الطبّ محراب للإيمان - ج ١

الدكتور خالص جلبي كنجو

الطبّ محراب للإيمان - ج ١

المؤلف:

الدكتور خالص جلبي كنجو


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧١

الاخضر ، واللون الأحمر بشكل أخف ، وهناك المرض المسمى ( تري تانوبيا ) حيث لا يميز المصاب ولا يتعرف على اللونين الأزرق والبنفسجي وهناك العمى اللوني الكامل حيث يفقد تمييز الألوان كلها فيرى مثل رؤية الماشية والقطط!! .. ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ).

والجدير بالذكر ان من جملة أسباب عمى الألوان : التسمم الزمن بالتبغ والخمر!! .. لقد وجد ان الالوان الاساسية هي ثلاثة الاحمر والاخضر والازرق أو البنفسجي ، كما وجد ان الالوان الضوئية إذا مزجت مع بعضها بنسب معينة أعطت النور الابيض مثل مزج الاحمر مع الاخضر المائل للزرقة وكذلك مزج الاصفر البرتقالي والازرق الخفيف ، ويجب أن نفرق هذه الظاهرة والتي تسمى بظاهرة انصهار الألوان عن ظاهرة مزج المواد الصباغية حيث يؤدي مزج اللون الاصفر والازرق إلى اخض ، بينما يؤدي على مستوى الضوء إلى اللون الابيض ، إن هذه الظاهرة اعتمد عليها في كيفية رؤية الألوان في العين ، فالمخاريط على ما يبدو حساسة للألوان الثلاثة الاحمر ، والاخضر ، والأزرق ، وتأثر أحد هذه الالوان يتبعه تأثر بشكل أخف للونين الباقيين أي أن موجات لون معين يؤثر على بعض المخاريط بشكل مكثف وعلى المخاريط التي تتلقى بقية الالوان بشكل أخف ، وإذا نبهت المجموعات الثلاثة سوياً وبالتساوي حصل الإحساس باللون الأبيض ؛ ولكن إذا فسرت هذه النظرية عمى الألوان وبعض المشاكل الأخرى فهل انتهى الموضوع؟ إن قشر المخ يشترك أيضاً في تحليل الالوان حسب ما تنقل الالياف العصبية من تأثرات بالألوان المحيطية ، وقشر المخ يحللها ويركبها ويفهمها على النحو المناسب ، وكأن قشر المخ لوحة فنان للالوان ، ومختبر تحليل

٢٢١

للالوان ، ونفسية شاعر متأثرة بالالوان ، ومعمل فذ لانتاج كافة الالوان بمزج الالوان المختلفة لتحصيل لون جديد.

هذه إشارات عابرة حول فكرة الالوان ومحاولة فهمها.

ـ ٩ ـ

حدود الحواس :

وختاماً لبحث هذه الحاسة العظيمة نقف عند عتبة خطيرة وهي محدودية الحواس ، إن البصر له حدود لا يتجاوزها كما ذكرنا في الشروط الاربعة لرؤية شيء مهم ، كما أن نفس الشيء المرئي إذا ابتعد أكثر من اللازم لم يعد يرى وإذا اقترب أكثر من اللازم تشوشت رؤيته ، وهي ما تعرف بنقطة المدى ، ونقطى الكتب ، والالوان المرئية لها طيوف يمكن للعين أن تبصرها ولكن هناك إشعاعات عديدة ، لا تراها العين ، ولا يدركها البصر ، إن هذا يجعلنا نقول ان هناك أشياء غير منظورة في هذا الكون ، فهناك إشعاعات مجهولة ، وطاقات خبيئة وقوى خفية ، ولكن الانسان كما يستوعب المرئيات ببصره ، والمسموعات باذنه والمحسوسات عامة بحواسه ، كذلك فإنه يستوعب اللا محسوسات بذهنه والمحسوسات عامة بحواسه ، كذلك فإنه يستوعب اللا محسوسات بذهنه المتقد الجبار ، ان النفس الانسانية عالم فسيح ، ففيها ما تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس ، فيها الواقعية والخيال ، فيها الماديه والروح ، إن هذه المعاني والحقائق الجميلة تلقي ظلا هادئاً خاشعاً على الآيات القرآنية ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. انه لقول رسول كريم ) سورة الحاقة ( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير. قد جاءكم بصائر من ربكم ) سورة الانعام ( وقال الذين لا يرجعون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا

٢٢٢

في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً ) سورة الفرقان ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) سورة البقرة.

إن هناك عوالم غير مرئية كالجن والملائكة ، وعندما يأتي المنكرون ليبحثوا هذه القضية يخونهم ذهنهم العلمي كالعادة!! فإذا كانت هناك الطيوف المرئية والطيوف غير المرئية وهناك الإشعاعات اللونية المبصرة ، والإشعاعات غير المبصرة ( مثل الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية ، واشعة غاماً وألفا ، والأشعة السينية وسواها ) ، وإذا كانت هناك قوى نشعر بآثارها دون أن نراها كقوى الجاذبية ، والمغناطيسية ، والكهربية ، والاشعاعات الكونية ، أفلا يحق لأولئك أن يشغلوا ذهنهم العلمي أمام هذه النقطة حتى يؤمنوا ... ولكن ( ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، ولكن أكثرهم يجهلون ) سورة الانعام ...

