الطبّ محراب للإيمان - ج ١

الدكتور خالص جلبي كنجو

الطبّ محراب للإيمان - ج ١

المؤلف:

الدكتور خالص جلبي كنجو


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧١

ولكن هل الفص الصدغي هو المسؤول تشريحياً عن الذاكرة؟ بالطبع لا .. إذن فأين توجد الذاكرة؟ في الدماغ ، أو في غير الدماغ إذا صح طرح السؤال؟ ... الذي يبدو هو أن نفس الخلايا العصبية بجموعها العام تشترك في تكوين الذاكرة بواسطة الجزئيات البروتينية الموجودة داخل الخلايا العصبية ، فوجود [٣٠] ألف مورثة في الخلية الواحدة وإمكانية تشكل قرابة [٣٠] ألف حمض أميني مختلف يجعلنا نفكر في هذه التعقيدات الذرية هل هي التي تشترك في موضوع الذاكرة خاصة وهذه التعقيدات تبلغ ألف مليار مليار جزىء في الدماغ ، هل تحمل هذه الجزئيات آثار الذاكرة كما يحدث في الصفيحة المعدنية التي تحمل آثار طرق الحداد بالمطرقة عليها؟ أم هل تتوزع الصورة في هذه الجزئيات الذرية ثم يعاد تشكيلها مرة أخرى؟ لا أحد حتى الآن يعرف أين يوجد السر في موضوع الذاكرة؟!!

ـ ٤ ـ

قدر بعض العلماء أن المرئيات أو المسموعات تنطبع في الدماغ كما تنطبع الصورة على جزئيات الفضة في لوحة الفوتوغراف الحساسة ، ومن خلال هذا التفرق للصورة والبعثرة للذكرى بحيث تزدحم الذكريات في حزئيات خلايا الدماغ كالفسيفساء ، وبقدرة قادر ، تجتمع هذه الجزئيات المتفرقة لتعيد تشكيل المنظر الذي رآه الانسان ، ولكن من خلال هذه الكومات والأكداس الهائلة من الذاكرة يبدأ العقل في امكانية إيجاد صورة جديدة فهو يتخيل الجن على صورة معينة ، أو يتخيل جنة عدن على صورة معينة ، وهكذا تبرز خاصية جديدة من خصائص الجهاز العقلي الجبار وهي خاصية التخيل ، ويتعقد الأمر أكثر عندما تستطيع اثارة التخيل عند من يسمع اليك بتحريك كومات الذاكرة عنده فإذا به يجمع الجزئيات ويكومها ويتخيل ما تتخيل أنت ، ثم يتعقد الأمر

١٨١

إلى درجة تجعل الرأس يدور عندما يفكر على هذا النحو وهو اسختلاص العلاقات من بين الاشياء التي ترد إلى الذهن ، فما الذي يجمع مثلا بين العجلة وقطعة النقود والقمر والشجرة؟ الاستدارة ، ولكن ماذا تقول عندما استطاع العلماء أن يكتشفوا سنن الكون ، فأرخميدس اكتشف قانون دفع السوائل ( دافعة أرخميدس ) ، وأينشتاين اكتشف النظرية النسبية ، ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية ، وابن الهيثم اكتشف أسراراً في عالم البصريات ، وهكذا ... وعلى قدر مزج هذه الذكريات والخروج بنتائج جديدة تسمو شخصية الانسان ، إن ٢٧ حرفاً يستخرج منها آلاف الآلاف من الكلمات ، فما هي الأفكار والآراء التي يمكن استخراجها من مليارات المليارات من معلومات الذاكرة؟ حقاً انه شيء مدهش ، فما أتعس الانسان الذي يبلد ذهنه ويعطي لعقله إجازة مفتوحة ، أو يطلق لشهواته العنان ( فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً ) سورة مريم ...

[ إن شخصية الإنسان هي مجموع لحظات الجهد الواعي ، وكما قال جون فايفر ( إننا نمثل في أية لحظة حاصل جميع ذكرياتنا وجميع الانطباعات التي تركت آثارها على أجهزتنا العصبية ) ].

ـ ٥ ـ

من ينظر إلى مكتبة عامة تضم آلاف الآلاف من الكتب على رفوف أنيقة ، وبين الحين والآخر تسحب بعض الكتب من بعض الرفوف لاستخراج كلمة أو جملة ثم يرجع الكتاب إلى مكانه ، وبين الحين والآخر ترد كتب جديدة ونشرات حديثة تضم إلى مجموعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة ، من ينظر إلى هذه المكتبة ، يجد خليطاً عجيباً من شتى

١٨٢

المعلومات والارقام والإحصائيات والأسماء والأشياء ، وإذا تمكنت ـ أيها القارىء ـ من التنقل بين ممرات هذه المكتبة الضخمة الأنيقة من غرفة إلى أخرى ومن رف لآخر : فإنك سوف تصل في نهاية المطاف إلى قاعات كبيرة جداً وقد تراكمت فيها أكداس مخيفة من الكتب فوق بعضها البعض وقد علاها الغبار ، ولا تمتد لها يد الاستعمال والمطالعة.

