الطبّ محراب للإيمان - ج ١

الدكتور خالص جلبي كنجو

الطبّ محراب للإيمان - ج ١

المؤلف:

الدكتور خالص جلبي كنجو


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧١

الصرف ، أي الغلوكوز فلا تقبل خلايا الجملة العصبية إلا هذه الحلويات الفاخرة أي سكر الغلوكوز فقط وترفض أي سكر آخر ولو كان يختلف من ناحية البناء ذرة واحدة فقط!!

وتظهر مشاكل نقص الاكسجين في حالة الولادة ، ولتنقل في هذا الصدد قولاً للدكتور جراء والتر ، وهو أحد الباحثين البريطانيين البارزين في ميدان العقل : إن التقلصات والامتدادات التشنجية للجنين إنما هي دليل على نقص في كمية الاكسجين اللازمة له ، ويازدياد النمو يأخذ النقص في الازدياد حتى يشق الطفل عند مرحلة معينة من الولادة طريقه إلى الحرية أو إلى الكارثة؟! والكارثة هي الموت أو الفوالج أو العته العقلي مدى الحياة!؟ وذلك فان الذي يموت شنقا أو اختناقا أو غير ذلك من اسباب الموت التي لا تحصى ، فما إذا انقطعت الترويه الدمويه عن الدماغ لمدة خمسة دقائق فقط هي التي تكون السبب في الموت حتى لو توقف القلب عن النبضان ، فإن بامكان تمسيد القلب أن يعيده إلى الخفقان ، لأن خلاياه لا تموت بانقطاع الاكسجين حتى إلى ربع أو نصف ساعة ، بينما خلايا الدماغ تموت نهائياً فيما إذا انقطع عنها الاكسجين لمدة خمسة دقائق فقط ، وقد أمكن بتخفيض الحرارة من ٣٧ o إلى ٢٨ o مئويه أن تبقى الخلية ٧ ـ ١٠ دقائق محرومة من الأكسجين كما يمكن إطالة قدرتها إلى نصف ساعة إذا انخفضت الحرارة الجسمية إلى ١٠ o درجات والسبب في هذا قلة الاحتراقات والتفاعلات ضمن الخلية وبالتالي نقص الحاجة إلى الاكسجين.

التخدير :

ومن خصائص الخلية العصبية أيضاً خاصية قبولها للمواد المنومة وكانت فتحاً مبيناً في عالم الجراحة ، خاصة حيث وجد ان من جملة

١٢١

المركبات الداخلة في تركيب الخلية العصبية بعض المواد الدسمة التي لها دور في قبول المواد المنومة العديدة مثل الاتير والكلورفورم وغاز أول أوكسيد الازوت والسيكلوبروبان ، والأخيران هما من الغازات الطيارة بالاضافة إلى أنواع سائلة كما في النوعين الاولين والهالوتين وتري كلور الاتيلين وأتيل الكلورايد ( اسماء علمية لطائفة من المخدرات ) وهكذا تقدمت الجراحة شوطاً بعيداً بفضل هذه الخاصية التي تتمتع بها الخلية العصبية وهي اصطفاء المواد المنومة ولنتصور كيف يمكن فتح بطن أو إجراء أي عمل جراحي بدون تخدير بل قلع سن لا أكثر ، فكيف بجراحة القلب المفتوحة أو المغلقة ، أو بجراحة الدماغ أو بالجراحات التي تستغرق الساعات الطوال والتي قد تمتد إلى ١٠ ساعات بالطبع لولا وجود مواد التخدير هذه لما أمكن للجراحة أن تتقدم كل هذا التقدم ولقد وجد ان التخدير يبدأ اولاً فيثبط المراكز القشرية والروحية في المخ ثم يؤثر على المخيخ والنويات القاعدية في المخ ثم يؤثر ثالثاً على النخاع الشوكي واخيراً على المراكز البصلية وهنا يكمن أشد الخطر لأن مركز التنفس يوجد في هذا المكان وكما ذكرنا ان المادة المخدرة لا تنزل بشكل شاقولي في المراكز العصبية لان النخاع هو القطعة السفلى ، بل تقفز عن البصلة ، ولو لم يكن هذا الترتيب لمات المخدّر ولما أمكن اجراء أي عمل جراحي بل كانت المواد المخدرة مميتة.

فانظر إلى هذه الدقة وهذا التسلسل البديع في عمل المخدرات ، فكيف ثم هذا الأمر ورتب بهذه الكيفية حتى يخدم الانسان ، حتى لقد قيل ان الجراحه ما كانت لتتقدم لولا التخدير والصادات الحيوية ( مثل البنسلين والسولفا والكلورامفنكول والتتراسكلين وسواها ) ، ( وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعاً من منه ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) سورة الجاثية.

١٢٢

الدوران الدموي في الجهاز العصبي :

