عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

جهّلته أي نسبته إلى الجهل. وقيل مثبّطين ، أي مانعين الناس من اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كقوله في المعنى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(١).

والعجوز : نظير الشيخ لعجزها عن كثير من الأمور. وفي حديث عليّ رضي الله عنه : «لنا حقّ إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السّرى» (٢) كنّى بذلك عن حصول المشقّة ، لأنّ ركوب الأعجاز في غاية المشقّة ، لا سيما مع طول السّير في الليل. وقيل : بل ضربه مثلا لتقدّم غيره عليه وتأخيره عن الحقّ الواجب.

ع ج ف :

قوله تعالى : (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ)(٣) أي مهازيل ، وهو جمع أعجف وعجفاء ، وهو الدقيق من الهزال. وأصله من قولهم : نصل أعجف ، أي دقيق. وأعجف الرجل : صادف مواشيه أو صارت عجافا. وعجفت نفسي عن فلان وعن الطعام ، أي نبت. وليس فعال قياسا لأفعل فعلاء ولا فعلاء أفعل ، ولكن جمع فاعل فعال لمقارنته بسمان (٤). ومقتضاه أنّه إذا لم يقترن بسمان فلن (٥) يجمع على فعال (٦) كما قالوا في أحد ما قدم وما حدث في أخوات له (٧). وفي الحديث : «أعنزا عجافا» (٨) من غير مقارنة ما يناسبه.

ع ج ل :

قوله تعالى : («أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)(٩) أي سبقتموه ، وهو كقوله : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ

__________________

(١) ٤٥ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٢) النهاية : ٣ / ١٨٥.

(٣) ٤٣ / يوسف : ١٢ ، وغيرها.

(٤) وفي الأصل : لمقارنة سمان. ويريد بقية الآية.

(٥) في ح : لن ، وفي س : أن. والصواب ما ذكرنا.

(٦) في الأصل : فعل.

(٧) قال الأزهري : وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعا على فعال غير أعجف وعجفاء وهي شاذة ، حملوها على لفظ سمان فقالوا ، سمان وعجاف. وجاء أفعل وفعلاء على فعل يفعل في أحرف معروفة.

(٨) النهاية : ٣ / ١٨٦ ، والحديث لأم معبد.

(٩) ١٥٠ / الأعراف : ٧.

٤١

قَوْمِكَ)(١) أي كيف سبقتهم؟ يقال : أعجلني فعجلت له ، واستعجلته : تقدّمته فحملته على العجلة. وأصل العجلة : طلب الشيء وتحرّيه (٢) قبل أوانه ، وهو مقتضى الشّهوة ، فلذلك صارت مذمومة في عامّة القرآن ، حتى قيل : العجلة من الشيطان. قوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)(٣) أي ممّا خصّ من الذمّ فإنّها وإن كانت عجلة لكنها محمودة ، إذ المقصود بها رضى ربّه. وللراغب هنا عبارة ؛ قال (٤) : فذكر أنّ عجلته ، وإن كانت مذمومة ، فالذي دعا إليها أمر محمود وهو رضى الله. وهذا إنّما ذكرته تنبيها على خطابه في ذلك إذ لا يصدر من الأنبياء ما يذمّ عليه البتّة.

قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(٥) تنبيها أنّ طبعه العجلة بمنزلة من خلق من الشيء فكأنّ العجلة مادّته. وأصله : نبّه به أنّه لا يتعرّى من ذلك البتّة ، فإنها إحدى القوى التي ركّب عليها. وقد قال بعضهم : العجل : الطين بلغة بعضهم ، وأنشد (٦) : [من البسيط]

والنّخل ينبت بين الطين والعجل

ولا يبعد عن الصّنع. قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ)(٧) يريد الدنيا ، فإنها حاضرة بالنسبة إلى الآخرة ، فإنها وإن كانت حقّ اليقين إلا أنها آجلة. قوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)(٨) لم نعطه طلبته بل الذي نعجّله ما نشاء لا ما يتمنّاه. ثم أخبر أنه ليس كلّ متمنّ أيضا نعطيه ما يشاء ، بل أردنا ذلك له. ربّ رضّنا بما قسمت لنا ، ولا تجعلنا من الذين يريدون العاجلة.

__________________

(١) ٨٣ / طه : ٢٠.

(٢) وفي س : بلا تحريه ، وهو وهم.

(٣) ٨٤ / طه : ٢٠.

(٤) المفردات : ٣١٣.

(٥) ٣٧ / الأنبياء : ٢١.

(٦) عجز لبيت في اللسان ـ مادة عجل ، وفيه : بين الماء والطين. وصدره :

والنبع في الصخرة الصمّاء منبته

(٧) ١٨ / الإسراء : ١٧.

(٨) تتمة الآية السابقة.

٤٢

والعجالة : ما يتعجّل أكله الضيف كاللهنة ، وقد عجلتهم ولهنتهم. والعجلة : الإداوة (١) الصغيرة للتعجيل بها عند الحاجة إليها. والعجلة : خشبة معترضة على البئر ، وما يحمل على الثيران أيضا ، قيل لهما ذلك ليسر مرّهما. والعجل : ولد البقرة ، قيل : سمي ذلك لتصوّر عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا. وبقرة معجل : لها عجل ، من أعجلت صارت ذات عجل. والعجلة أيضا من النّخل نحو النّقير منه (٢) كأنه يتعجّل به الخمر. قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) الآية (٣) أي أنهم يدعون على أنفسهم بالشرّ كما يدعون لها بالخير. فلو عجّل لهم من الشرّ ما يستعجلونه بدعائهم مثل استعجالهم الخير لهلكوا ، وقيل : لو أخذهم فعجّل لهم العقوبة كاستعجالهم بالخير لفرع من الأمر فهلكوا.

