الفوائد الغرويّة

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري

الفوائد الغرويّة

المؤلف:

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-6767-02-8
الصفحات: ١٥٦

(الأول) : إن ما عرفته في صدر الفائدة من أنه لا يجوز العمل بالأصل قبل الفحص عن المعارض الذي منشؤه هو العلم الإجمالي بثبوت المعارض والمخصص لما في أيدينا من الأدلة مطلقا اجتهادية كانت أو فقاهية التي توجب عدم الاطمئنان والوثوق بها قبل الفحص كما لا يخفى ، إنما هو في الشبهة الحكمية ، من دون فرق فيها بين أن تكون وجوبية أو تحريمية. وأما الشبهة الموضوعية فإن كانت تحريمية فلا يجب فيها الفحص أيضا ، ويدل عليه إطلاقا أو عموما الأخبار الكثيرة :

منها قوله : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي.

ومنها قوله : كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة.

ومنها قوله : كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه.

وغيرها من الأخبار التي هي عن المعارض سليمة ، ولعله مما لا خلاف فيه ظاهرا كما في فرائد الشيخ قدس‌سره.

وإن كانت وجوبية فذهب صاحبا المعالم والقوانين قدس‌سرهما في مبحث شرائط العمل بخبر الواحد إلى وجوب الفحص فيها ، وهو المحكي عن جماعة أيضا كالشيخ والفاضلين قدس‌سرهم في فضة مغشوشة بغيرها إذا علم بلوغ خالصها نصابا وشك في مقداره ، لكن المحقق القمي قدس‌سره صرح في جامع شتاته بعدم وجوب الفحص في الثانية أيضا ، وهو الأظهر لوجوه ثلاثة :

٦١

الأول : ما مر من الأخبار المعتبرة التي تشتمل بإطلاقها أو عمومها لما نحن فيه ، فلا مجال لإنكاره.

الثاني : استلزام الفحص فيه العسر والحرج المنفيين في الشريعة ، فإن كل واحد من المكلفين في يومه وليلته يحتاج في كثير من الأمور المتعلقة به إلى إعمال الأصل ، فلو بنى على لزوم الفحص للزم المحذور ، بل هو مستوعب للوقت كلا بحيث يختل سائر أمور معاشه. مضافا إلى ما فيه في كثير من الموارد من فتنة أو عداوة أو كسر قلب ونحوها مما لا يخفى من المفاسد.

لكن فيه منع ظاهر ، لقلة مورد الاستدلال كما لا يخفى.

الثالث : عدم ما يدل على وجوب الفحص بحيث يوجب رفع اليد عما عرفته من الأخبار المعتبرة ، لأن ما يمكن أن يستدل به له ظاهرا وجوه ثلاثة لا تخلو عن المناقشة ، منها أن الألفاظ كالفسق والعدالة والبلوغ والرشد والاستطاعة ونحوها موضوعة لمعانيها الواقعية لا المعلومة ، فإذا رتب على هذه الموضوعات كلا أو بعضا حكم شرعي كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) يجب على من كان شاكا في استطاعته لفقد علمه بمقدار ما له محاسبته لظهور حاله وأنه واجد للاستطاعة أو لا. نظير ما إذا قيل عرفا : أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة درهما ، حيث يجب على المكلف الفحص عمن هو جامع للوصفين واقعا وإكرامه ، لا الاكتفاء بإعطاء من لم يعلم اجتماعهما فيه.

وتوهم الفرق بين الخطاب الشرعي والعرفي ، فاسد لا يخفى وجهه. وفيه ما لا يخفى ، لأن مقتضاه هو وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مطلقا

__________________

(١). سورة آل عمران : ٩٧.

٦٢

تحريمية كانت أو وجوبية ، فتخصيصه بالثانية دون الأولى تخصيص بالدليل لا خفاء في بطلانه.

وتوهم خروج الأولى عنه بالإجماع دون الثانية ، فاسد جزما ، لأن عدم وجوبه في الأولى مستند إلى ما عرفته من الأخبار المعتبرة المزبورة التي تعم بإطلاقها أو عمومها للثانية أيضا كما أشرنا إليه أولا ، لا الإجماع نفسه بل الاستناد إليه في المقام ـ مع ما هو الظاهر من كون مدركه هو الأخبار المذكورة ـ خال عن وجه الصحة ، مضافا إلى ما فيه من المنع أيضا ، فتبصر.

ومنها : ما عن صاحب الإشارات قدس‌سره من أن الوجه في الحكم المزبور ـ أي وجوب الفحص في الثانية ـ فهم العرف ، فإن المولى إذا أمر عبيده بأن من كان عنده ألف دينار فليأت منها بمائة ومن كان عنده مائة فليأت منها بعشرة ، فيفهم عرفا وجوب المحاسبة على كل من الصنفين لتبين المكلّف منهما عن غيره. وكذلك الأمر في الموضوعات التي رتب عليها الحكم شرعا.

وفيه : مضافا إلى منع فهم العرف أن اختصاصه بالثانية ـ أي الشبهة الوجوبية دون التحريمية مع أنهما على حدّ سواء ـ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام. وتوهم خروج الثانية بالإجماع دون الأولى ، قد عرفت فساده في الوجه الأول ، فتبصر.

