الفوائد الغرويّة

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري

الفوائد الغرويّة

المؤلف:

الشيخ إبراهيم المحقّق الرودسري


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-6767-02-8
الصفحات: ١٥٦

فائدة

[حكم الجاهل القاصر والمقصر في الأحكام]

اختلف القوم في معذورية الجاهل بالحكم الشرعي العامل بما يوافق الأصل وعدمها على أقوال : قيل بالمعذورية مطلقا كما عن صاحب المنبع. وقيل بعدمها مطلقا كما عن المشهور. وقيل بالأول في صورة الموافقة لا المخالفة كما عن الأردبيلي ومن تبعه. وقيل بالمعذورية فيما إذا كان الجاهل قاصرا لا مقصرا كما عن شارح الوافية. وقيل بها فيما إذا كان الجاهل غافلا لا ملتفتا كما في القوانين المحكمة.

فتهذيب المرام في هذه الفائدة يظهر بعد أمور خمسة :

(الأول) : إن الجاهل المزبور المعبّر عنه بالتارك للطريقين أيضا ، إما ملتفت أو غافل ، لأنه إن التفت إلى جهله فيعبر عنه بالأول وبالجاهل البسيط والشاك أيضا ، وإلا فيعبر عنه بالثاني وبالجاهل المركب أيضا.

ثم الأول إما متمكن من الفحص واستعلام الأحكام ويتركه اقتراحا ، أو غير متمكن منه لبعده عن دار الإسلام ونحوه مثلا ، فالأول يعبر عنه بالمقصر ، والثاني بالقاصر ، فصارت الأقسام ثلاثة.

والموضوع في هذه الفائدة على ما عرفته من الأقوال أعم من الأقسام الثلاثة ، فجعل الملتفت مطلقا أو المقصر منه وتنزيل كلمات القوم عليه استناد

٤١

إلى الغلبة ـ أي غلبة هذا الفرد كما في الضوابط والفصول ـ خال عن وجه الصحة ، فتبصر.

(الثاني) : إن ما يصدر من الجاهل من العمل إما يشترط في صحته قصد القربة أو لا ، فالأول يعبر عنه بالعبادة والثاني بالمعاملة ، والخلاف المزبور في الأول خاصة أو فيه وفي الثاني معا؟ فيه قولان ، صرح المحقق الشريف بالأول والموازين قدس‌سره بالثاني ، ويساعده ظاهر إطلاق كلمات القوم أيضا ، وهو الأظهر.

(الثالث) : لا خفاء في أن صحة العبادة تتوقف على قصد القربة والجزم بها حين العمل ، بأن يعلم المكلف حين عمله أن ما يصدر منه ويأتي به هو ما أمر به المولى ، إلا في موارد الاحتياط بناء على القول بصحته في العبادة لعله الأظهر يأتي بيانه. ومع الشك في كون المأتي به هو المأمور به لا يتحقق قصد القربة فلا تصح العبادة.

وما ذكرناه لعله مما لا خلاف فيه ، بل في الفرائد للمحقق الأنصاري قدس‌سره أنه مما قام عليه الإجماع نصا وفتوى.

(الرابع) : إن العامل بأصل البراءة أو الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص عن الأدلة واستعلام المعارض : إما أن يكون ممن يتمكن منه ويتركه اقتراحا أو يكون ممن لا يتمكن منه رأسا ، فإن كان من الثاني كالقاصر والغافل رأسا فيصح عليه المؤاخذة والعقاب عقلا ، بل في الفصول قدس‌سره أنه مما لا خلاف فيه بين العدلية ظاهرا. وإن كان من الأول كالجاهل المقصر ، فيحق عليه العقاب والمؤاخذة.

ويدل عليه ـ مضافا إلى ما في الفرائد للمحقق الأنصاري قدس‌سره من

٤٢

الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بالأصل مطلقا قبل استفراغ الوسع في الأدلة ـ أمور :

منها : ما يدل على وجوب تحصيل العلم والتفقه والذم على ترك السؤال كآيتي النفر والسؤال.

ومنها : ما يدل على الذم ومؤاخذة الجهال بفعل المعاصي المجهولة ، لوجوب تحصيل العلم تحرزا عن مضرة العقاب الذي يحكم به العقل جزما ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في من أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : ما كان أسوأ حالك لو متّ على هذه الحالة! ثم أمره بالتوبة وغسلها.

وقوله في من غسّل مجدورا أصابته جنابة فكرّ فمات : قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا ، ألا تيمّموا؟!

ومنها : حكم العقل بحسن العقاب والمؤاخذة عليه جزما ، فإنه لا يعذر الجاهل القادر على الفحص والاستعلام ، لا سيما في مثل المقام الذي نظيره في العرفيات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى وأتى بطومار يدّعي أن الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها.