وفي الجملة العصبية دوران يشبه الدوران الدموي ولكنه على مستوى السائل الدماغي الشوكي وبالطبع لا نزال نذكر من الابحاث التي مرت معنا في تخلق الانسان السائل الأمنيوسي والذي يقي الجنين من الرضوض ويوزع الضغط على جسمه في المخاض ان ذلك السائل ايضاً كان يخضع لقانون دوار هو الإفراز والامتصاص ، فاما افرازه فكان من الغشاء الأمنيوسي الذي يغطي المشيمة من الداخل ( راجع الصور ) وباقي الغشاء الامنيوسي للامتصاص وأي خلل في الافراز أو الامتصاص يؤدي الى نتائج وخيمة ، فأما القلة فتسبب انكماش الرحم على الجنين ومنعه من النزول بشكل سوي ، والزيادة تؤدي إلى الاستسقاء الامنيوسي ولقد وجدت حالات بلغ السائل ٥ و ١٤ ليتر مع ان السائل بحجمه العادي هو لترلا أكثر!! وهذا الحديث مرتبط بحديث الدوران في السائل الدماغي الشوكي ، ويبدو ان الجسم يحوي العديد من هذه الدوامات حتى ليقال ليست الحياة سوى دوامة من النشاطات ، وهنا أيضاً توجد مناطق تفرز هذا السائل ومناطق تمتصه ، فأما المناطق التي تفرزه فهي الحلايا التي تفرش باطن الدماغ حيث نجد ان باطن الدماغ محفور في كل جانب ببطين جانبي ، وهناك بطين ( مصغر بطن ) ثالث وبطين رابع ، وهكذا نرى ان الدماغ محفور في أربع مناطق وهذه البطينات مملؤة بهذا السائل وهكذا نرى الدماغ اشبه ما يكون يمادة معلقة في سائل فهي محاطة من كل الجوانب بهذا السائل وفي ضمنها هذا السائل.

وأما مناطق الامتصاص فهي كائنة في النسيج العنكبوتي وتتم قرابة عشر دورات يومياً من الافراز والامتصاص لهذا السائل وأي خلل في الافراز والامتصاص يؤدي إلى نتائج في منتهى الخطورة نظراً لعلاقة

١٢٣

هذا السائل من الناحية المكانية بأنبل عناصر الجسم الذي هو الدماغ ، إن نقصه مخيف وزيادته أشد خطراً ، فهذا السائل يمر من أماكن الافراز من الحفر والدهاليز المخية الداخلية عبر انفاق وثقب إلى الخارج تعرف هذه الثقب بأسماء مختلفة مثل مونرو ، لوشكا ، ما جندي ، فإذا زاد الافراز أو نقص الامتصاص لسبب من الأسباب يعطل ميكانيكية الامتصاص كالتهاب السحايا مثلا ( وقلنا أن السحايا هي مجموعة الأغلفة التي تغلف الدماغ وهي الأم الجافية والنسيج العنكبوتي والأم الحنون ) فإن كمية السائل تزداد وأخيراً تضغط نفس الأماكن التي أفرزتها وهذه الخلايا التي تفرزها حساسة كالجلد تماماً فيصاب المريض بالصداع الشديد والنعاس وبطء النبض والقيء أحيانا ، وتعرف هذه الحالة باستسقاء الدماغ وتحصل غالباً عند الاطفال ومع المزيد من الضغط على النسيح الدماغي الناعم شديد الحساسية اللطيف الرقيق ، يبدأ الطفل في حالة تقرب من الغيبوبة وتفتل كرتا العين إلى الاسفل بحيث ان البؤبؤ يرى كقرص الشمس الذي يغيب في الأفق وهذه العلامة مهمة في تشخيص هذا المرض وتعرف بعلامة غروب الشمس وهي في الحقيقة غروب شمس العمر!!

إن هذه الدوامات الهائلة هي قاعدة في بناء الجسم فدورة السائل الامنيوسي هي من هذا القانون وكذا دوامة السائل الدماغي الشوكي وكذا الخلط المائي في كرة العين ( سيأتي شرحه ) وكذا بناء كافة مواد الجسم حتى المواد الدهنية كان يظن أنها مستودعات تخزين ثابتة وجد أنها تتغير باستمرار ، وقد استطاع العلماء معرفة ذلك باعطاء العناصر المشعة بحيث يمكن تتبع مرور هذا العنصر في الجسم بتتبع اشعاعاته التي يصدرها كما في الموانىء التي تتلقى اشعاعات السفن!! فوجد أن الدهن يتجدد باستمرار وكذا كل انسجة الجسم حتى العظام التي هي أقل أنسجة الجسم تغيراً تخضع

١٢٤

لهذا القانون ، وهكذا نغير جميع أجهزتنا وأعضائنا وأنسجتنا ( عدا الدماغ ) كل سبع سنوات مرة واحدة. والعجيب الغريب أنك تحافظ على لون جلدل وعينيك وتقاطيع وجهك وزمرة دمك وطولك وتفصيل جسمك مزاجك وهيئتك وأنت أنت لم تتغير وأنت أنت تتغير ( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ).

إن محيط الجمجمة عند الطفل الذي يبلغ السنة من العمر هي ٤٦ سم وعندما يصبح عمره ١٨ شهر يكون محيط الجمجمة ٤٧ سم ولقد رأيت حالة من استسقاء الرأس بلغ محيط الجمجمة ٧٠ سم أي تمدد محيط الجمجمة ٢٣ سم فكيف أمكن حصول هذا الأمر بحيث أن رأس الطفل الذي كان يناهز بضعة أشهر من العمر كان يبلغ من الحجم أكبر من رأس الرجل الكهل ، وماذا يستطيع الإنسان أن يقول وهو يمر من بحث إلى بحث وكأنه يسبح في بحر من المجهول وليس أمامه سوى جزر طافية من المعلوم!! .. ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ).

وقد يتساءل الإنسان كيف يتم تغذية الدماغ بالدم؟ ان طرز ورود الدم إلى الدماغ أيضاً طرز خاص وفيه ميزات فالشرايين انتهائية غير متفاغرة مع بعضها البعض وهذا يحتاج لشيء من التفصيل ، لقد وجد الاطباء التشريحيون أن كل شرايين الجسم تنتهي بتفاغر مع بعضها البعض : أنها تشكل شبكة متصلة مع بعضها البعض فإذا أنسد أحد الشرايين تدفق الدم إلى المنطقة من جدول دموي آخر يتصل بالشريان المنسد بينما لا نجد هذا الشيء في شرايين الدماغ وهذا ناتج بسبب وضع الدماغ داخل القحف وكثرة الشرايين الواردة والجيوب الوريدية التي تنقل الدم من الدماغ إلى الخارج ..