ومنها : ما أفاده المحقق الأنصاري في فرائده ، ومحصل ما أفاده قدس‌سره فيه هو : الفرق بين ما إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف متوقفا كثيرا على الفحص بحيث يكون إهماله فيه مستلزما للوقوف في مخالفة التكليف كثيرا كالاستطاعة ونحوها ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، بوجوب الفحص في الأول وعدمه في الثاني.

٦٣

وفيه ما لا يخفى ، لأن هذا الفرق والتفصيل إما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية الوجوبية بخصوصها ـ كما هو ظاهر سياق كلامه قدس‌سره ـ أو بالنسبة إلى أصل الشبهة الموضوعية مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية ، بأن يكون كلامه هذا استثناء عن كلية عدم وجوب الفحص فيها كما هو ظاهر إطلاق كلامه.

وعلى التقديرين لا وجه له :

أما على الأول فلأنه مضافا إلى أن العلم بأن الموضوع المزبور من قبيل الأول أو الثاني مما لا يخلو عن العسر والمشقة ، وإلى أنه لا فرق ظاهرا عند القائل بوجوب الفحص فيها أو بعدمه بين أن يكون الموضوع المزبور من قبيل الأول أو الثاني خلاف ظاهر إطلاق ما مرّ أو عمومه من الأدلة المتقدمة التي اعترف أولا بسلامتها عما يصلح للمعارضة معها كما لا يخفى.

وأما على الثاني فلأنه مضافا إلى ما ذكرنا يرد عليه قدس‌سره أن وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية مطلقا فيما إذا كان الموضوع المزبور من قبيل الأول إن كان لحكم العقل به ، فيدفعه أن حكمه به معلق على عدم ثبوت الرخصة من طرف الشارع ، ويكفي في ثبوتها إطلاق ما يراد عمومه من المعتبرة. وإن كان ذلك لبناء العقلاء عليه الكاشف عن تقرير المعصوم عليه‌السلام ، فهي كافية في ردعه أيضا ، مضافا إلى ما فيه من المنع. فلا وجه لرفع اليد عما عرفته من الأدلة المعتبرة بالأمر الاعتباري فضلا عن إثبات القاعدة الثانوية به ، فتبصر.

ثم إن ما ذكرنا من وجوب الفحص عن المعارض مما لا يختص بالأصل وإعماله ، بل هو يجري بالنسبة إلى الأدلة كلها فقاهية كانت أو اجتهادية ،

٦٤

وتخصيص الكلام بالأصل أو العام كما في القوانين إنما هو من باب المثال والمناسبة أو لقوة احتمال المعارض بالنسبة إليه كما لا يخفى.

والقول بعدم وجوب الفحص عن المعارض ـ كما عن غير واحد من محققي المتأخرين قياسا حالنا على حال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام في عدم فحصهم عن المعارض والمخصص بعد ظهور الفرق بيننا وبينهم في طريق فهم الأحكام وأخذها منهم عليهم‌السلام ومن أحاديثهم لأنهم كانوا مشافهين لهم ومخاطبين بخطابهم وعارفين بمصطلحهم واجدين للقرائن الحالية والمقالية السائلين لما يحتاجون إلى سؤاله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، نظير المقلدين السائلين من مجتهدهم في هذا الزمان ما لا محيص لهم عن معرفته من الأحكام الشرعية بخلافنا الفاقدين للمراتب المزبورة كلها. ووضوح الافتراق بيننا وبين الموجودين في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمة الغائبين عن مجلس الخطاب المشاركين لنا في أخذ الأحكام من الأحاديث والأخبار التي نقلها الحاضرون في مجلسه إليهم لقلة أسباب الاختلال والاشتباه بالنسبة إليهم وكثرتها بالنسبة إلينا كما لا يخفى.

وكمال البينونة بين ما نقلها الحاضرون في مجلس الخطاب إلى الموجودين الغائبين عنه من الأحاديث وما في أيدينا من الأخبار التي انحصر أمرنا في هذا الزمان بالرجوع إليها لمعرفة الأحكام الشرعية ـ لسلامة الأول عما هو في الثاني ظاهرا من المعارضات الكثيرة والاختلالات العظيمة وكثرة أسبابها ، كطول الزمان ودسّ المعاندين للأئمة عليهم‌السلام وإدراجهم فيما صدر منهم عليهم‌السلام من الأخبار ما ليس منهم ، مما لا وجه له قطعا ، لما عرفته من

٦٥

الفرق بين المقيس والمقيس عليه بوجوهه الثلاثة ، فتبصر.

ويظهر مما ذكرنا هنا وأشرنا إليه سابقا من العلم الإجمالي بوجود المعارض والمخصص لما في أيدينا من الأخبار والأدلة ، أن الاستناد إلى أصالة عدم المعارض والمخصص مما لا وجه له أيضا.

