الفوائد الغرويّة

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري

الفوائد الغرويّة

المؤلف:

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-6767-02-8
الصفحات: ١٥٦

لخروجها عن الاستقلال ، وهو خلف ومحال لا خفاء فيه. أو يرجع إلى أن المؤثر هو الجامع بينها المستلزم لأن يكون كل واحد منها سببا مستقلا الموجب لاجتماع المثلين ، مع أنه كاجتماع الضدين مما لا خفاء في استحالته عقلا. فالإشكالان باقيان بحالهما وعليك بدفعهما.

ثم إن المراد بالمسبب كما عرفته هو الماهية الواحدة القابلة للتكرار ، فلو شك في أنه كذلك أولا ، إما للشك في وصفه الأول مع العلم بوصفه الثاني ، كالشك في أن غسل الجنابة والجمعة مثلا المتحدين صورة ماهية واحدة أو متعددة ، أو للشك في وصفه الثاني مع العلم بوصفه الأول ، كالشك في أن النجاسة ونحوها من الأوصاف التعبدية قابلة للتكرار والتعدد بتعدد سببها أو لا. وعلى التقديرين فهو شك في موضوع الأسباب ومتعلقها ، ولا بد فيه من الرجوع إلى الأصل اللفظي ثم العملي مع فقده والأخذ بمقتضاه.

فالظاهر أن مقتضى الأول على الأول هو الأول ، لأن الحكم بالتعدد مستلزم لكون جهة الجنابة أو الجمعة مثلا تقييدية لا تعليلية ، وهو مخالف لإطلاق المسبب ، فيدفع به ويحكم باتحاده. وعلى الثاني هو الثاني ، لأن الحكم بعدم قابلية التكرار مستلزم لكون السبب الثاني لغوا أو مؤكدا ، وهو مناف لإطلاقه ، فيندفع به ويحكم بالقابلية. كما أن مقتضى الثاني ـ وهو الأصل العملي ـ على الأول هو التعدد لا الاتحاد وعلى الثاني عدم القابلية ، لأن القابلية تؤول إلى تعدد التكليف فيدفع بأصالة البراءة. فالأصلان متعاكسان في الصورتين كما لا يخفى.

والقول بأن استكشاف كون الشيء واحدا لا متعددا أو قابلا للتكرار كالتمسك بالإطلاق أو العموم في الشك في موضوعه ومصداقه. بعيد عن

١٠١

التحقيق أو خال عن وجه الصحة ، لأنه إنما هو فيما إذا كان الشيء والموضوع مما يرجع فيه إلى العرف وكان بيانه بيده. وأما إذا كان مما يرجع فيه إلى الشارع وكان بيانه بيده ، فيصح في تشخيصه وتعيينه الرجوع إلى الأصل والإطلاق ، لأنه كالشك في التحقيق والتقييد المندفع بهما جدا ، فاغتنم.

(الأمر الخامس) :

إن المراد بتداخل الأسباب المشار إليها سابقا ، هل هو تداخلها في التأثير أو هو تداخل المسببات ، فالتعبير عنها بها إنما هو للإشارة إلى العلة ، وإن عدم تداخلها مثلا إنما هو لعدم تداخل أسبابها ، أو هو تداخلها في أمر عقلي ، وهو الامتثال وكفاية إتيان المسبب مرة واحدة في خروج المكلف عن عهدة التكليف؟ فيه أقوال ثلاثة :

ذهب في العناوين إلى الأول. لكنه مما لا وجه له ، لأن تداخلها في التأثير ليس إلا اشتراكها فيه ، وهو مستلزم لاجتماع المثلين أو خروجها عن الاستقلال. وهو خلف ومحال كما بينّاه في الأمر الرابع ، فلا وجه للإعادة.

واختار السيد المحقق الطباطبائي قدس‌سره في فوائده الثاني ، وهو المحكي عن النراقي أيضا. لكنه مما لا وجه له أيضا ، لأن المراد بالأسباب كما عرفته هو الخطابات المسببة ، فإرادتها من لفظ المسببات ـ مع أنه خلاف ظاهره كما لا يخفى كالتكرار اللفظي ـ لا فائدة فيه جدا. وإرادة مفادها منه مستلزم لما يستلزمه الأول من أحد الأمرين الفاسدين كما لا يخفى. مع أنه حينئذ يستلزم كالأول ، لكون الخلاف في الأمر اللفظي لا العقلي ، مع أنه مما لا يساعده الأدلة. فالمصير إلى الثالث ـ كما اصطفاه بعض المحققين قدس‌سره وكون المسألة عقلية ـ مما لا محيص عنه ولا مجال للشبهة فيه.

١٠٢

فظهر بما ذكرنا أن المراد بالتداخل على القول به فيما هو مجمع للماهيات المتعددة ، كقول المولى : أكرم عالما ، أكرم مصليا ، أكرم هاشميا ، لا بدّ أن يكون بالمعنى الثالث. فالقول ـ في مقام الرد على القول الثاني بأن تداخل المسببات إنما هو في الماهيات المتصادقة كالمثال المزبور كما في الماهية الواحدة كما أفاده بعض المحققين قدس‌سره ، مما لا وجه له كما لا يخفى ، فاغتنم.

(الأمر السادس) :

قد ظهر بما ذكرناه في سابقة أن المسألة عقلية والخلاف فيها في الحكم العقلي ، وهو إما وجداني أو برهاني.