القصة الرائعة الجميلة عندما طلب موسى من ربه الرؤية تعلمنا بعض الاسرار التي كنا نبحثها ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر اليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما أفاق قال سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين ) سورة الأعراف ..

فيا أيها القارىء الكريم انظر معي إلى العين هذه الحاسة التي نبصر بها ، إن فيها ثلاث جدران ، منطقة للأبصار ، وجدران للتغذية والحماية والجمال ، وفيها سائلان احدهما ثابت والآخر مثل الدوامة يفرغ ويفرز ليل نهار ، وفيها بللورتان واحدة أمامية ثابتة والثانية خليفة متبدلة ، وفيها واجهة للجمال وحماية للعين من النور الساطع وهي القزحية ، وفيها غدد من شتى الأنواع للدهن والمفرزات والترطيب والتطهير والحماية ،

٢٢٣

والدمع ، وفيها أقنية وممرات شتى لتصرف السوائل والدمع ، وفيها سبع عضلات للتحريك المتزن واسدال الستار ورفعه امام الرؤية وهو الجفن العلوي ، والجفن العلوي فيه سبع طبقات احداها تشكل قالب الجفن وهو الظفر الجفني ، وفي العين (٣٠) ثلاثون شرياناً مغذياً ، وثلاثة أعصاب محركة ، وعصب ينقل الحس ، وعصب ينقل المبصرات عبر شريط يضم نصف مليون ليف ، وهذه الالياف تنقل المبصرات من (١٤٠) مليون عصاة و ( ٧ ملايين مخروط ) ، وبعد ذلك الوسادة الشحمية التي ترقد عليها العين والجدار العظمي الذي يغلفها من كل جانب ، والمرتفعات العظمية الثلاث التي تقف كأبراج المراقبة والرصد ، أو كأن العين هي الجندي في الخندق العميق ، أفكل هذا : من حماية العظام ، وضيافة الشحوم ، وعدد العضلات ، وروعة المبصرات ، ودقة التجهيزات وتصريف القنوات ، وجريان الينابيع والشلالات وتغذية الشريينات ، وتصريف الاورده والبلغم لم يدل على الخالق العظيم!!! ..

حاسّة الشم

ما زال موضوع الشم حتى الآن محيراً للعلماء فما هي طبيعة الروائح التي نشمها؟ وما علاقة الرائحة بالتركيب الكيماوي للمادة؟ وهل هناك روائح أساسية وتشتق منها بقية الروائح عن طريق المزج بين اثنين أو أكثر من هذه الروائح الاصلية بنسب متفاوتة؟ وما علاقة الرائحة بالروح؟ وكيف تفهم الخلايا العصبية الروائح وتميز ما بينها؟ ..

درس العلماء حاسة الشم واعطوا بعض المعلومات الاولية البسيطة في هذا البحث ، فلقد وجد أن حاسة الشم تتركز في الانف وخاصة في القسم العلوي من الانف ، فلو نظرنا إلى جدار الانف الداخلي لوجدنا

٢٢٤

فيه ثلاث قطع عظمية مغلفة بغشاء مخاطي يعلو بعضها البعض وتسمى القرينات ، وكأنها القرون الصغيرة في هذا المكان ، وهو تشترك في عملية تسخين الهواء أثناء مروره بالأنف ، فإذا نظرنا إلى ما فوق القرين العلوي رأينا المنطقة الشمية بمساحة تبلغ ( ٢٥٠ ملم ٢ ) ، في هذه المنطقة تتوزع ألياف العصب الشمي بعد أن تجتاز سقف الأنف من خلال صفيحة مثقبة كالغربال هي الصفيحة الغربالية ، وتتوزع هذه الألياف العصبية بحيث يكون لكل خلية شمية ( ٦ ـ ٨ ) أهداب تغطس في سائل مخاطي يعلوها ، فإذا وصلت الروائح الشمية إلى تلك المنطقة انحلت في السائل المخاطي أولاً ثم في المواد التي تحويها تلك الاهداب وهي من طبيعة دسمة تساعد على حل المواد الكيمياوية.

وهكذا نرى أن عملية الشم هي اشبه ما تكون بعملية كيمياوية بينما طبيعة الصوت تقوم على قواعد فيزيائية ، وأما الضوء فهو أعقد بكثير.

والآن كيف نفسر الشم وعلاقته بالمواد الكيمياوية؟ لقد وجد أن هناك بعض المواد الكيمياوية التي تختلف من ناحية التكوين اختلافاً جذرياً جوهرياً ومع ذلك فإنها تعطي نفس الرائحة مثل ( رائحة الكافور وكحول السيليكونونيل ، والديورين ) فكيف سنفسر الشم إذن؟ ان آخر نظرية طرحت هي التي قدمها آمور على (١٩٦٤) وتسمى بالنظرية الفراغية الكيمياوية فالمواد كما يبدو تنحل في الأهداب الشمية بحيث تنحل كل مادة في شكل هندسي يناسبها ، وكأن الروائح هي الضيف العريز ، فالمقعد للشخص ، وعلاّقة الثياب من أجل معطفه ، وعند العتبة المكان الملائم لحذائه ، وعلى الأرض الفرش اللازم لتمديد رجليه المتعبتين ، والحمام بشكله المناسب لكي يغتسل!!! .. فالروائح سبعة أساسية وبقية الروائح هي مزيج من هذه الروائح بنسب متفاوتة ، وهكذا فمكان استقبال الروائح الاتيرية متطاول بشكل حوض السباحة في

