الطبّ محراب للإيمان - ج ١

الدكتور خالص جلبي كنجو

الطبّ محراب للإيمان - ج ١

المؤلف:

الدكتور خالص جلبي كنجو


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧١

البعيدة المدى ، حيث أن بطء التنفس يؤدي إلى تراكم غاز الفحم في الجسم ، وغاز الفحم هذا له تأثير خاص على المراكز التنفسية فهو الذي ينبهها ، وليس الاكسجين ، وهذا أمر يدعو إلى التأمل ، وعندما تصل الأوامر والتنبهات إلى مركز التنفس العام ويكون الوضع فيه شيء من الخلل يعدّله على الفور فإذا زادت كمية الفحم انطلقت الأوامر تخبر أن الجسم في خطر من زيادة غاز الفحم فتتحول الأوامر إلى تلك البالونات الصغيرة جداً والمسماة بالأسناخ الرئوية حيث تمتلىء بشدة بالهواء ويزداد بالتالي ورود الاكسجين ، وهكذا فإن أي زيادة أو نقص في الغازات يعدل فوراً وإلا دخل الإنسان في غيبوبة ثم إلى الموت إذا لم يسعف. إن زيادة غاز الفحم بمقدار ٢ و ٠% يجعل حجم الهواء المتنفس مضاعفاً كما ان نقصه ٢ و ٠% يوقف التنفس.

وهكذا فإن الإنسان في تنفسه كأنه يعبر شلالات نياجراً على حبل ممتد فوقها ومعه عصا للتوازن وأي ميل إلى الجانبين يرديه إلى الخطر المبين ، وبهذه الكيفية السحرية يتنفس الإنسان يومياً (٢٣٠٠٠) مرة بمعدل ١٦ مرة في الدقيقة ولا يستطيع أن يبقى بدون هواء أكثر من دقيقتين ، وتنتفخ اسناخه التي تبلغ ٧٥٠ مليون سنخ والتي تفرش سطحاً يبلغ مساحته (٧٠) متر مربع في متوسط الحياة (٢٠٤) مليون مرة مع العلم أنها تنقي الدم بمعدل ٥ ليترات في كل دقيقة!! فتباركت اللهم واهب الحياة ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ). سورة تبارك.

تمتمة القلب وتسبيحه وعلاقته بالتنظيم الحروري :

وأما تنظيم ضربات القلب فهي أيضاً سر من أسرار الخلق والابداع ،

١٤١

فهو ينبض بمعدل ٧٠ ضربة في الدقيقة الواحدة أي بمعدل يصل إلى (١٠٠) ألف مرة يومياً و ٤٠ مليون مرة سنوياً ، وما يزيد عن (٢٠٠٠) مليون مرة في متوسط العمر ، ولننظر إلى هذا التسبيح العظيم الذي لا يكف ، ولا يفتر ، في ليل أو نهار ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) ولننظر أيضاً إلى الآية الرائعة في الجسم والتي هي تنظيم الحرارة ، ان هناك ما يشبه ميزان الحرارة داخل الجسم ، فإذا جاءت الأخبار الحسية من الجلد تخبر عن الوسط الخارجي ودرجة حرارته سارعت هذه المناطق الكائنة في الجذع الدماغي وما فوقه إلى جهاز الدوران تستحثه على أن يحمي الحدود الخارجية وتأمره أن يقوم بدور العامل المخلص في هذه الأزمة ويستجيب جهاز الدوران المرن المتاهب وهو يقول إن الأزمات هي التي تكشف الرجال ( وتجدون الناس معادن ) وسرعان ما تحدث تقلصات العروق الدموية ونضح القلب للدم بما يفي حاجة الجلد ، فإذا كان بارداً قل تدفق الدم الذي يحمل الحرارة ليعدل البرودة والعكس بالعكس وعندما يحصل الاتزان تبعث الجسيمات الحسية بشكرها العميق إلى المركز العام المنظم وتدعو له بالخير ودوام البقاء!! ..

النطق والبيان :

وأما تنظيم عملية التصويب والنطق فإنها أعجوبة بحد ذاتها لولا أنها تحصل في كل لحظة لكل من ينطق من أبناء البشر فينسون بالألف والعادة هذه المعجزة.

ولنتملى في هذه الآية العجيبة قليلاً .. أولاً : كيف يتم التفكير والإدراك والتخيل وتركيب الكلمات والجمل والأفكار وربط كل هذا بعضه إلى بعض بحيث يخرج الكلام منسجماً متوازناً يهدف إلى معنى ، إن هذا يقف الطب حتى الآن عن الإجابة عليه ، ثم كيف يستخدم

١٤٢

الإنسان الأسماء حتى يتفاهم مغ غيره على الشيء الذي يريده أيضاً معجزة من المعجزات ، ثم كيف يتنقل هذا الأمر من عالم الماديات المحسوسة إلى عالم الروح والفكر حيث يتم التعبير بالأشياء المجردة ، الحق يقال إننا درسنا عمومات الطب من أوله حتى آخره ، ومع ذلك لم نستطع حتى الآن أن نفقه هذه الاسرار ، كما ان الاطباء الذين يبحثون هذه القضايا يقفون مشدوهين امام هذه الظواهر الفذة العجيبة المحيرة ( الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. ) سورة الرحمن ، إن النطق في مستواه الفكري قبل البحث عن كيفية حدوث التصويت بعد ظاهرة غير مفهومة في عرف العلم ، وحقاً إن الإنسان محير بتركيبه ... ثم لنتأمل على المستوى المادي ، إن الحبال الصوتية بفضل تقلصها وارتخائها بالاضافة إلى عضلات اللسان ، وغضاريف الحنجرة ، وعضلات الوجه ، وإطباق الشفتين ، ثم الأجواف المحفورة في الجمجمة هي التي تعطي الصوت رنينه الخاص لكل إنسان بحيث يكون لكل إنسان صوته المميز الخاص ( فورب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم تنطقون ) سورة الذاريات.