تنطلق بعض الشرايين من الشريان الرئيسي في البدن وهو الابهر وتصعد إلى العنق باسم الشريان السباتي حيث يتفرع إلى فرعين سطحي

١٢٥

وعميق والأخير يعطي شعبة قبل أن يدخل إلى الدماغ حيث يعطي خمسة فروع منها للعين ومنها للمنطقة الأمامية في المخ ومنها للخلف ومنها للمنطقة الوسطى وهي ما تسمى بالشريان المخي الأمامي والمخي المتوسط والموصل الخلفي والمشيمي وهكذا تتكون ثلاث شبكات دموية منها ما يغذي قشر الدماغ ومنها ما يغذي الاعماق ومنها ما يصل إلى الضفائر المشيمية التي تفرز السائل. الدماغي الشوكي فترويها ، وهكذا نرى أن تروية الدماغ قوية جداً ، وأما المخيخ والجذع الدماغي فان هناك شرايين تصعد من ميزابة العمود الفقري إلى داخل القحف فتشكل شرياناً واحداً هو الشريان القاعدي تصدر منه شعب شريانية تغذي الجذع الدماغي وثلاث فروع للمخيخ واحد علوي واثنان سفليان أمامي وخلفي ويتابع الشريان مسيرة فيلتقي مع الشرايين المخية الأمامية التي ذكرناها ويتكون ما يشبه الاضلاع السبعة وهو الذي يطلق عليه مسبع فيللس.

وهكذا نرى أن نظام تروية الدماغ متقن ومنظم بحيث أن أي منطقة من الدماغ مهما صغرت فإنها تروى تماماً بالشرايين الصغيرة الانتهائية المتفرعة من الشرايين الكبيرة. وأما الأوردة فهناك أوردة ضخمة تسمى الجيوب وعددها (٢١) جيب وريدي يسحب الدم من الدماغ إلى القلب الأيمن ، والكمية من الدم التي تدخل بالانقباض والاسترخاء الشرياني تتعادل مع الكمية من الدم التي تخرج عن طريق الوريد الوداجي المستقر في جانب العنق من كل طرق ، وهذا التنظيم مهم واي خلل فيه يؤدي إلى مضاعفات خطيرة جداً.

والآن لنتساءل ما المصير فيما لو انسد أحد الشرايين؟ ان ابسط الشرايين فيما لو انسد وانقطعت ترويته عن منطقة لمدة دقائق يجعل الخلايا العصبية في موت نهائي لا رجعة له وإذا بنا فجأة نرى الفالج

١٢٦

الشقي أو فالج وشلل للطرفين السفليين أو الحول ، أو انعدام الرؤية في طرفي العين ( النصفين المتباعدين الصدغيين ) أو انعقال اللسان وحدوث الحبسة أو الصمم اللفظي ، أو انفلات المصرات ( المثانة والمستقيم ) أو الآلام المبرحة الشديدة أو التواء العنق أو الرقص باشكال مختلفة منها الحاد ومنها البطىء!! ويجدر بك وأنت تتأملها أن تعرف النعم التي تفيض عليك ( وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ).

الحاجز الدماغي :

وعندما يصل الدم الى الدماغ هل انتهت القصة؟ انها لم تنتهي بعد ، فلقد وجد أن هناك حاجزاً بين الدم والمخ هذا الحاجز هو الخلايا الدبقية أو النسيج الذي يتوزع بين الخلايا العصبية بمثابة الدعم ان هذا النسيج هو بمثابة الخادم الذي يقدم الطعام الجاهز إلى الخلايا العصبية والحلوى الفاخرة التي هي الغلوكوز ، كما أن هذا النسيج هو بمثابة الجمارك التي تحتج المواد التي لا ترغب بها. وهي أيضاً المقبرة للخلايا العصبية التي تموت (١) ، كما أنها الغربال الفني لكل المواد التي تمر من الدم إلى الخلايا العصبية النبيلة.

إن حقن بعض الاصبغة التي تقتل الجراثيم تجعل جميع الجسم يتلون بها إلا الدماغ ، وان حقن محلول الصود في الوريد يجعل جميع البدن يغرق فيه خلال ١٠ دقائق بينما لا يجتاز الحاجز الدماغي إلا بعد ستين ساعة!! إن أي سكر غير سكر الغلوكوز مرفوض ولو كان يختلف عنه بذرة لا أكثر فقشر الدماغ لا يستطيب إلا هذا النوع من الحلوى

__________________

(١) في بعض الحالات المرضية كما في شلل الاطفال.

١٢٧

وان السكر الموجود في الدماغ لا يكفيه أكثر من دقيقة واحدة ولذا يقوم الكبد وسائر الانسجة بتقديم الضرائب إلى الدماغ في صورة هذا السكر وإذا صدف إن كان الجسم يعاني أزمة ومجاعة فإن جميع النسيج تتنازل عن سكر الغلوكوز للدماغ فقط حفاظاً على سلامته ، وإذا دخل السكر الخلية العصبية شكل مع الاكسجين ما يشبه المولد الكهربائي الذي يشحن ويستعد للإفراغ وإذا أفرغ عاد وامتلأ مرة أخرى خلال واحد من الألف من الثانية.