والمراد بالأول هو ما لا واقع له سوى الوجدان ، فيكون الوجدان ظرفا لثبوته لا طريقا إلى العلم بثبوته ، كالفرح والألم ونحوهما مما يكون الوجدان ظرفا لثبوته. وبالثاني مما له واقع يكون البرهان العقلي طريقا إلى العلم به في ظرفه ، كتركب الجسم وحدوث العالم ونحوهما مما يكون العقل طريقا للعلم به في ظرفه. والثاني لا بدّ إما من أن ينتهي إلى الوجدان أو إلى غيره من إحدى الضرورات الستة المعروفة المذكورة في محلها ، لاستلزام عدمه التسلسل الذي لا خفاء في بطلانه ، فصار المجموع ثلاثة.

والأول منها مما لا يتطرق إليه الشك والحيرة ، لما عرفت من أنه لا واقع له سوى الوجدان ، وهو لا يقبل الشك جدا.

وكذلك الثاني ، لأنه بأوله إليه يكون حكمه حكمه في عدم تطرق الشك إليه.

فما يتطرق إليه الشك من الثلاثة هو الثالث ، لأن وقوع الشك في الأمور

١٠٣

الحسية ـ لضعف البصر ونحوه مثلا ـ مما لا خفاء فيه ، كما لا خفاء في أن الأحكام العقلية الأصولية بعضها من قبيل الأول كالبحث عن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الشيء للنفس ومنافرته له ، فإنهما كالألم والفرح مما لا واقع له سوى الوجدان ، وبعضها من قبيل الثاني كمسألة الضد واجتماع الأمر والنهي ونحوهما مما يكون العقل فيه طريقا للحكم الشرعي ، أو لصفة موجبة له فيستند في إثباته إلى برهان عقلي.

والمسألة المبحوث عنها من قبيل الأول ، لأنها كما مرّ عقلية محضة لا ربط لها بشرع أو عرف أو لغة أو حس أو تجربة ونحوها كما لا يخفى.

وحينئذ فالتمسك فيها بإطلاق السبب أو المسبب أو الإجماع ونحوها من الأدلة الشرعية لفظية كانت أو لبّية ، كالقول في عنوانها بأن الأصل ومقتضاه فيها هو التداخل أو عدمه.

وتأسيس الأصل العملي كالاشتغال أو البراءة والاستناد إليه فيها ـ كما وقع من غير واحد من المحققين قدس‌سرهم ـ خال عن وجه الصحة ، ولا يرتبط بالمسألة كما لا يخفى.

لكن قد أجيب عن الأول : بأن الغرض من تمسكهم فيها بالدليل الشرعي ـ كالإجماع مثلا مضافا إلى أنه بمعناه اللغوي ـ هو الإشارة إلى تطابق العقل والنقل في حكمها ، كما هو غير عزيز منهم في نظائرها.

وعن الثاني : بأن مرادهم بالأصل المشار إليه في عنوانها ـ كما يشهد عليه كلماتهم وأدلتهم فيها ـ هو الأصل الأولي العقلي لا الثانوي ، فالمصير إليه كما في فوائد السيد المحقق الطباطبائي مما لا وجه له.

وعن الثالث : تارة بأن تأسيسهم الأصل العملي كالاشتغال أو البراءة فيها

١٠٤

إنما هو مع قطع نظرهم عن العقل وحكمه فيها ، وخلوه عن ثمرة عملية لا مانع عن تأسيسه ، مع اشتماله على ثمرة عملية جدا. وأخرى بأن حكمه فيها كحكمه بقبح التصرف في مال الغير من دون إذنه أو بالعقاب أو بعدمه في ارتكاب أطراف المشتبه أو بلزوم تحصيل الفراغ بعد العلم بالتكليف ولو إجمالا ، معلق على عدم العلم بتصرف الشارع على خلافه ، فالشك فيه موجب للشك في الحكم العقلي وبقائه الموجب للشك في الحكم الشرعي ، فتمس الحاجة إلى الأصل المشار إليه ليكون مرجعا في مقام الشك فيه.

إلا أن الأخير مما لا يخلو هنا عن مناقشة ، لأنا إذا فرضنا حكم العقل فيها بالتداخل أو بعدمه مثلا فلا بد من الأخذ به ، ولا محيص عنه إلا إذا علم خلافه من طرف الشارع ، فما دام لا يعلم خلافه من طرفه يكون موضوعه باقيا وحكمه ثابتا كما عرفته ، فمعه لا تمس الحاجة إلى الأصل المشار إليه.