إن ذاكرة الانسان هي أشبه ما تكون بهذه المكتبة ، فهناك بعض المعلومات التي تستعمل باستمرار ، وهناك المعلومات التي تضاف باستمرار ، وهناك أكداس هائلة من المعلومات قد لفها النسيان [ آفة العلم النسيان ـ حديث ـ ] وقد يتساءل الانسان : هل كل ما فعله الانسان أو سمعه او رآه محفوظ في هذه السجلات أو هو في عالم الفناء؟ هذا ايضاً سؤال بحث فيه العلماء وقد انتهوا إلى نتائج مذهلة في هذا الصدد ، فلا شيء يضيع ( وكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) سورة الرعد ، ونروي في هذا الصدد هذه الحادثة : جرّبت طريقة التنويم المغناطيسي على بنّاء ماهر يشتغل في بناء الابنية ذات الهدسة الفنية الرفيعة ، ثم طرح عليه سؤال عن طوبة موجودة في جدار ما ، من بناء ما ، كان قد بناها في زمن ما ، فكان جوابه أن هذه الطوبة كانت قد جرقت في الأتون أكثر من اللازم ، وأنها تحوي في الزاوية السفلى منها حصاة أرجوانية وأنها تحوي في الزاوية اليمنى العليا نتوءّ يشابه الانخفاض الموجودة في الجدار ، هذا مع العلم بأنه كان قد بنى [٢٠٠٠] ألفي طوبة في ذلك اليوم ، ومنذ عشر سنوات ، وعندما يصل الإنسان إلى هذا الحد من التفكير تعتريه قشعريرة ، ويشعر بالبرودة تتمشى في مفاصله ، ويشعر أن كل شيء يقوم به أو يراه أو يسمعه هو موجودة في سجل لا يضيع ( وإنّ عليكم لحافظين. كراماً

١٨٣

كاتبين. يعلمون ما تفعلون ) [ إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ ] ، [ وقالوا يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ] ...

ـ ٦ ـ

تنمو الذاكرة مع نمو الانسان فهى تبقى لمدة لحظات عندما يكون الطفل ما بين الشهر الثالث والسنة الأولى من العمر ، وعندما يصل الطفل إلى نهاية السنة الاولى تبدأ الذاكرة في الاستقرار وتستمر لمدة اسبوعين ، وفي نهاية السنة الثانية تمتد لمدة بضعة أشهر ، وفي نهاية السنة الرابعة تمتد ما امتدت الحياة ، والذاكرة عنيدة على الزوال فهي لا تنتهي إلا بالموت وتكون تجربة الموت هي آخر التجارب التي يمر فيها الانسان [ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ].

ونقف قليلاً لنطرح السؤال التالي وهو : ما هي علاقة الذاكرة بالذكاء وهي يتفاوت الناس في ذاكرتهم؟ أما الذاكرة فهي القدرة على استيعاب المعلومات واسترجاعها. وأما الذكاء فهو القدرة الذهنية على الفهم والتحليل والربط والاستنباط والتخيل والابداع ، والحق يقال إن الذكاء شيء محير كما اننا عندما نطلق على فلان انه قوي الشخصية وآخر ضعيف الشخصية ، ان حكمنا هذا سريع ولكن تحليله يحتاج لمجلدات!!!

وأما تفاوت الناس في ذاكرتهم فهذا وارد ولكن أصدق ما يقال في هذا الباب إن جميع الناس على الاطلاق يمتلكون مقدرة متقاربة من الذكاء والذاكرة ، وقلة نادرة جداً من الناس هي التي تكون مزودة بملكات عقلية راقية ، وأقول حتى النقطة الاخيرة مشكوك فيها إلى

١٨٤

حد لان الرقي الذهني إنما يأتي من الجهد المبذول ، واستعمال هذا الجهاز الجبار الذي لا يعرف الكلل أو الملل ، إن الدماغ لا يعرف التعب جتى لو عمل ما يزيد على عشر ساعات متواصلة ، وإنما الذي يتعب هو البدن بالقعود بكيفية معينة!! ولذا فان العباقرة والفلاسفة وعظماء المفكرين إنما تكونت مواهبهم من استغلال هذه القدرات الدفينة ، وهذه الطاقات الكامنة.

ذكرنا فيما مضى ان كل خلية عصبية تتصل بما يقرب من خمسين خلية عصبية أخرى وأحياناً يصل هذا الأمر إلى ألف (١٠٠٠) خلية عصبية ومن هنا ندرك قيمة الممرات حيث تتشكل شبكة كثيفة مخيفة من الاتصالات وقد تصاب بالدوار فيما إذا بدأت تتصور عدد المرات التي يمكن أن تتشكل بعد هذه الاتصالات الكثيرة ، ان تعلم الكلمات والافكار والمهارات إنما يعني تشكل ممرات جديدة ، وسرعة إعادة ما تعلم إنما يعني أن الطريق معبد لمرور النبضات الكهربية عبر هذه الممرات العديدة ، والدهاليز المخيفة ، والتعرجات العجيبة. ولذا فإننا نقرر حقيقة أساسية عرضها القرآن أيضاً بشكل منير وهي إن في مقدور الانسان أن يصل إلى درجة هائلة من الرقي ، ولكن هذا إنما يتم ببذل الجهد ـ وإيجاد ممرات عصبية جديدة ، ومن مزيج ذكريات الانسان تحصل تفاعلات معقدة جداً ومن العقل الواعي المتدبر تستنبط علاقات جديدة ، وافكار باهرة ـ ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمن المحسنين ) سورة العنكبوت.

