري أنه قال : الصّرف : الحيلة ، من قولهم : إنه يتصرّف ، أي : يحتال.

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) بالشرك (نُذِقْهُ) وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وأبو الجوزاء : «يذقه» بالياء (٥) ، على معنى : يذقه الله تعالى ، أو يذقه الظلم ، (عَذاباً كَبِيراً) عظيما شديدا.

__________________

(١) ذكره الطبري (١٨ / ١٩٢) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٧٣) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٣٣٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٧٩).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٠٩ ـ ٥١٠) ، والنشر (٢ / ٣٣٤) ، والإتحاف (ص : ٣٢٨) ، والسبعة (ص : ٤٦٣).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٠) ، والكشف (٢ / ١٤٥) ، والنشر (٢ / ٣٣٤) ، والإتحاف (ص : ٣٢٨) ، والسبعة (ص : ٤٦٣).

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٣١١).

(٥) انظر هذه القراءة في زاد المسير (٦ / ٧٩).

٣٠٩

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال الزجاج (١) : فيه محذوف ، تقديره : وما أرسلنا قبلك [رسلا](٢) من المرسلين ، فحذفت «رسلا» ؛ لأن قولك : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يدل عليها.

(إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) قال الزجاج (٣) : هذا احتجاج عليهم في قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، فقيل لهم : كذلك كان من خلا من الرسل ، فكيف يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعا منهم؟.

فإن قيل : لم كسرت «إنّ» في قوله : (إِلَّا إِنَّهُمْ)؟

قلت : قد أجاب عن ذلك ابن الأنباري بجوابين :

أحدهما : أن تكون فيها واو الحال مضمرة ، فكسرت بعدها «إنّ» للاستئناف ، فيكون التقدير : إلا وإنّهم ليأكلون الطعام ، فأضمرت الواو كما أضمرت في قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، والتأويل : أو وهم قائلون.

والثاني : أن تكون كسرت لإضمار «من» قبلها ، فيكون التقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا من إنهم ليأكلون. قال الشاعر :

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٦٢).

(٢) في الأصل : مرسلا. والتصويب من ب ، والزجاج ، الموضع السابق.

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٦٢).

٣١٠

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

 ...................(١)

أراد : من دمعه.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي : ابتلاء واختبارا ، فأبلينا الفقير بالغني ، والأعمى بالبصير ، والسقيم بالصحيح. هذا قول الحسن (٢).

وقال غيره : هو ابتلاء الشريف بالوضيع ، والعربي بالمولى ، فإذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال : أسلم [فتكون](٣) له السابقة والفضل عليّ ، فيقيم على كفره. فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا اختيار الفراء والزجاج (٤).

وقال مقاتل (٥) : هذا في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالتنا ، فقال الله تعالى [لهؤلاء](٦) الفقراء الضعفاء : (أَتَصْبِرُونَ) يعني : على الأذى والاستهزاء.

__________________

(١) صدر بيت لذي الرمة ، وعجزه : (وآخر يثني دمعة العين بالمهل). انظر : البيت في : ديوانه (١ / ١٤١) ، والدر المصون (٢ / ٣٧٢) ، والطبري (٥ / ١١٧) ، وزاد المسير (٦ / ٨٠) ، والبحر (٣ / ٢٨٢).

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ١٩٤) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٧٥). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب.

(٣) في الأصل : ليكون. والتصويب من ب.

(٤) انظر : معاني الفراء (٢ / ٢٦٥) ، ومعاني الزجاج (٤ / ٦٢).

(٥) تفسير مقاتل (٢ / ٤٣٣).

(٦) في الأصل : لهذا. والتصويب من ب ، وتفسير مقاتل ، الموضع السابق.

٣١١

وعلى قول الحسن : يكون الخطاب للفقير والأعمى والسقيم (١).

وعلى القول الآخر : الخطاب للرؤساء ، على معنى : أتصبرون على سبق الموالي والأتباع (٢).

وحقيقة هذا الاستفهام : الطلب واستدعاء الصبر منهم.

(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر ويجزع.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافون البعث ، والرجاء : الخوف في لغة تهامة. وقد سبق ذكره (٣).

وقيل : المعنى : لا يأملون لقاءنا بالخير ؛ لأنهم كفرة.

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فكانوا رسلا إلينا أو شاهدين بصدقك ، (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا أنك رسوله.

قال الله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أضمروا الكبر فيها والعناد ، كما

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٨١).

(٢) مثل السابق.

(٣) في سورة يونس عند الآية رقم : ٧.

٣١٢

قال تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦].

(وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي : تجاوزوا الحدّ في الظلم وغلوا فيه.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) العامل في الظرف مضمر ، تقديره : اذكر ، أو ما دلّ عليه قوله تعالى : (لا بُشْرى) ، و (يَوْمَئِذٍ) على هذا [للتكرير](١). وقوله تعالى : (لِلْمُجْرِمِينَ) إما متناول لهم بعمومه لانتظامهم في سلك المجرمين ، وإما واقع موقع الضمير ، تقديره : لا بشرى يومئذ لهم.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) اختلفوا في القائلين ؛ فقال ابن عباس : هم الملائكة يقولون : حراما محرّما أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله (٢).