وإذا نقص الاكسجين ماذا يحدث؟ يغضب السكر ويتملص من الاحتراق فتركض خلفه الخمائر ترجوه وتستعطفه فلا يرضى بالرجوع إلا بعد أن تتوسط (١٢) خميرة!! وهكذا يمر السكر في (١٤) مرحلة يتداخل فيها اثنا عشر خميرة لتحلل السكر ( ذكرنا أن الخميرة تشبه المسرع للتفاعل حيث أن قطعة اللحك تحتاج لكي تتفتت إلى حمض كلور الماء المركّز ولعدة أيام ، وإذا غليت بحمض كلور الماء المركز لمدة ٢٤ ساعة تتفتت بينما هي في خميرة البسين حطاماً في مدى ساعات بعدون حمض مركز ولا غليان مستمر ) وتتداخل عدة هورمونات في عملية تحلل السكر أهمها هورمونات غدة المعثكلة التي تحرق الوقود السكري ، فإذا خرج الدم بعد كل هذه التفاعلات كانت حرارته أزود بدرجة واحدة مما دخل نتيجة الاحتراقات في التفاعل.

وأي خلل في استخدام الوقود السكري في الخلية يعطه نتائج مذهلة فاستنشاق غاز أول أكسيد الآزوت يحدث هذا اللل فاذا بالرجل يضحك ويضحك ( سمي الغاز المضحك ) أما الباريتوريات فهي منومة : والسيانور مادة سامة ، والمسكالين تحدث ما يشبه مرض الذهان والسبب في كل هذا يعود إلى خلل الاستقلاب في الغلوكوز والسكر وهكذا تتبين لنا مدى الدقة في الخلق ، والاحكام في الصنعة ، والروعة في

١٢٨

البناء!! .. ( وفي الارض آيات للموقنين وفي انفسكم أفلا تبصرون؟؟ ).

قديماً يقول المثل رب صديق في الأمس عدو في المستقبل وهكذا يحدث مع الخلايا الدبقية التي تمثل الصديق الحميم الذي يخالط الجملة العصبية حيث وجد ان تسرطن الدماغ يتم في هذه الخلايا الدبقية وهكذا تسلم هذه الخلايا الدماغ إلى مقصلة الاعدام ، وأما خلايا القشر الدماغي بالذات فلا تتسرطن وهو أمر يدعو إلى التأمل أيضاً.

فكرة عن مخطط الدماغ الكهربي :

كان أول من فكر بموضوع تخطيط الدماغ الكهربائي طبيب ألماني اسمه هنز بيرجر حيث لاحظ هذا الرجل ان خلايا الدماغ ترسل اشارات كهربائية كما ترسل الاشارات من الموانىء إلى السفن التي تعبد عن الساحل أو كإشارات اللاسلكي ، وهذه الاشارات إذا أمكن إلتقاطها وتكبيرها إلى مليون مرة يمكن فهمها ونقلها الى آلة ترسم هذه الاشارات بشكل خطوط وموجات ، وقد نجح في هذا ولكن مدرسة التحليل النفسي التي نادى بها فرويد في أوربا في تلك الأيام كانت قد نالت إعجاب الأطباء والجمهور فلم يلاق إلا السخرية والضحك عليه حتى لقّب باسم حصان كان يلعب في السيرك ، وكان هو بالمقابل غير حريص على كسب الناس والتودد اليهم ( والحق يقال ان قيمة الباحث لا تأتي من مقدرة الباحث في كسب الناس والتأثير عليهم بل إلى صحة المعلومات التي أدلى بها وهذا المصير كان لكثير من العلماء ... )

يوضع في العادة منافذ ومستقبلات للاشارات الكهربية على الجمجمة من الخارج وتتصل هذه المستقبلات بأسلاك تنقل التيارات الكهربية الضعيفة إلى جهاز يضخم هذه التيارات مليون مرة ويسجلها على قطعة من الورق بشكل خطوط أشبه ما تكون بامضاءات بيد مرتعشة غير

١٢٩

واضحة ، ولقد لاحظ الأطباء ان هذه المنافذ لا تؤدي المطلوب وهي أشبه يأخذ رأي أمة من ١٦ شخص أو معرفة تيارات المحيط الهادي بوضع ١٦ دليل عائم لأن كل منفذ يأخذ التيارات من ملايين الخلايا العصبية ولذا فان التقاط الاشارات الكهربية ومعرفة وضع الخلايا العصبية بشكل جيد يحتاج إلى أكثر من مليون منفذ أو مستقبل للكهرباء ، وبالطبع فان هذا الشيء غير ممكن من الناحية الواقعية ، ولقد ابتكر الدكتور جون ليلي من جامعة بنسلفانيا جهاز فيه ٤٠٠ مستقبل كهربائي كما أن الدكتور انتونين ريموند من المركز الأهلي للبحث العامي في باريس يصمم جهازاً فيه ٢٠ مستقبل لقشرة المخ بأملها ويستقبل الاشارات بثانية واحدة ، وعلى العموم فان الأجهزة الموجودة بين أيدي الأطباء اليوم يعرف منها الكثير والى المستقبل قد يمكن اكتشاف أشياء مثيرة وهامة من هذه الأجهزة أو بتطويرها.

لقد وجد ان الخلايا العصبية في الدماغ حينما تكون بحالة استراحة وشرود ترسل ١٠ نبضات في الثانية الواحدة وهي بنظم خاص يعرف بنظم ألفا ونفس هذا النوع له أقسام منها قسم يسمى بموجات ألفا M م وقسم P ويقول جون فايفر ان الشخصين اللذين يحملان هذين الطرازين من موجات الدماغ فيما إذا اجتمعا فلا ننتظر منهما إلا عدم التوافق ويدخلان في مناقشات حادة مريرة ، ومن النظرة الأولى لا يحدث ارتياح أو انسجام بينهما!!

ثم ان هذه الموجات التي ترسم على الورق تتسطح فجأة فما إذا ركّز الانسان تفكيره أو أثير بانفعال أو سمع ضجة كبيرة أو قام بحساب معقد ، وإذا بقي النظم كما هو دل غالباً على حالة مرضية.