وأما الأعصاب فهي تلعب الدور المهم في اعطاء الأوامر الى العضلات المناسبة بحيث تتناسق هذه العضلات مع بعضها البعض فيرتخي قسم حين حين ينقبض قسم آخر فلا يطغى عمل على عمل ولا يفسد عمل عضلات عمل عضلات أخرى ، فإذا انطلق الهواء من الرئتين فإن الحبال الصوتية هي التي تعترضه أولاً حتى يخرج الحرف الحلقي المناسب وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين ثم ينطلق الى الفم حتى يخرج من أحد زوايا اللسان أو من مقدمه أو من إطباق الشفتين ، هذا بالنسبة لمخرج الحرف الواحد ولنتأمل طويلاً كيف يجب أن ينطلق الهواء وبسرعة هائلة حتى يقذف من مكانه المناسب فيخرج الحرف المناسب ثم يتبعه صوت آخر ليتحول الى مكان آخر حتى يعبر عن حرف آخر

١٤٣

وهكذا حتى تكتمل كلمة واحدة تعني شيئاً معيناً ، وتتابع الحروف عجيب لأن الحرف الأول من الكلمة قد يكون مخرجه من الشفة بينما يكون الحرف الثاني الذي يليه مباشرة من الحلق والثالث من جانب اللسان ، فإذا اكتملت الكلمة الواحدة تتابعت كلمات اُخر وتتابعت الجمل فإذا معنى جميل يدركه الذهن ( وما أدراك الذهن؟!! ) ، ويجب أن نلاحظ أن العضلات والغضاريف والحبال الصوتية مزدوجة وهناك تناسق عجيب ما بين الشطرين فإذا حصل خلل ما في المخيخ مثلاً الذي يقوم على تناسق عضلات التصويت حدث المرض المعروف بالرتة وهو تقطع الكلمات وعدم فهم ما يقدله المريض تماماً الا بصعوبة ، ولنعلم أن هذه العمليه المتكررة يشرف عليها ثلاثة أعصاب رئيسية وألياف عصبية وفروع عصبية صغيرة لا تحصى ، بالاضافة الى سبع عشر عضلة في اللسان وما يزيد على (٢٠) عضلة في الوجه ، فأي ابداع وأي عظمة هذه ..

شرطي المرور المتواضع :

ثم لنقف عند شرطي المرور المتواضع المسمى بلسان المزمار والذي يقف عند تقاطع الطرق القادمة من الانف والفم والتي تصب في المري الموصل إلى المعدة ، وفي الرغامى الموصلة إلى الرئتين ، ان شرطي المرور هذا يقف عند تقاطع طرق ولكنها من أخطر المناطق في الجسم لأن شرب نصف كأس من الماء إذا وصل إلى الرئتين كان معناه إما ما يشبه الاختناق والموت أو السعال لمدة لا يعلمها الا الله حتى تطرد جميع جزئيات الماء الداخلة ، فكيف بالمأكولات؟ إن معناها الموت الزؤام لأنها سوف تسد الطرق الهوائية وتؤدي إلى الاختناق.

ولقد ذكرنا فيما سبق أن انقطاع الاكسجين لمدة خمس دقائق عن

١٤٤

الدماغ معناه موت الخلايا العصبية النهائي الذي لا رجعة فيه ، إن هذا الشرطي المخلص لا يرتاح لحظة واحدة من ليل أو نهار لأن عملية البلع مستمرة حتى بدون طعام وشراب وهو يشير بيده الكبيرة التي تشبه الملعقة الواسعة حيث يمرر اللقمة أو اللعاب إلى المري ثم ينزل لتستمر عملية التنفس كما هي ، ان جميع الجسم لا ينسى له هذه الخدمة ويمده بالغذاء والحاجات التي يحتاجها ويزيد ، إن هذا الشرطي المتواضع يأخذ راتبه المفرز له من الجسم عن طريق الدم والأخلاط ثم يتابع عمله بدون أن يظهر الغرور ، بل يقوم به في منتهى الإخلاص.

عملية المضغ :

وأما عملية المضغ وتنظيمها فهي أيضاً من اختصاص المنطقة التي نبحثها ومن آيات الإعجاز في البدن ، فالفم هو ذلك الطاحون الصغير الأنيق ، حيث تقوم الأسنان بضغط يصل إلى خمسين كيلوغرام على السنتمتر الواحد المربع بفضل العضلات الماضغة ، ولنا أن نعرف ان أربعة عشر عضلة تشترك في المضغ منها ستة لرفع الفك السفلي إلى أعلى وستة للخفض وواحدة في كل جانب للتحريك الجانبي وتتضافر أربعة منها للحركة الأمامية الخلفية وهذا الطاحون الصغير فيه منطقة ثابتة ومنطقة متحركة حتى يحصل التمكن من هرس وطحن المواد ؛ ولذا فان الفك السفلي هو المتحرك فقط ، وأما الأسنان فهي اختصاص قائم بذاته فمنها للتقطيع ومنها للتمزيق ومنها للجرش والطحن ...