ـ ٧ ـ

إن ما مر معنا عن أبحاث الذاكرة ليس إلا معلومات سطحية لم توصلنا إلى أعماق القضية ، وينطبق هذا الشيء على فهم كيف يعمل

١٨٥

العقل؟ وكيف يتم التفكير؟ وما هي الإرادة؟ وأين يكمن الوعي واللاوعي أو ما يسمى بالشعور واللاشعور؟ وكيف يحصل فهم المسموعات والمبصرات؟ وقلبها من صور إلى معاني؟ وكيف تستنبط الأفكار المجردة من خلال المحسوسات؟ وما هو الذكاء؟ وكيف يتم التخيل والابتكار؟ وكيف يحصل الاحساس الجمالي؟ وكيف يتم الاحساس الخلقي؟ وكيف تنمو الجرأة الأدبية؟ وكيف تتم الأحلام؟ وكيف تتحقق الأحلام التنبؤية للمستقبل؟ وما هي علاقة الأعضاء بالنفس ، وكيف يؤثر كل واحد على الآخر؟ إلى فيض لا ينتهي من الأسئلة التي لا تجد جواباً ، ولذا فإننا سوف نختم أبحاثنا عن الذاكرة بالمعلومات السطحية التي يلمسها الوعي مباشرة [ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ] سورة الروم.

ومن جملة هذه اللمسات السطحية السؤال التالي : هل بالإمكان تقوية الذاكرة وتنميتها؟ ..

إن الشيء الذي يقرره الطب ، والذي تأكد منه علماء النفس هو أن هذا الشيء هو في مقدور الانسان ، ولكن ما هي الشروط التي تتدخل حتى تنمو الذاكرة؟

بين يدي الآن وبشكل مختصر (١٢) اثنا عشر عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها. ومن هذا الرقم نعرف مدى تعقيد الجملة العصبية ، ودقة تركيب الانسان ، فما هي هذه العوامل؟

١ ـ التقوى : أو ما نسميها بالنظافة النفسية الداخلية ، ولعل سائلاً يقول وما هو أثر التقوى في الحفظ أو الذاكرة؟ والجواب أن التقوى تحدث حالة نفسية عجيبة هي مزيج من الهدوء ، والاهتمام ، والخشوع ، والتقدير ، والتأمل ، والتدبر ، ووزن الأمور ، وهذا المزيج ينتج حافظة هائلة وعندما نتذكر بعض الحوادث عن العلماء المسلمين الأقدمين فإننا

١٨٦

نعرف كيف يتدخل هذا العامل في الحافظة أو الذاكرة. ونقتطف من هذه الحوادث الحادثتين التاليتين :

أ ـ حادثة الإمام البخاري صاحب كتاب الصحيح المشهور عندما قدم بغداد : أراد بعض طلاب الحديث اختبار ذاكرته فأعدوا له (١٠) عشرة طلاب ، وكل منهم قد حفظ (١٠) عشرة أحاديث بشكل مغلوط ، وصورة الغلط هو خلطم متون الأحاديث بأسانيدها (١) ، ولما حضر الإمام البخاري وروى له الطالب الأول الأحاديث العشرة الأولى المغلوطة ، وكلما روى له حديثاً يقول الإمام البخاري لم أسمع بهذا ، فأما العلماء فقالوا للنظر في أمر هذا الرجل ، وأما الجاهلون فقالوا إن الرجل لا يعرف شيئاً!! وهكذا سرد عشرة طلاب مائة حديث مغلوط ولما انتهوا قال الإمام البخاري للطالب الأول ذكرت الحديث الفلاني وروى له الحديث بمتنه ، وذكرت أنه عن فلان وروى له السند الذي رواه الطالب ، والحديث ليس كذلك بل هو عن فلان عن فلان وصحح له الحديث ، وهكذا حتى صحح الأحاديث العشرة بحيث نقل المتون إلى أسانيدها التي تلائمها ، واستمر في تصحيحه لكل طالب حتى انتهى من المائة حديث والعجيب في هذه القصة هو أولاً حفظه المائة حديث المغلوط لمجرد سماعه لها للمرة الاولى ، ثم تصحيحه الفذ من ذاكرته الجبارة ، ويكفي أن نعلم عن هذا الإمام أنه اختار أحاديثه الصحيحة وهي في حدود (٥٠٠٠) خمسة آلاف حديث من (١٠٠) ألف حديث ، ولم يكن يكتب الحديث في صحيحه إلا بعد صلاة استخارة وكان يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من

__________________

(١) معنى متن الحديث كلان الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وأما سلسلة الرجال الذين ينقلون الحديث فهو السند مثلاً [ انما الناس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ] هذا متن الحديث وعندما يقول الراوي حدثنا فلان عن فلان فهذا السند [ وعلى أساس من السند تقسم الأحاديث إلى أقسام عدة ].

١٨٧

عشرين مرة ليسجل في كراسه كلمة أو جملة او اسم عالم أو بعض ألفاظ حديث أو أشياء أخرى ..

ب ـ حادثة شمي الأئمة السرخسي من فقهاء الحنفية : سأل تلاميذه مرة كم كان يحفظ الإمام الشافعي؟ فأجابوه بأنه كان يحفظ (٣٠٠) كراس عن ظهر قلب فأجابهم : إن الإمام الشافعي يحفظ زكاة ما أحفظ أنا اي (١٢٠٠٠) كراس وكتابه المبسوط في الفقه الحنفي يتألف من ٣٠ جزء ويقع في آلاف الصفحات وقد أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحاكم في ذلك الزمان!!