وتوهم أن الأصل كون الأصل أو الخبر الذي نريد إعماله مما لا معارض له بعد معارضته بالمثل وأن الأصل كونه مما له معارض ، وانقسام ما في أيدينا من الأخبار والأدلة إلى القسمين وعدم إمكان إجراء حكم واحد منهما عليه إلا بعد الفحص كما هو الظاهر ، مما لا وجه له أيضا.

وقد استدل لهذا القول بما محصّله : إنه لو وجب الفحص عن المعارض والمخصص أو المقيد مثلا في العمل بما في أيدينا من الأدلة كالعام والمطلق ونحوهما لوجب الفحص عن المجاز في العمل بأصالة الحقيقة ، والتالي باطل اتفاقا فكذا المقدم. والملازمة بينهما ظاهرة ، لأن احتمال إرادة المتكلم خلاف ظاهر اللفظ والوقوع في الخطأ لو لا الفحص بالنسبة إلى المقيس والمقيس عليه على حدّ سواء كما لا يخفى.

مضافا إلى ما هو الظاهر من قضاء العرف بحمل الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن وجود ما يصرفها عن ظاهرها وحقيقتها من القرينة.

وأجيب عنه بما لو تم لكان جوابا عن الإضافة أيضا ، ومحصّله : إن النزاع في المقام ليس في جواز العمل بأصالة الحقيقة قبل الفحص عن الصارف والقرينة وفي جهة دلالة اللفظ وحقيقته ، والاحتراز عن التجوز ووجوب الفحص عن المخصص أو المقيد بالنسبة إلى العام أو المطلق ، ليس لاحتمال المجاز وإرادة المتكلم خلاف ما هو ظاهر فيه من العموم أو الإطلاق ، بل إنما

٦٦

هو احتمال قوي أو الظن بوجود ما هو رافع لحكمه عن بعض أفراده من المخصص أو المقيد الموجب لعدم جواز الحكم بأن مراد المتكلم من العام أو المطلق مثلا ما هو ظاهره من العموم أو الإطلاق. وهذا في الحقيقة ـ وإن كان راجعا إلى حصول التجوز في العام أو المطلق بعد ظهور المخصص أو المقيد عند من رآه مجازا في الباقي أو الفرد لا حقيقة ـ إلا أن الفرق بين البحثين وتغايرهما وعدم كون الأول مقصودا لذاته هنا مما لا خفاء فيه.

وحينئذ فالدليل المزبور لا يناسب المدعى ولا يرتبط به كما لا يخفى.

ومن هذا البيان ظهر ما أشرنا إليه من أنه لو تم لكان جوابا عن الإضافة أيضا ، فتبصر.

لكن الذي يقوى في النظر هو : إن الدليل المزبور وما هو تلوه من الإضافة بعد كون المقام من جزئيات مسألة جواز العمل بالأدلة الشرعية مع احتمال قوي أو الظن أو العلم الإجمالي بوجود الصارف والمعارض والمخصص والمقيد لها أو مطلقا استنادا إلى أصالة الحقيقة وعدم جوازه كذلك إلا بعد الفحص عنها ، كما يشهد عليه قول غير واحد من المحققين بأن تخصيص البحث بالعام ونحوه إنما هو من باب المثال والمناسبة أو غيرهما مما مرت الإشارة إليه سابقا ، في كمال الارتباط والمناسبة ولا مجال لإنكاره. وحينئذ فالجواب عنه بوجه يندفع به ما هو تلوه من الإضافة أيضا هو : أنه فرق بين المقيس والمقيس عليه ، لقيام الإجماع على عدم وجوب الفحص في الثاني دون الأول كما اعترف به المستدل ، وهو كاف في بطلان القياس كما لا يخفى.

مضافا إلى وجود الفرق بينهما بوجه آخر ، وهو تفاوت الحقائق في الظهور واختلاف مراتبها فيه وبلوغ استعمال بعضها كالعام في معناه المجازي

٦٧

واشتهاره فيه إلى أن قيل : ما من عام إلا وقد خص ، دون غيره من الحقائق كما لا يخفى.

وتوهم مساواتها فيه نظر. أو لحاظا إلى ما قيل من أن أكثر اللغات وكلام العرب مجازات بعد كونه من باب الإغراق والمبالغة. واحتمال كون المراد منه أن أكثر الألفاظ لها معان مجازية ، مما لا وجه له جزما.

مضافا إلى ما حكاه في القوانين عن غير واحد من المحققين من الإجماع على وجوب الفحص عن المعارض والمخصص الذي هو بنفسه كاف في إثبات المرام أيضا ، فتبصر.

فظهر أن الدليل المزبور وما هو تلوه من الإضافة ، مما لا وجه له أيضا.

وقد استدل لهذا القول بآيتي النفر والتثبت ، وقد أشار إليهما وإلى ما فيهما من الاختلال والسقم غير واحد من المحققين في كتبهم المبسوطة لا سيما في القوانين ، فارجع إليها لأن غرضنا في المقام الاختصار والإشارة.

فظهر بما ذكرنا كله أن الأصل عدم جواز العمل بدليل شرعي يحتمل قويا أن له معارضا ومخصصا إلا بعد الفحص ، من دون فرق بين أن يكون الدليل اجتهاديا أو فقاهيا ، فتبصر.

