الطبّ محراب للإيمان - المقدمة

جودت سعيد

الطبّ محراب للإيمان - المقدمة

المؤلف:

جودت سعيد


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧١

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة

للدكتور فايز المط

مدرس مادة التشريح في كلية الطب بجامعة دمشق

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير المرسلين أرسله الله بالهدى والتشريع المبين ، ذلك التشريع الكامل الذي بني على الحق والصدق والعلم والواقع ، لذا كان تشريعاً لا يزيده الزمن والعلم إلا متانة ووضوحاً.

وهو عدا عن كونه العلاج الوحيد لكافة مشاكل البشرية من أفراد وجماعات فقد جاء دافعاً للناس في طريق العلم ومبيناً لهم السبيل إلى الرقي والتعلم ، ضارباً لهم الأمثال العلمية فجعل مستوى العلماء من أرفع المستويات كما قال الله سبحانه :

« يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ».

وإننا اليوم في عصر حوى المتناقضات فكان زماناً معقداً تشابك فيه الايمان والإلحاد والحسن والسيء والسعادة والشقاء وقد انغمست البشرية في دوامة من المادة والشهوات واتخذت العلم طريقاً للمكاسب الخاصة فأصبحت في جاهلية دونها جاهلية العصور الأولى وعم الفساد والظلم وسوء الخلق ، وفرغت قلوب الناس من الإيمان الذي هو أساس العدل والرحمة والأخوة والسعادة وذلك بالرغم من أن العلم الحديث وصل إلى مرحلة جعلت الانسان لا مفر له من أن يؤمن بالله الأحد إيماناً يقينياً مبنياً على الواقع ؛ إذ أن كل فرع من فروع العلم وكل مادة من

١

مواده إذا دقق فيها العقل السليم وبحثها وافياً وجد فيها القدرة الهائلة ، والتنظيم الحكيم والابداع المدهش الذي لا يستطيع أن يحدثه مخلوق مهما كانت امكانياته ، بل وأكثر من ذلك إذ أنه يقف أمام معظم ما فيها عاجزاً حتى عن فهمها حق الفهم ؛ هذا وإذا كان الناس قد آمنوا فيما مضى إيماناً ظنياً أو تقليداً للآباء والأمهات أو مبنياً على بعض المعجزات والخوارق فإننا اليوم في عصر نجد في كل ذرة من ذرات هذا الكون المعجزات الكافية والبراهين الدافعة التي تكفي العاقل لأن يؤمن إيماناً لا يزعزعه شيء.

إن العلم اليوم المبذول في كل مكان هو الواسطة الجميلة في معرفة الله والإيمان به فإذا عرفه المرء أحبه ، وإذا أحبه أطاعه وأتبع تشريعه ؛ وإن التشريع الإلهي يهدي إلى كل خير ويحوي كل خلق حسن وسعادة وأخوة ، وليت الناس سلكوا هذا السبيل إذن لانقلب وجه العالم المكفهر الى وجه ضاحك مسرور ، ذهب عنه القلق والشقاء وحلت السعادة والهناء.

وفي هذا الكتاب زاوية من زوايا العلم ، ونافذة من نوافذ المعرفة تطل على ما اودع الله ـ سبحانه ـ في بعض خلقه من ابداع وحكمة وقدرة ما يكفي ليقنع أي إنسان فيه شيء من العقل والبصيرة أن الله خالق كل شيء ومدبر كل أمر وبيده مقدرات كل شيء وأنه سبحانه أعظم وأجل من كل شيء.

وإني أهنىء الأخ الدكتور خالص على ما وفقه الله اليه من حسن عرض لما علمه الله من الآيات والحكمة مما كشف الستار للناس عن بديع صنع الله في هذا الجسم البشري المحكم المنقن الذي لو اجتمع من في السماوات والأرض على أن يصنعوا مثله لما استطاعوا والذي لا يزال المجهول فيه أكثر من المعلوم رغم الجهود المضنية المبذولة في عالم العلم والمعرفة.