ودعوى أن حكم العقل : تارة يكون موضوعه هو الواقع بما هو هو من دون أن يكون الجهل أو الشك مثلا جزء له ومأخوذا فيه ، ولازمه أن يكون حكمه معلقا على عدم صدور خلافه منه واقعا ، فالشك فيه حينئذ يرجع إلى الشك في موضوع حكمه ، ومعه فيعزل عن حكمه الموجب للشك في الحكم الشرعي ، فتمس الحاجة إلى الأصل العملي. وأخرى يكون موضوعه هو الواقع بوصف كونه مجهولا أو مشكوكا مثلا ، ولازمه أن يكون حكمه معلقا على عدم العلم بصدور خلافه من طرفه ، فما دام لم يعلم به يكون موضوعه باقيا وحكمه باقيا ، فمعه لا تمس الحاجة إلى الأصل العملي كما في الأمثلة المزبورة ونظائرها. ومن الممكن أن يكون حكمه في مسألتنا من قبيل الأول لا الثاني ، وما ذكرته يتم على الثاني دون الأول. ممنوعة جدا ، لما عرفته

١٠٥

سابقا من أن حكمه فيها من أحكامه الوجدانية ، ولا خفاء في أن موضوعه فيها أعم من المجهول والمشكوك ، لا مجال لإنكاره. بل الأمر كذلك لو قلنا بأنه من أحكامه البرهانية الراجعة إلى الأول ، لكون حكمها حكمها كما عرفته. فالفرق بينهما بجعل ثانيهما كالأول في مساس الحاجة إلى الأصل العملي كما أفاده بعض مما لا وجه له.

ولو فرضنا أنه من قبيل الأول لا الثاني نقول : إن المرجع في الشك في حصول المعلق عليه لكونه شكا في الموضوع ، هو الأصل الموضوعي لا الحكمي ، فمع وجوده كما هنا ـ وهو أصالة العدم التي هي من الأصول العقلائية المعتبرة عند الكل ـ لا وجه للرجوع إلى الأصل الحكمي كالاشتغال أو البراءة. وتوهم كونه مثبتا لا اعتبار به ، مما لا وجه له. فالثالث من الإشكالات باق بحاله وعليك بدفعه.

(الأمر السابع) :

قد حكي عن العلامة وولده فخر المحققين ابتناء [كذا] التداخل وعدمه في الأسباب الشرعية على أنها معرفات أو مؤثرات ، فالأول على الأول والثاني على الثاني ، فالكلام هنا تارة في المبنى وصحته وأخرى في البناء وصحته.

أما الأول : فالمشهور أنها معرفات لا مؤثرات ، وخالفهم فيه بعض المحققين استنادا إلى ما ملخصه : إن كون شيء معرّفا لشيء لا بدّ فيه من علقة وملازمة بينهما ، لأن الأمر الأجنبي عن الشيء لا يصلح أن يكون معرّفا له جدا ، وإلا يلزم أن يكون كل شيء معرفا لكل شيء ، ولا يخفى بطلانه. والعلاقة الموجبة للمعرفية هي ملازمة الشيئين في الوجود المعبر عنها بعلاقة اللزوم. وهذه منحصرة عقلا في أفراد ثلاثة : الأولان أن يكون أحدهما سببا

١٠٦

وعلة للآخر ، والثالث أن يكون كلاهما معلولين لعلة واحدة. والمتصور في الأسباب الشرعية هو الثالث لا غيره.

أما الأول ـ وهو أن يكون الأول سببا وعلة للثاني ـ فلأن المراد بالمعرّف هنا غيره ظاهرا ، لأن تقسيم السبب إلى المؤثر والمعرف وجعل الثاني مقابلا للأول كما هو الظاهر يقضي بكون المعرف قسيما للمؤثر ومقابلا له ، وعلى وجه التباين لا على وجه العموم والخصوص ولا وجه الاتحاد والعينية ، وإلا لغي التقسيم وبطلت المقابلة كما لا يخفى.

وأما الثاني ـ وهو أن يكون الثاني سببا وعلة للأول ـ فلأن الأسباب الشرعية كالبول والحيض والجنابة ونحوها ، ليست معلولات لمسبباتها التي هي الأحكام الشرعية ؛ ضرورة أن البول ليس معلولا للحدث ولا لوجوب الوضوء ، والجنابة ليست معلولة لحدث الجنابة ولا لوجوب الغسل ، وهكذا سائر الأسباب الشرعية. فتعين الثالث ، وهو أن يكون كلاهما معلولين لعلة واحدة ، إذ لا مانع من أن يكون البول ووجوب الوضوء أو الجنابة ووجوب الغسل كلاهما معلولين لأمر آخر ، هو علة لهما عند الشارع وإن لم نعلمه بعينه.

ومنعه ـ نظرا إلى انفكاك الأسباب الشرعية عن الأحكام المترتبة عليها ، فربما يوجد البول أو النوم ونحوهما مثلا ولا يجب الوضوء ، والانفكاك دليل على عدم كونهما معلولين لعلة واحدة ، أو نظرا إلى أن الأسباب الشرعية غالبا من الأمور القابلة للتكرار دون مسبباتها كالحدث ونحوه ، فإنه أمر بسيط وحالته وحدانية لا تتكرر بتكرر أسبابه كالنوم والبول والجنابة ونحوها ، فكونهما معلولين لعلة واحدة لا يجتمع مع كون أحدهما قابلا للتكرار دون

١٠٧

الآخر كما لا يخفى. مما لا وجه له ؛ لأن الأسباب الشرعية ليست عللا تامة بحيث لا تحتاج إلى شرط أو لا يتطرق إليها مانع مثلا ، بل هي بأسرها مقتضيات ولها شروط وموانع جدا. فمن الممكن أن يكون لأحد المعلولين شرط مفقود أو مانع موجود دون الآخر ، فإذا وجد أحدهما دون الآخر فيكشف ذلك عن حصول جميع ما له مدخل في العلية بالنسبة إلى الموجود وعدمه بالنسبة إلى المعدوم.