ثم اللازم هو تحصيل القطع بعدم المعارض واليأس عنه ، كما هو مقتضى ما أشرنا إليه سابقا من العلم الإجمالي بوجود المعارض لما في أيدينا من الأدلة ، لا سيما بناء على كونه كالعلم التفصيلي كما هو الأظهر ، فتدبر. أو يكفي حصول الظن المعتبر بعدمه؟ فيه قولان ، والمتعين منهما هو الثاني لما في الأول ، مضافا إلى عدم إمكانه وإلى فقد ما هو واف بإثباته كما يظهر بالرجوع إلى الكتب المبسوطة من العسر والحرج المنفيين بالإجماع والأخبار والآيات المحكمة

٦٨

ولا مجال لإنكاره ، فتبصر.

(الثاني) : إن الأصحاب بعد اختلافهم في معذورية الجاهل بالحكم الشرعي العامل بما يوافق الأصل قبل الفحص عن الأدلة وتحصيل العلم أو الظن المعتبر بعدم المعارض ، اتفقوا على معذوريته وضعا لا تكليفا في موضعين :

أحدهما : ما إذا أجهر في موضع الإخفات ، أو العكس.

وثانيهما : ما إذا تمم في موضع القصر دون العكس ظاهرا.

وحكموا في هذين الموردين بصحة المأتي به وأنه مسقط للقضاء والإعادة وإن لم يكن موجبا لارتفاع المؤاخذة ، فوقعوا في إشكال قوي تعرضه غير واحد من المحققين محصله : إن الجاهل المزبور مع كونه مكلفا فعلا فيهما بالواقع الأولي ـ كما هو مقتضى حسن المؤاخذة التي هي على تركه لا غير كما أشرنا إليه سابقا ـ إما مكلف فعلا أيضا بما يأتي به في الموضعين من الصلاة الجهرية أو القصرية مثلا أو لا ، والأول لكونه تكليفا محالا أو تكليفا بالمحال ، لعدم قدرته على الامتثال فاسد لا مجال لإنكاره ، والثاني مستلزم لأن لا يكون المأتي به فيهما صحيحا مسقطا للقضاء والإعادة ، لتوقف صحته على الأمر الشرعي المفروض فقده ، فالحكم بصحة العبادة المأتي به فيهما لا يجتمع مع حسن المؤاخذة وبقائها كما لا يخفى ، فاغتنم.

وأجيب عنه بوجوه ثلاثة :

أحدها : إن الجاهل في الموضعين مكلف فعلا بالمأتي به فيهما لا بالواقع المتروك ، وذلك إما لكون الجهل فيهما كالجهل بالموضوع في كون صاحبه مكلفا بالمأتي به لا بالواقع ، أو لكون تكليفه بالواقع فيهما مشروطا بالعلم به

٦٩

تفصيلا وإن لم يكن كذلك في غيرهما ، أو لكون الخطاب بالواقع منقطعا عنه حال جهله لقبح خطاب العاجز وإن كان العجز بسوء اختياره دون أثره ـ بناء على أن الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا لا عقابا ـ أو لكون الثاني فيهما غير مكلف بالواقع المتروك ومؤاخذا على ترك التعلم.

والفرق بين الثاني والرابع من وجهين : أحدهما أن العلم شرط للتكليف الواقعي على الأول دون الثاني. وثانيهما أنه واجب نفسي على الثاني دون الأول. إلا أن هذه الوجوه مما لا يخلو عن الإشكال :

أما الأول فلأنه ـ مضافا إلى منافاته لبقاء المؤاخذة وحسنها التي هي على ترك المأمور به الواقعي العقلي لا غير كما بيناه في الأمر الرابع من الأمور المتقدمة ذكرها في صدر الفائدة ـ خلاف ما عن ظاهر المشهور من حكمهم ببطلان صلاة الجاهل بحرمة الغصب الذي يكشف عن بقاء تكليفه بالواقع الأولي وعدم انقلابه إلى المأتي به.

ومن هنا ظهر ما في الوجه الثاني ، مضافا إلى استلزامه الدور الباطل كما لا يخفى.

وأما الثالث فلأنه مضافا إلى إمكان القول بأن الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا وعقابا معا ـ كما هو مقتضى كونه على ترك الواقع العقلي ، فتبصر ـ خلاف ما عن ظاهر المشهور من بطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب وحكمهم به الذي هو كاشف عن ثبوت النهي بالنسبة إليه وبقاء تكليفه فعلا بالواقع وعدم انقلابه إلى المأتي به.

ومن هنا ظهر ما في الوجه الرابع مضافا إلى منع كون التعلم واجبا نفسيا قد عرفت وجهه في صدر الفائدة. وظهر أن الاستناد إلى الوجوه في منع تعلق

٧٠

التكليف بالواقع الأولي المتروك وعدم كون الجاهل مكلفا فعلا به في الموضعين المزبورين ، مما لا وجه له.