وإذا قمنا بدراسة للمخطط الدماغي فاننا سوف نعثر في الحالة الطبيعية

١٣٠

على النظم السوي من نموذج ألفا الذي مر ، وقد تكون الاشارات أقل من ١٠ في الثانية أو أكثر وكلها تدل على مزاج سوي ، ولقد وجد ان هذا النموذج يكون مضطرباً عند الأطفال ويكون في حدود ٤ ـ ٧ نبضات في الثانية ومضطرب ، وهي في الحقيقة تعبير جيد عن وضع الأطفال الفكري ولغة الأطفال ، وإذا تقدم في العمر يبدأ نظم الدماغ يتدرج الى الحالة السوية حتى يصل إلى سن ١٤ سنة أو أكثر حيث يصبح نظم ألفا هو المسيطر على فعالية الخلايا العصبية الكهربي.

وللهم في مخطط الدماغ الكهربي انه استطاع أن يحدد بعض الأمراض المخيفة كما في الصرع حيث يمكن تحديد المرض بالضبط ولو لم يكن المريض في حالة نوبة حيث يظهر على المخطط اضطراب في فعالية الخلايا يتظاهر بارتفاع موجات التخطيط وهو ما يعرف بنموذج الذروة ، كما يمكن بواسطة اليخطيط الكشف عن بعض الأورام المجفونة بدقة في تلافيف الدماغ وهذه تحتاج إلى دراسة خاصة.

وأخيراً أمكن التعرف إلى نقطة هامة في هذا البحث وهو الكشف عن شخصية الانسان من خلال تخطيط الدماغ وظهور مخططات شاذة عند القتلة والمجرمين والأطفال المعتوهين ، وهنا نقف على عتبة عالم جديد حيث نرى البحار النفسية المتلاطمة والأفكار الذهنية التي تمر كالريح فهل يا ترى بالامكان قراءة الأفكار ومعرفة التداخلات النفسية العجيبة المعقدة من خلال هذه الآلات التي تلتقط لنا هذه الاشارات العائمة من بحار تلافيف الدماغ؟ وهل بالامكان معرفة تكوين الشخصية من خلال هذه الرسوم الواضحة؟ والحق يقال ان هذه المعلومات قربت لنا الايمان وجعلته قاب قوسين أو أدنى حيث يقول القرآن : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) سورة يس ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم

١٣١

سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيراً مما تعملون. وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) سورة فصلت.

ما هو عمل المخيخ؟

لعل القارىء لاحظ مقدار الدقة والتعقيد في بناء الجهاز العصبي وكأننا نمشي في بحر متلاطم من المجهول ، وبين الحين والآخر نرى بعض الجزر الطافية من المعلوم وكما قال الدكتور ألكسيس كاريل في كتابه ( الانسان ذلك المجهول ) ان الانسان مجموعة من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة ، والآن ما المخيخ وماذا يعمل؟ ..

يعتبر المخيخ من جملة الأجزاء السبعة التي تكوّن الجهاز العصبي لمجموعه العام وهي المخ والمخيخ ثم الساقان المخيتان ، والحدبة الحلقية أو جسر فارول ، والبصلة السيسائية ، والنخاع الشوكي.

ويمكن أن نقول باختصار ان المخيخ هو مركز توافق وانسجام حركات البدن وأي خلل فيه يؤدي إلى الاضطراب في تأدية الوظيفة ، ولا يتداخل في الأعمال الذهنية كما نرى لأن تلك الأعمال على ما يبدو هي من اختصاص قشر المخ.

يتألف المخيخ من ٢٠ قسماً ، ومن ستة جسور تصل ما بينه وبين بقية أقسام الجهاز العصبي المركزي حيث يكون الجسران العلويان للعبور من المخيخ إلى خارجه بينما تكون الجسور الأربعة السفلى للمرور من خارج المخيخ إلى داخله وفي هذه الجسور العريضة تزدحم آلاف الآلاف من الألياف العصبية التي تحمل الرسائل القادمة من الجسم تخبر عن حاله كما

١٣٢

يخرج من المخيخ الألياف التي تفهم قشر المخ بما يحدث كما تتفهم مع الساقين المخيتين والحدبة الحلقية والبصلة السيسائية وهكذا يسير توازن البدن وانسجام حركاته على أتم وجه.

إذا نظرنا إلى المخيخ من الخارج نراه وكأنه كومة من خيطان يزن قرابة ١٤٣ غرام كما انه يتكون كما في المخ من قشر رمادي ومن مادة بيضاء ولكن قشر المخ كما مر يتكون من ستة طبقات ، أما في المخيخ فيتكون من ثلاث طبقات وفيه نوع خاص من الخلايا ذات شكل اخطبوطي هي خلايا بور كنج ، وإذا نظرنا إلى المخيخ من الداخل فاننا نجد ما يشبه تفرعات الشجرة ، ولقد كان يظن ان مركز الحياة هنا ولذا كانت تسمى شجرة الحياة وداخل التلافيف البيض في الدماغ يظهر ما يشبه الجزر الطافية من المادة الرمادية أي تجمعات الخلايا العصبية ، وهكذا نرى في بحث تلافيف المخيخ ست جزر من المادة الرمادية وبشكل متناظر وهذه الجزر تستقبل السفن من الخارج وهي هنا بصورة الألياف العصبية التي تحمل الرسائل اليها ومنها إلى الخارج ، وهنا نتساءل ماذا يحدث لو اننا قمنا بتخريب بعض المناطق في المخيخ؟ لقد وجد ان الأقسام العشرين التي ذكرناها في تشريح المخيخ تتوزع فيما بينما الأعمال فالأقسام الأمامية خاصة بالتوازن والأقسام الوسطى خاصة بالمقوية العضلية حيث تصرف الأوامر اللازمة للعضلات المعينة أن تتقلص بما يناسب الحركة ولنتصور مقدار دقة هذا العمل إذا كان مثلاً فتح باب السيارة يحتاج لمجهود يفوق (٤٠٠) ضعف مجهود إدارة قرص التلفون ، ولنتصور أيضاً مقدار الجهد الذي نصرفه حينما نقلب صفحة من كتاب وبين رفع ثقل يزن خمسين كليوغرام؟!! كما ان الأقسام المتوسطة تشرف على أوضاع الأعضاء والأعمال الودية في البدن ( ذكرنا هذا البحث سابقاً ) وأما الأقسام الخلفية فهي تختص بتنسيق الأعمال الارادية التامة والجزئية ،