ودعوى استلزامه العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، كما ترى. والاستناد فيه إلى ما يدل على البراءة في الشبهات الحكمية من الأخبار ، في غير محله أيضا لظهورها واختصاصها ، ولو بلحاظ ما يدل على الاحتياط فيها من الإخبار بالعاجز وغير المتمكن رأسا.

وقد يذكر لحسن المؤاخذة وجوه أخر تركنا ذكرها في المقام لما فيما ذكرناه من الكفاية ، وإن شئتها فارجع إلى محلها.

ثم العقاب والمؤاخذة على الواقع أو على ترك التعلم؟ فيه قولان ، قيل كما

٤٣

عن الأردبيلي ومن تبعه بالثاني ، وقيل كما عن المشهور بالأول. وهو الأظهر لوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي الدال على وجوب شيء أو تحريمه مثلا وعدم المانع منه. إلا ما يتخيل من جهل المكلف به ، وهو غير قابل له مطلقا لا عقلا ولا شرعا كما عرفته مفصلا.

بل لا وجه للثاني إلا دعوى ظهور ما يدل على وجوب الفحص والتعلم والتفقه مما مرت الإشارة إلى بعضها في الوجوب النفسي. لكنها مدفوعة بأن المستفاد منها بالنظر الثاني إنما هو وجوب الفحص والتعلم لئلا يقع في مخالفة الواقع ، بمعنى ظهورها في الوجوب الإرشادي لا الموضوعي كما لا يخفى.

وقد يستدلّ على الثاني بقبح التجري ، بناء على أن الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرة كالإقدام على ما يعلم كونه مضرة كما عن العدة والغنية وغيرهما ، لكنه في محل المنع صغرى وكبرى كما هو مذكور في محلّه مفصلا.

ثم العبرة في المؤاخذة هي مخالفته الواقع الأولي الثابت في كل واقعة عند المخطئة كان المكلف عالما به أو لا ، فإذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع وفرض وجود خبر معتبر يعثر بعد الفحص والاستعلام على الحلية فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب أو هو مخالفة الطريق الشرعي المعتبر المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الأصل ، أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين ، أو يكفي في عدم حسن المؤاخذة موافقة أحدهما فلا يعاقب في الصورتين. فيه وجوه ، والأقوى هو الأول ، فيعاقب في المثال المزبور في صورة الأصل دون العكس.

أما الأول فلوجود المقتضي لحسن المؤاخذة ، وهو الخطاب الواقعي

٤٤

وثبوت التكليف بالواقع وعدم المانع ، لما مر سابقا من أن الجهل غير قابل له مطلقا لا عقلا ولا شرعا.

وأما الثاني فلفقد المقتضي ، لأن الطرق الشرعية الظاهرية مجعولة من باب الطريقية لا الموضوعية ، فإذا صادفت الواقع فهو وإلا لم يترتب على مخالفتها شيء جزما. ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق فظهر مخالفتها للواقع الأولي لم يسقط الأمر ووجب إعادتها ثانيا وقتا أو خارجا.

ومنه ظهر أنه لا يتعدد العقاب مع مصادفته الواقع من جهة تعدد التكليف كما لا يخفى. نعم لو قلنا بأن مؤديات الطرق الشرعية هي أحكام واقعية ثانوية مجعولة في مقابل الواقعات الأولية ، كان الوجه الثاني من الوجوه المزبورة أوجهها.

هذا ملخص ما أفاده شيخنا الأنصاري قدس‌سره في الفرائد. لكن الذي يقوى في النظر أن الواقع الأولي المجعول للواقعة بعنوانها الخاص من غير لحاظ شيء من أوصاف المكلف كجهله أو ضرره أو خوفه مثلا الثابت لها عند المخطئة مطلقا كان عالما به أو لا ما دام لم يبلغ إلى مرتبة الفعلية لا يجب عليه امتثاله وإيجاده وتطبيق عمله عليه في الخارج ليستحق المثوبة بإيجاده أو العقوبة بعدمه.

ومن هنا ظهر أن مؤديات الطرق الشرعية المعبّر عنها بالأحكام الظاهرية المجعولة للواقعة بلحاظ شيء من الأوصاف المزبورة لا لعنوانها الخاص الثابتة لها ما دام المكلف جاهلا بواقعها الأولي لا مطلقا ـ على القول باعتبارها وجعلها في مقابل الواقع الأولي ـ ليست أيضا مطلقا ولو لم تبلغ إلى مرتبة الفعلية مما يدل على اعتبارها من الدليل المعتبر مما بنينا منه المثوبة والعقوبة ،

٤٥

بل المناط فيهما هو الواقع الفعلي الذي يجب على المكلف إيجاده وتطبيق عمله عليه في الخارج ، سواء كان هو الواقع الأولي أو الظاهري الثانوي بناء على الموضوعية ، فافهم.

فما أفاده الشيخ قدس‌سره ليس مما ينبغي ظاهرا. وتوهم أن غرضه بيان المقتضي لا العلة التامة ، مما يأباه ظاهر كلامه كما لا يخفى.