ولا خفاء في أن قابلية المحل من الشرائط أيضا ، فإذا كان أحدهما قابلا للتكرار دون الآخر كان الواجد للشرط هو الأول دون الثاني ، فالانفكاك لا يدل على عدم كونهما معلولين لعلة واحدة ، بل هو ممكن بالنسبة إلى الأسباب الشرعية. لا مجال لإنكاره إلا أنه مما لا فائدة فيه ، لأنه إما مجرد إمكان عقلي لا واقع له في الخارج كما إذا كان المسبب من الأوصاف التعبدية المجهولة كنهها لا طريق لنا إلى معرفة حقيقتها حتى نحكم بأنها من قبيل الثالث ، أو أنه مستلزم لما لا يلتزم به أحد كما إذا كان المسبب من الأمور العرفية الإمضائية كالملكية ونحوها ، لأنه مستلزم للقول بحصول الملكية مثلا بمجرد المراضاة النفسانية الواقعية من دون افتقارها إلى الكاشف كالعقد مثلا ، ولم يلتزم به أحد جدا. فالقول بأن الأسباب الشرعية معرّفات مما لا وجه له جدا.

هذا محصل ما أفاده المشتمل على بعض كلماته ، لكنه لا ينهض بإثبات مراده ، لما عرفته في ثاني الأمور المتقدمة من أن المراد بالأسباب هو الخطابات المسببة لا ما يصدر من المكلف كالبول ونحوه مما يتأبى عنه الخطاب. فما أفاده قدس‌سره من أن الأسباب الشرعية كالبول والجنابة

١٠٨

ونحوها ليست معلولات لمسبباتها التي هي الأحكام الشرعية معللا بما نقلناه عنه هنا ، مرتبط بالثاني لا الأول كما لا يخفى.

مع أن البول ونحوه مما جعله سببا شرعيا ليس بشرعي جدا ، وتسميته شرعيا مسامحة جدا.

وما أفاده في دفع التوهم المشار إليه : من أن الأسباب الشرعية ليست بعلل تامة بل مقتضيات بأسرها. مما لا وجه له أيضا ، لأن مراده بالأسباب الشرعية إن كان ما ينشأ منه الخطاب والتكليف ـ كما يظهر من أمثلته المزبورة ـ ففيه ما عرفته في سابقه من الأمرين ، فتبصر. وإن كان مراده بها هو الخطابات الشرعية فلا خفاء في أنها ـ بناء على ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للمصالح النفس الأمرية ـ ليست بعلل ولا مقتضيات لها بل هي أدلة عليها وهي غيرها كما لا يخفى.

بل ما أفاده في مقام الرد على ما اعترف أولا بإمكانه من أنه إما مجرد إمكان عقلي لا واقع له في الخارج إلى آخره ، أو مستلزم لما لا يلتزم به أحد إلى آخره ، مما لا وجه له أيضا : أما الأول فلأنه لو تم فإنما يتم فيما إذا كان المسبب من الأوصاف التعبدية ، وقد عرفت سابقا أن الخلاف مما لا اختصاص له بها. وأما الثاني فلأن العقد والملكية اللذين جعلهما معلولين للمراضاة النفسانية الواقعية من قبيل الأسباب بالمعنى الثاني لا الأول. فقد خلط قدس‌سره هنا بين الأسباب بمعنى الخطابات المسببة وبينها بمعنى ما ينشأ منه الخطاب والتكليف ، والخلاف كما عرفت سابقا إنما هو في الأول لا الثاني ، وما أفاده كله إنما يتم على الثاني دون الأول. ولعله نشأ من استعمال السبب في المعنى الثاني والغفلة عن أن المراد به هنا هو الأول دون الثاني.

١٠٩

فما صار إليه من منع العرفية مما لا وجه له ولا دليل عليه ، بل هو على خلافه جدا ، لأن المعرّف عبارة عن علة العلم بالمعرّف. ولا خفاء في أن الخطابات الشرعية كلها ـ ولو كانت غير مسببة عما يعذر من المكلف مما ينشأ منه التكليف كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوهما ـ علل للعلم بالأحكام الشرعية كوجوب الصلاة والزكاة ونحوهما ، ولذا يعبر عنها بالوسائط في الإثبات الذي هو عبارة أخرى عن علة العلم والدليل ، وكذلك الخطابات العرفية ونحوها ، لا فرق بينهما من هذه الجهة كما لا يخفى ، فما صار إليه المشهور متعين جدا.

وأما الثاني ـ وهو صحة البناء والتفريع ـ فزعمه غير واحد استنادا إلى ما محصله : إن المعرّف علامة وعلة للعلم بالمعرّف لا له نفسه ، فيجوز تعدده ولا مانع عنه ، كما هو المشاهد في الأمور الخارجية كالنار مثلا ، حيث يحصل العلم بوجودها تارة من الحرارة وأخرى من الدخان وثالثة منهما معا ، من غير أن يخرج أحدهما عن كونه معرّفا كما لا يخفى.

لكن الأظهر خلافه ، لأن المعرّف الذي هو علة للعلم بالمعرّف لا له نفسه : إما فعلي أو شأني لا ثالث لهما. والمراد بالثاني هو ما كان موجبا للعلم بالمعرّف لو وجد في المحل القابل. وحينئذ فإن كان المراد بجواز تعدده هو تعدده الفعلي فممنوع جدا ، لأن حصول العلم من المعرّف الثاني بعد حصوله من الأول تحصيل للحاصل ، ولا خفاء في بطلانه. وإن كان المراد بجواز تعدده هو تعدده الشأني فهو ممكن في المؤثر أيضا ، غاية الأمر حينئذ هو كون الأثر مستندا إلى السابق دون اللاحق ، فبقي هو على وضعه الثاني ، ولا ضير فيه كما لا يخفى.

