عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

متقدّما. وفي الحديث : «أنا فرطكم على الحوض» (١) أي أتقدمكم ، يقال : فرطت القوم أي تقدّمتهم ، لترد لهم الماء وتهيّىء الدّلاء والرّشاء.

وأفرط فلان ابنا له : أي تقدّم له ابن. وفي الحديث : «أنا والنبيّون فرّاط القاصفين» (٢) أي متقدمون في الشفاعة. وفي الحديث : «نهاك عن الفرطة في البلاد» (٣) أي التقدّم والسّبق.

وفرس فرط : أي سابق غيره من الخيل.

ف ر ع :

قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(٤). فرعون اسم أعجميّ ، يقال : كلّ من ملك مصر فهو فرعون ، وقيل : كلّ من ملك العمالقة فهو فرعون ، كما أنّ كلّ من ملك الروم فهو قيصر ، ومن ملك الفرس كسرى ، وكلّ من ملك اليونان فهو بطليموس ، وكلّ من ملك الحبش فهو نجاشيّ ، وكلّ من ملك حمير فهو تبّع. واختلف في اسمه الأصليّ ؛ فقيل : مصعب ، وقيل غير ذلك ، وقد تصرّفت فيه العرب واشتقّوا منه فعلا فقالوا : تفرعن فلان : إذا فعل فعل فرعون ، وقالوا : هم الفراعنة للعتاة ، وأنشد بعضهم : [من البسيط]

قد جاء موسى كليم الله فزادفي

أقصى تفرعنه وفرط غرامه

وهذا كما قالوا : أبلس فلان : أي فعل فعل إبليس. وقالوا : أبالسة. وظاهر تصرفه فيما ذكرته يدلّ على أصالة نونه لثبوتها في تصاريفه. وقد يقال : إنه لما كان أعجميا لم يعتبر ذلك.

وفروع الشجرة : أغصانها ، ويقال ذلك باعتبارين : إمّا باعتبار الطول والامتداد يقال :

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٣٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق ، وفيه : « .. في الدين».

(٤) ٢٨ / غافر : ٤٠.

٢٦١

فرع فلان كذا : إذا أطاله ، ومنه قيل للشّعر. وامرأة فرعاء : طويلة الشعر ، ورجل أفرع ، قال امرؤ القيس (١) : [من الطويل]

وفرع يغشّي المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النّخلة المتعثكل

وقال الأعشى (٢) : [من البسيط]

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

وفرعت الجبل : أي توقّلته (٣). وفرّعت رأسه بالسيف. وافترعت المرأة وتفرّعت في بني فلان : تزوّجت في أشرافهم. وإمّا باعتبار الأخذ من الشيء أو ما قاربه ، ومنه قيل للولد : فرع والده ، وفروع المسألة : ما نشأ منها ولذلك قوبل (٤) بالأصل. وفرع الشجرة يقال بالاعتبارين (٥) : الطول وكونه من أصل نشأ عنه ، وفي الحديث : «لا فرع ولا فرعة في الإسلام» (٦). قال أبو عبيد : الفرع والفرعة بفتح الراء : أول ما تلد الناقة ، وكانوا يذبحونها لآلهتهم في الجاهلية فنهي المسلمون عن ذلك. وقال أبو مالك : كان الرجل إذا بلغت إبله مئة قدّم بكرا فنحره فذلك الفرع.

ف ر غ :

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً)(٧) أي خاليا من الصّبر لشدّة تهالكها عليه. وقيل : خاليا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى ، وقيل : فارغا من الاهتمام بموسى لأن الله تعالى وعدها أن يردّه إليها. وقيل : أنسيناها ذكره حتى احتملت أن تلقي فلذة كبدها في

__________________

(١) من معلقته (الديوان : ٣٤).

(٢) في الأصل : ذو الرمة ، وهو وهم. والبيت للأعشى كما هو مثبت ، من قصيدته المشهورة في محبوبته هريرة (الديوان : ٥٥). العوارض : الأسنان. الوجي : الحافي.

(٣) توقل الجبل : صعد فيه.

(٤) الكلمة ساقطة من الأصل ، ومذكورة في د.

(٥) في الأصل : بالاعتبار ، والتصويب من د.

(٦) رواه ابن الأثير : «لا فرعة ولا عتيرة» (النهاية : ٣ / ٤٣٥) ، والبخاري : «لا فرع ، فرعة ولا عتيرة» (صحيحه : عقيقة : ٣) ، وابن حنبل : «لا عتيرة في الإسلام ولا فرع» (مسنده : ٢).