تنظيم النوم :

ومن جملة اختصاصات هذه المنطقة التي نبحثها ـ منطقة أسفل الدماغ ـ تنظيم النوم عند الانسان ، ويعتبر النوم من آيات الاعجاز في تركيب الكائن الحي ، ومن الأمور التي تذكر بالموت : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل

١٤٥

ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) ، فقد وجد ان الآلية التي يتم بها النوم آلية معقدة لم تكشف أسرارها النهائية حتى الآن ، ومن جملة النظريات التي قيلت : إن حالة اليقظة تولد مواداً سامة مترقية تؤثر على الجهاز العصبي فتدعوه إلى النوم ، كما قيل بوجود هورمون خاص للنوم ، وذكل ان انفصال الواحدات العصبية عن بعضها في مكان التمفصل وانقطاع مرور السيالة العصبية يدخل الجهاز العصبي في حالة النوم والراحة ، ولكن هذه النظريات تهاوت الواحدة تلو الأخرى ، ومع جهود العلماء المضنية تبين لهم وجود بعض المناطق التي تسيطر على النوم واليقظة وتبين ان نمو بعض الأورام في هذه المناطق يؤدي إلى نوب الوسن والنوم ، كما ان حالة التهاب الدماغ النومي تدل على أن تخريب بعض المناطق يؤدي بالمريض إلى فقد حالة اليقظة ودخوله في حالة من تغيّم الوعي والنوم ، وفي الحقيقة يعتبر النوم مهماً جداً للكائن الحي ولولا النوم لما استطاع الكائن الحي أن يتابع مسيرة الحياة ، ولا يستطيع الرجل العادي ان يبقى بدون نوم أكثر من أيام قليلة لأن الحرمان من النوم يعتبر من الآلام لامضنية الشاقة المعذبة التي لا تطاق ، وعندما جربت بعض التجارب على الجنود لترك النوم كان ضبط الأمر في منتهى الصعوبة لأنه لا يمكن إلا أن يأخذ الانسان ولو غفوة بسيطة لا ينتبه لها ، ولقد تبين ان الجسيمات العصبية الموجودة داخل الخلية العصبية المسماة بجسميات نيسل لها علاقة بالتعب والراحة حيث وجد انها تنقص وتميل إلى الاختفاء في التعب والمجهود الفكري ، ولكنها في الراحة والنوم ترجع كما كانت ، إن هذه الظاهرة لفتت نظر العلماء ... ولكن ما هو السرّ الذي يكمن وراءها يا ترى؟

إن النوم يمثل حاجة البدن كالطعام والشراب والغريزة الجنسية تماماً ،

١٤٦

ولذا فلا عجب اذا كان الانسان يقضي ما يقرب من عشرين سنة من حياته في النوم لأن ثلث العمر يمضي في النوم ، وكما ان العضلات ترجع الى طبيعتها بالراحة كذلك فان راحة الجهاز العصبي هي النوم ، لأن الجهاز العصبي يعمل بمجرد الاستيقاظ ولا يعرف طريقه إلى الراحة مطلقاً فهو يتلقى الملايين من الأخبار من الأجهزة الحسية عن طريق الجلد والحواسية عن طريق الحواس ، والحس النباتي أي أخبار الأجهزة الداخلية باستمرار في كل لحظة ، وأي خلل في هذه العناصر يستدعي الدماغ القيام بعمل إضافي ، ولكنه مع هذا في حالة راحة الجسم المطلقة يعمل ويكفي انه يعمل على أرقى المستويات وهي العمليات الذهنية الراقية ، ومع هذا يجب أن نعلم أن الدماغ ـ حتى في حالة النوم المطلقة ـ يستمر في العمل فهناك حراس المناوبة الذين لا يقفون عن العمل وهم الذين يسهرون على عمل القلب وتنظيم سرعة التنفس وتعديلها بما يناسب ، وصرف الحرارة اللازمة حتى يبقى البدن في الحرارة المعهودة وهي في حدود ٣٧o درجة مئوية ، وكذلك ترسل الأوامر إلى الامعاء حتى تستغل فرصة راحة البدن فتقوم بتفتيت الطعام وامتصاصه وتمثله وتخزينه أو حرقه حسبما يريده ويحتاجه البدن ، وكذلك ترسل الأوامر إلى عضلات المستقيم والمثانة حتى ترخي وتستوعب مخلفات الاحتراق وهي البول والغائط ، ونقف هنا لنتساءل. ولكن إذا امتلأت قد تخرج من مكانها وتنفلت للخارج؟!! لا حرج أرسلوا الأخبار السريعة إلى العضلات التي تضبط المستقيم والمثانة من الخارج وهي فوهات الخروج أو ما تعرف بالمصرّات الخارجية فيشتد تقلصها ، وهكذا تحبس هذه النفايات المتخلفة من احتراقات الحسم وبقاياه. وأما العين فيجب أن ترسل الأخبار إلى الفتحة التي تتلقى النور لتنقبض إذ لا حاجة للعمل ، ولذا فان محل التصوير يجب أن يغلق!! وهكذا تنقبض الحدقة ويصغر حجمها!! ... ( وجعلنا نومكم

١٤٧

سباتاً ، وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً ) ...

ولكن هل النوم أيضاً هكذا بدون زمن محدد ، فلينم الإنسان ما يشاء؟ كلا بالطبع ، لقد وجد أن المعدل الطبيعي الجيد لراحة البدن وسطياً ما بين ٦ ـ ٨ ساعات وهذه النسبة تزداد عندما يكون الولد صغيراً ، ويعتبر الجنين في نوم مستمر وهو في رحم أمه ، وأما الرضيع فهو أيضاً ينام كل الوقت إلا إذا شعر بالجوع أو الألم ، ثم تنقص النسبة حتى تصل إلى اقل من ٦ ساعات عندما يكون الإنسان في مرحلة الشيخوخة ، وهنا نقف لنتساءل : هل تستمر هذه النسبة في الحياة الأخرى فيبقى فيها الإنسان في حالة يقظة دائمة؟ أما أهل النار فيقول الله تعالى : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ) ويقول ( لا يموت فيها ولا يحي ).