١١٠

ومنع الاستحالة على الأول نظرا إلى أن المعرّف لما كان علة للعلم بالمعرّف لا له نفسه فتعدده لا يستلزم لتعدد المعلوم بل مستلزم لتأكد العلم وقوته مع بقاء المعلوم على وحدته. ويؤيده ما عن بعض المحققين من أن للعلم مراتب أربعة : (اليقين ، وعلم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين) المتدرجة في الضعف والقوة. مما لا وجه له ، لما فيه ـ مضافا إلى استلزامه لأن يكون أحد المعرّفين مثلا لغوا أو مؤكدا مع أنه خلف ومحال ـ لا خفاء فيه من الخلط بين المعلول وغيره ، والمنفي تعدده ولو كيفا بناء عليه هو الثاني دون الأول ، لأن اختلاف العلم في الضعف والقوة هو عين تعدده من حيث الكيف والمرتبة.

ودعوى ظهور لفظ التعدد فى التعدد الكمي واختصاصه به. مخالفة لما هو المعلوم بالضرورة من أن تعدد كل شيء بحسبه ولا مجال لإنكاره جدا.

وأجاب بعض المحققين عن المنع بوجه يكون جوابا لما ذكرناه في جوابه أيضا ، محصله : إن العلم عبارة عن الانكشاف لا مرتبة له سواه ، وتعدده عند تعدد المعرّف مما لا يساعد عليه الوجدان المحكم في أمثاله ، فحصوله من المعرّف الثاني بعد حصوله من المعرّف الأول تحصيل للحاصل ، لا خفاء في بطلانه. لكنه مما لا وجه له ، لأن العلم : إما حقيقة في الانكشاف والإدراك المطلق المنقسم إلى التصور والتصديق أو حقيقة في الثاني المنقسم إلى ما يزول بتشكيك المشكك وإلى ما لا يزول به ، فاختلافه من حيث الكيف والمرتبة مما لا يعتريه الريب والشبهة.

فبما ذكرنا كله ظهر أن الفرق بين المعرّف والمؤثر بجواز تعدد الأول دون الثاني ودعوى الملازمة بين صحة المبني والبناء ، مما لا وجه له جدا.

١١١

وكيف كان قد عرفت أن في المبحث أقوالا ثلاثة ، أظهرها الثاني كما مرت إليه الإشارة ، لنا عليه أمور ثلاثة :

(الأول) : إن المراد بالأسباب كما مرّ سابقا هو الخطابات المسببة ، وهي سواء كانت مختلفة الحقيقة أو متفقة الحقيقة مستلزمة لتعدد الطلب بحسبها ، وإلا يلزم أن يكون بعضها لغوا أو مؤكدا ، وهو خلف ومحال لا خفاء فيه. فمنع الاستلزام مطلقا أو في المتفقه الحقيقة ـ نظرا إلى ما قيل من أنها معرّفات لا مؤثرات ـ فتعددها لا يستلزم لتعدد الطلب أو إلى استلزامه لتحصيل الحاصل ، لأن حصول الطلب بالخطاب الثاني مثلا بعد حصوله من الأول وتعلقه بما تعلق به الأول كما هو المفروض تحصيل للحاصل لا خفاء في بطلانه. أو إلى أن قابلية المحل من شروط عقلية مفقودة في المبحث ظاهرا ، لأن الواحد الجنسي كالواحد الشخصي مما لا يقبل التكرار والتعدد ، فلا بد من صرف السبب عن ظاهره بجعله تأكيدا أو معرّفا ، أو إلى ما عن السرائر في باب وطي الحائض بما محصله : إن كون كل وطي سببا للكفارة مما يحتاج إلى دليل معتبر مفقود هنا ظاهرا ، لأن الوطي اسم للجنس وموضوع له لا للعموم ، فالمتعين في مثله هو الأخذ بالمتيقن ودفع الزائد عنه بأصالة البراءة.

وإليه ينظر ما عن مختلف العلامة قدس‌سره في باب سجدة السهو من أن الحكم معلق على الجنس وهو صادق على الوحدة والتعدد ، فلا يكون الثاني مؤثرا. مما لا وجه له ، لعدم نهوض شيء منها بإثباته :

أما الأول : فلما عرفته في الأمر السابع لا حاجة إلى الإعادة.

وأما الثاني : فلأنه مضافا إلى أنه يتم فيما إذا كانت الأسباب تدريجية لا دفعية ـ مع أنه لا فرق بينهما في المسألة كما سبقت إليه الإشارة ـ أنه يتم فيما

١١٢

إذا كان تعلق السبب والخطاب الثاني به بعد وجوده في الخارج ، وإلا كما هو المفروض فلا كما لا يخفى.

وأما الثالث فلما في المقيس عليه من المنع ، لأن الطلب الذي هو الإرادة أو غيرها مستفاد من الخطاب وتابع له في وحدته وتعدده ، فمتى تعدد الخطاب يتعدد الطلب قهرا ، وإلا يلزم أن يكون أحد الخطابين مثلا ملغى أو مؤكدا ، وهو خلف ومحال لا خفاء فيه.

