رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

فإن قيل : لم خصّت الملاعنة بالغضب؟

قلت : لتفاقم جريمة الزنا بالنسبة إلى جريمة القذف ، ولذلك كان عذابها أشدّ.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) جوابه محذوف ، تقديره : لبيّن الكاذب منكما وفضحه ، أو لعذّبه.

وفي قوله : (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) تعريض بتوبة الكاذب منهما ، [وإخبار](١) أنه لا يتعاظمه غفران ما جناه الجاني منهما ، (حَكِيمٌ) فيما فرض من الأحكام والحدود.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أجمع علماء الإسلام على أن هذه الآية وما في حيّزها نزلت في قصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهي ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم السلمي ، وأبو الحسن الصوفي قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب الزهري.

[وأخبرنا](٢) حنبل بن عبد الله إذنا واللفظ له قال : أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، حدثنا عبد الله

__________________

(١) في الأصل : وإخبارا. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : أخبرنا. والتصويب من ب.

٢٠١

بن الإمام أحمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود من حديث عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرّأها الله عزوجل ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدّق بعضا ، ذكروا : «أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة أذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنونا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرّحل ، فلمست صدري فإذا عقد من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهنّ اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين وحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيمّمت منزلي

٢٠٢

الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (١) قد عرّس من وراء الجيش فادّلج ، وأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان يراني قبل أن يضرب عليّ الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في [نحر](٢) الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني (٣) في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلّم ثم يقول : كيف تيكم؟ فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزّه ، وكنا نتأذّى بالكنف أن

__________________

(١) صفوان بن المعطل بن ربيعة بن خزاعي بن محارب بن مرة بن فالج ابن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم السلمي ، أبو عمرو الذكواني ، يقال : إنه أسلم قبل المريسيع ، وشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخندق والمشاهد كلها بعدها ، قيل : إنه مات بالجزيرة في ناحية شمشاط ودفن هناك ، ويقال : إنه غزا الروم في خلافة معاوية فاندقت ساقه ، ولم يزل يطاعن حتى مات ، وذلك سنة ثمان وخمسين ، وكان خيرا فاضلا شجاعا بطلا (الاستيعاب ٢ / ٧٢٥).

(٢) في الأصل : حر. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

(٣) في هامش ب : يريبني : بفتح الياء وضمها ، لغتان ، وهي بمعنى : يشككني.

٢٠٣

نتّخذها عند بيوتنا ، فانطلقنا أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب ، فأقبلت أنا وبنت (١) أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، تسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قلت : وما ذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، [فازددت](٢) مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي فدخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّم ثم قال : كيف تيكم؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقّن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت أبويّ فقلت لأمي : يا أمّتاه ، ما يتحدّث الناس؟ فقالت : أي بنية هوّني عليك ، فو الله لقلّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قالت : قلت : سبحان الله أو قد تحدّث الناس بهذا؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا [أكتحل](٣) بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث (٤) الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله (٥) ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود [فقال : يا رسول الله ، هم

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : ابن. وانظر ب ومصادر التخريج.

(٢) في الأصل : فازدت. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

(٣) في الأصل : اكتحلت. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

(٤) استلبث : استفعل من اللبث ، وهو الإبطاء والتأخير (النهاية ٤ / ٢٢٤).

(٥) في الأصل وب : زيادة قوله : وبالذي يعلم من براءة أهله. وهو تكرار. وانظر : مصادر التخريج.

٢٠٤

أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا](١). وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيّق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير ، [وإن](٢) تسأل الجارية [تصدقك](٣). قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة (٤) فقال : أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال [وهو](٥) على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت : فقام سعد بن عبادة ـ وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد بن معاذ : لعمرك لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير ـ وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيّان الأوس والخزرج ، حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفّضهم حتى

__________________

(١) زيادة من مصادر التخريج.