(الخامس) : إن الخلاف في هذه الفائدة في الحكم التكليفي أو الوضعي أو فيهما معا؟ فيه وجوه ذات قولين : صرح في الضوابط بالثاني وأنه في صحة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، وظاهر الفصول كالقوانين بل صريحهما الثالث.

لكن لا يخفى ما فيها :

أما الأول : فلما عرفته في الأمر الأول من أن الموضوع في هذه الفائدة هو الجاهل مطلقا ، وقد قرر في محله وأشرنا إليه في تعريف أصول الفقه أن موضوع كل شيء عبارة عما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وأن البحث فيه لا بد أن يكون عن حال الموضوع وعارضه المحمول عليه. والبحث عن الثاني سواء فسرت الصحة بكون المأتي به موافقا للمأمور به أو كونه مسقطا للقضاء والإعادة ، ليس بحثا عن حال الجاهل وعارضه المحمول عليه ، لأنهما وصفان عارضان لفعله وعمله لا له ظاهرا ، فافهم.

وأما الثاني : فمع ظهور فساده بما ذكرنا فتبصر ، أن الخلاف فيه إما أن يكون بالنسبة إلى الجاهل المقصر أو يكون بالنسبة إلى غيره كالقاصر أو الغافل رأسا.

وعلى التقديرين لا وجه له جدا ، لما عرفته في الأمر الرابع ولا يحتاج إلى الإعادة. فالذي ينبغي أن يقال هو أن الخلاف في هذه الفائدة إنما هو في أن

٤٦

الجهل هل يصلح عقلا أو شرعا لأن يكون عذرا للجاهل بحيث يكون ما أتى به جاهلا من العبادة أو المعاملة صحيحا مسقطا بمعنى القضاء والإعادة ، أو مؤثرا للملكية والزوجية ونحوها ، أو لا يصلح له مطلقا فيكون فاسدا مطلقا؟.

ولعل ما في الضوابط مما عرفته يرجع إلى ما ذكرنا ، بناء على تسامحه في التعبير.

وكيف كان فالمسألة أصولية عقلية لا غير ، ولو على ما في الضوابط أيضا ، لأن الصحة بالمعنى المشار إليه أمر عقلي لا شرعي كأصل القضاء وتشريعه كما لا يخفى.

اللهم إلا أن يجعل المعنى المشار إليه أمرا تعبديا. لكنه فاسد ، لا سيما في طرف النفي والعدم ، فتبصر.

ثم إنك قد عرفت في الأمر الأول بأن الجاهل على أقسام ثلاثة ، فالكلام في مقامات ثلاثة : الأول في الجاهل المقصر. والكلام في حسن عقابه قد عرفته في الأمر الرابع. وأما الكلام في صحة عمله وفساده بالمعنى المشار إليه في الأمر الخامس فهو تارة فيما إذا كان عاملا بالاحتياط في العبادة وأخرى فيما إذا كان عاملا به في المعاملة ، وثالثة فيما إذا كان عاملا بالبراءة في الأولى ، ورابعة فيما إذا كان عاملا بها في الثانية ، فتهذيب المرام من هذه الجهة في مقامات أربعة (١) :

__________________

(١). الصحيح أن المقامات ثلاثة كما يعرف مما يأتي ، وما في خط المؤلف هنا سبق قلم منه.

٤٧

[المقام] الأول

فيما إذا كان عاملا بالاحتياط في العبادة

والكلام فيه : تارة فيما إذا لم يتوقف الاحتياط على تكرار العمل كما في الشك في الشرطية ونحوها ، وأخرى فيما إذا كان متوقفا عليه كما في الشك في وجوب الظهر أو الجمعة في يومها وفي وجوب القصر والإتمام في سير أربع فراسخ ونحوهما.

أما الأول ففي صحة العبادة وعدمها ـ بمعنى كونها مسقطة للقضاء والإعادة ـ قولان مبنيّان على اعتبار نيّة الوجه الذي هو الوجوب والندب في العمل وعدمه ، فإن قيل بالأول كما عن الأكثر على وجه القيدية أو الغائية فالثاني ، وإن قيل بالثاني كما عن غير واحد من المحققين فالأول. لكن الأظهر هو الثاني مطلقا لعدم كون الوجه محققا للموضوع ونفس عنوان المأمور به كالنيابة ونحوها في موردهما أوّلا وعدم كونه مما يتوقف حصول الامتثال على تعلقه كالظهرية ونحوها في الوقت المشترك ثانيا ، فافهم. وعدم الدليل على اعتباره ثالثا ، لأن ما يمكن أن يستدل به له ظاهرا وجوه غير مجدية :

منها : أنه شرط لتحقق الإطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلف عن العهدة.