وثانيها : إن الجاهل فيهما مكلف فعلا بالواقع المفروض تركه لا بالمأتي به ، إلا أنه لما كان مشتملا على بعض ما اشتمل عليه الواقع من المصلحة التامة يكون مسقطا له ومخرجا للجاهل المزبور عن عهدته ، وإن لم يكن موجبا لارتفاع عقوبته لتفويته عليه بعض ما يشتمل عليه الواقع المتروك من المصلحة الكاملة.

وتوهم أن المأتي به لا بد من أن يكون مما يصح به قصد التقرب المعتبر في صحة العبادة ، وهو لكونه علة لترك الواقع فيهما يكون محرما فلا يصح به قصده كما لا يخفى. فاسد للفرق بين التلازم والعلية ، والمتصور في الموضعين هو الأول لا الثاني ، فإن ترك الواقع فيهما كالمأتي به فيهما مسبّب عن تقصير الجاهل وهو علة له في الحقيقة. فالمأتي به بعد اختلاف المتلازمين في الحكم كما هو مقتضى التحقيق لا يقع في الخارج إلا مجوزا مقربا كما لا يخفى.

لكنه مخالف لظاهر قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة الوارد في المسألة «تمت صلاته» ، لأنه ظاهر في كون المأتي به هو المأمور به لا أنه هو الواقع المتروك كما لا يخفى.

والقول بأنه كناية عن سقوط الفعل عن الجاهل ثانيا مطلقا إعادة وقضاء وهو أعم من أن يكون لإتيانه بما هو مسقط له أو بما هو المأمور به ولا دلالة له على الثاني ، بعيد. وهو مع ما فيه من ارتكاب المجاز على وجه مقلوب على قائله ، فكل منهما يفتقر تعيينه إلى دليل مفقود في المقام كما لا يخفى.

وثالثها : إن الجاهل في الموضعين مكلف بالمأتي به والواقع معا مرتبا ،

٧١

بمعنى أن تكليفه بالقصر أو الجهر في موضع الإتمام أو الإخفات أو العكس مرتب ومشروط على عصيانه بالنسبة إلى الآخر كالإتمام مثلا ، لا مطلقا. فقولك يلزم التكليف المحال أو بالمحال ، مسلم على التقدير الثاني لا الأول.

وفيه ما لا يخفى ، لأن مجرد تقدم أحد التكليفين كالقصر مثلا على الإتمام أو العكس على الآخر في مرتبة الإنشاء مع اقترانهما في مرتبة الفعلية ووجوبهما عليه فعلا وعدم تقيد فعليّة كل منهما بمرتبة نفسه كما هو المفروض ، مما لا يجدي في ارتفاع اللازم والإشكال جزما كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى : إن الترتب إما أن يلاحظ بالنسبة إلى الخارج ، بأن يكون تكليف الجاهل بأحد المرتبين كالتمام مثلا مشروطا بتحقق المعصية منه بالنسبة إلى الآخر كالقصر مثلا وتركه له ، نظير تكليف المكلف بالصلاة مع الطهارة الترابية بعد تفويتها مع الطهارة المائية. وإما أن يلاحظ بالنسبة إلى الذهن والقصد ، بأن يكون تكليفه بأحدهما مشروطا بمجرد عزمه على ترك الآخر من دون تحققه منه في الخارج.

فإن كان على الوجه الأول فهو مسلم يرتفع به الإشكال ، إلا أنه مخالف لما هو ظاهر الجواب من كون الجاهل مكلفا بهما فعلا وأنهما واجبان عليه وباقيان بالنسبة إليه في آن واحد كما لا يخفى.

وإن كان على الوجه الثاني الذي هو مراد المجيب منه لا الأول ، فهو مضافا إلى عدم إمكان اعتبار أخذ عزمه على معصية أحد التكليفين كالقصر مثلا في مورده في تكليفه الآخر وهو التمام مثلا أو العكس ، فإنه يوجب رفع موضوع الخطاب وانقلابه كما لا يخفى.

مع أنه مستلزم لصحة صلاة المسافر إذا صلى تماما أو إخفاتا بعد عزمه على

٧٢

المعصية وتركه الصلاة قصرا أو جهرا. وهو باطل لا ينبغي المصير إليه جزما ، وهو مما لا ينتفع به المجيب ولا يرتفع به الإشكال كما لا يخفى ، وهو الوجه لما قيل في ردّه من أنه غير معقول كما مرّ.

فالأحسن هو الجواب الثاني. ويمكن رفع الإشكال فيما إذا أجهر في مورد الإخفات أو العكس بجعل وجوبه من قبيل وجوب شيء في شيء يوجب تركه حسن المؤاخذة لا فساد العبادة ، فافهم.

ثم لا يخفى عليك أن مراد الأصحاب بالجاهل في الموضعين هو من يتحقق منه قصد التقرب كالغافل لا من لا يتحقق منه القصد كالملتفت أو الأعم. كيف في قصد التقرب والجزم به أيضا إلا في مورد الاحتياط على القول بأن صحته شرط في صحة العبادة ـ لا مجال لإنكاره ، وهو لا يتحقق من الجاهل الملتفت مطلقا مقصرا كان أو قاصرا أو مع فقده لا يمكن الحكم بصحة العبادة جزما.