ومنعه على الأول ـ نظرا إلى أن الإرادة نفسها مما لا يتعدد بتعدد الخطاب ـ مما لا وجه له ، لأن المستعمل فيه بناء عليه هو إظهار الإرادة لا نفسها ، فتعدده من لوازمه القهرية يحكم به العقل جدا. أو إلى استلزامه لتحصيل الحاصل بالنسبة إلى نفس الطلب أو متعلقه ، مما لا وجه له أيضا.

أما على الأول فلأن الطلب الثاني مغاير للطلب الأول ولو بتعدد ما ينشئان منه. ومنه ظهر فساده على الثاني ، فتبصر.

مضافا إلى أنه مسلم فيما إذا كان تعلق الخطاب الثاني مثلا به بعد وجوده في الخارج ، وإلا كما هو المفروض فلا ، فالواحد الشخصي والجنسي كلاهما بالنسبة إلى ما ذكرناه من استلزام الخطابات المتعددة ولو كانت غير مسببة للطلبات المتعددة بحسبها وقابليتهما لها ، على حد سواء لا فرق بينهما من هذه الجهة. نعم بينهما فرق من جهة أخرى تأتي الإشارة إليها. ويشهد على ما ذكرنا من الملازمة الكلية اختلاف القوم في الخطابات الغير المسببة المعبر عنها بالخطابات الابتدائية من حيث التأكيد والتأسيس ، كما تأتي إليه الإشارة ، فتبصر.

وبما ذكرنا يظهر أن ما عن النراقي قدس‌سره من دوران الأمر هنا بين

١١٣

التخصيص ـ وهو صرف السبب والخطاب الثاني مثلا عن ظاهره بجعله ملغى أو مؤكدا ـ وبين المجاز وهو تقييد المسبب والمتعلق ، والأول مقدم على الثاني كما في محله. مضافا إلى استلزام الثاني لاستعمال لفظ المسبب في معنيين لا سترة فيهما ، مع أنه كما في محله مما لا يجوز مطلقا مما لا وجه له.

أما الأول فلابتنائه على القياس الباطل كما عرفته ، وأما الثاني فلأن صرف السبب والخطاب الثاني مثلا عن ظاهره بنحو ما عرفته تصرف في اللفظ لا خفاء فيه ، بخلاف تعدد المتعلق والمسبب بتعدد علل وجوده ، فإنه مما يحكم به العقل ولا ربط له باللفظ ، بل هو في الحالين ـ أي حال وحدة السبب وتعدده ـ على حاله لا تصرف فيه أصلا ، فتبصر.

وأما الرابع : فلأن تعلق الحكم على الجنس لو لم يقض بتأثير السبب الثاني مثلا فلا يقضي بعدمه ، مع أن مقتضى سببية الجنس هو تعدد الجزاء بتعدده ، فلازمه تعدد المسبب بتعدده كما لا يخفى.

وتوهم أن الجنس بما هو هو مما لا تعدد فيه فلازمه هو وحدة المسبب مطلقا. ممنوع جدا ، لأن السبب والمؤثر هو وجود الجنس لا نفسه ، فاستلزام تعدد وجوده لتعدد المسبب مما لا خفاء فيه.

ومنع العموم مطلقا ولو من باب الحكمة. مما لا وجه له ، لأن دلالة مثل قوله «من وطئ فعليه الكفارة» على سببية كل وطي لها مطلقا كان مسبوقا بمثله أو لا. مما لا مجال لإنكاره.

ومنه ظهر ارتفاع الأصل ، وأن الاستناد إليه كالاستناد إلى ما عن مختلف العلامة قدس‌سره مما لا وجه له ، فتبصر واغتنم.

(الثاني) : إن تعدد الطلب مستلزم لتعدد المطلوب ، بل هو من لوازمه

١١٤

القهرية يحكم به العقل جدا ، ومنعه نظرا إلى استلزامه لما لا خفاء في استحالته من اتصاف شيء واحد بما هو هو للوصفين ، وهما وصفا المطلوبية وعروضها له مع تعدد ما ينشئان منه الموجب ، لتغايرهما ولو بالاعتبار الدافع مثله لما ادعيته من الاستحالة. مما لا وجه له. أو إلى أنه قد يتعدد الطلب ولا يتعدد المطلوب كالأوامر والخطابات المتعلقة بالصلاة والزكاة ونحوهما من الموضوعات الشرعية أو العرفية كالقتل ونحوه. مما لا وجه له أيضا ، لأن المراد بوحدة المطلوب فيها إن كان هو وحدته من حيث الذات والحقيقة فمسلم لا فائدة فيه ، وإن كان هو وحدته بوصف المطلوبية فممنوع جدا ، لأن مطلوبية الصوم والصلاة للنذر ونحوه مثلا غير مطلوبيتهما لأجل الاستيجار ونحوه ، كما أن مطلوبية القتل للقصاص غير مطلوبية الزنا أو الارتداد مثلا. فالمطلوب فيما ذكرته من الأمثلة ونحوها مع قطع النظر عن وصف المطلوبية واحد ومع لحاظها متعدد ، لا مجال لإنكاره. مع أن إنكار هذا الأمر يرجع في الحقيقة إلى إنكار الأمر الأول ، وقد عرفت أنه مما لا مجال لإنكاره.