ولا ريب أن المرجع في الشك فيه هو الاحتياط وإتيان المأمور به بجميع ما له دخل فيه من كمّه وكيفه ، وإليه يرجع ما عن المحقق البهبهاني قدس‌سره [في] حاشية على المدارك من أن الاشتغال اليقيني مستلزم للفراغ اليقيني ولا يحصل إلا بلحاظ الوجه في العمل.

وفيه : إن أمثال الخطابات الشرعية ليس إلا كأمثال الخطابات العرفية ، ولا

٤٨

خفاء في أن العبد الآتي بالمأمور به عرفا من دون لحاظ وجهه ونيته يعدّ ممدوحا وممتثلا لا مجال لإنكاره. فالشك في تحقق الإطاعة من دون قصد الوجه في مقام الامتثال ، مقطوع العدم ظاهرا.

ومنها : أن امتثال المأمور به لا يحصل إلا بإتيانه على الوجه المطلوب ، وهو لا يتحقق إلا بإتيان الواجب واجبا والندب ندبا ، وإليه يرجع ما في المقاصد العلية من أن الامتثال في العبادة إنما يتحقق بإيقاعها على الوجه المطلوب ، ولا يتحقق ذلك الوجه في الفعل المأتي به إلا بالنية.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ المراد به إن كان هو ما مرّ من الاشتغال فقد عرفت ما فيه ، وإن كان هو وجوب امتثال المأمور به وإيقاعه مقترنا مع وجهه الذي هو الوجوب مثلا فمصادرة لا غير ، وإن كان هو وجوب إيقاع المأمور به وإيجاده على الوجه المأمور به شرعا فمسلّم ، لكن كون الوجه المشار إليه مما يعتبر شرعا لحاظه وقصده فى العمل أول الكلام.

ومنها : ما حكاه في الجواهر ـ ولعله العمدة ـ محصله : إن قصد جنس الفعل المشترك بين فردين أو أفراد مختلفة في الوجوب والندب لا يستلزم تعيين وجوهه بل يتوقف تعيينه وتميز امتثال أحدها عن الآخر على قصد الوجه ، فيجب على المكلف أن ينوي الظهر مثلا ليتميز عن غيرها كالعصر مثلا ، والفرض ليتميز عن ندبها كالمعادة جماعة بعد وقوعها منفردا. وإليه يرجع ما قيل من أن الصلاة تقع تارة على وجه الوجوب وأخرى على وجه الندب ، وقابلة لكل منهما ، فيفتقر اختصاصها بأحدهما إلى النية.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، لكونه أخصّ من المدعى أولا لأنه لا يتم فيما إذا كان المأمور به واحدا ، كما إذا لم يكن على المكلف إلا صلاة واحدة كالظهر أو

٤٩

نحوها. وخارجا عن محل الكلام ثانيا ، لأن الكلام في وجوب قصد الوجه لنفسه لا لغيره ، ككونه مقدمة للتعيين يمكن حصوله بغيره أيضا كالقصد إلى ذات صلاة مأمور بها فإنه موجب للتعيين أيضا ، تدبر.

ومنتقضا ثالثا بما عن المشهور ـ بل نسب إلى قطع الأصحاب وادعى عليه عدم الخلاف في محكي المدارك والرياض ـ من عدم اعتبار نية القصر والإتمام في مورد التخيير ، لعدم الفرق بينها وبين ما نحن فيه ظاهرا ، فافهم.

ومندفعا رابعا بعدم إمكان وقوع الصلاة كالظهر مثلا من المكلف في وقت واحد على وجهي الوجوب والندب ، لأن من صلى الفريضة ابتداء لا تقع صلاته إلا واجبة ومن أعادها جماعة لا تقع إلا مندوبة.

وخامسا بأن غايته هو وجوب القصد إلى العنوان المذكور في الخطاب بوصف أنه مطلوب بهذا الطلب الشخصي الذي هو المعرّف للخصوصيات المعتبرة والمأخوذة في المأمور به المميزة له عن غيره. وأما توصيفه بوصف الوجوب أو الندب بخصوصه ـ كما هو المدعى ـ فلا ، كما لا يخفى.

وسادسا بأنه لا يتم في المقامات التي لم يعلم ـ لاشتباه الحكم أو الموضوع ـ حال المأمور به ووصفه وأنه الوجوب أو الندب. والقول بسقوطه فيها دون غيرها أو قصده فيها على وجه الترديد ، مما لا يخفى ما فيه ، فافهم.

ومنها : دعوى الإجماع على وجوبه كما عن بعض. ولا يخفى فسادها ، لما عرفته من الخلاف ، لا سيما إذا كان مستندا إلى الأمور التي عرفت حالها أو ما تعرفه لا حقا.