٢٢٥

الحمام ، والروائح المسكية لها مكان استقبال يشبه البركة المستديرة ، والروائح الزهرية لها مكان استقبال يشبه المفتاح ، والروائح الكافورية كأن مكان استقبالها طاسة الحمام!!! .. وهناك الروائح النعناعية والروائح الكريهة. وهكذا فاننا نشم رائحة الثمار ، والعسل ، والكافور ، والازهار ، والعطور ، والثوم ، والبصل والتبغ ، والمسك ، والجبن ، والطعام الشهي ، ورائحة اللحم الفاسد والنباتات المتفسخة!! وإذا كان الجو عابقاً برائحة طيبة فإن الانسان يشعر بالرائحة في الدقائق الثلاث الأولى ثم تبطل حاسة الشم ، ولعل الكثيرين منا شعروا بهذا الشيء عندما دخلوا وسطاً فيه رائحة طيبة أو كريهة.

إن الالياف تصعد إلى المخ حيث تستقر في منطقة أولى هي البصلة الشمية ثم تنتقل إلى مناطق أخرى مثل تلفيف حصان البحر ، وقرن آمون والجسم المشرشر .. إلخ ) وتمتاز بارتباط خاص مع مناطق كثيرة في المخ ، ولذا تشترك الرائحة مع إثارة شهية الطعام ، وتحريك الدوافع الجنسية ، كما تقوم بتأثيرات روحية مهمة ( يسن استخدام الطيب يوم الجمعة ) كما تشترك بأفعال الذاكرة ، وقوة الشم تزداد عند بعض الحيوانات مثل الكلاب مما يجعلها تتبع الاثار واكتشاف آثار الجريمة احياناً ، وتؤثر الرائحة ولو كانت بكمية زهيدة جداً فلقد وجد ان تأثير رائحة عطرية مثلاً تؤثر بتركيز يبلغ ٣٤ و ٤ × ١٠ ـ١١ ملغ في كل سم ٣ من الهواء أي ان الرائحة تؤثر فيما إذا بلغت حوالي خمسة اجزاء من (١٠٠) مليون

تمثيل لاشكال الجزئيات التي يقاله انها تسبب الاحساسات الشمية الخمسة الاول حسب النظرية الفراغية الكيميائية عام ١٩٦٤ نظرية آمور

٢٢٦

مليون من الغرام في السم ٣ ، وهكذا فان هذه الحواس عند الانسان هي نوافذ مدهشة حساسة بديعة رائعة دقيقة محكمة تصل الإنسان بالعالم الخارجي ...

حاسة الذوق

يعتبر الذوق من الحواس التي تستقر في اللسان وباطن الفم ، ويتحسس اللسان بأنواع مختلفة من الطعوم تبلغ ستة أنواع : الحلو والمر ، والمالح ، والحامض ، والطعم المعدني ، والقلوي وهذه المذاقات وبنسب مختلفة ، وهناك التقاء ما بين الطعم والرائحة حيث تؤثر بعض المواد برائحتها وطعمها فتسبب ما يسمى بالنكهة ، كما أن نفس هذه الطعوم والمذاقات تتوضع على اللسان في أمكنة محددة ، فالطعم الحلو تتوضع نتوآته الذوقية في مقدمة اللسان ، والطعم المر في مؤخرة اللسان ، وأما المالح فيتوضع على جوانب اللسان وذروته ، كما تحس به معظم أعضاء الفم ، مثل الشفتين والحنك وباطن الخدين ، وقع الفم ، وأما الطعم الحامض فيتوضع على جوانب اللسان.

وهذه النتوآت الذوقية عجيبة ومدهشة في تركيبها ، فهي تكون في اللسان ما يشبه الكهوف الصغيرة العديدة حيث تكون فتحة البرعم الذوقي صغيرة وتتمادى مع سطح اللسان وفي داخل البرعم ترقد الخلايا الذوقية وهي ترسل أهدابها التي تتحسس الذوق ويدخل العصب الذي ينتشر بأليافه من قاعدة هذه الكهف الذوقي .. وفي داخل هذا الكهف نرى الخلايا الحسية والخلايا التي تسندها ، والخلايا التي تحيط بالبرعم الذوقي ، وتتوزع البراعم الذوقية في الحليمات اللسانية ، والحليمات اللسانية

٢٢٧

ثلاثة أنواع ، الحليمات الخيطية ، والكمئية ، والحليمات الكأسية ، ولقد

وجد أن البراعم الذوقية تصل أحياناً في الحليمة الواحدة إلى (٢٥٠) برعم ذوقي ، ولقد قدر البعض أن عدد النتوآت ( البراعم ) الذوقية في اللسان تصل إلى حوالي (٩٠٠٠) برعم ذوقي تنقل طعم الأكل ، بأنواعه الأساسية وهي الحلو والحامض والمر والمالح ، كما تنقل أنواعاً متباينة من المذاقات ، فأنت تشعر بطعم الفاكهة من البرتقال ، والتفاح ، والموز والكرز ، والمشمش ، والأجاص ، والخوخ ، وطعم الخضروات من البندورة ، والخس ، والخيار ، والجزر والكوسا ، والباذنجان ، وبطعم الخبز ، والثريد ، والأكل اللذيذ ، من اللحم والدمس والمرق ، إلى أنواع لا يحصيها العد ، ولا نريد أن نسترسل فيها حتى لا يسيل لعاب القارىء!!.