ع ج م :

قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ)(٤). الأعجم : من في لسانه عجمة عربيا كان أو أعجميا ، والأعجميّ منسوب إليه ، والنّسب إلى الصفات لا ينقاس نحو أحمريّ (منسوب إلى أحمر) (٥) وقد ورد ذلك. وأنشد (٦) : [من الرجز]

أطربا وأنت قنّسريّ

والدّهر بالإنسان دوّاريّ

وأمّا «الأعجمين» في الآية فجمع أعجم لا أعجميّ وإنّما جاز ذلك لأنه ليس أفعل فعلاء. والأعجميّ منسوب إلى العجم فصيحا كان أو غير فصيح. والعجمة خلاف الإبانة. والإعجام : الإبهام ، وهو أيضا إزالة الإبهام. ومنه أعجمت الكتاب ، أي أزلت عجمته بالنّقط

__________________

(١) في الأصل : الأدوات.

(٢) قال القتيبي : العجلة : درجة من النخل نحو النقير. أراد أن النقير سوّي عجلة يتوصّل بها إلى الموضع. وفي حديث عبد الله بن أنيس : «فأسندوا إليه في عجلة من النخل».

(٣) ١١ / يونس : ١٠.

(٤) ١٩٨ / الشعراء : ٢٦.

(٥) ساقط من س.

(٦) ديوان العجاج : ١ / ٤٨٠ ، وانظر خلاف رواياته في الصحاح : ٢ / ٦٦٠ ، واللسان مادة ـ قسر. والبيت من شواهد النحويين المشهورة.

٤٣

والضّبط. واستعجمت الدار : بان عنها أهلها ولم يبق بها من يبين جوابا. ومن ثمّ قيل : خرجت عن بلاد تنطق ، كناية عن عمارتها بقطّانها. وقال النابغة (١) : [من البسيط]

وقفت فيها أصيلالا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد

والعجم : الجيل المعروف مقابل العرب من أيّ جنس كان ، وغلب في العرف على أبناء فارس. والعجماء : البهيمة لأنها لا تبين عن نفسها. وفي الحديث : «جرح العجماء جبار» (٢) و «صلاة النهار عجماء» (٣) أي لا قراءة يجهر بها فيها. وحروف المعجم هي المعروفة من ألف إلى ياء ؛ روي عن الخليل أنها هي الحروف المقطّعة لأنها أعجميّة ، وفسّر بعضهم ذلك أن الحروف المجرّدة لا تدلّ على ما تدلّ عليه الحروف الموصولة بعضها ببعض. ومنه باب معجم ، أي مبهم. ومنه العجم للنّوى ، وقيل : إمّا لأنه [أدخل](٤) في الفم في حال العضّ عليه ، وإمّا بما أخفي من أجزائه بضغط المضغ. وفلان صلب المعجم ، أي شديد عند المختبر. وقد نصّ بعضهم على أنّ النّوى يقال فيه العجم ، بتحريك الجيم. وبعضهم نصّ على سكونها. وقيل : هو بالسّكون العضّ على العجم بالفتح.

وفي الحديث : «ما كنّا نتعاجم أنّ ملكا ينطق على لسان عمر» (٥) أي نكنّي ونورّي. وكلّ من لم يفصح عن شيء فقد أعجمه. وفي حديث أمّ سلمة : «نهانا أن نعجم النّوى طبخا» (٦) أي ننضجه. قوله : (٧) أي أرسول أعجمي ولسان عربيّ؟ وقيل بالعكس.

__________________

(١) ديوان النابغة : ٢ ، البيت الثاني من معلقته.

(٢) النهاية : ٣ / ١٨٧ ، وفيه : «العجماء جرحها جبار».

(٣) المصدر السابق.

(٤) بياض في الأصل ، والإضافة من المفردات : ٣٢٤.

(٥) النهاية : ٣ / ١٨٧ ، والحديث لابن مسعود.

(٦) النهاية : ٣ / ١٨٧.

(٧) ٤٤ / فصلت : ٤١.

٤٤

فصل العين والدال

ع د د :

قوله تعالى : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(١) أي نحصي عليهم كلّ شيء ، وعن ابن عباس : نعدّ أنفاسهم. والعدد في الأصل : آحاد مركبّة. وقيل : هو تركيب الآحاد ، وهما متقاربان. والعدد : آحاد وعشرات ومئون وألوف ، هذه أصوله. وباعتبار أنواعه مفرد ومركب ومضاف ومعطوف. وقد بيّنت جميع ذلك في النحو. والعدّ : ضمّ الأعداد. فالعدّ هو المصدر ، والعدد هو المعدود / نحو نقضه نقضا فهو نقض ، وقبضه قبضا فهو قبض. قوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢) قيل : معناه عدّ كلّ شيء عددا. فعلى هذا هو المصدر ، وقيل : بل هو بمعنى المعدود ، فيكون حالا.

قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)(٣) أي ذوات عدد. ونبّه بذكر العدد على كثرتها ، قاله الراغب (٤) وفيه نظر لأنه قيل : يذكر للتّقيل لأن القليل يعدّ والكثير لا يعدّ. ومنه قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ)(٥) ومحصور للقليل مقابلة لما لا يحصى كثرة نحو المشار إليه بقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ)(٦) ، وعلى ذلك قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً)(٧) أي قليلة ، لأنهم قالوا : نعذّب بعدد الأيام التي عبدنا فيها العجل. ويقال على الضّدّ من ذلك : جيش عديد ، أي كثير ، وهم ذو عدد ، أي بحيث ألّا يعدّوا كثرة.

__________________

(١) ٨٤ / مريم : ١٩.

(٢) ٢٨ / الجن : ٧٢.

(٣) ١١ / الكهف : ١٨.

(٤) المفردات : ٣٢٤.

(٥) ٢٠ / يوسف : ١٢.

(٦) ٢١٢ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٧) ٨٠ / البقرة : ٢.

٤٥

ويقال في القليل : هم شيء غير معدود. قال (١) : وقوله : (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) يحتمل الأمرين. قلت : احتماله للقلّة بعيد جدا. قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)(٢) أي من سلاح وكراع (٣) ونفقة وزاد. وأصل العدّة : الشيء المعدّ المدّخر ، أي شيء كثير يعدّ من مال وسلاح وغيرهما. قوله تعالى : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ)(٤) أي الحاسبين. وقيل : أصحاب العدد وهما سواء. وقيل : هم الملائكة يعدّون عليهم أنفاسهم. والعدّة : الشيء المعدود كقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٥) لوصفها بقوله : (مِنْ أَيَّامٍ). وتكون بمعنى العدد كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً)(٦) أي عددهم. قوله تعالى : (فَعِدَّتُهُنَ)(٧) أي عدّة المرأة تربّصها مدة معلومة تعدّ عدّا ، فبانقضائها تحلّ للأزواج.

قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(٨) أي اجعلوه معدّا لهم عند الحاجة إليه ومدّخرا. والإعداد من العدد [كالإسقاء من](٩) السّقي ؛ فأعددت لك كذا : جعلته بحيث تتناوله حين حاجتك إليه وتعدّه. قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)(١٠) أي العدد. قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)(١١) المشهور أنها أيام التّشريق ، والمعلومات العشر قبلها. وقيل : يوم النّحر ويومان يليانه ؛ فيوم النّحر من المعلومات والمعدودات عند هؤلاء. وقد بينا هذا في «القول الوجيز». قوله : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ)(١٢) قرىء مشدّدا أي جعله عدّة للدهر ، «وعدده»

__________________

(١) يعني الراغب.

(٢) ٤٦ / التوبة : ٩.

(٣) الكراع : اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.

(٤) ١١٣ / المؤمنون : ٢٣.

(٥) ١٨٤ / البقرة : ٢.

(٦) ٣١ / المدثر : ٧٤.

(٧) ٤ / الطلاق : ٦٥.

(٨) ٦٠ / الأنفال : ٨.

(٩) إضافة يقتضيها السياق.

(١٠) ١٨٥ / البقرة : ٢.

(١١) ٢٠٣ / البقرة : ٢.

(١٢) ٢ / الهمزة : ١٠٤.

٤٦

بالتخفيف (١) ، أي ذوي عدد فالهاء للهمزة. وفي الحديث : «إنما أقطعته الماء العدّ» (٢) أي الدائم الذي لا انقطاع لعدده. وقوله : «ما زالت أكلة خيبر تعادّني» (٣) ؛ يعاودني ألم سمّها في أوقات معدودة. وعدّان (٤) الشيء : زمانه. والعداد كذلك يقال : به عداد من الجنون ، أي يعاوده في أوقات معدودة. وفي الحديث : «إذا تكاملت العدّتان قامت الساعة» (٥) ، قال القتيبيّ : الذي عندي فيه أنه إذا تكاملت عدّة أهل الجنة وأهل النار قامت القيامة. وقال غيره : هو إشارة لقوله : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(٦) يعني أنهم إذا استوفوا المعدود لهم قامت القيامة.

ع د س :

قوله تعالى : (وَعَدَسِها)(٧) العدس : الحبّ المعروف ، وبه شبّهت بثرة أو قرحة تطلع على ظاهر الجسد في الهيئة فيقال : أخذته عدسة. وعدس : زجر للبغل ، وقد يقال لغيره. قال الشاعر (٨) : [من الطويل]

عدس ما لعبّاد عليك إمارة

واشتقّ منه فعل فقيل : عدس في الأرض ، فهو عدوس.

__________________

(١) قراءة التخفيف للحسن (مختصر الشواذ : ١٧٩).

(٢) النهاية : ٣ / ١٨٩.

(٣) النهاية : ٣ / ١٨٩.

(٤) وفي ح : وعدّ.

(٥) النهاية : ٣ / ١٨٩.

(٦) ٨٤ / مريم : ١٩.

(٧) ٦١ / البقرة : ٢.

(٨) صدر من بيت ليزيد بن مفرغ الحميري. وهو من شواهد النحويين في اسم الصوت. وعجزه :

أمنت ، وهذا تحملين طليق

(أوضح المسالك : ١ / ١١٦ وغيره).

٤٧

ع د ل :

قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً)(١) أي مثله ومساويه. قيل : العدل والعدل يتقاربان. ولكن العدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وكالآية المتقدمة. والعدل هو التّقسيط على سواء. وعلى هذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بالعدل قامت السماوات والأرض» تنبيها أنه [لو](٢) كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على مقتضى الحكمة الربّانية ، لم يكن العالم منتظما ولتطابقت السماوات والأرض. وقال البصريون : العدل والعدل لغتان بمعنى المثل. وقال أبو بكر : العدل : ما عادل الشيء من جنسه ، وبالفتح ما عادله من غير جنسه ، يقال : عندي من الدراهم عدل دراهمك ومن الثياب عدل دراهمك بالفتح.

ثم العدل ضربان : مطلق يقتضي العقل حسنه ، ولا يكون في شيء من الأوقات منسوخا ، ولا يوصف بالاعتداء بوجه ، نحو الإحسان إلى من أحسن إليك ، وكفّ الأذى عمّن كفّ أذاه عنك. والثاني مقيد بالشرع ويتطرّق إليه النسخ في بعض الأزمنة كأروش الجنايات (٣) والقصاص وأخذ مال المرتدّ. ومن ثمّ قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(٤)(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٥) فسمّي بذلك سيئة واعتداء. وهذا النحو هو المعنيّ بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(٦) ؛ فالعدل هنا : المساواة في المكافأة إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ. والإحسان أن يقابل بالخير مثله وزيادة ، والشرّ بأقلّ منه (٧). والعدل : العدالة أيضا ، وهي في الرجل لفظ يقتضي معنى المساواة وكذلك المعدلة. وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٨) أي عدالة ، ويوصف به الواحد

__________________

(١) ٩٥ / المائدة : ٥.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) الأرش وجمعها الأروش : الدية.

(٤) ١٩٤ / البقرة : ٢.

(٥) ٤٠ / الشورى : ٤٢.

(٦) ٩٠ / النحل : ١٦.

(٧) في الأصل : ما قلّ. ولعل الصواب ما ذكرنا.

(٨) ٢ / الطلاق : ٦٥.

٤٨

المذكّر وضدّاهما المبالغة نحو : رجل عدل ورجال عدل. قال الشاعر : [من الهزج].