ومنها : ما عن المتكلمين من أن استحقاق الثواب على الواجب أو المندوب مشروط بالإتيان به لوجوبه أو لندبه أو لوجههما من الشكر أو الأمر كما عن

٥٠

الكعبي والأشعرية أو اللطف كما عن أكثر العدلية أو وجود المصلحة في الفعل والمفسدة في الترك كما عن بعض المعتزلة.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، لأنه بعد الغض عن أن مفاده هو الوجوب التبعي لا النفسي الذي هو المدعى وأنه لا يتم في المقامات المشار إليها ، لا دلالة له على المدعى ، لإمكان أن يكون مرادهم من ذلك هو نية القربة التي لا إشكال في وجوبها. مع أن الواجب على المكلف في مقام الامتثال ليس إلا تصور المأمور به بجميع قيوده الداخلة في تعلق الأمر به والقصد بفعله طاعة له جلّ شأنه الذي لا ينفك عنه ظاهرا ، والزائد عليه مما لا يحتاج إليه ، بل قد يعدّ من الوساوس الشيطانية جزما.

فبما ذكرنا كله ظهر أن وصف الوجوب أو الندب خارج عن ماهية المأمور به كالزمانية والمكانية والأدائية والقضائية ونحوها من المقارنات الاتفاقية التي لا وجه لاعتبارها في العمل.

فظهر أن نية الوجوب في المندوب أو العكس جهله لا يضر بصحة العمل بالمعنى المشار إليه سابقا ، بخلاف ما إذا كان عن علم ، لرجوعه إلى نية الخلاف بل هو عينها المعتبر عدمها في الصحة أو في صحة العبادة قطعا.

ومن هنا ظهر أن القول بتقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي مطلقا ـ كان مستلزم للتكرار أي تكرار العبادة أولا ـ مما لا دليل له كاف بإتيانه وتنزيل إطلاقه على الأول ، بعيد لا وجه له ظاهرا ، فافهم.

وأما الثاني ـ وهو ما إذا كان الاحتياط مستلزما للتكرار أي تكرار العبادة ـ فالأظهر عدم صحته بالمعنى المتقدم مطلقا. قلنا باعتبار نية الوجه أولا ، لأن أمثال الخطابات الشرعية كأمثال الخطابات العرفية ، ولا خفاء في أن من أتى

٥١

بصلوات كثيرة لإحراز شروط صلاة واحدة ـ بأن صلى في موضع اشتبه وتردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها اجتماع الشروط الثلاثة ـ يعد في العرف لاعبا بأمر المولى بل أجنبيا عن سيرة المتشرعة.

ويؤيد ذلك ما عن صاحبي السرائر والحدائق قدس‌سرهما من إيجاب الأول الصلاة عاريا على من عنده ثوبان اشتبه طاهرهما بنجسهما وعدم جوازه لتكرارها فيهما ، ومن ظهور دعوى الاتفاق من الثاني على عدم مشروعية تكرار العبادة مع التمكن من الامتثال التفصيلي والعلم بها كمّا وكيفا ، فافهم.

نعم ، لو كان المكلف غير متمكن من الامتثال التفصيلي ودار أمره بين أن يسقط عنه المأمور به رأسا أو أن يمتثل به إجمالا مستلزما للتكرار ، كان المصير إلى الثاني حسنا ، ولعله محمود منه عرفا ، فتبصر.

(الثاني) : فيما إذا كان عاملا بالاحتياط في المعاملة المعبّر عنها بالأسباب الشرعية أيضا ، لا إشكال في صحتها ، بمعنى تأثيرها وترتب المسببات عليها مطلقا كانت وصفها وقت الصدور معلومة أو مجهولة. لأنها تدور مدار الواقع المعلوم حصوله بالاحتياط ولا تتغير عما هي عليه من السببية بالعلم أو الجهل بها جزما ، إذ لا مدخل له في تأثيرها وترتب الأثر عليها وإلا يستلزم التقييد في نفسها أو في أدلتها ، وهو كما ترى.

لكن مع ذلك كلّه لا يخلو القول بصحة الاحتياط مطلقا أو في الجملة عن الإشكال ، لأن هذه المسألة نفسها من المسائل الاجتهادية لا بد من تعيينها

٥٢

وجوبا أو استحبابا أولا ، وهو إما أن يكون بالاحتياط أو بالظن مطلقا ، والأول مستلزم للدور والثاني لخلاف الفرض جزما ، بل تحصيل مورد الاحتياط وتعيينه ـ كترجيح أحد فردي التخيير على الآخر في المواطن الأربعة ونحوها من المسائل الاجتهادية أيضا ـ لا بد من تشخيصه أولا ، وهو أيضا إما بالظن أو الاحتياط. وعلى كل منهما يلزم أحد المحذورين جزما. ودفعه بالتزام المرجوع إلى المجتهد في تعيينه ، كما ترى. مع أن الاحتياط يستلزم بالنسبة إلى الكل أو الجل للعسر والحرج المنفيين في الشريعة ، ومنعه مكابرة واضحة.