(٢) في الأصل : ولأن. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

(٣) في الأصل : لتصدقنك. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

(٤) بريرة ، مولاة السيدة عائشة رضي الله عنها.

(٥) في الأصل : هو. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

٢٠٥

سكتوا وسكت. قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء ، قالت : فتشهّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد ، يا عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله عزوجل ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه ، قالت : فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مقالته](١) قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله قد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة ـ والله عزوجل يعلم أني بريئة ـ لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله عزوجل يعلم أني بريئة ـ تصدقوني ، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ، [قالت](٢) : ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى

__________________

(١) زيادة من ب ، ومصادر التخريج.

(٢) في الأصل : فقالت. والمثبت من ب.

٢٠٦

في أمري ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله عزوجل بها ، قالت : والله ما رام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله عزوجل على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فلما سرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة ، أما الله عزوجل فقد برّأك ، فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزوجل ، هو الذي أنزل براءتي ، قالت : فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) ... عشر آيات فأنزل الله عزوجل هذه الآيات براءتي : قالت : فقال أبو بكر رضي الله عنه ، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إلى قوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله عزوجل لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمري وما علمت [أو ما](١) رأيت أو ما بلغك؟ قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا.

قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعصمها الله تعالى [بالورع](٢) ، وطفقت حمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك.

__________________

(١) في الأصل : وما. والتصويب من ، ومصادر التخريج.

(٢) في الأصل : باورع. والتصويب من ب ، ومصادر التخريج.

٢٠٧

قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط» (١). هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق.

تفسير ما اشتمل عليه هذا الحديث من الغريب :

قولها : " من جزع أظفار" هكذا وقع في الرواية والصواب : ظفار. قال ابن قتيبة : هي مدينة باليمن يكون فيها هذا الجزع (٢).

قولها : " يهبلن" بفتح الياء والباء ، أي : لم يكثر لحمهن ، والمهبل : الكثير اللحم الثقيل الحركة من السّمن (٣).

و" العلقة" البلغة ، وأصل ذلك شجر يبقى في الشتاء فتعلقها الإبل وتجتزئ بها حتى تدرك الربيع (٤).

" فتيمّمت" قصدت.

ومعنى قولها : " عرّس" : نزل وحطّ رحله من آخر الليل للراحة (٥).

وقولها : " فادّلج" مشدد الدال : هو سير آخر الليل ، وأدلج ـ بالتخفيف ـ : سير الليل كله (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٩٤٢ ـ ٩٤٥ ح ٢٥١٨) ، ومسلم (٤ / ٢١٢٩ ـ ٢١٣٦ ح ٢٧٧٠) ، وأحمد (٦ / ١٩٤ ـ ١٩٦).

(٢) انظر : معجم البلدان (٤ / ٦٠).

(٣) انظر : اللسان (مادة : هبل).

(٤) انظر : اللسان (مادة : علق).

(٥) انظر : اللسان (مادة : عرس).

(٦) انظر : اللسان (مادة : دلج).

٢٠٨

وقولها : " خمّرت" وجهي : " غطّيته". والجلباب : ما [تستتر](١) به المرأة كالإزار ونحوه (٢).

قولها : " موغرين" : الوغرة : شدّة الحر ، ويقال : وغرت الهاجرة وغرا ، وأوغر الرّجل : إذا صار في ذلك الوقت (٣) ، كما يقال : أظهر وأصبح وأمسى.

و" المرط" : كساء من صوف أو خزّ يؤتزر به (٤).

" لا يرقأ لي دمع" : أي : لا ينقطع.

" أغمصه" : أعيبه.

و" الدّاجن" : الشاة التي تحبس في البيت لدرّها ، يقال : دجن بالمكان ؛ إذا أقام به (٥).

وقوله عليه الصلاة والسّلام : " من يعذرني" أي : من يقيم عذري إن عاقبته أو عاتبته ، أو شكوت منه.