فهم رضا وهم عدل (١)

وكذا الوصف لسائر المصادر ، والمطابقة قليلة. وفي مثل قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ)(٢) إشارة إلى ما جبل عليه الآدميّ من الميل ؛ فإنّ الإنسان وإن أمكنه أن يسوّي بينهنّ في النفقة والكسوة والمنزل والمبيت والوطء ولين الكلمة وغير ذلك ، فلن يستطيع أن يسوّي بينهنّ في المحبة ، ولهذا كان عليه الصلاة والسّلام يقول : «اللهمّ إنّ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» (٣) إشارة إلى ما ذكرنا من المعنيين. قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)(٤) إشارة إلى العدل الذي هو القسم والنّفقة. قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(٥) أي يجعلون له عديلا ، فصار كقوله (٦) : (هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(٧) وقيل : يعدلون بأفعاله عنه ، وينسبونها إلى غيره كقوله : مطرنا بنوء كذا. ولهذا حكى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربّه : «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب» الحديث (٨) وقيل : يعدلون بعبادتهم عنه إلى من لا يستحق عبادة. بل أن يكون عابدا.

ومن طريف ما يحكى أنّ الخبيث الحجاج بن يوسف الثقفيّ استحضر الحبر الشهيد سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس فقال له : ما تقول فيّ؟ قال : وما أقول : أنت قاسط عادل. فأعجب الجماعة بقوله ، فقال الحجاج الخبيث : ما تظنون؟ قالوا : مدحك بالقسط والعدل. فقال : بل بالجور والكفر ؛ ثم تلالهم : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(٩)(ثُمَّ الَّذِينَ

__________________

(١) من شواهد المفردات : ٣٢٥. وفي الأصل : عدول.

(٢) ١٢٩ / النساء : ٤.

(٣) رواه أبو داود في باب النكاح والترمذي كذلك وابن ماجة كذلك. وانظره في منتقى الأخبار : ٦ / ١٨٤. ورواية أبي داود : «فلا تلمني». وأخرجه الترمذي في السنن برقم ١١٤٠.

(٤) ٣ / النساء : ٤.

(٥) ١ / الأنعام : ٦.

(٦) وفي الأصل : قوله.

(٧) ١٠٠ / النحل : ١٦.

(٨) حديث قدسي رواه زيد بن خالد الجهنيّ. أخرجه مالك في الموطأ من باب الاستسقاء. متفق عليه.

(٩) ١٥ / الجن : ٧٢.

٤٩

كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١) ففهمها الخبيث أخزاه الله تعالى.

قوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي ما يعادل من الطعام الصيام. والفداء يطلق عليه عدل نظرا إلى المساواة. وقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا يقبل الله منها صرفا ولا عدلا» (٢) قيل : العدل كناية عن الفريضة ، والصّرف النافلة وهي الزيادة على ذلك ، فهما كالعدل والإحسان على ما مرّ. ومعنى «لا يقبل منها» : لا يكون له خير يقبل منه. وقال النّضر : الصّرف : التّوبة قوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)(٣) يصحّ أن يكون من الشّرك ، وأن يكون من العدول عن الحقّ عدولا يقال : عدل يعدل : إذا تحرّى الحقّ وعدولا إذا مال عن وجه الصواب وهو في الأصل مطلق الميل. قوله : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ)(٤) قرىء مشدّدا ، من التّعديل ، أي لم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول ، ولا إحدى عينيك وأذنيك أكبر لأنه كان مما يستبشع ، ومخففا أي عدل بك من الكفر إلى الإيمان ؛ قاله ابن الأعرابيّ : وفيه نظر لأنّ الخطاب عام للكافر والمؤمن ، والظاهر أنهما لغتان بمعنى التّسوية. يقال : عدلته فاعتدل ، أي قوّمته فاستقام ، وعدّلته فتعدّل ، قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا)(٥) أي فرارا من إقامة الشهادة. فالمعنى أن تعدلوا عن إقامتها لمن تؤدّونها له أو عليه. وقيل : المعنى : لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا ، نحو : لا تتّبعه لترضي الله ، أي أنهاك عنه لترضي الله.

وعادل بين الأمرين : نظر أيّهما أرجح. وعادل الأمر : ارتبك فيه فلا يدري أيّ طرفيه يتبع. والأيام المعتدلة : عبارة عن طيبها لاعتدالها.

__________________

(١) ١ / الأنعام : ٦.

(٢) النهاية : ٣ / ١٩٠ ، وفي الأصل الرواية بالمبني للمجهول.

(٣) ٦٠ / النمل : ٢٧.

(٤) ٧ / الانفطار : ٨٢. قرأها «فعد لك» مخففة الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي. وقرأها أهل الحجاز «فعدّ لك» مشددة. وانظر خلاف المعنى في التأويل (معاني القرآن للفراء : ٣ / ٢٤٤).

(٥) ١٣٥ / النساء : ٤.

٥٠

ع د ن :

قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ)(١) العدن : الإقامة والثّبوت. يقال : عدن بمكان كذا ، أي أقام به. ومنه المعدن لثبوت الجواهر واستقرارها فيه. وقال عليه الصلاة والسّلام : «المعدن جبار» (٢) أي هدره. وقيل : عدن : علم لمكان بعينه في الجنّة.

ع د و :

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ)(٣) أي ولا متجاوز ما حدّ له. يقال : عدا يعدو عدوا وعدوانا : إذا تجاوز ما حدّ له. قال تعالى : (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(٤) أي ظلما. وأصل العدو : التجاوز ومنافاة الالتئام ؛ فتارة يعتبر بالقلب فيقال العداوة والمعاداة ، وتارة بالمشي فيقال له العدو ، وتارة في الإخلال. بالعدالة فيقال له العدوان والعدو ، وتارة بأجزاء المقرّ فيقال له العدواء. يقال مكان ذو عدواء : غير متلائم الأجزاء ، وأصله الأرض الغليظة يقال لها عدواء ، وبعضهم يقولها بسكون الدال ؛ فمن المعاداة يقال : رجل عدوّ وقوم عدوّ. وقال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ)(٥). وقد يجمع فيقال : عدى وأعداء. وقيل العدى بالكسر يطلق على الأجانب ، وأمّا العدى ـ بالضم ـ فالأعداء. وفي حديث عمر : «كان يبرح قومه ويبعث العدى» (٦) يعني الأجانب.