وقال مقاتل (٣) : إذا خرج الكفار من قبورهم [تقول](٤) لهم الملائكة : حراما محرّما عليكم أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى ، كما يبشر المؤمنون.

وقال قوم : القائلون هم المشركون إذا عاينوا العذاب (٥).

قال ابن فارس (٦) : كان الرجل إذا لقي من يخافه في الشهر الحرام قال : حجرا ، أي : حرام عليك إيذائي ، فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة قالوا : حجرا

__________________

(١) في الأصل وب : التكرير. والتصويب من الكشاف (٣ / ٢٧٨). وهو قول الزمخشري في الكشاف ، الموضع السابق.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٣٨). وهذا القول هو اختيار الطبري (١٩ / ٢).

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ٤٣٤).

(٤) في الأصل : يقول. والتصويب من ب.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٨٢).

(٦) معجم مقاييس اللغة (٢ / ١٣٩).

٣١٣

محجورا ، [يظنون](١) أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.

قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي : قصدنا وعمدنا إلى ما عملوا من أعمال الخير ، (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ؛ لأن الشرك لا يتقبّل معه عمل.

واختلفوا في الهباء ؛ فقال علي عليه‌السلام : هو ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوة مثل الغبار (٢) ، وهذا قول أكثر المفسرين واللغويين.

وقال ابن عباس : هو ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر (٣).

وقال في رواية أخرى : هو الشرر الذي يطير من النار إذا أضرمت (٤).

وقال مقاتل (٥) : هو ما سطع من حوافر الدواب.

قال بعضهم : لم يكف أن شبّههم بالهباء حتى جعله متناثرا متفرقا.

قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أفضل منزلا في الجنة (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع قائلة.

قال الأزهري (٦) : القيلولة عند العرب : الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ، وإن لم يكن مع ذلك نوم. والدليل على ذلك : أن الجنة لا نوم فيها.

__________________

(١) في الأصل : يظنوا. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٧٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٦) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٨٣).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٦٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٦) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) تفسير مقاتل (٢ / ٤٣٤).

(٦) تهذيب اللغة (٩ / ٣٠٦).

٣١٤

قال ابن مسعود وابن عباس : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ثم قرأ ابن مسعود : «ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم» (١). هكذا يقرؤها ابن مسعود.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) عطف على قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ).(٢)

قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : «تشقّق» بتشديد الشين ، وقرأ الباقون بتخفيفها (٣).

فمن شدّد قال : الأصل : «تتشقّق» ، ثم أدغم التاء في الشين. ومن خفّف

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٣٦ ح ٣٥١٦) وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، والطبري (٢٣ / ٦٥) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٨٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٤٧) وعزاه لابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود.

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١٦٢).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢١٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٠) ، والكشف (٢ / ١٤٥) ، والنشر (٢ / ٣٣٤) ، والإتحاف (ص : ٣٢٨) ، والسبعة (ص : ٤٦٤).

٣١٥

حذف التاء الثانية استخفافا ؛ لاجتماع المثلين ولم يدغم.

قال ابن عباس وغيره : المعنى : أن السماء تتفتّح بغمام يخرج منها تنزل فيه الملائكة ، وهو غمام أبيض رقيق مثل الضباب. ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم ، وهو الذي قال الله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)(١) [البقرة : ٢١٠].

قال الفراء (٢) : المعنى : تشقّق السماء [عن](٣) الغمام ، وعلى وعن والباء في هذا الموضع بمعنى واحد ؛ لأن العرب تقول : رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس ، والمعنى واحد.

وقال أبو علي الفارسي (٤) : المعنى : تشقّق السماء وعليها غمام. كما تقول : ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه. أي : وعليه سلاحه.

وقال الزمخشري (٥) : لما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها ، جعل الغمام كأنه الذي تشقّ به السماء.

(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ)(٦) لإظهار العدل وبأيديهم صحائف أعمال العباد (تَنْزِيلاً).

وقرأ ابن كثير : «وننزل» بنونين مع التخفيف ، من الإنزال ، «الملائكة»

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٩ / ٦) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٨٢) كلاهما عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (١ / ٥٨٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) معاني الفراء (٢ / ٢٦٧).

(٣) في الأصل : من. والتصويب من ب.

(٤) الحجة (٣ / ٢١٠).

(٥) الكشاف (٣ / ٢٨٠).

(٦) في الأصل زيادة : تنزيلا. وستأتي بعد.

٣١٦

بالنصب (١).

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) قال الزجاج (٢) : المعنى : الملك الذي هو الملك حقا للرحمن.