(الثالث) : إن تعدد المطلوب مستلزم لتعدد الاشتغال ، وهو مستلزم لتعدد الامتثال ، بل هو من لوازمه القهرية يحكم به العقل جدا. ومنعه نظرا إلى قوله في صحيحة زرارة «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك للجنابة والجمعة والعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت لله تعالى عليك حقوق أجزأك غسل واحد» الكاشف عما هو مقتضى الأصل العقلي من التداخل.

ويؤيده ما عن بعض المحققين من أن المتعين في دوران الأمر بين تطبيق النص على القاعدة وبين كونه على خلافها هو الأول لا الثاني. مما لا وجه له ،

١١٥

لأن الإجزاء كما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره عبارة عن الإسقاط لا الامتثال ، كيف وصيرورة الفعل الواحد امتثالا للخطابات المتعددة أو أحدها مع كون نسبته إليها على السواء ، مما لا معنى له. وتعين المحكي عن البعض المختلف باختلاف المقام في المسألة يحتاج إلى دليل مفقود.

ومنه يظهر أن التداخل في الأغسال لو كان مما قام عليه الإجماع فهو من باب الإجماع على السقوط لا الامتثال. وثبوت نحو هذا الحكم المخالف للأصل من الشارع لمصلحة مستورة أو معلومة غير عزيز في نحو المسألة ، بل إنكار الأمر الثالث يرجع في الحقيقة إلى إنكار أحد الأمرين الأولين أو هما معا. وقد مرّ أنه لا مجال له جدا ، غاية الأمر خروج الموضوعات التي لا يتحقق تعدد وجودها في الخارج عن حكم المسألة فبقي غيرها بحالها.

وهذه الجهة هي الجهة الفارقة بين الواحد الشخصي والجنسي الموعودة سابقا.

وكيف كان فبما ذكرناه من الدليل وتقريبه لما اخترناه في المسألة ظهر ما وعدناه في الثالث من الأمور السبعة ، فلا حاجة إلى الإطالة.

ثم إن التداخل على القول به في المسألة عزيمة ، فلا يجوز الإتيان ثانيا بما أوتي به أولا ، أو رخصة فيجوز ذلك ولو للخروج عن شبهة الخلاف؟ فيه قولان : حكي الأول عن المحقق الثاني قدس‌سره والثاني عن المحقق الأنصاري قدس‌سره. لكن الأظهر هو الأول لحصول الامتثال بالإتيان الأول ، فيكون الثاني تشريعا محرما.

وما أشار إليه المحقق الأنصاري من المستند ، إنما يتم فيما يتطرق إليه الشك والمحتمل فيه إصابته المخالف كالمسائل التوقيفية ، وأما فيما لا يتطرق

١١٦

إليه الشك والاحتمال الذي هو منشأ للاحتياط المعلوم فيه خطأ المخالف وبطلان قوله كالمسائل العقلية التي منها ما نحن فيه ، فهو مما لا وجه له جدا.

وكيف كان العزيمة : تارة يراد منها ما لا يمكن الاحتياط ومن الرخصة ما يقابله كما هو المراد من قولهم : إن البناء على الأكثر في الشك في عدد ركعات الصلاة ، أو المضي عن الشك بعد التجاوز عن محله عزيمة أو رخصة ، وأخرى يراد منها ما لا يمكن الامتثال بمعنى تحريميته ثانيا ومن الرخصة ما يقابله ، والمراد بها في المسألة هو المعنى الثاني لا الأول ، فتبصر.

ثم الكلام في الخطابات المتكررة الابتدائية كأكرم زيدا ونحوه الخارجة عن موضوع المسألة كما مرت إليه الإشارة إنما هو في التأكيد والتأسيس وأولوية أحدهما على الآخر كما أشرنا إليه سابقا. ولما كان هذا الأمر جاريا في غيرها أيضا كما في قوله «خلق الله الماء طهورا» المحتمل كون الطهور بمعنى الطاهر فيكون تأكيدا لقوله : «كل ماء طاهر» .. إلى آخره ، أو بمعنى الطاهر المطهر ، فيكون تأسيسا ، وفي قوله : «إذا شككت فابن على اليقين» المحتمل كون المراد به هو أصالة الصحة في اليقين مطلقا ولو في الشك الساري فيكون تأسيسا أو هو البناء على الحالة السابقة فيكون تأكيدا للأخبار الاستصحابية ، وفي قوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك» ونحوه من أخبار الاحتياط المحتمل كون المراد بها هو الإرشاد إلى حكم العقل فيكون تأكيدا له أو هو الاستحباب أو الوجوب فيكون تأسيسا ، وفي قوله : «المغرور يرجع إلى من غرّ» ، المحتمل كون المراد به هو قاعدة التسبب أو المباشرة ، فيكون تأكيدا لها أو هو قاعدة مستقلة لا ربط لها بشيء منهما فيكون تأسيسا ، وفي قوله : «كلما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ،

١١٧

المحتمل كونه قاعدة مستقلة غير راجعة إلى قاعدة الضمان وأسبابه فيكون تأسيسا أو مأخوذا من أسبابه فيكون تأكيدا.