١٣٣

وبعد أن ذكرنا هذا التقسيم البسيط لنتصور مدى الضرر الذي يلحق بالانسان فيما إذا تخربت بعض المراكز وكانت بحجم لا يزيد عن حجم العدسة الصغيرة.

ان مشكلة التوازن مشكلة معقدة ، وحتى الوقوف البسيط العادي يعتبر حركة بهلوانية عجيبة ، فالمخيخ مركز القيادة في التوازن وكأنه القبطان الذي يدير دفة السفينة في بحر متلاطم الأمواج أو كأنه القائد الذي يسير بالطائرة في جو مليء بالزوابع والعواصف والغيوم ، وبدون أن يحدث أي اضطراب هام يقوم المخيخ بادارة دفة العمل بشكل منظم دقيق هادىء متزن ...

وحتى يمكن للانسان أن يتزن اثناء الوقوف ، واثناء التمايل ، واثناء الجلوس ، واثناء المشي ، فان عدة عناصر تشترك في اقرار هذا التوازن وهي العضلات والعظام والمفاصل والأعصاب التي تنقل الحس عبر النخاع الشوكي والدهليز في الاذن الباطنة ( تقسم الاذن إلى ثلاث أقسام خارجية ووسطى وباطنة ) فأما الدهليز ففيه مناطق تسمى بالتيه أي ان الذي يمر فيها يصاب بالتيه وهو يمر في هذه الدهاليز السحرية العجيبة ومن جملة العناصر التي تقر التوازن أقنية تمثل اتجاهات الفراغ أي من الأمام إلى الخلف ، وبشكل أفقي ، وهي الأقنية نصف دائرية الوحشية والخلفية والعلوية ، وهذه الاقنية بواسطة البلغم الداخلي الذي يمر فيها تتعرف على وضع الانسان فيما اذا كان قائماً ، أو قاعداً ، أو نائماً ، أو مائلاً حسب ميلان السائل داخل الأقنية حيث يرتطم ببعض الجسيمات الحسية التي تنتقل عبر العصب الدهليزي إلى المخيخ ، كما تنتقل إلى المخيخ الأخبار الصادرة من وضع العظام والمفاصل والعضلات ويقوم المخيخ بدوره في تنسيق الاعمال وجعلها مترابطة إلى بعضها البعض.

ولذا فان أي خلل يصيب المخيخ يعطل هذا التوازن ، فعلى مستوى

١٣٤

العين تحدث الرأرأة حيث ترقص العين ولا تستقر اثناء النظر اما إلى الأعلى والأسفل وأما إلى الأيمن والأيسر وأما بشكل فوضوي حسب منطقة الاصابة والسبب في هذا يعود إلى ان المخيخ ينسق حركة عضلات العين ، حيث ينسق حركة العين ستة عضلات وهي العلوية والسفلية والانسية والوحشية والمنحرفة الكبيرة والمنحرفة الصغيرة حيث يؤمّن بواسطة هذه العضلات حركة العين إلى الأعلى والأسفل واليمين واليسار وبشكل منحرف بحيث يمكن بهذه الطريقة تدوير كرة العين ، والمخيخ يهيمن على توازن هذه العضلات بحيث ان انقباض أحدها يستدعي استرخاء الآخر فيما إذا كان المطلوب من حركة العين مثلاً النظر الايمن فالمفروض ان تتقلص العضلة اليمنى وتسترخي اليسرى فتنفتل كرة العين الى الايمن وهكذا بقية الحركات والمخيخ يشرف على عمل العضلات بحيث يجعلها متوافقة متفاهمة مع بعضها البعض فهو صلة الوصل والاداري العام والمنظم الواعي الدقيق!!

فاذا حدث اختلال في هذه المراكز لم يبق قرار لكرة العين فتصاب بالرأرأة حيث تتراقص بشكل يدعو للتأمل والنظر ، وبالاضافة إلى هذا فان أي خلل آخر على مستو آخر من مستويات المخ يحدث اضطراباً وعدم انسجام في عضلات أخرى من البدن ...

وهذا الشيء يعرفه الاطباء جيداً فالمشية تضطرب فاذا أراد أن يمشي فانه يشبه السكران في مشيته حيث يتطوح والسبب في هذا هو ان انسجام حركة العضلات مع التقدير المحكم لنقل الخطوة اضطرب ولذا فانه يمد رجله أكثر أو أقل مما هو مطلوب كما ان اتزانه يضطرب ، ولذا فانه يوسع ساحة استناده فيباعد بين رجليه حتى يستطيع أن يتمكن من الاتزان ويشتد الامر أكثر فأكثر فيما إذا أغمض عينيه لان النظر يخفف من خطأ التقدير ولذا فانه يتزن أكثر ولكنه إذا أغمض عينيه

١٣٥

مال الى السقوط سريعاً ، ولقد جرب تخريب المخيخ في الطيور فوجد ان الطير إذا ألقي في الهواء سقط كالجسم الذي ليس فيه حراك مع انه يبصر ما يحل به ولكنه لا يستطيع أن ينظم حركات جناحيه ، ويصل الامر إلى أن الوقوف بحد ذاته يصبح مشكلة وخاصة اذا أغمض عينيه فانه يميل إلى السقوط ، وتسمى هذه العلامة بعلامة رومبرغ وهي مهمة في تشخيص أمراض المخيخ ، ويصبخ الميل للسقوط أكثر فيما إذا طلب من المريض وضع رجل أمام الاخرى اثناء الوقوف.