وقولها : " قلص دمعي" أي : انقطع ، يقال : قلص الشيء وتقلّص ؛ إذا تضامّ ونقص (٦).

وقولها : " ما رام مجلسه" : أي : ما برح مكانه.

و" البرحاء" : أشد الكرب.

__________________

(١) في الأصل : تستر. والمثبت من ب.

(٢) انظر : اللسان (مادة : جلب).

(٣) انظر : اللسان (مادة : وغر).

(٤) انظر : اللسان (مادة : مرط).

(٥) انظر : اللسان (مادة : دجن).

(٦) انظر : اللسان (مادة : قلص).

٢٠٩

و" الجمان" : جمع جمانة ، وهي اللؤلؤة المتّخذة من الفضة (١).

و" ثقل القول" : هيبته.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي : بأقبح الكذب وأسوأه ، واشتقاقه من أفك الشيء ؛ إذا قلب عن وجهه (٢) ، والإفك : هو الحديث المقلوب عن وجهه.

ومعنى القلب في هذا الحديث (٣) : أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق المدح والثناء بما كانت عليه من الحصانة والدين والمكانة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكونها أمّا للمؤمنين ، فلما رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه.

والعصبة : الجماعة.

قالت عائشة : هم أربعة : حسان بن ثابت ، وعبد الله بن أبيّ ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش (٤).

قال صاحب الكشاف (٥) : العصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وهم : عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان ، ومسطح ، وحمنة ، ومن ساعدهم.

قوله تعالى : (مِنْكُمْ) أي : من المؤمنين ، (لا تَحْسَبُوهُ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وأمها وأختها ، وسائر من تأذى بسبب قذفها.

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : جمن).

(٢) انظر : اللسان (مادة : أفك).

(٣) في ب زيادة : هو.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٣٨ ح ٢٧٧٠).

(٥) الكشاف (٣ / ٢٢١).

٢١٠

والمعنى : لا تحسبوا الإفك (شَرًّا لَكُمْ) نظرا إلى ما لحقكم من الأذى في هذه الدار الفانية ، (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لإفضائه بكم إلى النعيم الأبدي في الآخرة وشرف المنزلة في الدنيا ؛ بإظهار براءة الحصان الرّزان (١) ، الكريمة الأخلاق ، الطاهرة الأعراق ، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وثناء الله تعالى عليها بوحي يتلى إلى يوم القيامة في مجامع العباد وجوامع العباد.

وفي هذه الآية مستدل لمن يعتقد أن المناسب ينخرم بالمعارض ، وهي قضية مختلف فيها بين أرباب الجدل.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : من العصبة الكاذبة (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي : جزاء ما اجترح من الإثم على قدر خوضه فيه.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ)(٢) وقرأت ليعقوب : " كبره" بضم الكاف (٣).

قال الكسائي (٤) : وهما لغتان.

قال ابن قتيبة (٥) : كبر الشيء : معظمه ، وأنشدوا :

تنام عن كبر شأنها فإذا

قامت رويدا تكاد تنغرف (٦)

__________________

(١) الحصان : العفيفة (اللسان ، مادة : حصن).

والرّزان : يقال : امرأة رزان : إذا كانت ذات ثبات ووقار وعفاف (اللسان ، مادة : رزن).

(٢) في الأصل زيادة : له عذاب أليم. وهو خطأ.

(٣) النشر (٢ / ٣٣١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٢٣).

(٤) انظر قول الكسائي في : زاد المسير (٦ / ١٩).

(٥) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٠١).

(٦) البيت لقيس بن الخطيم ، انظر : ديوانه (ص : ١٧) ، واللسان ، (مادة : كبر) ، والقرطبي (١٢ / ٢٣٦) ، والتمهيد لابن عبد البر (٢٢ / ٢٧٦) وفيهما : " تنقصف" بدل" تنغرف" ، وزاد المسير (٦ / ١٩) ، ـ

٢١١

والمعنى : والذي استبدّ بمعظم الإفك وقام بإشاعة الحديث وبثّه ، وهو رأس المنافقين والنفاق (١). عبد الله بن أبيّ بن سلول ، في قول ابن عباس وعائشة وجمهور المفسرين (٢).