فالأحسن الإشارة إلى حكمه أولا ثم الإشارة إلى ما هو الصواب في الخطابات المزبورة ظاهرا :

فاعلم أن في دوران الأمر بين التأسيس والتأكيد ، يمكن القول بالأول لوجوه :

منها : إن الأصل في الكلام أن يكون مسوقا لغرض الإفادة والاستفادة الذي هو الداعي على وضعه ، فحمل اللفظ على التأكيد فيما يمكن حمله على التأسيس خلاف الأصل لا يصار إليه جدا.

ومنها : إن الغالب في اللفظ والكلام هو سوقه لإفادة التأسيس لا التأكيد ، فالظن الحاصل من الغلبة يلحق الشيء الغير المعلوم حاله بالأعم الأغلب ، لا خفاء فيه.

ومنها : إن التأكيد مجاز مخالف لأصالة الحقيقة ، فحمله على المعنى المجازي فيما يمكن حمله على الموضوع له والمعنى الحقيقي ، مما لا وجه له جدا.

لكنها مما لا تنهض بإثباته :

أما الأول : فلأن الغرض المسوق له الكلام والموضوع له اللفظ أعم من التأسيس والتأكيد ، فحمله على الثاني لا يخرجه عن غرض الإفادة والاستفادة. وما ادعيته من الغلبة النوعية معارض بالغلبة الشخصية للموجودة في الخطابات المزبورة ، حيث إن التكرار فيها غالبا إنما هو لغرض التأكيد لا التأسيس كما لا يخفى.

١١٨

وأما الثاني : فلأن الغلبة المدعاة إنما هي بالإضافة إلى نوع الكلام لا صنفه كالخطابات المزبورة مثلا ، لما عرفته من أن التكرار فيها غالبا إنما هو لغرض التأكيد ، ولا خفاء في أن الغلبة النوعية محكومة بالغلبة الشخصية.

وأما الثالث : فلأن التأكيد أمر خارج عن الموضوع له والمستعمل فيه ، فحمل اللفظ والكلام على التأكيد لا ينافي لأصالة الحقيقة.

فظهر أن التأسيس والتأكيد على حد سواء لا أولوية بينهما ، فاللازم في دوران الأمر بينهما هو الحكم بإجمال اللفظ والكلام ، وافتقار تعين كل منهما بخصوصه إلى ما لعله يكون ضابطا له في الموارد المختلفة ، وهو أن كل مورد يستلزم حمل اللفظ على التأكيد دون التأسيس فيما إذا دار الأمر بينهما لارتكاب مجاز أو خلاف أصل معتبر ـ وإن لم يخرج اللفظ عن حقيقته الأولية أو الثانوية ـ فالتأسيس وحمل اللفظ عليه أولى من التأكيد وحمله عليه ، وكل مورد لا يستلزم التأكيد وحمل اللفظ عليه لشيء من الأمرين ، فالتأكيد وحمل الكلام عليه أولى من التأسيس وحمله عليه. وعليك بملاحظته في الموارد.

ثم إن حمل الخطابات الابتدائية المزبورة على التأكيد هل يوجب شيئا من الأمرين المزبورين أو لا؟ قد يقال بالأول ، لأن حملها على التأكيد مستلزم لكونها للإرشاد ، وهو مخالف للأصل والظاهر ظاهرا. لكن الصواب خلافه ، لأن الخطاب الإرشادي : تارة يراد به ما سيق لمجرد النصح والهداية ، بحيث لا يكون الغرض منه البعث والتحريك إلى متعلقه ولا الكشف عن محبوبيته أيضا كالخطابات الصادرة عن الأطباء في مقام العلاج والطبابة. وأخرى يراد منه ما لا يترتب على موافقته ومخالفته ثواب وعقاب ، لكن يكون متعلقه

١١٩

محبوبا للمخاطب بالكسر ، ويكون الغرض منه البعث والتحريك إلى نحوه ، كأوامر الإطاعة لأنها محبوبة جدا ، غاية الأمر أنه لا يترتب عليها ما يترتب على الواجبات فعلا أو تركا من الثواب أو العقاب.

والمخالف للأصل هو الإرشاد بالمعنى الأول ، لأن الأصل في الأمر مثلا أن يكون كاشفا عن الإرادة والمحبوبية ومسوقا لغرض البعث والتحريك إلى متعلقه ، فكون الغرض المسوق له الأمر مجرد النصح والهداية مخالف لأصله وظاهره جدا. لا الإرشاد بالمعنى الثاني ، لأن الغرض الأصلي ـ الذي يكون الأصل في الأمر ـ أن يكون مسوقا له موجود فيه ، غاية الأمر أنه لا ينشأ منه التوبة أو العقوبة. وهذا بمجرده لا يوجب خروج الأمر مثلا عن أصله ، إذ كون الأمر مثلا مما ينشأ منه الثواب أو العقاب مما لا يقتضيه أصل ولا قاعدة ولا ربط له باللفظ لا من حيث المستعمل فيه ولا من حيث الغرض ، بل هو تابع للموارد وفرع لقابلية المحل. ولا خفاء في أن الإرشاد اللازم في الخطابات المزبورة بناء على التأكيد إنما هو بالمعنى الثاني لا الأول ، فاللازم غير مخالف للأصل والمخالف له غير لازم فيها كما لا يخفى.

هذا كله ما ساعد عليه نظري لعله مما ينبغي للتصديق والتحسين ، وهو الموفق والمعين.

١٢٠