وأما أهل الجنة فيبدو أن انقلاباً في تكوينهم سيحدث على ما ورد في الحديث المروي في الصحيحين : ( ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء اضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يتفلون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم ـ العرق ـ المسك ، ومجامرهم الألوّه ـ العود الذي يتبخر به ـ وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ).

وكما ان قانون الاتزان يسري على كل أعضاء وأخلاط البدن كذلك فانه يسري في النوم ، ولذا فان الزيادة فيه تؤدي إلى المزيد من النعاس والنقص فيه يؤدي إلى الضجر وعدم الراحة ، وخير ما يقال في هذا المجال حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المروي في صحيح البخاري : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فاذا استيقظ وذكر الله انحلّت عقدة ، فان

١٤٨

توضأ انحلت عقدة ، فان صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) (١) ، وان الذي يتأمل في هذا الحديث وما ورد في شأن قيام الليل يأخذه العجب كل مأخذ من دفع النشاط والحيوية في الانسان بحيث ان هذا الأمر يحتاج إلى بحث مستقل بذاته ، فمثلاً من جملة الاسرار لقد وجد ان الانسان في نوم عميق في الساعة الأولى ثم يخف هذا الأمر وخاصة بعد الساعة الثالثة من النوم وهذا يجعلنا نربطه مع الحديث المروي في الصحيحين عن صلاة النبي داوود عليه الصلاة والسلام وصيامه ( أحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً ، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) وكذلك الآيات الواردة في سورة المزمل عن قيام الليل ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو أنقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا ، ان ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا ) وصدق القرآن الكريم حيث يكون سكون الليل الذي يعين على فهم القول أكثر ويشتد وقع الكلام على النفس أكثر ، والمهم هو أننا نقف أمام ظاهرة في منتهى الخطورة من جهة وفي منتهى الأهمية من جهة ثانية وهي تنظيم الحياة والنوم فالاسلام حض على أشياء معينة لها دور مهم وعظيم في دفع النشاط والحيوية في قلب الانسان وجعل الجملة العصبية المركزية في اتزان وصحة جيدة ، ان هذا يجعلنا نسرع إلى التطبيق أولاً ، وقبله نشعر بالعظمة الهائلة التي تظلل هذه النصوص وهي تتحدث عن أمور جاء الطب الحالي ليوضح بعض جوانبها ، ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضلة ان في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) سورة الروم ...

__________________

(١) صحيح البخاري.

١٤٩

ومن جملة الأشياء المحيرة في ظاهرة النوم هي الاحلام التنبؤية ، حيث ان الاحلام عدة أنواع فرؤية بعض الاشياء التي لها علاقة بحوادث اليوم أو ما يفكر فيه المرء بشكل كبير قد يفسر الى حد ما ، وذكرنا كلمة الى حد ما لان نفس هذه الاحلام التي تعلل ببساطة يتعجب المرء كيف يمكن لهذه الصور الجديدة أن تتجمع من أكداس محتويات الذاكرة ، فصورة ما قد يكون المرء لم يرها طول عمره يراها في المنام فكيف تم تشكيل هذه الصورة الجديدة؟ ثم ماذا يقول لنا الطب عن بعض الاشياء التي يراها الانسان في المنام ثم تتحقق معه بعد فترة من الزمن قصيرة او طويلة ، وروى لي الكثير من الاخوة هذه الظاهرة منها حادثة رويت لي عن أحد الاخوة عندما كان في كرب نفسي ومادي شديد ، وكان هذا الرجل يتوقع أن يستشهد في سبيل الله ، ولكن بعد نوم في تلك الليله قابل أخاً آخر كان قد سبقه في الشهادة فأراد أن يصافحه الاول فرفض الآخر ، وفهم هذا الاخ وكان ينتظر الموت ما بين لحظة وأخرى انه لن يموت في هذه الفترة ، وفعلاً فرّجت عنه هذه الازمة بعد ذلك ولم يمت ، ولعل هذه الحادثة لو رويت بتفصيلاتها فيها عبرة كبيرة ولكن رويناها بسرعة كشاهد صغير ، وعلى هذا يمكن أن نقول ان ظاهرة الاحلام التنبؤية يقف الطب أمامها حائراً ذاهلاً لا يستطيع لها تفسيراً ، وهذا المثل مروي بشكل واضح بيّن في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام عندما رأى الكواكب والشمس والقمر تسجد له ثم فسّر الامر بعد ذلك في مدى يزيد عن عشرين سنة ...

حركة الاوعية الدموية :

ونأتي الى سر آخر محير من أسرار هذه المنطقة التي نبحثها والتي لا تتجاوز في المساحة بضع سنتمترات والتي سميناها منطقة أسفل الدماغ وما تحت السرير والجذع الدماغي.