قال الضحاك : هو الذي بدأ بذلك (٣).

ويروى : أن صفوان بن المعطل مرّ بعائشة [عليه](٤) وهو في ملأ من قومه فقال : من [هذه](٥)؟ فقالوا : عائشة ، فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها (٦).

وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها (٧).

(لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) قال ابن عباس : يريد : الجلد في الدنيا ، جلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانين جلدة ، والصيرورة في الآخرة إلى النار (٨).

وروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : «لما نزل عذري ، قام رسول الله

__________________

ـ وروح المعاني (٢٣ / ١٨٠).

(١) في ب : رأس النفاق.

(٢) أخرجه الطبري (١٨ / ٧٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٥٩) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (١٨ / ٨٧) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٥٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٥٩) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٤) زيادة من ب.

(٥) في الأصل : هذا. والتصويب من ب.

(٦) ذكره القرطبي في تفسيره (١٢ / ١٩٩).

(٧) أخرجه الطبري (١٨ / ٨٩).

(٨) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٣ / ١٣٧ ح ١٨١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٥٠) وعزاه للطبراني.

٢١٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فجلدوا الحدّ» (١). أخرجه الترمذي.

وروى أبو صالح عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلد عبد الله بن أبيّ ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، فأما الثلاثة فتابوا ، وأما عبد الله بن أبيّ فمات منافقا» (٢).

وبعض العلماء ينكر ذلك ويقول : لم يجلد (٣) أحد من أهل الإفك.

وقيل : الذي تولى كبره : حسان بن ثابت.

ويروى عن عائشة قالت : ما سمعت أحسن من شعر حسان ، وما تمثّلت به إلا رجوت له الجنة ، فقيل : يا أم المؤمنين أليس الله تعالى يقول : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)؟ فقالت : أليس قد ذهب بصره (٤)؟.

وروى عنها مسروق أنها قالت : [وأي](٥) عذاب أشد من العمى (٦)؟.

ويروى عن عائشة : أن الذي تولى كبره : عبد الله بن أبيّ ، وحمنة بنت جحش (٧).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٣٦ ح ٣١٨١).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٢).

(٣) في ب : يحد.

(٤) أخرجه الطبري (١٨ / ٨٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٥٨) وعزاه لابن جرير.

(٥) في الأصل : أي : والمثبت من ب.

(٦) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٢٣ ح ٣٩١٥ ، ٤ / ١٧٧٩ ح ٤٤٧٨) ، ومسلم (٤ / ١٩٣٤ ح ٢٤٨٨).

(٧) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٣٨ ح ٢٧٧٠).

٢١٣

وأنكر قوم أن يكون حسّان ممن خاض في الإفك أو جلد فيه ، قالت عائشة رضي الله عنها : لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فإن كان ما قد قيل عني قلته

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

مهذّبة قد طيّب الله خيمها

وطهّرها من كل بغي وباطل

وإنّ الذي قد قيل ليس بلائط

بها الدّهر بل قول امرئ بي ماحل (١)

والصحيح : أنه من جملة من خاض في الإفك ، لكنه حسنت توبته بعد.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣)

قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي : هلا إذ سمعتموه (٢) أيتها العصبة الكاذبة قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) (٣).

__________________

(١) انظر الأبيات في : ديوان حسان (١٩٠ ـ ١٩١) ، والمعجم الكبير للطبراني (٢٣ / ١١٦) ، وسير أعلام النبلاء (٢ / ١٦٣) ، والاستيعاب (٤ / ١٨٨٣ ـ ١٨٨٤) ، وسيرة ابن هشام (٤ / ٢٧٢ ـ ٢٧٤) ، والقرطبي (١٢ / ٢٠٠) ، والبحر (٦ / ٤٠١).