وقال غيره : (الْحَقُّ) : الثابت ؛ لأن كل ملك يزول يومئذ ويبطل ، ولا يبقى إلا ملكه سبحانه وتعالى.

(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) صعبا شديدا عظيم المشقة.

وفي تخصيص ذلك بالكافرين بشارة ظاهرة بسهولة ذلك اليوم على المؤمنين. وفي الحديث (٣) : «أن يوم القيامة يهون على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا».

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) عطف على ما قبله (٤).

قال ابن عباس وأكثر المفسرين : " الظالم" : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس (٥). والألف [واللام](٦) للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ، فيشمل عقبة

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢١٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٠ ـ ٥١١) ، والكشف (٢ / ١٤٥ ـ ١٤٦) ، والنشر (٢ / ٣٣٤) ، والإتحاف (ص : ٣٢٨ ـ ٣٢٩) ، والسبعة (ص : ٤٦٤).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٦٥).

(٣) في هامش ب : هو من حديث أبي سعيد ، خرجه أحمد في المسند وغيره : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوما كان مقداره خمسين ألف سنة ، ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» (مسند أحمد ٣ / ٧٥ ح ١١٧٣٥).

(٤) الدر المصون (٥ / ٢٥٣).

(٥) أخرجه الطبري (١٩ / ٨) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٨٣ ـ ٢٦٨٤) ، ومجاهد (ص : ٤٥١).

(٦) في الأصل : اللام. والتصويب من ب.

٣١٧

وغيره.

قال عطاء : يأكل يديه [حتى](١) يذهبا إلى المرفقين ، ثم ينبتان فلا يزال هكذا ، كلما نبتت يداه أكلهما ندامة على ما فعل (٢).

وقيل : عضّ اليدين مجاز عن نهاية الحسرة والندامة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ)(٣) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَبِيلاً) طريقا إلى الهدى والنجاة من الرّدى.

(يا) ويلتا وقرئ : «يا ويلتي» بالياء على الأصل (٤).

(لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني : أمية بن خلف. وقيل : أبيّ بن خلف.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) قال مجاهد وأكثر المفسرين : سبب نزول هذه الآية : «أن عقبة بن أبي معيط دعا قوما فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطعام ، فأكلوا ، وأبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأكل ، فقال : لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فشهد بذلك عقبة ، فبلغ ذلك أبيّ بن خلف ، وكان خليلا له ، فقال : صبوت يا عقبة؟ فقال : لا والله ما صبوت ، ولكنه أبي أن يأكل طعامي وهو في بيتي ، فاستحييت أن يخرج من منزلي لم يطعم من طعامي ، فقلت ذلك وليس من نفسي ، فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه ، فوجده يوما ساجدا ، فنال منه بعض ما أراد ، فقال له رسول

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٣٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٨٦).

(٣) في الأصل زيادة قوله : سَبِيلاً وستأتي.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٢٩).

٣١٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا قتلتك ، فقتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد» (١).

وأما أمية بن خلف أخوه فقتل يوم بدر ، ويروي نحو ذلك عن الشعبي (٢) ، إلا أنه جعل مكان أبيّ أخاه أمية. والله أعلم.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ) يريد : الكافر (خَذُولاً) يخذله ويتبرأ منه في الآخرة.

والأكثرون على أن هذا ابتداء كلام من الله تعالى. ويجوز أن يكون من تمام كلام الظالم.

فإن قيل : لم كنّى عنهما؟

قلت : ليأتي بصيغة شاملة لهما ولمن هو في مثل حالهما.

فصل

ومن تلمّح هذه القصة ونظر بعين بصيرته وإيمانه ما آل إليه أمر هذا المخذول ، ظهر له ضرر معاشرة الفسقة والفجرة.

قال مالك بن دينار : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجّار (٣).

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي قالا : أخبرنا عبد

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٩ / ٨) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٦٨٣ ـ ٢٦٨٦). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٢٥٠ ـ ٢٥٣) وعزاه لأبي نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٣٤٤).

(٢) أخرجه الطبري (١٩ / ٨).

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (١٣ / ٢٧).

٣١٩

الأول بن عيسى ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بريد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة» (١). هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن ابن العلاء أيضا.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣١)

قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).

قال ابن عباس : هجروا القرآن وهجروني وكذبوني (٢).

وقيل : هو من هجر ؛ إذا هذى (٣) ، أي : جعلوه مهجورا فيه ، كقولهم : هذا سحر وباطل ، وأساطير الأولين.

قال مقاتل وأكثر المفسرين (٤) : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك شاكيا من قومه إلى الله تعالى حين كذبوه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢١٠٤ ح ٥٢١٤) ، ومسلم (٤ / ٢٠٢٦ ح ٢٦٢٨).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٣٩).

(٣) انظر : اللسان (مادة : هجر).

(٤) تفسير مقاتل (٢ / ٤٣٦). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٨٧).

٣٢٠