١٥٠

من جملة الاشياء التي تنظمها هذه المنطقة الصغيرة في حجمها ، الكبيرة في فعلها تنظيم حركة الاوعية الدموية ، فالانابيب التي يمر فيها الدم تبلغ من الكثافة والانتشار حداً لا يكاد يصدق في البدن حيث يبلغ طولها ما يزيد عن مائة ألف ميل وهي تتغلغل بين جميع أنسجة الجسم حتى العظم الكثيف وتروي جميع المناطق التي تصل اليها ، وهذه الانابيب هي أشد مرونة من المطاط لان فيها أليافاً عضلية مرنة على طول جدارنها بحيث إن استرخاء هذه العضلات الصغيرة يؤدي الى توسع الانابيب ، وبالتالي هبوط الضغط الدموي (١) ، كما ان تقلص هذه العضلات يؤدي الى ارتفاع التوتر بسبب ضيق سعة الانابيب التي يمر فيها الدم ، والعجيب في هذه الانابيب السحرية انها في حالة معتدلة من التقلص والارتخاء فهي في الحالة الطبيعية متقلصة ومرتخية بنفس الوقت بشكل متناسق بحيث تحفظ للوعاء الدموي قطره المناسب ، وهذه الحالة المعتدلة من التوتر تعتبر مقوية لجدران هذه لاوعية ، وهذا القانون يسري على كل عضلات الجسم ، فالعضلات الملساء التي تغلف جدران الوعية أو تشترك في تأليف الجدار تكون في حالة معتدلة من التوتر بحيث تحفظ للعضو أو الجهاز وضعه الطبيعي كما في الاوعية الدموية أو في الجدار الرحمي أو جدار المعدة أو المثانة. والتقلص يؤدي إلى ألم ، فمثلاً تعتبر حركات التقلص في المعدة حين فراغها من الطعام انذاراً بالجوع ، كما ان امتلاء المثانة والمستقيم بنفايات الجسم تدعو إلى زيادة التقلص العضلي في الجدران وبالتالي الآلام الخفيفة المنبئة التي يعتادها الجسم وهذه تخبر بدورها

__________________

(١) يقصد بالضغط الدموي ضغط الدم على جدار العروق الدموية وهذا يتعلق بطول الأنابيب ولزوجة الدم وسعة المقطع ، ولذا فان نقص اتساع الأوعية قليلاً يفضي إلى ارتفاع يبين في التوتر الدموي ويزداد التوتر الدموي في حالات الانفعال وينقص في حالات الصدمة والنوم ( مثلاً ).

١٥١

النهايات العصبية الحسية التي تنقل الاخبار وترجع بسرعة هائلة حاملة الاوامر الى المصرات الخارجية لكي تنفتح وتلقي ببقايا الاحتراق وفضلات الغذاء.

إن السيطرة على حركة الاوعية تعتبر حركة منسقة في غاية الإبداع ، فأيّ تقلب في الظروف الخارجية أو الداخلية يستدعي العمل الفوري وزيادة أو نقص سعة الوعاء بما يناسب الحالة الجديدة ، فمثلاً عندما يحصل النزيف من أي مكان من الجسم ترسل الأوامر فوراً الى الاوعية لكي تتقلص حتى يكون صبيب الدم أقل ما يمكن من الخارج بالاضافة إلى ارسال صيحات الاستغاثة والاشارات الحمراء إلى الصفيحات الدموية ومولد الليفين والفيتامين ك والكلس والعامل السابع والخامس وغيرها حتى تشكل الخثرة الدموية التي تعتبر سدادة في فوهة التمزق ، ثم ترسل الاوامر إلى الصديق الهادىء الذي يعتبر مقبرة الكريات الحمر وهو الطحال وإلى مركز الجمارك العام وهو الكبد حيث يكون تخزين الدم وافراً فيأقبية هذه المستودعات فترسل كميات الدم الاحتياطية على الفور وهي تقول لبيك لبيك!! وهكذا يتعاون الجسم كله لإنفاذ جهاز الدوران مما حل به من أزمة ، وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمحينما قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر ). ويحدث عكس هذا الأمر في النوم أو في الصدمة حيث تزداد سعة الاوعية الدموية وبالتالي يهبط الضغط الدموي ، فإذا ازداد هذا الأمر فإن تروية الدماغ تضطرب ويحدث الاغماء المعروف ، وهنا نقف لنسجل نقطة من أعجب النقاط في هذا الاتزان السحري.

إن اتزان سعة الأوعية ومدى انفتاحها مهم للغاية فأي زيادة أو فقص في قطر الوعاء يؤدي إلى كوارث ، فزيادة الضغط الدموي أو

١٥٢

إذا قلنا نقص قطر الوعاء وزيادة تقلصه يؤدي إلى بطء الدوران في المنطقة كما لو شبهنا الأمر بمرور السيارات في شارع عريض كما في شارع بيروت في دمشق فإن السيارات بامكانها أن تمشي بسرعة بينما إذا كانت السيارة في شارع ضيق كسوق ساروجة مثلاً حيث ازدحام السيارات والناس وضيق الطريق ، فإن السائق لا يستطيع أن يمشي إلا بمنتهى البطء حتى لا يقع في حادث. فكيف الأمر إذا كانت السيارات تمشي في طرق الأوتوستراد العريض الذي يصل إلى المطار مثلاً ، إن هذا يحدث ما يشبهه على مستوى أوعية الجسم حيث يؤدي زيادة تقلص الأوعية إلى بطء مرور الدم ، وبالتالي حدوث الخثرات ، كما إذا تعاقبت السيارات الكثيرة مع ازدحام الناس والعربات والأطفال والإغراض المعروضة على الرصيف أمام الحوانيت!! فلا بد من حدوث بعض الحوادث كذلك يحدث أمر الخثرة حيث ترتص عناصر الدم على بعضها ولكن الرعب يكمن فيما إذا تصورنا حدوث هذا الأمر في أحد شرايين الدماغ خاصة وقد علمنا أن شرايين الدماغ انتهائية وليس فيها مفاغرات جانبية ، ان هذا الكلام معناه انسداد شريان يغذي منطقة هي من أكثر المناطق رقياً ونبلاً وأهمية وحيوية في الجسم ومعنى انقطاع التروية عن منطقة عصبية الموت الأخير والنهائي للمنطقة ، وهكذا تظهر النتائج اما بشكل فالج شقي يشمل نصف الجسم بما فيه الوجه حيث ترتخي الأطراف وينسدل الجفن ويلتوي الفك وينحرف اللسان ويضطرب الصوت وتخرج المفرزات من الفم!! أو يحدث الأمر بشكل نقص الحس أو انعدامه في الجسم ، فإذا وخز بإبرة أو دبوس لم يشعر بذلك ، وإذا أحرقت قدمه لم يشعر بذلك ، وإذا قطع جلده لم ينتبه إلى أن قطعة من جسده تقطع!! وهكذا حسب المناطق التي تصيبها هذه الانسدادات ، وما أفظعها من نتائج لا يعرفها حق المعرفة إلا من رآها حيث يتمنى المريض