ويحدث الرجفان في الاطراف فاذا طلب من المريض أن يضع اصبعه على أنفه تعذر عليه ذلك واضطرب بشدة وأصيب برجفان يزداد كلما ازداد قربه من الهدف ولذا يعرف هذا بالرجقان القصدي. كما انه إذا قلب كفيه سوية اضطرب الامر معه وأخذ يقلب الواحدة ويخطأ في الثانية وهكذا.

وإذا أراد أن يتكلم اُصيب بالرتة وهي تقطع الكلمات وعدم فهم الكلام منه بشكل واضح فهو يتكلم ولكن كلامه مضطرب والسبب في هذا يعود إلى عود انسجام عضلات التصويب حيث ان النطق عند عند الانسان يقوم على الجهاز العصبي أولاً وعضلات التصويت وهي الحبال الصوتية في الحنجرة بالاضافة الى حركة اللسان والشفتين ، فأي اضطراب الانسجام ما بين حركة العضلات في أي منطقة حصل اضطراب التصويت خاصة إذا علمنا ان اللسان فقط يحتوي على ١٧ عضلة والوجه فيما يزيد على ٣٠ عضلة وكل حرف من الحروف التي يتكلم بها الانسان لها مخارج معينة من الحلق أو الحنجرة أو مقدم اللسان أو من الشفتين فاذا حدث أي خلل بسيط أصبح الانسان عاجزاً عن تفهيم الآخرين عما يريد إلا بصعوبة بالغة وصدق الله : ( ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ).

١٣٦

مناطق حيوية في أعماق الدغل المخي :

بعد أن أخذنا فكرة بسيطة عن عمل المخ والمخيخ فهل انتهت القصة الآن؟! لم تنته بعد ، فهناك بعض المناطق ذات الحيوية المهمة في أدغال المخ الداخلية بين الملايين من الألياف العصبية الصادرة والواردة ، وكنا قد ذكرنا من جملة هذه المناطق الحدبة الحلفية ، والساق المخية ، والبصلة السيسائية ، والأعصاب القحفية ، والغدة النخامية ، ونويات مبعثرة في أعماق المخ تسمى بالدماغ المتوسط ، فلنحاول الآن أن نلقي نظرة سريعة على هذه العناصر وعلى عملها ..

فما هو المركز الذي تحتله مثلاً الحدبة الحلقية؟!! أو ما يقال له النواة المذنبة (١)؟! لقد وجد أن هناك بعض المناطق التي تغطس في عق الدماغ أو ما تسمى بالدماغ المتوسط وفيها يشاهد السرير البصري الذي تحدثنا عنه وتشكلات عصبية أخرى مثل النواة العدسية والنواة المذنبة وهذه التشكلات لها ارتباطات بالدماغ أي قشر المخ من جهة كما أن لها ارتباطات بالجذع المخي أو ما يسمى بالمخ المستطيل.

إن منطقة الجذع المخي أو المخ المستطيل فيها مراكز على درجة كبيرة من الأهمية ، فإذا ألقينا نظرة على البصلة السيسائية وهي القسم السفلي من الجذع الدماغي ـ وتبلغ من الوزن عدة غرامات ـ فإننا نجد فيها مراكزاً يسمى عقدة الحياة لأننا لو أدخلنا إبرة في نقرة إنسان ما أسفل العظم القحفي تماماً إلى مسافة عدة سنتمترات ، فإن الموت المفاجىء هو

__________________

(١) يوجد في الدماغ عدة تشكلات مهمة تتكون من اجتماع ملايين الخلايا العصبية ، ومن جملتها بعض الجزر ذات اللون الرمادي في أعماق الدماغ حيث تمر الالياف البيض ، هذه العناصر لها اشكال مثل العدسة فسميت بالنواة العدسية أو الفاصلة ( الضمة ) فسميت بالنواة المذنبة.

١٣٧

الذي ينتظرنا لأن مركز التنفس هو الذي يرقد هنا ، ومركز التنفس هذا هو الذي ينظم الحركات التنفسية ويعدّلها ويبطؤها أو يسرعها ، ونحن في الحالة الطبيعية لا نشعر بتنفسنا لأن يحدث بدون إرادة منا ولكن إذا ركزنا انتباهنا عليه فإن بالإمكان تسريعه أو إبطاؤه. والسبب في هذا يعود إلى الأوامر الجديدة التي ترسل من الدماغ إلى هذا المركز الذي يقف كالجندي المخلص يقوم بحراسته على أتم وجه ويبدل من حراسته كما يأتيه الأمر من قشر المخ ويتلقاه بكل سرور ، وفوراً يقوم بتعديل عمله على وفق ما جاءته الأوامر من الأعلى.

لقد وجد أن هناك تشكلات معقدة ، وارتباطات تبلغ درجة مخيفة من الدقة ، ففي جذع الدماغ حيث يحصل ارتباط الجزر الرمادية بألياف عصبية قصيرة ، وحيث تنشأ من مجموع هذه الشبكات القصيرة من الالياف أعقد الارتباطات ، وبين المكان والآخر من هذه التعقيدات نرى بعض الجزر الرمادية وكأنها الأحجار الصغيرة في الشبكات الكثيفة من أعشاب قاع البحر أو قاع النهر حينما تحجز في داخلها ...