(٢) في ب : سمعتم.

(٣) في الأصل جاء قوله : " خيرا" بعد قول الحسن. والمثبت من ب.

٢١٤

قال الحسن : بأهل دينهم (١) ؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة.

قال المبرد (٢) : ومثله قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١].

(وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كذب ظاهر.

وروي : أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قالت له أمه : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال : هذا إفك مبين ، أكنت يا أماه فاعلته؟ قالت : معاذ الله ، قال : فعائشة والله خير منك ، فنزلت هذه الآية (٣).

قال صاحب الكشاف (٤) : فإن قلت : هلا قيل : لو لا إذا سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم؟ ولم [عدل](٥) عن الخطاب إلى الغيبة [وعن الضمير إلى الظاهر](٦)؟

قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرّح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة على أخيه أن يبني

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣١١).

(٢) انظر قول المبرد في : الوسيط (٣ / ٣١١).

(٣) أخرجه الطبري (١٨ / ٩٦) ، وابن راهويه في مسنده (٣ / ٩٧٨). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٠) ، والسيوطي في الدر (٦ / ١٦٠) وعزاه للواحدي وابن عساكر والحاكم ، والرواية فيهم عن امرأة أبي أيوب ، عدا زاد المسير.

(٤) الكشاف (٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣).

(٥) في الأصل : يعدل. والتصويب من ب ، والكشاف (٣ / ٢٢٢).

(٦) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

٢١٥

الأمر فيها على الظن لا على الشك ، وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن [من الخير](١) : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ). وهذا من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات.

قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) أي : هلّا جاؤوا على قذفهم عائشة (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ).

قلت : وما أوضح الدليل في هذه الآية وأبينه على وجوب تكذيب القاذف إذا لم يقم البيّنة ولو كان صادقا في نفس الأمر ؛ لأن الله تعالى قد جعل الفصل بين الرمي الصادق والكاذب إقامة البينة وعدم إقامتها.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٨)

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي : لو لا أن الله تفضّل عليكم ورحمكم (فِي الدُّنْيا) بالإمهال للتوبة ، (وَ) في (الْآخِرَةِ) بالعفو والمغفرة ، (لَمَسَّكُمْ) أيتها العصبة (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي : بسبب ما خضتم فيه من

__________________

(١) في الأصل : بالخير. والتصويب من ب ، ومن الكشاف ، الموضع السابق.

٢١٦

قذف الصّديقة (عَذابٌ عَظِيمٌ).

ثم ذكر الوقت الذي لو لا فضله ورحمته لأصابهم فيه العذاب العظيم فقال : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ).

ويحتمل عندي : أن يكون الظرف للإفاضة ، على معنى : لمسّكم عذاب عظيم في العاجل والآجل فيما أفضتم فيه وقت تلقيكم الإفك [بالقبول](١) غير منكريه ولا مكذبيه.

قال الزجاج (٢) : المعنى : يلقيه بعضكم إلى بعض.

وقرأ ابن مسعود : " تتلقونه" بزيادة تاء على الأصل.

وقرأ عمر بن الخطاب : " تلقونه" بضم التاء وإسكان اللام وضم القاف وتخفيفها ، من الإلقاء.

وقرأ معاوية : " تلقونه" بفتح التاء والقاف ، من اللّقاء.

وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة ومجاهد : " تلقونه" بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف مع التخفيف أيضا ، من الولق ، وهو الإسراع في الكذب (٣).

قال الزجاج (٤) : يقال : ولق يلق ؛ إذا أسرع في الكذب وغيره (٥). وقال الشاعر :

 ............

جاءت به عنس من الشام تلق (٦)

__________________

(١) في الأصل : بالقول. والتصويب من ب.

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٣٨).