وليس معنى الحوادث التي ذكرناها انها تعتمد فقط على عامل التقوى ، بل تتدخل فيها عوامل أخرى بالطبع ، ولكننا أردنا أن نشير إلى دور هذا العامل الذي كان يحتل مركزاص مهماً في نفسية علمائنا الاقدمين ، وصدق الشاعر حين قال :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فـأرشـدنـي إلى تـرك المعاصي

وأنـبـأني بـأن الـعـلم نـور

ونور الله لا يهدي لعاصي ( مذنب )

وتنسب هذه الابيات إلى الإمام الشافعي.

٢ ـ ومن جملة العوامل التي تتدخل في تنمية الذاكرة التكرار ، فترداد قطعة من الشعر أو من النثر (٢٠) مرة يثبتها في الذهن أكثر ما لو كررت (١٠) مرات ، هذا إذا تدخل عنصر الترداد فقط ..

٣ ـ الاهتمام : كلما اهتم الانسان بالشيء ، وتعلق مصيره به حفظه أكثر والعكس بالعكس.

٤ ـ الارتباط بالاحداث : إن ارتباط حادثة بخوف أو فرح أو حزن أو معركة ترسخ الذكريات أكثر. وهذه طريقة القرآن الكريم لانه كان

١٨٨

يتنزل مع الاحداث ( سورة الانفال : غزوة بدر ، قسم من سورة آل عمران : غزوة أًُحد ، سورة الحشر : غزوة بني النضير ، قسم من سورة النور : حادثة الافك وهكذا ).

٥ ـ فهم الكلام : كلما ازداد فهم القطعة كانت أسهل في الحفظ وكلما تعقدت تعسّر حفظها.

٦ ـ الجرس الموسيقي : إن صيغة الكلام الجميلة تساعد في الحفظ ، ولذا كان العلماء ينظمون العلوم بقصائد شعرية ، وقبل هذا الجرس القرآني فهو جرس موسيقي يعين على الحفظ.

٧ ـ مصدر الكلام : إن سماع الكلام من قائد غير سماع الكلام من رجل عادي ، ومعرفة ان الكلام وحي من الله يعطي سلطاناً على القلوب غير كلام البشر.

٨ ـ الحب والكره ، والخوف والرجاء : يتدخل العامل النفسي فحب البحث العلمي جعل الكثيرين يحفظون المعلومات الكثيرة ، والخوف من الرسوب جعل الطلاب يحفظون برنامج دراستهم!!

٩ ـ السلامة الجسمية : الجوع يحرم الإنسان من تركيز فكره ، وبالتالي جودة الحفظ ، والاضطراب العام يحرم الانسان من الانكباب على الحفظ ، وكذا المرض ، والضعف ، والوهن.

١٠ ـ سلامة الدماغ : ان الذاكرة تعتمد بشكل رئيسي على سلامة الخلايا العصبية ، وكلما تأثرت خلايا الجملة العصبية بشيء ما ، سبب هذا اختلال الذاكرة ، كالعته والجنون ، والتهاب الدماغ ، والضعف العقلي ، وتنكس الخلايا العصبية.

١١ ـ السن : في الطفولة تنطبع أحداث كثيرة ، وتترقى الذاكرة

١٨٩

حق تصبح أشد ما يكون في السن ما بين ٢٠ ـ ٣٠ وتبقى كما هي حتى سن متأخرة ما لم يحدث الخرف العقلي ..

١٢ ـ الوقت : الصباح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب : أوقات اعتدال للحفظ والمذاكرة ، والربيع فصل طيب للمذاكرة ، وهدوء الليل وقت جميل للتأمل وهكذا ( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) سورة طه.

وهكذا نكون قد انتهينا من أبحاث الجملة العصبية المركزية بعد أن ألقينا قليلاً من الضوء على بعض أسرارها المحيرة ، والله المستعان في بحث الامور القادمة.

١٩٠

حول بعض الحواس

يقول الخلاق العليم [ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون. وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ] سورة فصلت.

نصت الآيات السابقة على ثلاث حواس عظيمة ستقوم بدور الشاهد في المحكمة وذلك حين يعرض الإنسان للحساب بين يدي رب العالمين ، ونظراً لعظمة تركيب هذه الحواس ذكرها الله تعالى فلنحاول أن نتبين أسرار هذه الحواس :

ـ حاسة السمع ـ

تعتبر حاسة السمع معقدة جداً ، والمعلومات الموجودة بين أيدينا الآن تتناول شروحاً خفيفة في كيفية انتقال الصوت لا أكثر ، وأما كيف يحصل فهم الكلمات التي تسمع؟ وكيف يحصل تمييز الأصوات العديدة جداً عن

١٩١

بعضها البعض؟ وأين تقع خزائن الذاكرة الذاكرة للمسموعات؟ إلى جانب أسئلة كثيرة لا تجد جواباً عليها. ولا أزال أذكر أحد اساتذة الطب وهو يشرح لنا كيف يتم انتقال الصوت وحصول السمع ، قال : إننا نعرف كيف يتم هذا الأمر ، أما كيف تدركه الخلايا العصبية وتفهمة فلا نتدخل نحن في هذا البحث ، وهكذا يخونهم ذهنهم العلمي عندما يريدون بحث الأمور المعقدة التي يجب أن تطرق ولا يتهرب منها!!.