١٥٣

أن يشرب شربة ماء فلا يستطيع لأنه يقذفها مرة أخرى من فمه ، ولأن شراع الحنك الذي يساعد في البلع مشلول!! ( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) سورة النرو زز

وحدوث عكس هذا الأمر ، أي زيادة سعة أوعية له نتائج مماثلة ، فسعة القطر يؤدي إلى نقص دفع الدم إلى أعلى ، وهكذا فإن الدم يندفع إلى أسفل وإلى أعماق الأجهزة وإلى مستودعات التخزين وهكذا يقل ورود الدم إلى الدماغ ، والدم يحمل الاكسجين ذلك الغاز اللطيف الذي يبعث الحياة بقدرة العليم الخبير ، وهكذا يحصل فقر دم موضعي للدماغ ، وهذا ما يعلل الإغماء الذي يحصل ، والذي يجب أن يكافح رأساً برافعات الضغط من أمثال الأدوية المعروفة ( وايامين ، أرامين ، نور ادرينالين ، هايبرتنسين ) ورفع القدمين والساقين إلى أعلى حتى يتدفق الدم إلى أسفل ولتزداد تروية الدماغ وبالتالي انتعاشه.

إن هذه الاسطورة العجيبة من التوازن الخفي في أخلاط الجسم وأعضائه لتمثل البناء المحكم الذي اتقن الله صنعته ، حيث تتجلى مظاهر الربوبية العظيمة ، والألوهية المطلقة وهي تسطر هذا الوجود.

تنظيم الحرارة ودور التعرق :

ولنتأمل الآن ظاهرة أيضاً مدهشة من ظاهر الاتزان والإبداع وهي موجودة في منطقة ما تحت السرير ، أي مراكز أسفل الدماغ ، هذه الظاهرة هي كيفية تنظيم الحرارة والتعرق؟

لقد وجد أن هناك منطقتان في الداخل تعمل الأولى فعل المسرع والأخرى فعل المبطىء بحيث يحصل التوازن ، فالمنطقة الأولى تقوم بدور زيادة الخسارة الحرورية ، والثانية تقوم بدور إنقاص الخسارة

١٥٤

الحرورية ، أي إن الأولى تقاون الحر ، والثانية تقاوم البرد ، وكل هذا عن طريق عالم الجلد المدهش ، إن منابع الحرارة في الجسم تتوزع في كل المناطق التي تقوم بفعل آلي أو إفرازي أو أي نشاط ، ولكن المنبع الأساسي للحرارة في الجسم هو العضلات حيث يشكل عمل العضلات طاقة حرورية تعادل ٤٠% من حرارة البدن العامة ، وترتفع أثناء الجهود الرياضية الشديدة إلى ٨٠% وأما القلب فيعطي سبع الحرارة العامة ٧ / ١ وأقل العناصر في توليد الحرارة هو الدماغ حيث يعطي أقل من جزء من ثلاثين مما تولده العضلات ، وحتى إذا ازدادت الحرارة فإن هنالك مراكز معدلة تخفض الحرارة بسرعة في الدماغ نظراً لشدة تأثره بها ، وأما الغدد العرقية فهي مراكز التهوية الخفية في الجسم بالإضافة إلى مراكز التهوية عن طريق الزفير. يوجد تحت جلد الشخص العادي ثلاثة ملايين غدة عرقية تتوزع في أماكن أكثر من غيرها فهي تحت الابط وحول الثدي أكثر ، بينما هي في ظهر اليد أو الوجه أقل ، وهذه الغدد تشكل بمجموعها العام جهاز كلوياً جديداً ، وتتألف الغدة العرقية من انبوب ملتوي يفرز العرق بحيث تشكل لو جمعنا هذه الأنابيب طولاً يزيد على أربعة كيلومترات!! وهي تقوم بدور وزارة السياحة والاصطياف في الجسم!! ويشترك في الاستقلاب الحروري أيضاً غدة مهمة هي غدة الدرق بمفرزها المشهور التروكسين حيث وجد أن صرف ملغرام واحد من التروكسين يرفع الاستقلاب الأساسي (١) مقدار ألف كالوري ، كما تتدخل غدة الكظر في الاستقلاب ونشر الحرارة بفضل مادة الادرينالين التي تفرز من لب الكظر ، وتقوم ملكة

__________________

(١) يقصد بالاستقلاب الأساسي الحرارة التي تتكون بفعل نشاط خلايا الجسم بدون ضرف مجهود عضلي ، لأن عمل العضلات ينشر طاقة حرارية إضافية ، ولذا فإن اخيار الاستقلاب الأساسي يقاس عند الانسان في حالة الراحة الكاملة.