وبما ذكرنا يظهر الإشكال على الاحتياط في المعاملة في الجملة أيضا. ويؤيده ما أفاده المحقق القمي قدس‌سره في بعض أجوبة مسائله بما هذا لفظه : آنكه مذكور شد في الجملة اشارة بود در احتياط در عبادات واما معاملات ومرافعات پس در اينجا درد گران تر ومرض بى درمان تر است ، گاه هست محتاج شويم بقطع دعوى فيما بين دو نفر كه صلح در آنجا صورت امكان نپذيرد ودر ترك حكم مفاسد عظيمه باشد از قتل نفوس وسفك دماء وهتك اعراض وامثال آن يا مالى ما يترك صغير باشد واحتياط به هيچ وجه ممكن نباشد آيا احتياط در ابقاء مال است تا تلف شود يا ترجيح بلا مرجح ، وهركس مبتلى به مسائل حادثه وواردات يومية بين ناس شد مى داند كه كار به احتياط به انجام نمى يابد. انتهى كلامه.

فظهر بما ذكرنا أن القول ببطلان الاحتياط مطلقا أو في الجملة : إما أن يكون مستندا إلى ما مرّ أولا من اعتبار قصد الوجه في العمل أو ما أشرنا إليه ثانيا من الوجوه الثلاثة ، فعلى الأول لا وجه له لما مر مفصلا ، وعلى الثاني لا محيص عنه ظاهرا ، بل هو مقتضى الاحتياط أيضا.

٥٣

ومن هنا ظهر قوة القول بتقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي مطلقا ، واندفاع ما أوردناه عليه سابقا. ولو جعل الثاني مستندا له والأول مؤيدا لكان أسد ، لكنه خلاف الكل أو الجل ظاهرا.

ومما ذكرنا ظهر قوة ما اخترناه في بعض الأمور الخمسة المتقدمة من عموم النزاع وعدم اختصاصه بالعبادة. وستأتي الإشارة إليه أيضا ، فانتظر.

(الثالث) : فيما إذا كان عاملا بالبراءة في العبادة. قد عرفت أن فيه أقوالا ثلاثة :

أحدها : ما عن المشهور من الفساد وعدم الصحة مطلقا.

وثانيها : ما عن الأردبيلي ومن تبعه من المعذورية والصحة في صورة الموافقة لا المخالفة.

وثالثها : ما عن منبع الحياة من الصحة مطلقا.

لكن الأظهر هو الأول لوجوه ، نذكر منها ما فيه الكفاية ، وهو وجهان :

أحدهما : ما هو المسلم ظاهرا من أن الأصل حرمة العمل بالظن في التكاليف والأحكام الثابتة بالضرورة ، خرج منه ظن المجتهد والمقلد له بدليل معتبر كالإجماع أو اختلال النظام ونحوهما المذكور في محله ، فيبقى الباقي الذي منه ما نحن فيه مندرجا فيه لا يجوز الاستناد إليه جزما.

وثانيهما : ما أشرنا إليه سابقا من أن صحة العبادة متوقفة على قصد القربة المعتبر في صحتها اتفاقا ، ولا يصح ذلك إلا مع علم المكلف أو ظنه المعتبر بأن المأتي به هو نفس المأمور به ، ومع الشك فيه حين العمل والامتثال لا يتحقق فعل ذلك ، فلا تصح العبادة جزما.

واستدل للقول الثاني بوجوه نقتصر على ذكر ما هو عمدتها ظاهرا ، وهو

٥٤

وجوه ثلاثة :

أحدها : إن تحصيل العلم بالمجتهد الجامع للشرائط المعتبرة قيد والرجوع إليه في الأحكام الشرعية الفرعية مطلقا بالنسبة إلى الكل أو الجل مستلزم للعسر والحرج المنفيين بالكتاب والسنة لا يصح المصير إليه جزما.

وفيه ما لا يخفى ، لأنه يقتضي صحة العبادة مطلقا ، كانت مخالفة للواقع النفس الأمري أو موافقة له ، مع أنه غير المدعى.

مضافا إلى منع الاستلزام المزبور ، لكثرة العلماء والفضلاء في البلدان والأمكنة ، يمكن منهم تحصيل العلم بالأعلم فضلا عن المجتهد ومن يجوز تقليده.

وثانيها : إن المأمور به هو نفس العبادة المركبة من الأقوال والأفعال المشروطة بالشرائط المخصوصة ، وأخذها من الإمام عليه‌السلام أو المجتهد غير داخل في حقيقته ، فإذا وجد في الخارج يحصل الامتثال به ويخرج المكلف عن العهدة.

وفيه ما لا يخفى ، لأن حصول الامتثال يتوقف على قصد القربة ، وهو يتحقق إذا كان المكلف عالما أو ظانا

بالظن المعتبر في زمان العمل بأن المأتي به هو نفس ما أمر به المولى ، وأما إذا كان شاكا في ذلك ـ كما هو المفروض ـ فلا يتحقق عنه قصد التقرب ، فلا تصح عبادته ، فيبقى في عهدة التكليف. ولا مجال لإنكاره.