والعدوّ على ضربين : أحدهما بقصد من المعادي نحو : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ)(٧). والثاني لا بقصده بل بأن تعرض له حالة يتأذّى بما يكون من العدوّ ، نحو قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ)(٨). والاعتداء : مجاوزة الحدّ والظلم ؛ افتعال من

__________________

(١) ٢٣ / الرعد : ١٣ ، وغيرها.

(٢) صحيح البخاري ، الشرب : ٣.

(٣) ١٧٣ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٤) ١٠٨ / الأنعام : ٦.

(٥) ٤ / المنافقون : ٦٣.

(٦) الحديث لحبيب بن مسلمة لما عزله عمر عن حمص (النهاية : ٣ / ١٩٤) ، وفيه : ينزع.

(٧) ٩٢ / النساء : ٤.

(٨) ٧٧ / الشعراء : ٢٦.

٥١

العدو. ومنه قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(١). قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)(٢). قيل : إنّهم حفروا حياضا فإذا طلعت الحيتان فيها يوم السبت صادوها يوم الأحد ؛ فهو اعتداء منهم. وقيل : هو أخذهم الحيتان على جهة الاستحلال. قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية (٣) أي قابلوه بحسب اعتدائه وتجاوزوا إليه بحسب تجاوزه من العدوان المحظور ابتداء.

وقوله : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٤) هو من العدوان الذي على سبيل المجازاة. وقال النحاة : الفعل متعدّ قاصر ؛ تصوّروا في الناصب لمفعوله مجاوزته له وفي غيره المقصور عنه ؛ قوله تعالى : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) الآية (٥). العدوة : هي الجانب ، كأنه متجاوز للقرب. قوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ)(٦) أي لا تتجاوز ، هو في اللفظ نهي عن العين وفي المعنى لصاحبها ، وهذا تأدّب لأمته. وقال أمير المؤمنين يوم الجمل لبعض أصحابه وقد تخلّف عنهم يوم الجمل : «ما عدا ممّا بدا؟» (٧). قال المبرد : معناه : ما الذي ظهر منك من التخلّف بعدما ظهر منك من الطاعة؟ وقيل : معناه : ما صرفك وشغلك عمّا كان بدا لنا من نصرتك؟ وقيل : معناه : ما بدا لك مني فصرفك عنّي؟

قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ)(٨) قيل : هي الخيل. وقيل : الإبل ، وقد مضى ذلك مشروحا ، وتقدّمت حكاية عن ابن عباس في قوله : (ضَبْحاً) في باب الضّاد. قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٩) أي المتجاوزون ما حدّ لهم. وفي الحديث : «لا عدوى» (١٠) هو

__________________

(١) ٢٣١ / البقرة : ٢.

(٢) ٦٥ / البقرة : ٢.

(٣) ١٩٤ / البقرة : ٢.

(٤) ٢ / المائدة : ٥.

(٥) ٤٢ / الأنفال : ٨.

(٦) ٢٨ / الكهف : ١٨.

(٧) قاله لطلحة من كلام. أخرجه الهروي (النهاية : ٣ / ١٩٤).

(٨) ١ / العاديات : ١٠٠.

(٩) ٧ / المؤمنون : ٢٣.

(١٠) النهاية : ٣ / ١٩٢.

٥٢

أن يكون [ببعير](١) أو بإنسان به جذام أو برص ، فتتّقى المؤاكلة معه ، فنفاها الشرع. ولهذا قال في موضع آخر : «فمن أعدى الأول؟» (٢) وفي حديث أبي ذرّ : «في الشجر» (٣) أي ترعى العدوة ، وهي الخلّة (٤). وفي الحديث أيضا : «السلطان ذو عدوان وذو بدوان وذو بدراء» (٥). والعدوان : سرعة الملال والانصراف ، والبدوان : أن يبدو له كلّ يوم رأي جديد. والعدوان : السريع العدو ؛ قال امرؤ القيس (٦) : [من الطويل]

كتيس ظباء الحلّب العدوان

ويقال : عادى الحمار يعادي بمعنى عدا يعدو ؛ وقال امرؤ القيس (٧) : [من الطويل]

فعادى عداء بين ثور ونعجة

وكان عداء الوحش مني على بال

وفي حديث حذيفة : «أنّه خرج وقد طمّ رأسه فقال : إنّ تحت كلّ شعرة لم يصبها الماء جنابة فمن ثمّ عاديت رأسي» (٨) قيل : استأصله ليصل الماء إلى أصول شعره وعن أبي عبيدة : رفعت شعري عند الغسل. وعاديت الوسادة : ثنيتها ، وعاديت الشيء : باعدته. وفي الحديث : «في المسجد تعاد» (٩) أي أمكنة مختلفة. وعاد رجلك ، أي جافها. وفي

__________________

(١) بياض في الأصل ، والإضافة من سياق شرح ابن الأثير.

(٢) النهاية : ٣ / ١٩٢. يعني : البعير الأول. والمعنى : من أين صار فيه الجرب؟

(٣) في الأصل : أبي ذريعة ، وهو وهم ولعله يقصد ، «تعدو في الشجر». وهو في النهاية : ٣ / ١٩٤.

(٤) وفي الأصل : الحكة ، وهو وهم. والخلة : ضرب من المرعى محبوب إلى الإبل (النهاية : ٣ / ١٩٥).

(٥) النهاية : ٣ / ١٩٣ ، واللسان ـ مادة بدو. وفي الأصل زيادة : «وذو بدراء» لم نجدها في المظان. أي : سريع الانصراف والملال. أما شرح اللسان فقوله : أي لا يزال يبدو له رأي جديد.

(٦) عجز في الديوان (ص ٧٨). وصدره :

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

ورواية الديوان : الغذوان ومعناها : المسرع. والحلب : نبات تعتاده الظباء.