وأسال الله سبحانه أن يطلع عليه كل انسان فيؤمن ايماناً يقينياً يضمن به سعادة الدنيا والآخرة والسلام.

دمشق

٨ ربيع ثاني

٢ حزيران

١٣٩١ هـ

١٩٧١ م

٢

مقدمة فكريّة

بقلم الاستاذ

جودت سعيد

كلمة « الاسلام دين العلم والعقل » كلمة غير مستغربة عند عامة المسلمين ومتقبلة دون نقاش غالباً. ولكن إلى أي حد مضمون هذه الكلمة مهضوم عند المسلمين وهل يمكن أن يقبل المسلم هذه القضية على طول الخط أم أنه يتراجع في جزء من الطريق طال أم قصر هذا الجزء.

ثم يقف بعد ذلك ويقول نقف عند هذا الحد ولا نتعداه لأن الاسلام دين العلم والعقل إلى هذا الحد ثم ما بقي من الطريق نسير فيه مع الإسلام دون أن نحاول إقحام العلم والعقل.

يا ترى ما هو الصواب في الموضوع هل الإسلام دين العلم والعقل على طول الخط أم إلى بعض الخط فقط ويفترقان في جزء من الطريق. وأننا إذا قلنا الإسلام دين العلم والعقل نقوله لنضفي على الإسلام شيئاً من القبول ونريد أن نزين به كلامنا ونقبله على حسب العادة دون نقاش وإن كنا لا نسلم به على الإطلاق.

فأما أريد أن أطرح هذا الموضوع ليكون المسلم دقيقاً في إدراكه لهذه القضية ، لا أزعم أني سأعطيه الجواب الفصل والدليل القاطع في هذا الموضوع ولكن لا بد من طرح الموضوع للبحث ولا بد من إثارة هذه المشكلة في عقل مسلم إذ يحيط به بعض الغموض والاختلاط من عدة جوانب.

٣

وهذا الغموض والاختلاط يجعلنا نقبل بعض المتناقضات حتى في مستوى ما دون القمة بقليل من الفكر الإسلامي المعاصر المنتشر.

وبقدر ما يسلم المسلم بالبداهة العفوية أن يقال الإسلام دين العلم والعقل يسلم أيضاً ما يقال ، هل تريد أن تحكم في الإسلام العلم الذي لا يستقر على حال وهو على تقلب دائم ما ثبت اليوم يهدم غداً. وهل نحكم في الإسلام العقل ونحكم في الدين أهواء الناس.

أظن أننا بعد أن تذكرنا هذا الجانب الثاني من الموضوع أخذ يبرز أمامنا شيئاً من الاختلاط الذي ينبغي أن نكون ازاءه دقيقين في تعابيرنا ولا نقبل إطلاق أمور لا يمكننا أن نلتزم به سائر الطريق مثل كلمة الإسلام دين العلم والعقل.

أو أننا علينا أن نحاول التعرف على مكان الخطأ في إدانة العلم والعقل في مكان ما من الطريق. وهذا الموضوع بالذات ليس جديداً في البحث ولكنه غير مستوفي ولا انتشر في عامة المتعلمين ما كتب فيه.

إن ابن تيمية بحث هذا الموضوع قديماً ووصل إلى نتيجة رائعة حين أقر قاعدته العظيمة التي معناها : « أن صحيح المعقول لا يخالف صحيح المنقول ان صحيح المعقول يوافق صحيح المنقول» ، وفي رأيه أن اعتقاد مخالفة صحيح المعقول لصحيح المنقول خطأ ، وأن الرأي السديد عدم المخالفة بينهما ما داماً صحيحين الثبوت والدلالة.