الاذن الخارجية والوسطى

ـ ١ ـ

يقسم الأطباء الأذن إلى ثلاثة أقسام من باب التبسيط ، وهي : الاذن الخارجية ، والوسطى ، والداخلية أو الباطنة وهي أخطر الأقسام الثلاثة ، وأشدها حيوية وأهمية ، فأما الأذن الخارجية فهي صيوان الأذن الخارجي مع الممر الذي يوصل إلى غشاء الطبل. وأما الأذن الوسطى ففيها ثلاث عظيمات تشبه أدوات الحداد ( المطرقة والسندان ) وركابة السرج ( الركابة ) وعضلتان ( المطرقة والركابة ) ، ويوجد نفق يوصل ما بين الأذن الوسطى والبلعوم في الفم هو نفير ( اوستاش ) ، والأذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ( القوقعة ) ، وثلاثة إطارات غير كاملة ( الأقنية نصف الدائرية أو الأقنية الهلالية ) وهذه الأقسام متصلة ببعضها ومتداخلة بحيث يتوه الذي يبحث فيها ولذلك سميت بالتيه!! وفي داخل هذه الأقنية العظمية ، أقنية عشائية تشبه الكيس ( الكييس ) ، أو القربة التي تمتلىء بالماء ( القريبة ) ، وداخل الحلزون الذي يدور دورتين ونصف يوجد عضو كورتي ، وهذا النفق الدوار أشبه ما يكون بتلك الدهاليز التي يدور فيها المرء ويشعر أنه في متاهة فهي تقسم إلى ثلاثة أنفاق تمشي سوية في الحقيقة.

١٩٢

ـ ٢ ـ

تعتبر الأذن الباطنة المستقبل للأصوات ، والأذن الوسطى والخارجية الجهاز الناقل للاصوات ، وأما كيف يتم الإيصال والاستقبال ، فقد كشف الطب اللثام عن أسراره .. يعتبر انتقال الصوت نتيجة اهتزاز جزيئات المادة ، ولذا فإن الصوت لا ينتقل ما لم يكن هناك وسط مادي ( هواء ، سائل ، غازات ، أجسام صلبة ) ، الصوت له سرعة معينة ثابتة هي [٣٤٠] متر في الثانية الواحدة ، ولذا فإن تفريغ وعاء مغلق من الهواء يضعف من انتقال الصوت ، وإعادة ملئه بالهواء يعيد قوة الصوت وسماعه مرة أخرى ، ويختلف حسب اختلاف كثافة المادة فهو في الماء أسرع من الهواء ، حيث تبلغ سرعته [ ١٤٣٥ متر في الثانية ] في الدرجة ٨ أي أكبر من سرعة انتقال الصوت في الهواء بأربع مرات ، وهذا الرقم يتضخم أكثر في الانتقال في الأوساط الصلبة ، فوضع الاذن على سكة القطار يجعلنا نسمع صوت قدومه من بعد عدة كيلومترات (١).

ونظراً لأن نقل الصوت يعتمد على الأذن الخارجية ، والأذن الوسطى ، ولذلك فإن تصميم هذا الجهاز يجب أن يتناسق بمنتهى الدقة مع خاصية النقل ، ولذلك فإننا نرى الاذن الخارجية تتألف من مادة غضروفية وهي من ناحية المتانة وسط ما بين اللحم والعظم ، وفيها تعاريج والتواءات لجمع الصوت ، فهي كالصيوان المستقبل ، ومن الصيوان ينتقل الصوت عبر ممر يبلغ طوله ٥ و ٢ سم ، ومقوس إلى الاسفل ، حيث ينتهي بغشاء مرن جداً

__________________

(١) نظراً لأن انتقال الصوت يتم عن طريق اهتزاز جزئيات المادة ، ولذلك فهو يكون أكثر سرعة كلما تكاثفت جزئيات المادة ، وهكذا فهو أسرع في الماء من الهواء وأسرع في المعادن من الماء والهواء ، كما أن ارتفاع درجة الحرارة يزيد من زيادة سرعته ، فلقد وجد أن الصوت تزداد سرعته بمعدل ٦٠ سم | ثانية مع ارتفاع درجة واحدة مئوية.

١٩٣

هو غشاء الطبل هذا المجرى ينقل الصوت بأمانة كما يحتوي على الشعر في القسم الأمامي لاصطياد ذرات الغبار ، وغدد صملاخية تفرز مادة الصملاخ لتقوم بنفس الدرر.

إن انحناء المجرى مهم في موضوع الحماية إذا دخل فيه شيء لأن الطريق المستقيم سهل ، أما المتعرج فانه يجعل الإصابة لا تأتي مباشرة على غشاء الطبل ، وبالتالي الأذن الوسطى وعيمات السمع. كما أن نفس تكوين الأذن من الخارج مصممة بشكل يحمي فوهة المجرى ، فهناك قطعة لحمية صغيرة تظلل فوهة المجرى وهي ما تسمى بالحنطة ومقابلها على صيوان الاذن توجد قطعة أخرى لحماية تسمى بمقابل الحنطة ، وهكذا تتوفر حماية المدخل بالتعرج والشعر والغدد الصملاخية والقطع اللحمية في فوهة المجرى ...