١٥٥

الغدد ( النخامة ) بالسيطرة على توازنات هذه الغدد ذات الافراز الداخلي.

والآن لنتأمل كيف يتم التنظيم الحروري بشكل مفصل أكثر بعد أن أخذنا نظرة إجمالية : إن حرارة الجسم تستقر حول رقم معين لا تتجاوزه هي في الانسان ٣٧درجة ، وفي الحيوانات الثديية ٣٩ درجة ، وفي الطيور ٤١ درجة ، وهذا الرقم يبقى مستقراً لا ينزل ولا يصعد إلا في الحالات المرضية خاصة الحموية ( أي المسببة عن الحمى ) هذا مع العلم ان درجة الحرارة في سيبيريا قد تصل إلى الدرجة ـ ٦٢ أي ٦٢ درجة تحت الصفر كما قد تصل إلى الدرجة (٦٠) فوق الصفر ف منطقة الصحراء الكبرى في بلاد الطوارق في شمال أفريقيا ...

فكيف يبقى البدن بعد كل هذا الاضطراب في الحرارة الخارجية محتفظاً بحرارته في درجة حرارة معينة لا يزيد ولا ينقص؟ ان الكارثة سوف تحل لو انخفضت درجة الحرارة إلى حج معين أو إذا ارتفعت الحرارة إلى ٤٣ ـ ٤٥ درجة ، كما ان الكريات البيض تموت تحت الدرجة ٢٥ وفوق الدرجة ٤٣ ، ومعنى هذا انتهاء الإنسان لان مناعة الانسان تتركز في الكريات اليبض ، فكيف يحصل هذا الاتزان السحري العجيب؟ لنتصور الآن ان درجة الحرارة التي تحيط بنا بلغت الدرجة (٤٠) وهي الدرجة عالية في أيام الصيف شديدة الحر ، تبعث الجسيمات الحسية المتوزعة تحت الجلد والمختصة بالحرارة ويبلغ عددها ما يزيد عن [ ٢٠٠,٠٠٠ ] مائتي ألف جهاز ـ وكل جهاز يحتاج وحده إلى شرح مطول ـ تبعث هذه الجسميات بالاخبار عبر أسلاك البرق المتشعبة في الجسم إلى كل نقطة ، وهي الالياف العصبية ، فتصل الاخبار إلى المقسم الأول في تلقي الاخبار وهو النخاع حيث تدخل من المنطقة الخلفية مع آلاف الاخبار الاخرى ، ومن خلايا القرون الخلفية للنخاع المختصة

١٥٦

بالحس يحصل فهم ما حدث ، وأما الخلايا فإنها تدهش للاخبار وتقول يجب أن نسرع في ارسال الاخبار إلى المركز العام ( وفي الحقيقة نحن الذين نسرع في كلماتنا ، لان اتزان هذا العمل وهدوؤه لا يقوم على الانفعالات بل على النواميس والسنن المحكمة التي ركب على أساسها الجهاز البشري ) ، وتنطلق الاخبار إلى مركز القيادة العامة بعد أن تمر هذا الاخبار في مناطق شتى ، وتنعرج في منعطفات عجيبة ، وتبدأ القيادة العامة في مواجهة هذه الجالة الطارئة فترسل الاوامر إلى أعصاب الجلد وتدق أجراس الخطر ، وتبدأ الاعصاب الجلدية في ارسال التنبيهات الى العروق الدموية التي تروي السطح الخارجي فيزداد مرور الدم ، وبهرع الدم كعادته وهو يقول أنا الخادم المخلص لهذا الانسان العظيم ، وبزيادة توارد الدم يزداد اشعاع الحرارة.

وتبدأ تحولات جديدة في الأوامر إلى الغدد العرقية فيزداد افرازها للعرق ـ والعرق بحد ذاته يحتوي كمية كبيرة من الماء ويمتص كمية كبيرة من الحرارة ـ وباطراح العرق تحصل التهوية الجلدية وتتوازن الحرارة في خارج الجسم وداخله ، وأما التيروكسين والادرنالين وهما مفرزاً الغدة الدرقية وغدة لب الكظر فإن إفرازهما يتناسق مع جاحة البدن في هذه الحالة ، ويبقى دور نفس الزفير فهو محمل ببخار الماء الذي يمتص أيضاً كمية كبيرة من الحرارة ، وهذا هو السر في ان الكلاب تلهث دائماً لان الغدد العرقية لا توجد عندها إلا بكمية قليلة وفي أخمص القدم فقط ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) وهكذا يعوض الكلب عن التعرق باللهاث.

تنظيم السكر :

ونأتي إلى ظاهرة بديعة من ظواهر التوازن والتنظيم لمنطقة ما تحت

١٥٧

السرير وهو الذي تكلمنا عنه فيما مضى بشكل عابر ، ألا وهو تنظيم السكر في الدم ..