(٧) وفي س : وقال هو. من الديوان : ٥٢. على أن العجز المذكور في الأصل هو :

وكان مكان الردف منه على ذال

وهو عجز لبيت آخر قبله مصحف ، وصوابه :

وصم صلاب ما يقين من الوجى

كأنّ مكان الردف منه على رأل

(٨) النهاية : ٣ / ١٩٤. وليس فيه «لم يصبها» ، وهي في اللسان والهروي «لا يصيبها».

(٩) الحديث لابن الزبير في بناء الكعبة. والكلام ناقص وتمامه : «وكان في المسجد جراثيم وتعاد» أي أمكنة مختلفة وغير مستوية. النهاية : ٣ / ١٩٤.

٥٣

حديث عمر رضي الله عنه : «أتي بسطيحتين فيهما نبيذ فشرب من إحداهما وعدّى عن الأخرى» (١) أي تركها من قولهم : عدّ عن كذا. قال النابغة (٢) : [من البسيط]

فعدّ عمّا ترى إذ لا ارتجاع له

وانم القتود على عيرانة أجد

وعن عمر بن عبد العزيز : «أنه أتي برجل قد اختلس طوقا فلم ير قطعه وقال : تلك عادية الظّهر» (٣) العادية : من العدوان ، والتاء فيه للمبالغة كراوية. والظّهر ما ظهر من الحليّ كالطّوق ونحوه. قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(٤) ليس حقيقة الخبر ، بل معناه : لا تعتدوا إلا على من ظلمكم وليس بخبر ، لأنّ العدوان كثيرا ما يقع على غير الظالمين. أو أنّه بيان للحكم بمعنى أنه لا يحكم بالعدوان إلا عليهم. وقولهم : قام القوم ما عدا زيدا وعدا زيدا ، من المجاوزة. ولذلك قال النحاة : تقديره : قاموا عدا القيام زيدا ، ومعناه معنى إلا زيدا. ولنا فيه كلام أتقنّاه في النحو.

فصل العين والذال

ع ذ ب :

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٥) : الإيجاع الشديد ، وأصله من المنع ، وسميت العقوبة والإيلام عذابا باعتبار منعها من معاودة ما عوقب عليه ، ومنه الماء العذب لأنه يعذب العطش ، أي يمنعه. وقيل : هو من قولهم : عذب الرجل إذا ترك المأكل فهو عاذب وعذوب. فكان التعذيب في الأصل حمل الإنسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر. وقيل : بل هو من العذب وهو الخلوّ بمعنى أنّ عذّبته للسّلب ، أي أزلت عذوبة حياته نحو مرّضته.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ١٩٣.

(٢) البيت في الديوان : ٥ ، والبيت مضطرب النسخ فصوبناه من الديوان.

(٣) النهاية : ٣ / ١٩٣.

(٤) ١٩٣ / البقرة : ٢.

(٥) ١٧٤ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

٥٤

وقيل : هو من ضربته بعذبة السّوط ، وهي عقدة طرفه. وقيل : هي من قولهم : ماء عذب إذا كان فيه قذى وكدر. فقولهم : عذّبته بمنزلة كدّرت عيشه وزلقت (١) حياته.

وأعذب يكون قاصرا ومتعديا ؛ يقال : أعذبت وأعذبت زيدا ، أي امتنعت ومنعت. ومن كلام عليّ رضي الله عنه لسرية بعثها : «أعذبوا عن ذكر النساء فإنّ ذلك يكسركم عن الغزو» ولمّا كان للعذاب أسباب فقد فسرّه المفسرون في كلّ موطن بما يليق به فقالوا في قوله تعالى : (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ)(٢) أنّ العذاب ما وعدوا به من نصر المؤمنين عليهم فيعذّبونهم قتلا وأسرا ، وفي قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ)(٣) أي بالمجاعة ، وفي قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ)(٤) هو القتل بالسيف ، وفي قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(٥) أي عذاب استئصال ، وفي قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ)(٦) أي بالسيف. تخالفت الأسباب والموت واحد.

ع ذ ر :

قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا)(٧). وأصل العذر ما يتحّراه الإنسان من محو جنايته. يقال : عذر وعذر نحو عسر وعسر. ثم العذر قيل : على ثلاثة أضرب : أحدها أن يقول : لم أفعل ، قاله الراغب (٨) وفيه نظر لأنّ أهل العرف لا يعدّونه عذرا بل هذا إنكار. والثاني أن يقول : فعلت كذا ، فيخرج بذلك عن كونه مذنبا. والثالث أن يقول : فعلت ولا أعود. قال : وهذا الثالث هو التوبة ؛ فكلّ توبة عذر وليس كلّ عذر توبة. ومنه قوله تعالى : (وَجاءَ

__________________

(١) وفي الأصل : وريقت ، وهو وهم.

(٢) ٧٥ / مريم : ١٩.

(٣) ٧٦ / المؤمنون : ٢٣.

(٤) ٧٧ / المؤمنون : ٢٣.

(٥) ٣٣ / الأنفال : ٨.

(٦) ٣٤ / الأنفال : ٨.

(٧) ٦٦ / التوبة : ٩ ، وغيرها.

(٨) المفردات : ٣٢٧.

٥٥

الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ)(١) وقرىء «المعذرون» (٢) أي الآتون بالعذر. وعن ابن عباس : «لعن المعذّرين ورحم المعذّرين» (٣) وقال بعضهم : المعذر المقصّر والمعذر المبالغ الذي ليس له. والمعتذر يقال فيمن له عذر وفيمن لا عذر له. ومنه قول عمر بن عبد العزيز لمن اعتذر إليه : «عذرتك غير معتذر» (٤) أي دون أن تعتذر ، لأن المعتذر يكون محقا وغير محقّ. قلت : وهذه التفرقة إنما تصحّ على قولنا : إنّ «المعذّرون» من عذّر بالتّضعيف ، إلّا أنّ الجمهور على أنّ أصله «المعتذرون».

قوله : (قالُوا مَعْذِرَةً)(٥) مصدر أي نعتذر معذرة ، وقرىء بالرفع (٦) ، أي صرنا معذرة ، كقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ)(٧) رفعا ونصبا ، كأنه قيل : أطلب منه أن يعذرني. وأعذر فلان : أتى بما صار به معذورا. يقال : قد أعذر من أنذر (٨).