وحينئذ يرد عليهم أن حكمهم هنا بحسن المؤاخذة ـ التي هي على ترك الواقع الفعلي ـ ينافي ما عرفته وأشرنا إليه في صدر الفائدة في بعض الأمور الخمسة في قبح المؤاخذة على الجاهل وأن قبحه مما عليه العدلية. وقد أورد عليهم بما محصله : إن الأجوبة بعد تماميتها حاسمة لمادة الإشكال ، إلا أن الالتزام بها يوجب الوقوع في إشكال أصعب ، وهو الالتزام بكون الجاهل الغافل حال غفلته مكلفا فعلا بشيء هو غافل عنه ، مع أنه كما ترى. وأنت خبير بما في إطلاقه وأنه لا يتم إلا بالنسبة إلى بعضها كما لا يخفى.

فقد ظهر بما ذكرنا أن ما حكم الأصحاب به في الموضعين من صحة العبادة مع حسن المؤاخذة لا يخلو عن الإشكال بالمرة ، فتبصر.

(الثالث) : قد عرفت سابقا أن العمل بالأصل مشروط بالفحص وليس له

٧٣

شرطا سواه ، لكن عن الفاضل التوني قدس‌سره في الوافية أن له شروطا أخرى غيره :

منها : أن لا يكون مجراه جزء عبادة ، بناء على أن المثبت لأجزائها هو النص لا غير.

وفيه ما لا يخفى ، لأن النص والدليل قد يكون مجملا وقد يكون مفقودا وقد يكون معارضا ، وعلى التقادير فإن قلنا بأن المرجع في موارد الشك في العبادة جزء أو شرطا هو البراءة كما هو الأظهر فلا مانع من إجرائها والعمل عليها فيما إذا كان الدليل مفقودا أو مجملا كما لا يخفى. وإن قلنا بأنه هو الاشتغال الذي يحكم به العقل ، فعدم جواز إعمال البراءة حينئذ إنما هو لفقد شرطه وهو عدم الدليل المعتبر لا لكون مجراها جزء العبادة ، فتخصيص مجرى البراءة بما إذا لم يكن جزء للعبادة خال عن وجه الصحة.

ومنها : أن لا يتضرر بإعمالها مسلم أو من بحكمه ، كما لو فتح إنسان قفس طائر فطار ، فإن إعمال الأصل فيه يجب تضرر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف أو عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار. فإن المراد منه هو نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع لا نفي وجوده إما لأنه مستلزم للكذب كما لا يخفى. ومع هذا الاحتمال لا يتحقق شرط العمل بالأصل ، وهو فقدان النص والدليل المعتبر ، فلا يجوز العمل عليه حينئذ ، بل يجب على المفتي في المثال ونحوه التوقف في مقام العمل وترك العمل بالبراءة وعلى الضار تحصيل العلم بها ولو بالصلح.

لكن فيه ما لا يخفى أيضا ، لأن قاعدة نفي الضرر من الأدلة الشرعية المعتبرة المقدمة على الأدلة كلها لا يجوز معها الاستناد إلى البراءة ، فإن ثبت

٧٤

اندراج المفروض تحتها فيخرج عن مورد الأصل ، فلا مقتضى لإعماله ظاهرا ، وإن ثبت عدمه أو شك فيه فلا مانع من إعماله. ومجرد احتمال اندراج المفروض فيها أو في قاعدة الإتلاف ، لا يوجب رفع اليد عن الأصل الذي هو معتمد مع فقد معارضه أو ما هو مقدم عليه مطلقا كالدليل والأمارة المعتبرين. مع أن المعلوم تعلقه بالضّار في المثال هو الإثم والتعزير إن كان معتمدا وإلا فلا يعلم وجوب شيء عليه ظاهرا ، فالحكم بوجوب التوقف على المفتي والصلح على الضارّ مما لا وجه له ظاهرا.

ومنها : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى ، كأن يقال في أحد الإنائين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا أو عدم تقدم الرتبة حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة. فإن إعمال الأصل في هذه الأمثلة يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقى أو الماء فيكون ممنوعا.

ووجهه : إن الأحكام الظاهرية إنما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا تتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت. ولا خفاء في أن مفاد أدلة الأصول كالاستصحاب وغيره من التنزيلات الشرعية ليس إلا وجوب ترتيب الأحكام والآثار الشرعية المجعولة للمتعين المحمولة عليه بلا واسطة لا الآثار العقلية أو العادية لعدم قابليتها للعمل كما لا يخفى ، ولا الآثار الشرعية المحمولة على المتعين بواسطة الآثار العقلية أو العادية لعدم كونها آثارا للمتعين في الحقيقة. فإثبات الآثار غير الشرعية المزبورة بالأصل وترتيبها على المستصحب ـ كما في الأمثلة المزبورة ونحوها ـ خارج عن

٧٥

مفاد دليله ، فيكون ممنوعا.