ولننظر الآن إلى هذا اللسان العجيب الذي يحتوي على (١٧) عضلة للحركة ، وعلى غشاء مخاطي يغلفه ، وعصب خاص لتحريكه في كل نصف ، أي عصبان رأسيان هما العصب تحت اللسان الكبير في كل

٢٢٨

جانب ، و (٦) ستة أعصاب لنقل الحس ، ثلاثة في كل جانب هي : ( العصب اللساني لنقل الحس من مقدمة اللسان ) و ( العصب البلعومي اللساني من مؤخرة اللسان ) و ( العصب المبهم من البلعوم والمزمار ) ، وهذا اللسان ترقد فيه من النتوءات والبراعم الذوقية الآلاف ، ويحس بالاطعمة من شتى المأكولات ، وهو بعد كل هذا يستخدم في المضغ ، والبلع ، والذوق ، والتصويت فأي ممثل عجيب الذي يقوم بكل بهذه الأدوار. ولقد بلغت دقة التأثر في الذوق أن اللسان يحس بالطعم المر ولو بلغ تركيزه على اللسان أربعة أجزاء من مائة ألف ، وهو مع ذلك المكان الذي تخرج منه حروف كثيرة للنطق .. ( لقد خلقنا الانسان في كبد. أيحسب الن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالا لبداً. أيحسب ان لم يره أحد ، ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين ، وهديناه النجدين ) سورة البلد ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ).

فيا أيها القارىء العاقل انظر وتأمل ، ان القلب ليخشع ، وان العين لتدمع ، وان العقل ليركع ، أمام هذه الآلاء العظيمة ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) سورة الرحمن.

٢٢٩

اُجراس الإنذار في الجسم البشري

ما هو السير في الألم؟ كيف نحس بالحر والبرد؟ كيف نشعر بالآلام البطنية؟ كيف نعين الشيء الذي نلمسه بأصابعنا ، وما هي حاسة اللمس؟ كيف ينتقل الحس العضلي؟ إن هناك شبكة مخابرات هائلة منتشرة على مستوى سطح الجلد والطبقة التي تحته مباشرة!! وهي تنقل الإحساسات من العالم الخارجي ، وهكذا تتعاون الحواس جميعاً في تفهم المحيط الخارجي. إن انتشار الأعصاب تحت الجلد شيء لا يكاد يصدق ، وتنتهي الألياف العصبية بجسيمات خاصة يختص كل نوع منها بنقل حس معين ، فهناك جسميات تنقل الحر ، وأخرى تنقل البرد ، وثالثة للمس والضغط ، ورابعة الحس الآلم ، وخامسة تختص بنقل الحس العضلي أو ما يسمى بالحس العميق (١) ، وهكذا تتنوع الإحساسات وتتباين ، وهذه الجسيمات تتباين في أشكالها فهي أما بشكل سلال ، أو دوائر متحدة المركز فيها خط ، أو متطاولة مع ألياف عصبية متفرعة فيها ... وتبلغ في تعدادها أرقاماً هائلة فهناك ( ٣ ـ ٥ ) ملايين جهاز حسّاس للألم و ( ٠٠٠ ,٢٠٠ ) جهاز حساس للحر

__________________

(١) وجدت جسيمات مختصة بانماط الحس المختلفة مثل جسيمات دو جيل ومايستر للمس وشبكة لانفرهانس الألم ، وجسيمات روفيني للحر ، وجسيمات تومساً للبرد ، وجسيمات بانيني وواغنر للمس السطحي والعميق ، وجسيمات غولجي مازوني للمفاصل والاوتار.

٢٣٠

و (٠٠٠ ,٥٠٠) جهاز حساس للمس والضغط ، حتى يمكن أن يقال أن الجلد البشري ما هو إلا سطح يغطي شبكة هائلة من الألياف العصبية ، وهذا الجد عبارة عن خارطة مدهشة لتقاسم الأعصاب السيطرة عليها ، بحيث إن هناك (٦٢) عصباً يسيطر على الجسم ـ عدا الرأس ـ وتنقل الحس منه ، وفي الرأس (١٤) عصباً ، أي أن هناك (٧٦) عصباً تسيطر على مساحات الإحساس في الجسد البشري.