قالوا : وأصل الكلمة من العذرة : وهي الشيء النجس. ومنه قيل لقلفة الرجل والمرأة عذرة. يقال : عذرت الصّبيّ : طهّرته وأزلت عذرته. وكذلك أعذرت (٩) فلانا ، أي أزلت نجاسة (١٠) ذنبه بالعفو عنه نحو : غفرت له : سترت ذنبه. وسمّوا جلدة البكارة عذرة تشبيها بعذرتها (١١) التي هي القلفة. ومنه قيل : عذرتها كناية عن افتضاضها ، وهو كرأستها أي أصبت

__________________

(١) ٩٠ / التوبة : ٩.

(٢) بفتح الذال مع التشديد قراءة قتادة ، وبفتحها مع التخفيف قراءة السدي ، و «المعاذرون» قراءة ابن أبي ليلى ، و «المعذرون» قراءة ابن عباس ، وكان يسبّ المعذرين (مختصر الشواذ : ٥٤).

(٣) المفردات : ٣٢٨.

(٤) النهاية : ٣ / ١٩٦.

(٥) ١٦٤ / الأعراف : ٧.

(٦) قال الفراء : وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة ، وقد آثرت القراء رفعها ونصبها جائز ، فمن رفع قال : هي معذرة (معاني القرآن : ١ / ٣٩٨).

(٧) ٥٨ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٨) المفردات : ٣٢٨ ومجمع الأمثال : ٢ / ٢٩.

(٩) وفي المفردات : عذرت ، وكلاهما جائز ؛ يقول ابن الأثير : عذرته وأعذرته (النهاية : ٣ / ١٩٦).

(١٠) وفي الأصل : إزالة ، وهو وهم.

(١١) وفي الأصل : بعذرته.

٥٦

رأسها. ولذلك قيل للعارض في حلق الصبيّ عذرة. فقيل : عذر الصّبيّ : أصابه ذلك. قال الشاعر (١) : [من الكامل]

غمز الطبيب نغانغ المعذور

ويقال : اعتذرت المياه : انقطعت. واعتذرت المنازل : درست على التشبيه بالمعتذر الذي يندرس ذنبه بإبراز عذره. والعاذرة : المستحاضة لما بها من النجاسة. والعذوّر : السّيّء الخلق اعتبارا بالعذرة التي هي النجاسة. قيل : وأصل ذلك من العذرة التي هي فناء الدار. ويسمّى ما يلقى فيها باسمها. ومن كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في عتابه لقوم : «ما لكم لا تنظّفون عذراتكم» (٢) وهذا كما كنى عن ذلك بالغائط لأنّ قاضي الحاجة ينتابه ليستتر به ، وسيأتي.

وفي الحديث «استعذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر عن عائشة» (٣) أي عتب عليها وقال لأبيها : كن عذيري منها. واستعذر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عبد الله بن أبيّ فقال : «من يعذرني من عبد الله؟» (٤) أي من يقوم بعذري إن جازيته بصنيعه؟ وفي المثل : «عذيرك من فلان» أي أحضر من يقبل عذرك ؛ فعيل بمعنى فاعل. ومنه قول عليّ رضي الله عنه وقد نظر إلى الخبيث عبد الرحمن (٥) بن ملجم المراديّ (٦) : [من الوافر]

عذيرك من خليك من مراد

وفي شعر أنشد في الاستسقاء (٧) : [من الطويل]

أتيناك والعذراء يدمى كلامها

__________________

(١) البيت لجرير (الديوان : ١٩٤). وصدره :

غمز ابن مرّة يا فرزدق كينها

(٢) النهاية : ٣ / ١٩٩ ، يعني أفنيتكم.

(٣) النهاية : ٣ / ١٩٧ ، وفيه : من.

(٤) النهاية : ٣ / ١٩٧ ، وهو من حديث الإفك.

(٥) وهم الناسخ فأسماه عبد الله.

(٦) النهاية : ٣ / ١٩٧.

(٧) النهاية : ٣ / ١٩٦ ، واللسان ـ مادة عذر. وفيهما : لبانها.

٥٧

العذراء : البكر من النساء ، وباعتبار ضيقها قيل للجامعة من الأغلال عذراء. وقد يجوز أن تكون الجامعة هي الأصل ، ومن ذلك قولهم : تعذّر (١) : إذا ضاق وعسرت معرفة وجهه.

فصل العين والراء

ع ر ب :

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ)(٢) الأعراب : سكان البوادي ، والعرب : سكان القرى والبوادي. ومن ثم غلّط سيبويه من جعل أعرابا جمعا لعرب لاستحالة كون المفرد أعمّ من الجمع. وهذا نظير : عالمون في كونه ليس جمعا كما سيأتي إن شاء الله تعالى : وقد تكلّمنا على ذلك في «إيضاح السبيل» وغيره. وقال الراغب (٣) : والأعراب جمعه في الأصل ، وصار ذلك اسما لسكان البادية. وهذا لا ينافي قول سيبويه فإنه كان كذا ثم غلب الاستعمال على ما ذكره. والأعراب يجمع على أعاريب. وأنشد (٤) : [من الوافر]

أعاريب ذوو فخر بإفك

والأعرابيّ منسوب إلى الأعراب سكان البادية. والعربيّ هو المفصح ؛ قيل : والعرب من كان من ولد إسماعيل. ويقال : لكونهم منسوبين إلى يعرب (٥). والعربيّ أيضا هو الكلام المبين الفصيح.

والإعراب يطلق بإزاء معان منها البيان. ومنه الحديث : «والأيّم تعرب عن نفسها» (٦)

__________________

(١) ساقطة من الأصل ، ومذكورة في م.

(٢) ٩٨ / التوبة : ٩ ، وغيرها.

(٣) المفردات : ٣٢٨.

(٤) من شواهد الراغب في المفردات ، وعجزه :

وألسنة لطاف في المقال

(٥) يعرب بن قحطان من اليمن ، ويأتي.