وهذا الوجه بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الإخبار ولعله الأظهر ، مما ينبغي التصديق ولا غبار عليه. إلا أن ظاهر كلمات جماعة من المحققين طاب رمسهم في موارد كثيرة المحكية عنهم في المشار إليها في الفرائد المنافي ذكرها لما هو المرام من الاختصار والإشارة ، هو عملهم بالأصول المثبتة وعدم الفرق عندهم بين الآثار العقلية والشرعية كانت مع الواسطة أو بدونها.

مع أنه بناء على كون مدرك الاستصحاب هو الإخبار ، بعيد عن التحقيق والصواب ، إلا أن يقال : إن الموضوعات والأمور الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي والأثر قد تكون من الوسائط الخفية بحيث يعدّ في نظر العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها أحكاما وآثارا لنفس المستصحب ، وقد تكون من الوسائط الجلية بحيث لا تعد في العرف كذلك ، فلعل الواسطة في الموارد المشار إليها عند هؤلاء المحققين المشار إليهم من قبيل الأولى لا الثانية ، فتبصر.

أو يقال : إن اعتبار الاستصحاب عندهم من باب الظن لا الإخبار ، فإنه لا مناص حينئذ عن الالتزام بالأصول المثبتة والعمل بها ظاهرا ، لعدم انعقاد الظن بالملزوم عن الظن باللازم مطلقا عقليا كان أو شرعيا كان مع الواسطة أو بدونها كما لا يخفى.

إلا أن يقال : إن الظن الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه الشرعية التي لا يكون بينها وبين ملزوماتها واسطة دون غيرها من اللوازم.

لكن لا يخفى ما فيه ، لأنه يتم إذا كان دليل اعتبار الظن مقتصرا فيه على

٧٦

ترتب بعض اللوازم دون آخر ، أو كان بعض الآثار مما لا يعتبر فيه مجرد الظن إما مطلقا أو في الجملة ، ولو في خصوص المقام ، وإلا فلا كما أشار إليه الشيخ قدس‌سره في الفرائد.

وكيف كان ، ليس الأمر في الأمثلة الثلاثة المتقدمة كما ذكره الفاضل المتقدم إليه الإشارة ، وذلك لأن الأصلين إما أن يكونا مسبّبين عن أمر خارج عنهما ، بأن يكون الشك في كل منهما مسببا عنه لا عن الشك في الآخر ، وإما أن يكون أحدهما مسببا عن الآخر بأن يكون الشك في أحدهما ناشئا عن الشك في الآخر. فعلى الأول كما في المثال الأول وأمثاله من الشبهات المحصورة ، فالمانع من إعمال الأصل فيه هو المعارضة ـ أي معارضة كل منهما بالآخر ـ الناشئة عن العلم الإجمالي فيه بثبوت حكم مردد بين الحكمين الغير المعلوم تفصيلا ، فاللازم بعد كون تقديم أحدهما على الآخر تحكما ، إما إعمالهما معا أو إهمالهما أو إسقاطهما رأسا. والأول لما كان مستلزما لطرح العلم الإجمالي الموجب في المثال المزبور للمخالفة العملية القطعية المحرمة ، كان المتعين هو الثاني ، أي إهمالهما معا والرجوع إلى دليل آخر ، والأخذ بمفاده كائنا ما كان ما لم يقم إجماع على خلافه.

فظهر أن المانع من إعمال الأصل في المثال الأول ونحوه ليس ما زعمه الفاضل المزبور قدس‌سره ، وما هو مانع عنه فيه ليس مختصا بالأصل بل يجري بالنسبة إلى جميع الأدلة كما لا يخفى. وعلى الثاني كما في المثال الثاني حيث إن الشك في نجاسة الملاقي وطهارته مسبب عن الشك في بلوغه كرا وعدمه. وحينئذ فلا مانع من إعمال الأصل ، أي أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي كرا وإن استلزم نجاسته ، لأن ما ذكرنا سابقا من أن الأحكام الظاهرية تثبت

٧٧

بمقدار مدلول أدلتها ولا تتعدى إلى أزيد منها بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت ، إنما هو فيما لم يكن الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ، وإلا كما هنا فلا.

وبعبارة أخرى : فرق بين أن يكون ثبوت الحكم الآخر لثبوت موضوعه ولو بالأصل ، أو يكون لمجرد ثبوت حكم في موضوع آخر. والممنوع منهما هو الثاني دون الأول. فثبوت الحكم الآخر في المثال الثاني المشار إليه في كلام التوني قدس‌سره إنما هو لثبوت موضوعه بالأصل وهو القلة ، نظير الاستطاعة التي ثبتت بأصالة البراءة من الدين المترتب عليها وجوب الحج ، من دون فرق بينهما. لكن يظهر الفرق بينهما من صاحب القوانين قدس‌سره حيث قال : إن التمسك بأصالة عدم الكرية صحيح ، ولا يوجب ذلك الحكم بوجوب الاجتناب عما لاقاه ، لمعارضته باستصحاب طهارة الماء وطهارة الملاقي.

واعترض عليه في الفرائد : بأنه لم يعرف وجه فرق بينهما. وهو في محله ، بناء على ما لعله الأظهر من تقدم الأصل السببي على المسببي ، وإلا فلا. وكيف كان فإعمال الأصل في المثال الثاني إما لا مانع عنه أو المانع منه هو معارضته بمثله ، لا ما زعمه الفاضل المزبور.