نرى أن هذه التشكلات المعقدة تكمن فيها مراكز عجيبة في تنظيم الجسم وكأن المنطقة السفلية من الجماغ بندول الساعة الرقاس ، لأن تنظيم الإفرازات للغدد الموجودة في الجسم يكمن في هذه المناطق ، كما يكمن فيها تنظيم سرعة التنفس ، وضربات القلب وتعديلها وتوقيتها والمراكز المحركة للأوعية الدموية في الجسم كله التي ترفع توتر الدم أو تنقصه حسب حاجة البدن وما يواجهه من ظروف ، كما تكمن فيها مراكز البلع ، والمضغ ، والتصويت ، وتنظيم السكر في البدن ، وافراز العرق ، واللعاب ، ومركز النوم واليقظة ، وكذا تنظيم المشي ، ودورات الحيض ، وتنظيم حرارة البدن ، والتأثير على غدد التناسلية ، وبناء وهدم المواد في الجسم باشكالها الثلاثة وهي البروتينات والسكريات

١٣٨

والشحوم ، وكذلك المد والجزر في سوائل البدن ، وأصبغة الجسم كل ذلك ، بما يوافق الحرارة المحيطة بالبدن وحسب المناطق الموجودة فيه ، ان كل ما مر يتعلق بهذه المنطقة الحيوية الحساسة لتنظيم الجسم وجعله في حالة متوازنة على أحسن وجه ، ولقد وجد مؤخراً أن العواطف تتعلق أيضاً بهذه المنطقة وعند إجراء بعض العمليات الجراحية على بعض المناطق تحسنت بعض الأعراض المرضية ...

الافراز الغدي :

إن تنظيم الإفرازات الغدية في الجسم يمثل إحدى عجائب التكوين الجسمي ، حيث إن إحدى هذه المراكز ، وهي الغدة النخامية التي تناولناها بالذكر سابقاً والتي لا تتجاوز في وزنها نصف الغرام تفرز تسعة هورمونات أو عشرة وبواسطة هذه الهورمونات التسعة يمكن السيطرة على العملية التناسلية عند الإنسان ، وكذا مفرزات الغدة الدرقية ومفرزات قشر غدة الكظر (١) ، وإفراز لبن الثدي عند المرأة ، والعظام والمفاصل والعضلات في حالة النمو ، وتسمى هذه الهورمونات باللغة الأجنبية كما يلي : T.S.H ـ ACTH ـ I.C.S.H ـ F.S.H ـ L.T.H ـ GH ـ M.S.H. A.D.H. ، والاكسيتوسين ، وسنبحث موضوع الغدد الصم في بحث مستقل بذاته ، ولكن الشيء الذي نشير إليه الآن هو أن تنظيم هذه الإفرازات الداخلية بهذه الدقة والتي تؤثر بترقيق يبلغ الواحد من المليون يدعو إلى الدهشة والاستغراب فعلاً ،

__________________

(١) غدة الكظر تشبه القبعة ذات الثلاث أطراف وهي ترقد فوق الكلية في كل جانب وتتألف من قشر ولب ، والقشر بدوره مقسوم إلى ثلاث مناطق ومن هذه المناطق يفرز ما يزيد على الثلاثين هورموناً ولها عشرات التأثيرات ، وأما اللب فيفرز مادة الادرنالين التي تقبض الأوعية وترفع التوتر الدموي.

١٣٩

حيث تؤثر المراكز التي ذكرناها على الغدة النخامية ، والتي تقوم هي بدورها بتنشيط كل هذه المراكز على العمل فهي تقنع المبيض بقذف البيضة ، كما تحض الخصية عند الذكر على إفراز الحيوانات المنوية وهي التي « تتفاهم » مع العضلات والمفاصل والعظام على أن يتم النمو بمقدار محدد من جهة ومتناسق مع بعضه من جهة أخرى ويؤدي الغرض تماماً ، وهي التي تتشاور مع الرحم في ساعة الخلاص حتى تبعث رسلها لكي يقنعوا الرحم أن يتقلص ويفرغ محتواه من الجني ، وهي التي تبعث وفودها إلى الكلية لامتصاص السوائل المطروحة في تلك المحافظ التي يزيد عددها على المليون في الكلية الواحدة ، والتي تطرح (٢٠٠) ليتر يومياً من السوائل ويمتص منه (١٩٨) ليتراً أي أنه لولا هذا التنظيم الدقيق لمات الإنسان من الجفاف في يوم واحد أو حتى أقل ، أي في مدى ساعات. ولولا هذا التنظيم الدقيق لما استطاع النسل البشري أن يتابع طريقه أبداً ، ومن بين كل هذه المتاهات المحيرة تبرز يد الارادة الحكيمة العاقلة المدبرة ، توجه الأمور ، وتحكم الاتصالات ، وتسير الأحداث ، حتى يصل إلى أحسن خلق وابدع وجود ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون. يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون ، ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) سورة الروم.

التنفس :

أما كيف يتم التنفس فذلك أيضاً معجزة من المعجزات؟!! ففي هذه المنطقة التي ذكرناها توجد بقعة خاصة للشهيق ، وبقعة خاصة للزفير ، وقد وجد أن تنبيه إحدى هاتين البقعتين يؤدي إلى تثبيط الأخرى ، ولولا هذا النظام المتناوب لاضطرب حبل الأمور ، ولدام الشهيق فترة أطول أو أقصر. ولكل حالة من هاتين الحالتين نتائجه

١٤٠