(٦) وفي المفردات : ٣٢٨ : «والثيب». وفي النهاية (٣ / ٣٠٠): «الثيب يعرب عنها لسانها». والحديث في صحيح ابن حنبل : ٤ : «الثيب تعرب عن نفسها ..». وتروى «تعرب» بالتخفيف وبالتشديد. وقد روي الحديثان.

٥٨

ومنها التغيير ؛ ومنه : أعربها الله ، أي غيّرها (١). ومنها التحسين ؛ ومنه : (عُرُباً أَتْراباً)(٢) أي حسان (٣) متحببات إلى أزواجهن. ومنها الفساد ؛ ومنه عربت معدة البعير أي فسدت. فالهمزة في الإعراب حينئذ للسّلب. فقولهم : أعرب كلامه ، أي بيّنه أو غيّره أو حسّنه أو أزال فساده. وللنّحاة عبارات بيّناها في غير هذا. قوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٤) أي بيّنا فلا يلزم أن يكون كلّه بلغة العرب. بل يجوز أن يكون غير عربيّ إذا كان متفاهما معروفا بين المخاطب به كاليمّ قيل : البحر بلغة الحبشة ، والقسطاس : الميزان بلغة الروم ، والمشكاة : الكّوة بلغة الهند ، إلى غير ذلك. ومن الناس من أباه وتحاشى ذلك لقوله : (ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ)(٥) وقد بينّا القولين ودلائلهما في غير هذا الموضوع من «القول الوجيز» و «البحر الزاخر» وغيرهما.

قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا)(٦) قيل : معناه شريفا كريما ، كقوله : (عُرُباً أَتْراباً) ووصفه بذلك كوصفه بكريم (٧). وقيل : معناه مفصحا يحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، وقيل : معرّبا (٨) من قوله عليه الصلاة والسّلام : «عرّبوا على الإمام» ؛ يقال : عرّبت عليه : إذا رددت عليه من حيث الإعراب ، قاله الراغب (٩) ومعناه على هذا أنه ناسخ لغيره من الأحكام. وقيل : لكونه منسوبا إلى النبيّ العربيّ من حيث إنه منزل على قلبه وبلسانه. قوله : (عُرُباً) أي متحببات لبعولتهن حسان في أعينهنّ. وقيل : لأنها لا تعرب بحالها عن عفّتها ومحبة زوجها ؛ الواحدة عروب. والمعرب : المتحرّي في كلامه الصواب ، والمبيّن عمّا في نفسه ، وصاحب الفرس العربيّ كالمجرب لصاحب الجرب.

__________________

(١) لم يرد هذا المعنى في اللسان.

(٢) ٣٧ / الواقعة : ٥٦.

(٣) وفي الأصل : حسناء وهو وهم.

(٤) ٣ / الزخرف : ٤٣.

(٥) ٤٤ / فصلت : ٤١.

(٦) ٣٧ / الرعد : ١٣.

(٧) في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧ / الواقعة : ٥٦).

(٨) وفي الأصل : معبرا.

(٩) المفردات : ٣٢٩.

٥٩

ويعرب : يقال إنه أول من نقل السريانية إلى العربية. ومن قيل إنه سمي باسم فعله. قوله : (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(١) اللسان هنا : اللغة ، ووصفه بالإبانة بعد نسبته إلى العرب تنبيه على أنّ صاحبه يتكلم بالعربية. يقال : عرب اللسان يعرب عروبا وعروبيّة. وفي الحديث : «الأيّم يعرب عنها لسانها» (٢) أي يبين ، إلا أن أبا عبيد قال : الصواب يعرّب ؛ بالتشديد. قال الفراء : يقال : عرّبت عن القوم : إذا تكلمت عنهم ، ومنه الحديث الآخر : «فإنما كان يعرب عمّا في قلبه ولسانه» (٣). وقد ردّ ابن قتيبة على أبي عبيد وقال : الصواب التخفيف لأنه يقال : اللسان يعرب عمّا في الضمير (٤). قال أبو بكر : لا حجّة لابن قتيبة على أبي عبيد لأنه حكاه عن الفراء عن العرب. والذي قاله ابن قتيبة إنما عمله برأيه عملا ، واللغة تروى ولا تعمل ولا سمعنا أحدا يقول : التّعريب باطل كما قال ، لأنّه لا اختلاف بين اللغويين في أنه يقال : أعربت الحرف وعرّبت الحرف. فالفراء يذهب إلى أنّ عرّبت أجود من أعربت مع عن ، فإذا لم تكن عن فأعربت وعرّبت لغتان متساويتان لا تقدّم إحداهما على الأخرى.

قلت : وهذا هو المشهور ، وهو أنّ اللغة سماع لا قياس ، وإنما حكيت هذا الكلام برمّته لإفادته لا سيما عن فحول الصناعة. وقال ابن الأعرابيّ : أعرب الصبيّ والعجميّ : إذا فهم كلامهما بالعربية. وعربا : إذا لم يلحنا. وقال عمر رضي الله عنه : «ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرّق أعراض الناس ألا تعرّبونه؟» (٥) أي تمنعونه. وقيل : فقبّحوا فعله عليه. وفي الحديث : «لا تحلّ العرابة للمحرم» (٦) قيل : هي الفحش. وفي الحديث : «نهى عن بيع العربان» (٧) هو أن يدفع المستام شيئا فإذا مضى البيع حسب من الثمن ، وإن لم يمضه كان للبائع.

ويقال : عربون وعربون وأربون ـ بالعين والهمز ـ ومنه الحديث : «فأعربوا فيها مئة

__________________

(١) ١٠٣ / النحل : ١٦.

(٢) أنظر الحاشية قبل صفحة.

(٣) النهاية : ٣ / ٢٠١.

(٤) الرأيان في النهاية.

(٥) النهاية : ٣ / ٢٠١ ، وفيه : «تعرّبون عليه».

(٦) النهاية : ٣ / ٢٠١ ، وهو حديث ابن الزبير.

(٧) النهاية : ٣ / ٢٠٢ ، والعربان : السلفة من العربون.

٦٠