ولنحاول الآن أن نفهم شيئاً عن عمل هذه الأجهزة المعقد ، وأبسطها ما يسمى بقوس الانعكاس ، فأنت أيها القارىء إذا لامست شيئاً ساخنا فإنك تبعد يدك لا شعورياً وبدن إرادة منك وبسرعة تبلغ جزء من مائة من الثانية ، إن هذا يتم بواسطة نقل التنبهات عن طريق الأعصاب الحسية التي تصل إلى المنطقة الخلفية من النخاع الشوكي حيث تبلّغ الأخبار إلى الخلايا ، وقتوم الخلايا بالاتصال بالمنطقة الأمامية من النخاع حيث ترقد مفاتيح السيطرة على العضلات في خلايا القرون الأمامية ، ومن هناك تنطلق الأوامر إلى الأعصاب المحركة للعضلات المناسبة فتنسحب اليد بسرعة مدهشة وبشكل انعكاسي ، ولذا يسمى هذا الفعل بالقوس الانعكاسي ..

وبواسطة الجسيمات الحسية التي تنقل حس البرد والحر يحدث التوازن الحروري في الإنسان والذي يبقى عند درجة معينة لا يتعداها وهي (٣٧) درجة مئوية ، وإذا هبطت الحرارة إلى ما دون الـ (٢٥) درجة مئوية دخل الجسم في حالة تخدير وفقد الحس ، وهكذا فإننا نرى أن الحس له قواعد تنظمه ونواميس تسير أمره ، فمثلا إذا ارتفعت حرارة الجسم بدأ يتضايق منها ثم يدخل في مرحلة الألم من الحرارة ، ثم يصل الألم إلى ذروته ، ثم لا يتعدى هذا الحد فمهما زاد الحر حتى لو احترق الجلد فإنه لا يتعدى تلك الحدود القصوى التي وصلها ، وكذلك فان

٢٣١

الجسميات التي تنقل حس البرودة وهي جسيمات تومسا ، ترسل صيحات الخطر ، وإشارات الإنذا وتدق أدراسه ويزداد الأمر حتى يصل إلى

درجة يقف عندها ويتخدر الجسم ، ولذا فإنه من جملة طرق التداخل في العمليات الجراحية هي التبريد (١) ، حيث يعمل الجراح على قاب

__________________

(١) ان الخلية العصبية تعيش خمس دقائق بدون اكسجين ولكن التبريد إلى الدرجة ٢٨ مئوية يزيد من عمرها إلى ثلث ساعة ، وتبريدها الى (١٠) مئوية يطيل في حياتها نصف ساعة ، ولكن الهبوط من الدرجة ٢٨ الى ما دونها يعرض القلب للرجفان والموت ولكن النزول السريع في درجة الحرارة يقي من الرجفان.

٢٣٢

ناشف غير مدمى كما في عمليات الجراحة القلبية ولقد وجد أن أشد الألم كما في الحرق مثلاً يتوضع في الجلد السطحي بحيث أن الحرق إذا أصاب المناطق العميقة فإنه لا يؤلم بنفس الشدة ، وهذا يذكرنا بالآية القرآنية ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) سورة النساء.

إن شدة الاحساس وضعفه تتوزع في الجسم حسب الوظيفة التي يقوم بها العضو فهي في الشفتين والاعضاء التناسلية أشد ، وفي القرنية وهي بللورة العين الأمامية شديدة الحساسية وللألم بوجه خاص ، ولذا يستخدم المنعكس القرني لفحص سلامة الأعصاب حيث تمرر شعرة أمام القرنية فيلاحظ إطباق الأجفان السريع لحمايتها ، أما أخمص القدم فهو ضعيف الإحساس ، بينما أنامل اليدين تمتاز بمنتهى الحساسية لأنها مراكز تحسس الموجودات ، وهكذا يشعر الإنسان بالبرد والحر حيث تمثل فيه أجراس الإنذار فيقي نفسه من البرد والحر ، ولولا هذه الخاصية لهلك الإنسان من البرد والحر ، ولكنه مع هذا متزن في حرارته مهما تقلبت الظروف الجوية التي تحيط به.

إن الجسيمات الحسية هي أشبه بميزان الحرارة الخارجي الذي يقيس درجة حرارة الجو أو برودته ، ثم يرسل هذه الأخبار عبر نبضات عصبية كالتلغراف وفي ألياف لا يتجاوز قطرها ١/٤٠٠٠ من البوصة وبسرعة تبلغ (٢٠٠) ميل في الساعة أو أكثر ، وعندما تصل الانباء إلى مراكز القيادة في مناطق ما تحت السرير التي تكلمنا عنها فيما مضى ، يدرس الأمر ويفهم ثم ترسل الأخبار والاوامر بمنتهى السرعة إلى العروق الدموية السطحية وإلى الغدد العرقية ، حيث يكثر ورود الدم وإفراز العرق وبالتالي زيادة الاشعاع الحراري ، والتبخر المائي ، مما يوازن الحرارة

٢٣٣

من جهة كما يبرد الجسم من جهة أخرى ، وكل هذا بفضل الماء الذي يتمتع بهذه الخواص وهكذا تتزن حرارة الجسم ، ويستقيم أمره ، وتصلح أحواله على كل نحو.