إن اهتزاز غشاء الطبل يعني هز عظيمات السمع الثلاث لأن كل عظم متعلق بالآخر ومتمفصل معه بشكل فني ، والعظم الأول الذي يتصل بغشاء الطبل هو عظم المطرقة ، والعظم الذي يتصل بالأذن الباطنة هو عظم الركابة ، وبينهما عظم السندان ، ومجموع العظيمات الثلاث تبلغ في وزنها (٥٥) ملغرام فقط ، ولذا فهي خفيفة وتتجاوب مع الاهتزاز ، وأما التمفصل بين العظيمات فهو في منتهى الروعة لأن أدنى صوت ، أو حفيف أو قرقعة ، أو همس ، أو كلمة معناه اهتزاز غشاء الطبل واهتزاز العظيمات التي تنقل الاهتزاز بدورها إلى الأذن الباطنة.

والعجيب أن أوساط الأذن تناسب نقل الصوت تماماً وهي الهواء في المجرى ، والأجسام الصلبة في الأذن الوسطى المتمثلة بعظيمات السمع ، والأجسام الصلبة والسوائل في داخل الأذن الباطنة المتمثلة في الرمال السمعية ، والبلغم الداخلي والخارجي ، تقوم عظيمات السمع بتسريع مرور

١٩٤

الصوت إلى الأذن الباطنه ، كما أنها تضخم الصوت أيضاً ، فسطح غشاء الطبل يبلغ (٢٠) ضعفاً لسطح قاعدة عظم الركابة ، ولقد وجد أن الصوت يزداد عشرة أضعاف حينما يصل إلى قاعدة الركابة ، واهتزاز عظم الركابة يمثل أعجب مفصل يمكن تصوره فهو يمكن أن يهتز بشكل مختلف من حين لآخر ، خاصة إذا قارنا هذا المفصل بمفصل الركبة مثلاً الذي يتحرك باتجاه واحد ، لا أكثر مع شيء من التدوير ، ولكن المفصل هنا يتحرك وفقاً للصوت أو الاهتزاز الذي يصل إليه من غشاء الطبل ، وقاعدة عظم الركابة تستند إلى نافذة بيضية الشكل ، مستورة بغشاء ، وعندما تهتز قاعدة عظم الركابة فانها تهز معها هذا الغشاء ، وهذا بدوره يخض اللنف الداخلي المحيطي بشكل يتواق مع طبيعة لحن الصوت وشدته ، ولكن ماذا يحدث فيما إذا كانت الأصوات القادمة شديدة؟ لقد وجد أن هذا العظم الصغير يحور اتجاه تمفصله بحيث يبقى محافظاً على نقل الصوت إلى الأذن الباطنة على شكل يقيها من الأذى إلى حد ما ، وأما العضلتان ، أي عضلة المطرقة وعضلة الركابة ، فإن الأولى تسعي لإدخال عظم الركابة اكثر إلى داخل النافذة البيضية ، وعضلة الركابة تفعل بالعكس ، وهكذا يحدث الاتزان بتقلص العضلتين معاً. وحسب الحالة والصوت يشتد تقلص إحداهما على الأخرى ، وإذا اشتد الصوت أكثر فإن كلاً من العضلتين يخفف من حدة التأثير على الأذن الباطنة ... بقي علينا أن نعرف في الأذن الوسطى عمل نفير أوستاش ، فهذا النفق الذي يمتد ما بين البلعوم في عمق الفم وما بين الأذن الوسطى ، يقوم بتعديل الضغط بين داخل الأذن الوسطى وخارجها ، خاصة وغشاء الطبل يسد الفوهة سداً محكماً ، ولعلنا نشعر بدور هذا النفير في الرشح والتعرض للبرد ، وأحياناً أثناء ركوب السيارة والسير لمدة طويلة ، فاننا نشعر أن السمع تناقص عندنا ، وبشيء من الألم الخفيف

١٩٥

ولكن ما أن تحدث عملية البلع أو التثاؤب حتى نشعر كأن الأذن قد فتحت وبدأنا نسمع بشكل طبيعي ، إن السبب في هذا يرجع إلى أن عملية البلع تقلص عضلة خاصة تفتح بواسطتها فوهة النفير ويدخل الهواء ويتعادل الضغط ويرجع كل شيء إلى مجراه ، وإذا لم يتم هذا الأمر فقد يؤدي أحياناً إلى تمزق غشاء الطبل ، والنفير ايضاً يصرف المخاط والسوائل التي قد تتجمع في الأذن الوسطى إلى البلعوم ، كما يمثل فتحة جيدة لإتقان السمع كما في الآلة الموسيقية ، فالصوت يجود بواسطة الثقوب الموجودة فيها ، ولعل هذا أيضاً هو السر في أن الذين يرمون بالمدافع يبقون أفواههم مفتوحة أثناء انطلاق القذيفة ، وحصول الصوت المرتفع ، حيث يتأمن اتزان الضغط إلى حد ما بين خارج الأذن الوسطى وداخلها!! فيا أيها القارىء تأمل وانظر ، ألا يسوقك هذا إلى المزيد من معرفة الله ، والمزيد من الالتجاء اليه ( ففروا إلى الله إنني لكم منه نذير مبين. ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إنني لكم منه نذير مبين ) سورة الذاريات.