ونعلن هذا الرأي : ليس هناك علم صحيح يقال عنه أن الإسلام يخالفه وينبغي تركه ، وفرض هذا الرأي خاطىء من أصله إما أن يكون علم فيقبل أو ليس علم فيترك وعلينا هنا أن نقف وقفة قصيرة قبل أن نتابع هذا الموضوع لنبين جانب آخر وهو الاختلاط الذي يحصل في ذهن المسلم المعاصر بين ما هو مقبول في القرآن وما هو مرفوض. وعدم وضوح هذا التمييز الذي هو واضح جداً في القرآن بقدر ما هو غامض في ذهن المسلم حيث لم يواجهه بوعي ولم ينتبه اليه

٤

وهو أن العلم في القرآن في موضع القبول والثقة ولم يتهم العلم قط في القرآن وإنما يدان من خالف ما علم ومن لم يعلم وهاتان الصفتان هما الواردتان في قوله تعالى : ( إنه كان ظلوماً جهولاً ). الظالم من لم يعمل بما علم والجاهل من لم يتعلم ما يمكنه أن يتعلم.

ولسنا في حاجة إلى استقصاء أن العلم في موضع الثقة والقبول في القرآن وقد وردت كلمة العلم ومشتقاتها في القرآن في نحواً ص ٨٥٤ مرة في موضع الثقة ورفع الدرجة ولم يدن إلا ترك التعلم وترك العلم بما علم. وهذا ينبغي أن يكون واضحاً لنا جداً ومن البديهات ، ولكن تحقيق ذلك ليس امراً سهلاً ولا هيناً ، ومقابل العلم المقبول الموثوق به في القرآن يدين القرآن الظن ويسحب الثقة منه إن الظن لا يغني من الحق شيئاً .. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن.

والمتاهة في الموضوع أننا نخلط العلم بالظن والعكس وهذا يجعل بعض العلم ظناً وبعض الظن علماً وينتج عن ذلك أن لا نثق ببعض العلم أو أن نثق ببعض الظن في بعض الطريق الذي أشرنا اليه ، مما يجعل المسلم يقف في جزة من الطريق ولا يقدر على المتابعة ويتخلى عن العلم ليبقى مؤمناً.

وهذا يعطي الفرصة لمن يريد أن يتهم الإيمان ، ولقد نرى كثيراً من هؤلاء يقولون أن الدين ليس متلاقياً مع العلم أو لا يمكن أن يظل معه أو عليك أن تتخلى عن العلم إذا كنت تريد أن تحتفظ بالإيمان.

وعلينا أن نقرر أن ادراك الصواب في هذا الموضوع بوضوح له أهمية كبرى في استقرار المسلم والمحافظة على توازنه في كثير من المواقف ، كما ينبغي أن نعلم أن الدين الذي يخالف العلم مهما كنا حريصين على بقائه فإن مصيره إلى الزوال حتماً.

قد نستطيع البقاء على الإيمان الذين نظنه يخالف العلم ولكن ليس هذا معناه أننا نستطيع أن نحمل الأجيال التي نأتي بعدنا على نفس

٥

الولاء الذي نحمله للدين إننا لا نستطيع أن نظل حاملين الولاء لمبدأ يخالف العالم والمعقول وعلينا أن نعي هذا جيداً وأن لا يحملنا حبنا لبعض الأرث الاجتماعي ( ما وجدنا عليه الآباء ) أن نقف موقف الخوف لأدراك هذه الحقيقة.

لأن الخوف الحقيقي أن لا نقدر على التبصر في هذا الأمر الذي يهدم المجتمع المسلم أو يعوقه في نموه وليس الخوف من أن نتبصر في هذا الموضوع لأن التبصر في حد ذاته هو الذي يقضي على المخاوف. ( قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. )

وهناك أمر آخر وهو أن التخلي عن العلم في بعض الطريق دليل على ضعف الايمان بل أدانة للإيمان بشكل ضمني وجبن وظن شيء بالإيمان ( ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ).

ولا نبحث في هذا الموضوع الخوف اللاشعور الذي يعوق نمو المسلم من جراء الخلط وأنه ليس على بينة من أمره في هذا الموضوع كما ان هناك خلط آخر يعطي نفس النتائج الضارة السالبة المجدبة للحركة والنمو وهو الخلط بين العقل والهوى وإن كان القرآن يفصل بينهما فصلاً قاطعاً فيعطي الثقة للعقل ويتحاكم إليه ويدين الهوى ولا خالصة من الخلط عند المسلم فلا بد من التمييز بينهما حى لا نخلط بعض الهوى بالعقل وبعض العقل بالهوى.