وأما جسيمات اللمس فهي أدق ، فعن طريق تلمس الموجودات تشعر بسطحها الخارجي ، وهكذا يميز الإنسان ما بين الناعم والخشن ، والاملس والجعد ، وباللمس يعرف الشيء الذي تقع يداه عليه ولو كان مغمض العينين ، وهكذا يميز الانسان ما بين الورقة ، والقلم ، وقطعة النقود ، والكتاب والطاولة والجدار ، وسائر الاشياء والموجودات!! والمستقبلات العصبية هنا تتأثر بشكل آلي على ما يبدو ، وهكذا تتناسق الحواس مع المحيط الخارجي بشكل بديع ، فالعين مع الضوء ، والأذن مع الصوت ـ وتقوم على القواعد الفيزيائية ـ والشم والذوق على المستقبلات الكيماوية ، وهذه المستقبلات آية فكيف تنوعت استجابات هذا الكائن البشري الذي الذي حوى من الالغاز والاسرار ما يدهش الالباب ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) سورة التين.

وأما الجسيمات التي تنقل حس الالم فهي أعجب وأعقد ، فكيف تنقل الالياف العصبية كل هذه الاخبار المختلفة وكأنها الألوان المتباينة ، أو الطعوم المختلفة ، وكيف يدرك الدماغ معنى الالم؟ إن الطب يخبر ولكنه يقف عند عتبة الشرح والتفسير وكأنه سيدخل دغلاً سحرياً لا تكف أشجاره ، وموجوداته عن التغير في كل لحظة ...

وأما الجسيمات التي تنقل الحس العميق فهي تنقل أخبار العضلات والمفاصل والعظام والاوتار بحيث أن أي خلل بخبر عنه في منتهى السرعة ويعدل على الكيفية المناسبة ، فأنت الآن أيها القارىء لعلك جالس على مقعد مريح ولكن هل تعرف كيف تتناسق عضلات وجهك وجذعك في هذه اللحظة ، إن أكثر من خمسين مفصل ومائتي عظم ، وما يزيد

٢٣٤

على مائتي عضلة تتحكم في اتزان وضعك هذا ، ولولا هذا الاتزان لسقطت منبطحاً على الأرض ، فمن يوازن كل هذه الاشياء؟ إن الحس العميق هو الذي ينقل الاخبار إلى المراكز العليا ثم يشتسرك المخيخ مع الحس العميق مع دهليز الاذن في تحقيق التوازن والقضاء على الفوضى وعدم الاتزان.

ومن خلال دراسة هذه الحواس العظيمة في الإنسان وفي الكائنات الأخرى استطاع العلماء ابتكار أشياء جديدة ، مقلدين بذلك هذا الوجود وكيف تسير نواميسه ، ومن هذه الأشياء نذكر شيئين : الأول ما يتطق بالمستقبلات الحرارية ، والثاني بما فوق الأصوات ، فلقد مر معنا أن الانسان يسمع الأصوات التي تتراوح ذبذباتها ما بين (١٦) هزة إلى (٢٠) ألف هزة في الثانية الواحدة ، وإذا تجاوز الرقم الأخير عجز الإنسان عن السماع ، وتسمى بما فوق الأصوات وهي تتعلق بحدة الصوت ، فلقد وجد أن هناك حيوانات لها من قوة إرهاف السمع ما يفوق الإنسان مثل القطة التي تسمع الأصوات التي يبلغ تواترها (٥٠) ألف هزة في الثانية ، والفار يسمع الأصوات التي يبلغ تواترها (٤٠) ألف ، والشمبانزي (٣٣) ألف ، وأما الخفاش فهو أعجب الحيوانات في هذا المجال حيث يسمع (١٢٠) ألف هزة في الثانية الواحدة ، ومن جملة أسرار الوجود العجيبة ، هذا الكائن الذي قلده العلماء في اكتشاف جهاز الرادار ، فهو حيوان ليلي يعيش في الكهوف وينشط في عمله اثناء الظلام فلا قيمة للرؤية في هذا الوسط ، ولذا فهو يبعث صرخات ما فوق الصوت ثم تنعكس إليه ثانية فيسمعها بأذنيه الكبيرتين ، وهكذا يقدر بدقة بعد الأشياء والفرائس عنه مع تحديد اتجاهها بشكل رائع ، وكل هذا بفضل قدرته على سماع التواترات العالية ، ومبدأ الرادار في اكتشاف الطائرات من الناحية المبدئية يعتمد على نفس الفكرة.

٢٣٥

وأما المستقبلات الأخرى فهي المستقبلات الحرارية عند نوع من الثعابين هي ( الأفعى المصوتة ) أو ( الثعبان المصوت ) فهو يملك في الحفر الوجهية التي عنده نوعاً من المستقبلات الحرارية هي انتفاخات تحيط بنهايات الأعصاب ويبلغ عددها ( ٥٠٠ ـ ١٥٠٠ ) واحدة في الملم ٢ من الحفر الوجهية ، وبهذه الطريقة يمكنه أن يكتشف خلال ( ٥/٠ ) نصف ثانية جسم فأر تزيد درجة حرارته ( ١٠ ٥ ) عشر درجات مئوية عن المحيط ، ويبعد (٤٠) سم عن الثعبان ، إن هذه الطريقة العجيبة في تحديد الكائنات الحية التي تبعث بالحرارة الغريبة ، وقد استخدم نفس المبدأ في صواريخ الهوك التي ، تلحق الطائرات التي تولد الحرارة بشكل طبيعي أثناء تحليقها أو هجومها ، باعتبارها تحرق وقوداً ولا تطري بدونه ..