إن نسبة السكر في الدم يجب أن تكون في حدود ثابتة لا تتعداها وهي وسطياً غرام واحد في الليتر من الدم ، أي إن مجموع ما هو موجود في الدم ٥ ـ ٦ غرامات لا أكثر ، وهذه الكمية يستنفذها البدن في مدى ربع ساعة لا أكثر فكيف السبيل إلى تغذية الجسم ومده بطاقة الاحتراق ، خاصة ويعتبر السكر الحلوى الفاخر المفضل لخلايا الجملة العصبية التي لا تأخذ سواه؟! ان مركز القيادة العامة يحتل العرش وله وزراء صدق يعاونونه في هذه المهمة الرائعة وهي استتاب التوازن والامن في ربوع المملكة وتوفير الغذاء الاولي لخلايا الجسم جميعها بدون استثناء ، فمن هم هؤلاء الوزراء الذي يعاونون هذا الملك ويتفاهمون مع الرعية ويطعمونها ، ويعيش الجسم كله في سلام بدون حرب ولا تفضيل طبقة على طبقة ، أللهم إلا في الازمات ، ان جملة الوزراء هنا هي الانسولين الذي يفرز من المعثكلة ويعتبر رئيساً للوزارة وبقية الوزراء هم الغلوكاكون الذي يفرز أيضاً من المعثكلة والتيروكسين الذي يفرز من غدة الدرق ، والادرنالين الذي يفرز من لب غدة الكظر ، وهورمون النمو الذي يفرز من الفص الامامي للغدة النخامية ، وهناك الوزير الذي يفرز من قشر غدة الكظر وهذا يحمل شارة خاصة على رتبته وهي ذرة الاكسجين في النافذة الحادية عشرة من بنائه الذري!! وهكذا نرى أن هناك خمسة وزراء الذي هو الانسولين وحده بخطة ، ولكن هل انتهت العناصر التي تتخل في موضوع اتزان السكر في الدم؟ هناك مركز الجمارك العام وهو الكبد وهو يحوي أكبر المستودعات لتخزين السكر ولكن بشكل مكثف ، وهو ما يسمى بالنشا الحيواني أو مولد السكر ،

١٥٨

وهناك المستودعات الاحتياطية في حالة الفيضانات كما في زيادة الوارد من السكر وهذه المستودعات الاحتياطية هي العضلات والانسجة بشكل عام ، وهناك كما في أي وزارة أمناء عامون وهنا الامين العام العصب الودي ، وله مساعد مثله هو نظير الودي.

والآن لننظر إلى هذا الائتلاف العجيب في العمل ، فالانسولين مهمته حرق السكر وإدخاله إلى الخلية للاستفادة منه وزيادة ادخاره ، وقد أوكل مهمة معاكسة لوزرائه الخمسة فهم يقومون بعكس هذا العمل وهو زيادة حل السكر وايجاده في الدم والامين العام الاول يساعد الوزراء فهو يقوم يتثبيط عمل الانسولين ، والامين العالم الثاني يقوم بزيادة عمل الانسولين وهكذ يحدث الشد والجذب من كل جانب بحيث يستقيم التوازن وكأنه على حد السيف ..

وهذا الاتزان على غاية من الاهمية ، لان زيادته معناه مرض السكري الذي يؤدي فيما إذا ازدادت نسبة السكر في الدم إلى الغيبوبة والسبات وفقد الوعي وقد يصل إلى درجة الموت ، ونقصه يحدث نتائج مماثلة وكأن هذا الميزان الذي يقوم بالقسط يزن أدق العيارات؟ كيف لا وهذه الهورمونات التي تحدث التوازن والاستقرار تؤثر باجزاء صغيرة تقدر بواحد من مليون ، والغدة النخامية تزن نصف غرام بما فيها من هورمونات وخلايا واخلاط ودم وأجزاء!!! ( والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان ) سورة الرحمن ..

فكرة عن الاعصاب الرأسية :

ان ظاهرة انبثاق الاعصاب من عناصر الجهاز العصبي تستحق الوقوف أمامها طويلاً ، فلقد وجد أن الجذع الدماغي وهو المكان الاسفل من الدماغ تنبجس منه عيون عصبية تشكل اثني عشر زوجاً في الرأس ،

١٥٩

( فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ) وواحداً وثلاثين في باقي الجسم وهذه الاعصاب تقوم بمهمام عجيبة ومهمة للغاية ، فهي تأخذ الحس من الرأس ، وترسل إليه الأوامر الحركية ، وإذا بالعضلات تتقلص وترتخي بكيفية معينة ، وإذا تعابير الخوف ، أو المحبة ، أو الضحك ، أو التبسم ، أو الكره ، أو الحقد ، أو الدهشة والاستغراب كلها تظهر على محياك فتظهر ما يكنه الدماغ ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) سورة محمد.

فمن أصل الأربعة والعشرين عصباً يتفرد منها ستة لحركات العينين ، حيث تتحكم هذه الاعصاب الستة في عضلات العين وهي تبلغ سبعة عضلات في كل عين وهذه العضلات بواسطة الاوامر العصبية يمكن أن تدير كرة العين الى كافة الجوانب وهكذا فأنت تنظر أيها القارىء إلى أعلى وأسفل ويمين وشمال وبشكل دائري ومنحرف ، ومن العضلات السبعة عضلة تختص برفع الجفن العلوي وخفضه وكأنها الخيط الذي يسحب الستار أمام العين حتى ترى الموجودات ، والاعصاب في كل جهة تتزن مع الاعصاب في الجهة الاخرى بشكل متناسق ولذا فإن الانسان يرى بعينيه منظراً واحداً ولولا هذه الرؤية المزدوجة الواحدة لما استطاع أن يرى بشكل جيد فهو اما أن يرى الاشكال مضاعفه أو مضطربة ، ولذا فإن أي خلل في الجهاز الذي ينسق حركة العضلات ويوازنها يحدث الرأرأة المعروفة وهي اهتزاز كرة العين وعدم التمكن من تثبيت النظر تماماً ، وأي خلل بسيط في الجهاز المعصب لهذه الاشرطة العضلية الصغيرة السبعة يحدث هبوط الجفن العلوي وانسدال الستارة ، أو الحول للأيمن أو للأيسر ، وهذه الاعصاب الثلاثة لكل عين يختص كل واحد منها بعضلات معينة فواحد يختص بتحريك كرة العين

١٦٠