هذا كله ما يتعلق بالمثالين الأولين ، وأما المثال الثالث ـ الذي كان سبق أحد الحادثين على الآخر بعد العلم بحدوثهما معا مشكوكا ـ فهو على قسمين : أحدهما أن يكونا مجهولي التاريخ. وثانيهما أن يكون أحدهما مجهول التاريخ دون الآخر. والأول إما لا يحتمل فيه التقارن ، كما إذا كان تقدم أحدهما على الآخر معلوما إجمالا وكان الشك في تعيينه ، أو يحتمل فيه

٧٨

التقارن كما إذا لم يكن تقدم أحدهما على الآخر معلوما لا إجمالا ولا تفصيلا. فصارت الأقسام ثلاثة :

أما الأول : فالمانع فيه من إعمال الأصل ـ أي أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر ـ بعد عدم جريانه في نفس التأخر لعدم مسبوقيته باليقين السابق ، هو معارضته بمثله ، والحكم في مثله التساقط إن كان لكل منهما أثر شرعي وإلا فيؤخذ بما له أثر شرعي دون غيره كما في محله ، فتبصر.

وهل يحكم فيه بالطهارة أو النجاسة؟ فيه وجهان ، أظهرهما الأول لقاعدة الطهارة التي هي المرجع بعد سقوط الأصلين بالمعارضتين.

وأما الثاني : فلا مجال فيه للأصل لما عرفته في الأول. وفي الحكم بالتقارن وعدمه حينئذ وجهان مبنيان على اعتبار الأصل المثبت وعدمه : فالأول على الأول والثاني على الثاني. لكن الأظهر هنا هو الأول لخفاء الواسطة ، فتبصر.

وعلى الأول هل يحكم بالطهارة أو النجاسة؟ فيه وجهان ، أظهرهما الأول لما مرت الإشارة إليه في القاعدة.

وأما الثالث : فيجري الأصل فيما جهل تاريخه من الحادثين لا فيما علم تاريخه منهما أيضا كما توهم ، لوجود ملاكه في الأول دون الثاني. وذلك لأن كلا من الأصلين وإن اشتمل على مستصحب من حيث اللحاظ إلى حادث آخر إلا أن لحاظ هذا الحادث في مورد الأصل الأول إنما هو من باب المرآتية حيث إنه بنفسه حاو لما هو معتبر في جريان الأصل من اليقين السابق والشك اللاحق. ولحاظ هذا الحادث إنما هو من جهة مجرد اتصال المقتضي بعدم المانع ، بخلاف مورد الأصل الثاني ، فإن لحاظ هذا الحادث فيه إنما هو من باب الموضوعية ، حيث إن المستصحب فيه لو لم يلاحظ بالنسبة إلى هذا

٧٩

الحادث لما حصل فيه شك.

وحينئذ فالمقتضي لجريان الأصل الأول موجود وإن أغمض النظر عن لحاظ ذلك الحادث ، بخلاف الثاني ، فإن جريانه يتوقف على حصول الشك ، وهو يتوقف على لحاظ ذلك الحادث ، وإذا أتى بمقام الملاحظة تتقدم الحالة السابقة. فإن الكرية المعلومة تاريخها مثلا بوصف لحاظها في زمن الملاقاة لم تكن مسبوقة بالعدم ، فما هو مسبوق بالعدم إنما هو الكرية بنفسها ، وهي لم تكن بمحل الشك ، وما هو مشكوك إنما هو الكرية بهذا الوصف ، وهي بهذا الوصف لم تكن مسبوقة بالعدم.

فتوهم جريان الأصل فيما علم تاريخه من الحادثين أيضا والحكم بالتقارن والطهارة بعد تساقط الأصلين ، مما لا وجه له جدا. كما أن إلحاق القسم الثالث بالأول في إهمال الأصل وعدم جريانه مطلقا ـ كما عن بعض ـ مع ظهور الفرق بينهما بوجود المانع ـ وهو التعارض الموجب للتساقط في القسم الأول دون الثالث ـ كما عرفته ، مما لا وجه له أيضا.

وهل يحكم حينئذ بتأخر وجود الأول عن الثاني وحدوثه بعده أو لا يحكم على الأول إلا بعدم وجوده وحدوثه في تاريخ الثاني المعلوم تاريخه؟ فيه وجهان : أظهرهما الثاني بناء على عدم القول بالأصل المثبت ، فتبصر.

ثم الحكم في هذه الصورة هو الطهارة أو النجاسة؟ وجهان مبنيان على فهم قوله عليه‌السلام : إذا كان الماء قدر كر لم ينجّسه شيء. وان المانع من الانفعال هو الكرية مطلقا ، كانت سابقة على ملاقاة النجاسة أو لاحقة عليها أو مقارنة معها ، أو أن المانع منه هو الكرية السابقة عليها لا غيرها. فإن قلنا بالأول فالأول وإن قلنا بالثاني فالثاني ، لكن الأظهر هو الثاني والحكم بالنجاسة ، لكن

٨٠