والآن إلى بحث شيق من أبحاث الترابط في الجسم وهو بحث الغدد الصم ...

الغدد الصّمّ الداخليّة

سميت هذه الغدد بالغدد الصم لأنها تلقي بمفرزاتها إلى الوسط الداخلي ، أعني الدم ، ولذا فهي صم مغلقة ، وهذه الغدد صغيرة في حجمها ووزنها ، ولكنها كبيرة في فعاليتها وتأثيرها ، وهي تكوّن ما يشبه الملك الذي يتربع على العشر ممثلاً في الغدة النخامية ، وبقية الوزراء الذين يسيطرون على فعاليات الجسم ويصرفون أمورها ، فالغدة النخامية هي التي تسيطر على فعالية بقية الغدد في الجسم ، وهي تترابط مع الإدارة العامة ، أي الدماغ ...

إن إدارة أمور البدن تتم بكيفيتين : الأولى سريعة عن طريق

٢٣٦

الأعصاب ، والثانية بطيئة عن طريق الأخلاط الداخلية التي تنقل الهورمونات المؤثرة ، وبهذه الكيفية يتزن البدن أمام الأمور مفاجئة السريعة ، ومع ظروف المحيط المتقلبة ، وهذه الهورمونات أو الحاثات لها مراكز خاصة للإفراز تسمى الغدد الداخلية وتبلغ في الوزن مائة غرام لكل الغدد .. وتعتبر الغدة النخامية ملكة الغدد الأخرى ، أو دماغ الغدد الأخرى ، أو هي مفتاح للأخلاط البدنية ، وهذه الغدة ترقد في تجويف عظمي في أسفل عظم القحف ، ويسمى بالسرج التركي ، وتبلغ في الوزن حوالي نصف غرام ، وفيها ثلاث فصوص ، أمامي وخلفي ومتوسط ، ومن هذه الفصوص الثلاثة تفرز (١٠) عشرة هورمونات حسب آخر التقارير العلمية ، وهذه الغدة تقع من ناحية التشريح العصبي أسفل السرير البصري ، ولذا فهي تتصل بمناطق ما تحت السرير ، وهكذا فإن مركز القيادة العامة يستقر في الدماغ ، ومن هذا المركز يحدث الاتصال مع ملكة الغدد ، وهذه بدورها تفرز الهورمونات التي تحث البدن على القيام بوظائفه. وهنا نتساءل : كيف تؤثر هذه الهورمونات أو الحاثات او الرسل النخامية فتقنع الغدة الدرقية والمبيض والخصية وقشر الكظر والعظام والمفاصل والعضلات والثدي والجلد والعروق الدموية وعضلة الرحم والكلية ، أقول : كيف تقنع كل هذه الأعضاء ، وبكم من اللهجات واللغات ، حتى تنشط وتشتغل؟ فإذا بالدرق يفرز التيروكسين ، وإذا بالمبيض يهيء البيضة الانسانية التي تعتبر نقطة إنطلاق تخلّق الانسان ، وإذا بالخصية تهيء الحيوانات المنوية ، وإذا بقشر الكظر يفرز قرابة ثلاثين هورموناً لينظم الشوارد المعدنية والماء والسكر في الدم كما ينظم ضغط الدم ، وإذا بالعظام والمفاصل والعضلات تنمو بشكل متناسق متكامل حتى توصل الطفل الصغير إلى مرحلة الشباب والنضارة والقوة ، وإذا بالثدي يفرز الحليب شراباً سائغاً للطفل يبني جسمه وعظامه ودماغه ودمه وأخلاطه وغدده ومفرزاته ، وإذا بالجلد يفرز صباغاً خاصاً

٢٣٧

يلون الجلد بما يناسب حرارة المحيط ، ومقدار نوره ، وهكذا نرى الجلد الأبيض والأسمر والحنطي والأسود ، وإذا بالعروق الدموية تتوسع وتتقبض بما يناسب حاجة البدن ، وإذا بعضلة الرحم تتقلص وبشكل منتظم وفي وقت معين حتى تخرج الجنين إلى درب الحياة ، وإذا بالكلية تمتص المفرزات وتنظم السوائل وتعدل المعادن وتفرز النشادر ، وتطلق الهيدرجين ، فكيف تمكنت هذه الملكة العظيمة أن تتحدث بكل لهجات ولغات شعبها المطيع!! لا حرج في ذلك فهذا دأب الحكام المخلصين الذين يريدون أن يتفهموا مشاكل شعوبهم حتى يحلوها فالأمير خادم لقومه ( إنّا كل شيء خلقناه بقدر ).

إن أول الغدد التي نبحثها في الجسم هي الغدة النخامية ، وهي تفرز عشرة هورمونات كما ذكرنا ، فما هي هذه الهورمونات وأين تؤثر؟

إن ستة من هذه الهورمونات تفرز من الفص الامامي للغدة النخامية ، وهي كما نرى تؤثر على أعضاء أخرى ، فمثلاً هورمون أو حاثّ الغدة الدرقية يؤثر على غدة الدرق ، بينما غدة الدرق هذه تؤثر على الدم والجسم بمجموعه العام ، وهذا واحد ، والشيء المهم هو الاتزان البديع الرائع في إفراز الهورمونات ، فالشيء الاول أن الإفراز متقطع غير مستمر ، بمعنى أن إفراز هذه الهورمونات يمشي بشكل موجات كأمواج البحر في أخلاط الجسم الزاخرة ، وكأن جسم الإنسان هو خلاصة مكثفة لهذا الموجود ففيه أمواد البحر ويابسة البر وقمم الجبال!!!