وثالثها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمتي تسعة .. ومنها ما لا يعلمون. وقوله عليه‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم. ومن عمل بما علم كفي ما لم يعلم ... ونحوها من أخبار البراءة ، إلا أن الاستناد

٥٥

إليها في مفروض الكلام ـ وهو الجاهل المقصر ـ بالنسبة إلى رفع المؤاخذة أو صحة العبادة أو هما معا ، خال عن وجه الصحة.

أما الأول فلما عرفته في بعض الأمور الخمسة المذكورة في صدر الفائدة ، وأما الثاني فلأنه لا يصح إلا بالتزام أحد أمور ثلاثة : إما بجعل المرفوع هو اشتراط صحة العبادة بقصد القربة في مفروض الكلام ، أو بجعله جميع الآثار التي هو منها ، أو بجعله اشتراط صحة العبادة بأخذها بطريق الاجتهاد أو التقليد. مع أنه فاسد :

أما الأول فلأن قصد القربة شرط في صحة العبادة ، قام عليه الإجماع نصا وفتوى مطلقا ، كان المكلف عالما أو جاهلا مقصرا أو قاصرا ، لا مجال لإنكاره.

ومنه ظهر ما في الثاني ، فتبصر.

وأما الثالث فلأنه بلحاظ أن أدلة وجوب [رجوع] العامي إلى المجتهد كبواقي الأدلة مسوقة لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع لا لبّا. فاشتراط كون الواقع مأخوذا منها مما يمكن المصير إليه والتصديق عليه ، إلا أنه بعد ما مرت الإشارة إليه من أن قصد القربة المعتبرة في صحة العبادة لا يصح من الشاك ولا يتحقق منه مطلقا مقصرا كان أو قاصرا غير مجد جزما ، فظهر وجه الثالث أيضا ، فتبصر.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما عن شارح الوافية قدس‌سره من التفصيل بين القاصر والمقصر ، بالمعذورية في الأول دون الثاني وستأتي الإشارة إليه أيضا ، فانتظر.

(الرابع) : فيما إذا كان عاملا بالبراءة في المعاملة المعبرة بالأسباب

٥٦

الشرعية أيضا. والأظهر هنا ما عن المشهور من التفصيل بين الموافق للواقع والمخالف له بالصحة في الأول دون الثاني ، لما مرّ سابقا من أن العلم والجهل لا مدخل لشيء منهما في صحتها ، بمعنى تأثيرها وترتب المسببات عليها ، وأن المدار في صحتها وفسادها هو مطابقة الواقع ومخالفته ، سواء صدرت عن الاجتهاد أو التقليد أو لا. من دون فرق بين صدور العقد أو الإيقاع ظانا بكونه سببا وبين الظن به بعد صدوره ، لأنه طريق إلى الواقع لا أنه مقيد به ، فافهم.

فما عن بعض من الفرق بينهما والحكم بالصحة في الأول دون الثاني ، مما لا وجه له جزما.

وتوهم الفساد ـ أي فساد معاملة الجاهل نظرا إلى شكه في تأثير ما يوجبه من العقد أو الإيقاع فلا يتأتى منه قصد الإنشاء المعتبر فيهما ـ فاسد ، لحصوله بقصد تحقق مضمون الصيغة كالانتقال والزوجية في البيع والنكاح مثلا.

وفي الفرائد : إنه يحصل مع العلم بفساد المعاملة أيضا كبيع الخمر والمغصوب ونحوهما فضلا عن الشك فيه ، وهو كذلك.

بل لا فرق في صحة معاملة الجاهل إذا انكشفت الصحة بعد الصدور بين شكه في صحتها وقت صدورها وبين قطعه بفسادها ، لما مر سابقا من أن صحتها وفسادها يدوران مدار الواقع ولا يتغيران بالعلم أو الجهل ظاهرا.

ويدل على ما ذكرنا ما ورد في براء بن معرور الأنصاري حين تطهّر بالماء من غير استناده إلى طريق معتبر ، وأخذه من الشارع عليه‌السلام من قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكنت أنت أول من صنع هذا أول التوابين وأول المتطهرين. ودلالته

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٢٢.

٥٧

على ما ذكرنا بوجهين مما لا خفاء فيه ، فتبصر.

فبما ذكرنا في هذا الأمر ظهر وجه ما قدمناه في صدر الفائدة من أن الخلاف فيه ليس مختصا بالعبادة كما مرت الإشارة إليه ، فتبصر.

المقام الثاني

في الجاهل القاصر

والكلام فيه : تارة في حسن عقابه وعدمه ، وأخرى في صحة عمله وفساده بالمعنى المتقدم سابقا :

أما الأول : فقد مر في بعض الأمور التي ذكرناها في صدر الفائدة فارجع إليه.

وأما الثاني : فهو تارة فيما إذا كان عاملا بالاحتياط في العبادة ، وأخرى فيما إذا كان عاملا به في المعاملة ، وثالثة فيما إذا كان عاملا بالبراءة في العبادة ، ورابعة فيما إذا كان عاملا بها في المعاملة.