(٣) انظر هذه القراءات جميعا في : زاد المسير (٦ / ٢١) ، والدر المصون (٥ / ٢١٣).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٣٨).

(٥) انظر : اللسان (مادة : ولق).

(٦) الشطر من رجز قاله الشماخ يهجو به جليدا الكلابي ، وقبله : (إن الجليد زلق وزمّلق). انظر : اللسان ـ

٢١٧

أي : تسرع. والعنس : الناقة.

(وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) قال الزمخشري (١) : إن قلت : ما معنى قوله : [" بأفواهكم"](٢) والقول لا يكون إلا بالفم؟

قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم [من غير ترجمة عن علم به في القلب](٣).

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا وصغيرة من الصغائر ، (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الإثم وكبيرة من الكبائر.

جزع بعضهم عند الموت ، فقيل له في ذلك؟ فقال : إني أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.

من تلمّح هذه القصة : علم أن الله تعالى وصف أهل الإفك وذمهم بارتكاب ثلاثة آثام :

أحدها : تلقّي الإفك وإشاعته.

والثاني : القول بغير علم.

والثالث : استصغارهم لعظيم ما جاؤوا به من البهت والقذف لأم المؤمنين ، وما في ضمن ذلك من أذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذى صدّيقه أبي بكر رضي الله عنه.

__________________

ـ (مادة : ولق) ، والطبري (١٨ / ٩٨) ، والماوردي (٤ / ٨٢) ، وزاد المسير (٦ / ٢١).

(١) الكشاف (٣ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤).

(٢) في الأصل : بأفوهكم.

(٣) زيادة من الكشاف (٣ / ٢٢٤).

٢١٨

قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) أي : ما ينبغي لنا (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ) تعجب من عظيم هذا الأمر.

قال صاحب الكشاف (١) : الأصل في ذلك : أن يسبّح الله تعالى عند رؤية العجب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجّب منه ، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة (٢) نبيّه فاجرة.

ويروى أيضا : أن امرأة أبي أيوب قالت له : ألم تسمع ما يتحدث الناس؟ فقال : ما يكون لنا أن نتكلم [بهذا](٣) ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، [فنزلت هذه الآية (٤).

وقال سعيد بن جبير : لما سمع سعد بن معاذ ذلك قال : سبحانك هذا بهتان عظيم](٥) ، فقيل للناس : هلا قلتم كما قال سعد بن معاذ (٦).

قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ) قال مجاهد : نهاكم الله (٧). (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أي : لمثل هذا القذف (أَبَداً).

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تهييج لهم وتنبيه على أن من شأن المتّصف بالإيمان

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥).

(٢) حرمة الرّجل : أهله (مختار الصحاح ، مادة : حرم).

(٣) في الأصل : بها. والتصويب من ب.

(٤) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٣٣٣) ، وزاد المسير (٦ / ٢٢). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ١٦٠) وعزاه لابن مردويه.

(٥) زيادة من ب.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٢٢) ، والسيوطي في الدر (٦ / ١٦٠) وعزاه لسنيد في تفسيره.

(٧) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٣ / ١٤٥ ح ٢٠٧). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣١٢) ، والسيوطي في الدر (٦ / ١٦١) وعزاه للفريابي والطبراني.

٢١٩

أن يهجر المعصية ويفعل الطاعة.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) وهي الدلالات على علمه [وحكمه](١) وحلمه بما نزّل من الشرائع والآداب الجميلة ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأشياء (حَكِيمٌ) في تصاريف القضاء.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩)

ثم هدّد القاذفين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي : [يفشوا](٢) القذف بالزنا (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يريد : الحدّ وعذاب النار ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) شرّ ما خضتم فيه وما تضمن من استحقاق العذاب ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

وقيل : يعلم الضمائر ، فقد علم من أحبّ منكم إشاعة الفاحشة ومن لم يحبّها.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢١)

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف على الذي

__________________

(١) في الأصل : وحكمته. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : يفشون. والتصويب من ب.

٢٢٠