والشيء الثاني هو التضاد ما بين الغدة النخامية وبقية الغدد التي تؤثر عليها ، وكأنه هذه الهورمونات أثقال متوازنة في كفتي ميزان يزن أدق العيارات؟ كيف لا والهورمونات تؤثر بمقادير زهيدة جداً تبلغ واحداً من مليون!! وكيف يقع هذا التثبيط والاتزان الرائع؟

٢٣٨

لقد وجد أن مفرزات الغدة النخامية تحرض الدرق ( مثلاً ) على إفراز مادة التيروكسين ، والتيروكسين هو هورمون الغدة الدرقية الذي يقوم بنشاط متعدد الوجوه على مستويات متعددة في البدن سنذكرها بعد حين ، والتيروكسين يقوم بفعل معاكس لهورمون الغدة النخامية ، فكلما زاد إفراز الغدة النخامية زاد نشاط الغدة الدرقية وزاد التيروكسين ، وزيادة إفراز التيروكسين يلجم ويثبط النخامة فكلما زاد التيروكسين في الدم كلما ثبط الغدة النخامية أكثر ، وإذا قل مفرز الغدة النخامية قلّ إفراز التيروكسين وبالتالي تحررت النخامة وزاد افرازها ، وهكذا تمشي هذه العجلة البديعة والحلقة الرائعة من التوازن بين هورمونات الغدة النخامية ، والهورمونات التي تفرز من الغدد التي تحرضها النخامة على الإفراز ...

إن الفص الامامي من النخامة فيه أنواع متباينة من الخلايا ، وكل نوع من هذه الخلايا يمثل المصنع الذي ال يقف عن الصنع والتحضير وإعداد الهورمونات لإرسالها الى الدوران العام خاصة ، وهناك جملة أوردة كبيرة تحيط بالنخامة أهمها الجيب الاكليلي لانه يشبه الإكليل الذي يلبسه الملك ، ولا عجب في هذا فالنخامة ملكة الغدد كما ذكرنا ، وهذه الهورمونات التي تفرز من الغدة النخامية إلى الدوران معقدة جداً في تركيبها ، فهي تتجمع من عشرات الاحماض الامينية وليست ذرات بسيطة كما يتصور ، كالحاثة المنشطة القشر الكظر وتسمى اختصاراً بـ ( .C. A. H. T ) تتكون من اجتماع (٣٩) تسعة وثلاثين حمضاً أمينياً ويبلغ وزنها الذرى (٤٥٠٠) (١) ، ولقد استطاع العلماء تركيبه من الناحية

__________________

(١) تحدثنا فيما مر معنا عن معنى كلمتي ( حمض أميني ) وكلمتي ( وزن ذري ) يرجع اليهما.

٢٣٩

الصنعية ، ولكن ما القول في هورمون (١) النمو الذي يجمع (١٨٨) حمضاً أمينياً ووزنه الذري (٢١٥٠٠) وحاثة افراز اللبن التي تتكون من اجتماع (٢٠٦) حمض أميني ، وهورمون الغدة الدرقية الذي يبلغ وزنه الذري (٣٠٠٠٠) ثلاثين ألفاً ، والحاثات التناسلية التي بلغ وزنها الذري (٢٩) ألف ، كما أن عمر هذه الحاثات التي تفرز من الغدة النخامية قصير ، فهورمون أو حاث قشر الكظر يعيش حوالي (٥ ـ ٢٠) دقيقة من نصف عمره الحيوي (٢) ، وهورمون النمر يبلغ نصف عمره الحيوي (٣٥) دقيقة ، ومغذي الدرق أقل من ساعة.

وقارن أيها القارىء بين قدرة الخلايا في إنتاج هذه الحاثات بهذه السرعة ، وبين اجتماع العلماء والجهود والاموال والخبرات والمصانع والانكانيات والادمغة من أجل تقليد هذه الخلايا المتواضعة لتركيب حاث صغير عدد أحماضه الامينية (٣٩) وليس (٢٠٦) أو ثلاثمائة ، لان إنكانيات العلماء والمخابر لم تصل بعد إلى هذا المستوى ، فكيف بتركيب الحلية بالذات فضلاً عن إيجاد ذبابة ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) سورة الحج ...

إن الهورمونات الستة التي تفرز من الفص الامامي للغدة النخامية هي هورمون النمو ويرمز له بالرمر GH ، ويقوم هذا الهورمون بالاتصال بمحطات توليد النمو في الجسم ، وهي العظام والغضاريف

__________________

(١) كلمة هورمون وحاث لهما نفس المدلول ولكن كلمة هورمون هي مستعملة في اللغة الأجنبية ودرج استعمالها في اللغة العربية.

(٢) يقصد بنصف العمر الحيوي هي غياب نصف المادة من الدم في هذه المدة من الزمن.

٢٤٠