ـ ٣ ـ

إن الصوت يمثل حركة اهتزازية كما مر في الأوساط المادية ، وهذا الاهتزاز يتراوح بدرجات مختلفة ، والأذن الطبيعية تسمع الصوت فيما إذا كان مقدار اهتزاز الصوت يتراوح ما بين ( ١٦ ـ ٢٠٠٠٠ ) هزة في الثانية ، وإذا زاد الصوت عن هذا المقدار لم تعد تسمع شيئاً ، ولكن يحدث شعور مزعج غامض قد يصل إلى درجة إيذاء الأذن ، حتى إن هذه الطريقة تستعمل في مثل السمك حيث يرفع التواتر إلى درجة كبيرة كذلك فإن الأذن تسمع هذه الاهتزازات ولكن على شرط أن تكون شدتها معتدلة ، ولقد قدرت هذه للاذن الطبيعية في حدود (١٢٠) ديسبل

١٩٦

ـ واحدة من وحدات الشدة السمعية الصوتية ـ وتبلغ حساسية الأذن لسماع الأصوات درجة كبيرة بحيث أنها تفرق ما بين صوتين فيما إذا زاد أو نقص عدد التواترات ثلاثة فقط ، وهكذا يمكن للأذن فيما إذا بقيت الشدة ثابتة أن تميز ما بين (١٥٠٠) لحن مختلف ، وأن تعرف وتميز فيما إذا بقي اللحن أو عدد الاهتزازات ثابتاً ما بين (٣٢٥) صوتاً مختلفاً في الشدة ، أو أن تميز ما بين (٣٤) الف لحن مختلف في الشدة والتواتر أو الاهتزاز ، وهو رقم مدهش فعلاً ، وهكذا يميز الانسان ما بين صوت الرجل والمرأة ، والطفل ، حيث يكون صوت الرجل غليظاً ، وأما صوت المرأة والطفل فهو حاد ، كما يميز ما بين صوت امرأة وامرأة ، وصوت طفل وطفل ، فيما إذا تغير لحن الصوت قليلاً ، بل حتى ليقال إن كل إنسان في هذا الوجود له صوته الخاص به ، وإن المتأمل ليأخذه العجب في قدرة الأذن على التقاط كافة الأصوات والتمييز ما بين صوت الإنسان وتغريد البلابل ، وحفيف الاشجار ، وخرير المياه ، وزقزقة العصافير ، وخوار البقر ، وثغاء الغنام ، ونهيق الحمير!! ، وصلصلة السلاح ، وفرقعه المدافع ، وفرقعة الباب ، وصرير الاقلام.

وبواسطة السمع بصغي الطبيب إلى أصوات القلب ، والتنفس ويعرف المرض الذي ينتاب القلب ، فهذا الصوت هو امتداد دقة القلب ، أو تضاعف دقاب القلب ، أو أصوات كالنفخ وهي علامة تدل غالباً على المرض ، والصدر في الخراخر فهي إما كصوت فقاعاب الارجيلة ، أو حتى غطيط النماء ( الخراخر الفطاطة ) ، أو مثل الصفير أو مثل الصوت القادم من كهف أو الداخل في جرة ، أو صوتاً كالوزيز وهكذا ...

وبواسطة السمع يتفاهم البشر على بعضهم ماذا يريدون وهكذا يفهم الولد ماذا يقول أبواه تدريجياً ويتعلم النطق ولولا النطق لكان حال الانسان كالبهيمة

١٩٧

العجماء ، بل حتى البهيمة لها لغتها الخاصة في التفاهم (١) : وهكذا يتعلم الإنسان النطق ويرتقي في سلم المعرفة ويتفاهم البشر ، وتتفرع اللغات وتتباين اللهجات وتتنوع الشعوب.

الاذن الباطنة :

ـ ٤ ـ

قبل أن ندخل إلى الاذن الباطنة ، هناك بعض الأفكار الرئيسية في البحث : فالاذن الباطنة لها اختصاصان : الأول للسمع ، والثاني للتوازن ، وهي مكونة من دهاليز وممرات معقدة ، ولذا سميت بالتية.

يتكوّن جدار الاذن الباطنة الذي يشرف على الاذن الوسطى من نافذتين علوية هي النافذة البيضية وسفلية هي النافذة المدورة ، ونتساءل ماذا تفعل كل من النافذتين؟ إن هاتين النافذتين تتصلان بعالم داخلي خاص ، ولنحاول الآن أن نعبر النافذة البيضية مع هزات الصوت إلى الداخل لنتعرف إلى العناصر الخفية التي تختبيء داخل هذه الصخرة (٢). قاعة واسعة يسبح فيها سائل هو البلغم المحيطي ، لنتجه إلى اليمين فماذا سنرى ، إننا كالغواصين الذين يبحثون في آثار سفينة غرقي في قاع البحر وقد دخلوا إلى غرفها الداخلية ، أو كأننا في قاع البحر ندخل بعض الكهوف الصخرية السحرية ، إن الشيء الذي يواجهنا في اليمين هو

__________________

(١) ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) سورة الأنعام. ( وورث سليمان داوود وقال يا ايها الناس علمنا منطق الطير وأويتنا من كل شيء ) سورة النمل. ( وقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) سورة النمل.

(٢) إن عناصر السمع ترقد في العظم الصدغي ، وهذا العظم بدوره يقسم إلى أقسام منه قسم يدعى الصخرة وهو ذو تركيب معقد ، وداخل هذا القسم تحتقر عناصر الاذن الباطنة وهي الدهليز والحلزون والاقنية نصف الدائرية والقريبة والكييس.