لكن حكم هذه الأربعة يظهر من الأربعة المذكورة في المقام الأول ، بمعنى أنه يظهر حكم الأولين هنا من الأولين هناك والأخيرين هناك من الأخيرين هناك. بل يظهر بعد التبصر بما أشرنا إليه في الأخيرين هناك من أن قصد التقرب لا يتحقق من الشاك مطلقا مقصرا كان أو قاصرا هنا ، وما عن شارح الوافية قدس‌سره من التفصيل بين القاصر والمقصر بالمعذورية والصحة في الأول وعدمها في الثاني ، فلا وجه لإعادة الكلام والإطالة ، فتبصر.

٥٨

المقام الثالث

في الجاهل الغافل

والكلام فيه أيضا تارة في حسن عقابه وعدمه ، وأخرى في صحة عمله وفساده بالمعنى الذي عرفته سابقا. أما الأول فقد مر في بعض الأمور التي قدمنا ذكرها في صدر الفائدة ، وأما الثاني فهو تارة فيما إذا كان عاملا بما يوافق البراءة في المعاملة وأخرى فيما إذا كان عاملا بما يوافقها في العبادة : أما الأول فالحكم فيه ما مرّ في بعض المقامات السابقة من المقامين الأولين تصريحا وإشارة من الصحة وترتب الأثر في صورة الموافقة لا المخالفة ، وقد مر وجهه ولا يحتاج إلى الإعادة. وأما الثاني فالأقوال فيه يظهر مما ذكرناه في صدر الفائدة ، وأظهرها التفصيل بين صورة المطابقة والمخالفة بالصحة في الأولى والفساد في الثانية. أما الثاني فلأن المأتي به ليس هو المأمور به وهو ليس بالمأتي به ، فلا يحصل الامتثال به جزما ، فيبقى المكلف في عهدة التكليف إعادة أو قضاء ، لا سيما إذا كان التنافي بالأمر الأول ، فتبصر.

وأما الأول فلأن المعتبر في الامتثال ليس إلا إتيان المأمور به على قصد التقرب وكونه مأخوذا من طريق معتبر كالاجتهاد أو التقليد والعلم بمطابقته للواقع حين الصدور. والإتيان ليس شرطا في صحته جزما ، لأن ما دل على وجوب رجوع العامي المقلد إلى المجتهد كبواقي الأدلة من الأدلة المسوقة لبيان الطرق الشرعية لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا منها ، فمتى وجد في الخارج مشتملا على ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط كلها ـ كما هو المفروض في المقام ـ وانكشف مطابقته للواقع بما هو مرآة لها من العلم أو الطريق المعتبر كالتقليد أو الاجتهاد يسقط الأمر ويخرج المكلف عن العهدة.

٥٩

وتوهم أن ظن المجتهد أو فتواه لا يؤثر بالنسبة إلى الأعمال السابقة. فاسد ، لأن مؤدى ظنه أو فتواه نفس الحكم الشرعي الثابت لها من دون فرق بين سابقها ولا حقها ، بل الحكم في الفعل الصادر عن الاجتهاد والتقليد أيضا هو ما ذكرناه من التفصيل ما دام لم يقم دليل على خلافه كما هو الظاهر.

وذهب المحقق القمي قدس‌سره في مفروض المقام إلى الصحة في صورة المخالفة أيضا ، استنادا إلى قبح تكليف الغافل واقتضاء الأمر للإجزاء. ولا يخفى ما فيهما :

أما الأول فلأن المراد به ظاهرا أنه حين الغفلة ليس مكلفا فعلا بالواقع الأولي ، لا أنه موضوع عنه رأسا أو منحصر بما فهمه وعلمه واعتقده تكليفا. كيف وهو مستلزم للتصويب ببعض معانيه ولا خفاء في بطلانه.

وأما الثاني فلأنه ـ مضافا إلى أن الصواب خلافه يأتي بيانه في فائدة مستقلة ـ أن الإجزاء على القول به يعتبر فيه أمران : الأمر وإتيان المأمور به معا. ومع انتفائهما أو انتفاء أحدهما كما في المقام لأن المتصور فيه يتخيل أمرا وليس بأمر حقيقة لا وجه له. والقول به ظاهر ، إذا المتعين في المقام هو ما ذكرناه من التفصيل بين صورة المطابقة والمخالفة بالصحة في الأولى دون الثانية ، لكن الشأن في إثبات اعتبار مثل هذا الظن وصحة الاستناد إليه ـ لا سيما مع ذهاب المشهور كما ذكر في صدر الفائدة إلى الفساد مطلقا حتى في مفروض المقام ، والقول بخروجه عن منصرف كلامهم بعيد ، وحسن الاحتياط مما لا خفاء فيه ، فافهم.

* * *

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، بقي أمور ينبغي الإشارة إليها :

٦٠