إن الله لم يقل قط عن انسان أنه ضل باتباعه عقله وإنما قال كثيراً جداً عن ضلال من أتبعوا أهواءهم فلا بد من تحديد حدود واضحة لكل من العلم والظن ولكل من العقل والهوى وأن لا يلتبس علينا شيئاً من ذلك.

وليس هدفي الآن أن أحدد هذه الحدود التي تفصل بين العلم والظن وبين العقل والهوى وإنما أملي في أن يجعل الناشيء المسلم من هدفه أن

٦

يسعى ويجد في السعي ليحصل ذلك ، وقد يشتد شوقك لتصل إلى ما يعلمك ما تفرق به بين العلم والظن وبين العقل والهوى وإني لأقدر فيك هذا التطلع المقدس إلا أني أقول لك إنك لست ببالغه إلا بشق النفس وعليك أن تكدح لذلك كدحاً حتى تلاقيه وينبغي أن يتضاعف كدحك ولا سيما وأنت في مجتمع مجدب من معنى العلم وفيه قحط شديد في تذوق روح العلم وبرد اليقين.

ولكن أهمس اليك بكلمة قرآنية في هذا الموضوع لعلها تقديك وتكون لك بمثابة نجم القطب في الهداية فأقول لك إن ميزان العلم وبرهانه في العاقبة الايجابية. ( فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ... وإلى الله عاقبة الأمور ).

ان هذا لن يجعلك تدرك ما هو علم مما هو ليس بعلم لأن ذلك تكسبه في سعيك المتواصل فمهما قلت لك لا تخف من العلم ولا تتخل عنه في أي جزء من الطريق فإن هذه النصيحة لن تفيدك إلا يسيرا ، كأن أقول لك لا تخف من الماء وأنت لا تعرف السباحة لأن خوفك من التيار إنما يزيله ممارستك.

أشرت إلى ابن تيمية وإلى قاعدته وإلى جرأته في الايمان وثقته في العلم ولكن أريد أن أشير إلى محمد إقبال أيضاً بأنه علم في رأسه نور في هذا الموضوع.

فيا أيها الناشيء المسلم هل عندك قدرة على أن تكدح لفهم اقبال ولا تكتفي بما يقول عنه فلان وفلان ، إنه كان يواجه مشكلة العصر وكان يهدف إلى تجديد تفكير المسلمين وإيقاظهم.

إن مشكلة المسلمين مشكلة. إلى الآن قليل جداً الذين يعترفون بعلم النفس أنه علم وعلم الاجتماع أنه علم بل قد تناقش هذا علم أم لا. قد نعني بمشكلة تغير أوضاع ولكن لن نتمكن من ذلك ما لم نعرف علم تغيير ما بالنفس.

٧

قد نسر إذا رأينا شباباً يقبلون على العلم ويحاولون أن يعرفوا ما هو العلم ويسعون لتغير موقف المسلمين بالعلم فنرجو لهم أن يستمروا ولا يقفوا في بعض ترهات الطريق ومن يعلم أن مصادر معرفة الحق في رؤية آيات الآفاق والأنفس لن يخيفه وعورة الطريق وقلة السالكين.

أيها الناشىء المسلم إن هذا العصر المستهتر في كل شيء لا يزال يتكلم كالأطفال ببعض كلمات جيدة مثل احترام العلم والعقل فإن النافذة الوحيدة التي يمكن أن يهاجم المسلم العالم منها هي هذه الثغرة ثغرة العلم والعقل فكيف ونحن نظن ان الشر كل الشر جاءنا من هذه النافذة.

لا تيأس وقل رب زدني علماً واكدح في سعيك لعلك ترضى.

جودت سعيد

دمشق ـ قاسيون ـ

٧ ربيع ثاني ١٣٩١ هـ

١ حزيران ١٩٧١ م

٨