١٩٨

الحلزون وهو نفق يدور دورتين ونصف ، لنحاول دخول النفق فماذا سنرى؟ إن هذا النفق ليس مدوراً كما كنا نتوقع ولكنه مقسوم بصفيحة من وسطه ، وهكذا فإن فيه طابقاً علوياً وطابقاً سفليا ، لنحاول دخول الطابق العلوي بعد أن عبرنا منطقة الدهليز ، إن النفق مظلم ونحن نتحسس الجدران حتى لا نصطدم بشيء لا نعرفه ، وبينما نحن نتحسس هذا الطابق الدوار ، إذا بنا نصطدم في الايمن بحاجز يرتفع بشكل مائل إلى الاعلى حتى يصل إلى جدار هذا النفق ، ما هذا الجدار؟ انه غشاء ( رايسنر ) وما باله؟ لا تتعجل ان هذا الغشاء يقسم أيضاً الطابق العلوي الى قسمين : قسم مثلث في الايمن حيث توجد قناة خاصة تحتوي على عضو مهم هو عضو كورتي ، والقسم الباقي من الطابق العلوي ويسمى بالزاحف الدهليزي لانه يزحف من الدهليز الى قمة الحلزون ، وأما الطابق السفلي فيسمى بالزاحف الطبلي ، لانه يزحف إلى النافذه المدوره التي تتصل بالاذن الوسطى وبالتالي غشاء الطبل. إن الزاحف الدهليزي العلوي والزاحف الطبلي السفلي يجتويان اللنف الخارجي ويتصلان ببعضهما في القمة ، وهكذا فاننا ندور في الحلزون بعد أن دخلنا الزاحف الدهليزي العلوي لنصل إلى قمة الحلزون. ولندخل الطابق السفلي وهكذا نمر في أسفل المكان الذي كنا نمر فيه قبل قليل ، واننا لننظر الى سقف الطابق السفلي ونسمع قرع الأصوات في الطابق الذي يعلونا ، إن كلا من الطابقين يشكل نصف دائرة حيث يكون سقف الطابق السفلي هو أرض الطابق العلوي ، وهكذا يتصل كل من الطابقين ببعضهما ولكن إلى اين سنصل في هذه الجولة الدوارة ، إننا نكاد نشعر بالدوار ونحن نفتل في هذا النفق السحري واذا بنا نصل مرة أخرى الى الجدار الذي بدأنا في الدخول منه وهو الجدار المشرف على الاذن الوسطى ، ولكننا في هذه المرة نصل إلى النافذة المدورة ، وهكذا فاننا بدأننا الرحلة من النافذة البيضية ووصلنا في ختامها الى النافذة المدورة. لنعود من جديد إلى

١٩٩

الدهليز الذي دخلنا منه حتى نصل في طريقنا إلى قمة الحلزون وهاك ندخل الطابق العلوي مرة أخرى ، ان المنطقة المثلثية اليمنى تحتوي عضواً حساساً جداً ، هو عضو كورتي ، لنحاول أن نقترب من غشاء رايسنر ولنضغطه قليلاً ، انه لين جداً ، ولكن ماذا حدث يا ترى بعد أ ، ضغطنا هذا الغشاء بمثل هذا الهدوء ، إنه يحتوي بلغماً ( سائل لنفاوي ) داخلياً ، وهو إذا تحرك فإنه يؤثر على رمال موضوعة على بساط خاص ومن هذا البساط تبرز أهداب صغيره وكأنها الحشائش الجميلة ، أيها القارىء لا تتصور أنني اكتب لك موضوعاً إنشائياً ، أو أنني أصف ما يدور في الخيال ، لان هذا الشيء الذي أقدمه هو أيضاً أقل مما هو عليه جهاز السمع المعقد السحري ، ولكأننا في قاع نهر جميل أو قاع بحيرة جميلة حيث تنبت الاعشاب بين الرمال الصغيره ، إن هذه الرمال هي الرمال السمعية وعند اضطراب السائل الداخلي تتحرك الرمال والاهداب المتصلة من تحت البساط بخلايا خاصة بالسمع وهي متوضعة بكيفية خاصة بحيث تشكل من اجتماعها نفقا صغيراً يسمى بنفق كورتي! لنحبس أنفاسنا قليلاً فنحن الآن في عالم عجيب : أنفاق ضمن أنفاق ، وسراديب داخل سراديب ، ودهاليز في دهاليز!! إن هذا العضو المسمى بعضو كورتي (١) يضم ما يقرب ( ٠٠٠ ,١٠٠ ) خلية سمعية ، حيث تتصل بالخلايا ومن بين العظم الكثيف الياف عصبية في منتهى الرقة وتجتمع لتشكل العصب السمعي الذي يصل إلى عقدة سكارباً ثم الحدبة الحلقية ثم الفص الصدغي من فصوص الدماغ لان اختصاص هذا الفص هو السمع ، ولنرتاح قليلاً من هذا التيه!! حتى نتابع رحلة الاستطلاع ..

__________________

(١) تمر معنا اسماء علمية كثيرة ترمز لاسماء العلماء الذين اكتشفوا هذا العضو أو الغشاء أو الجهاز تخليداً لتعبه وجهده الذي بذله حتى اكتشف هذا الشيء ، ومنهم العالم كورتي.

٢٠٠