(٧) ١٠ / القصص : ٢٨.

٢٦٢

البحر ، وهذا لا يقدر عليه بشر إلا بأن يقدره الله عليه ، ويؤيد الآخر قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها)(١) بعد قوله : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ).

قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ)(٢) أي سنعمل ، وهو مما يتعارفه الناس في محاوراتهم : ما يفرغ فلان لفلان ؛ يقولونه تهديدا ، وبذلك فسّره المبرد وأنشد (٣) [من الطويل]

ولمّا اتّقى القين العراقيّ باسته

فرغت إلى العبد المقيّد في الحجل

والفراغ في اللغتين على وجهين : الأول الفراغ من شغل ، وهذا غير جائز على الله تعالى لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، والثاني : القصد للشيء.

والإفراغ : الصبّ ، ومنه : «آتوني أفرغ عليه قطرا» (٤) واستعير ذلك في المعاني ؛ فقيل : أفرغ الله علينا الصّبر ؛ قال تعالى : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً)(٥) وأفرغت الإناء : صببت ما فيه ، ومنه استعير : ذهب دمه فرغا ، أي مصبوبا باطلا غير مأخوذ بثأره. قال الشاعر : [من البسيط]

أهان دمّك فرغا بعد عزّته

يا عمرو بغيك إضرارا على الجسد

وقال آخر (٦) : [من الطويل]

فإن تك أذواد أصبن ونسوة

فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال

فرغا : حال من بقتل قدم عليه.

وحمار فراغ ، ودابة فراغ ، أي سريعة السير ، ومنه حديث الأنصاري : «حملنا رسول

__________________

(١) تابع الآية السابقة.

(٢) ٣١ / الرحمن : ٥٥.

(٣) البيت لجرير (الديوان : ٤٦٤) ، وفيه : القين المقيد. والقين العراقي : البعيث.

(٤) ٩٦ / الكهف : ١٨.

(٥) ٢٥٠ / البقرة : ٢.

(٦) من شواهد اللسان ـ مادة فرغ.

٢٦٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمار لنا قطوف فنزل عنه فإذا هو فراغ لا يساير» (١) أي لا يمكن مسايرته لسرعته وذلك ببركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ف ر ق :

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ)(٢) قيل : هو يوم بدر ، وذلك أنه فرق فيه بين الحقّ والباطل ، وتبين أنّ دين الله هو الغالب. فالفرقان مصدر فرق يفرق ، وأصله في الأعيان نحو : فرقت بين الإناءين. وسمي يوم بدر بيوم الفرقان لأنه أول يوم حصل فيه الفرق بين الحقّ والباطل. وتقديره تقدير رجل قنعان أي يقنع به في الحكم. والفرق يستعمل في ذلك وفي غيره. وقيل : الفرقان : اسم لا مصدر قاله الراغب (٣) ، والفرق [والفلق متقاربان. وقال الراغب : لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق. والفرق اعتبارا بالانفصال](٤) والفرق : الطائفة من الناس المنفصلة عن غيرها ، قال تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٥). قوله تعالى : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٦). فالفرق قطعة من الماء منفصلة ، والفريق : الجماعة المنفردة أيضا ، كقوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٧).

وفرقت بين الشيئين : فصلت بينهما ، وهذا الفصل قد يكون مدركا بالبصر كما في الأشخاص ، وقد يكون مدركا بالمعاني ، ومنه الفرق بين المسألتين ، وهذا إبداء معنى لم يوجد في الطرف الآخر مع تخيّل التّساوي.

قوله تعالى : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً)(٨) قيل : عنى الملائكة ، فإنّهم يفرقون بين الحقّ

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٣٧.

(٢) ٤١ / الأنفال : ٨.

(٣) المفردات : ٣٧٨.

(٤) ساقط من الأصل ، إضافة من د ومن المفردات : ٣٧٦.

(٥) ١٢٢ / التوبة : ٩.

(٦) ٦٣ / الشعراء : ٢٦.

(٧) ٧ / الشورى : ٤٢.

(٨) ٤ / المرسلات : ٧٧.

٢٦٤

والباطل حسبما أمرهم الله تعالى به. وقيل : بفصل الأشياء حسبما أمروا به من زيادة رزق هذا وعمره ، ونقص آخر منهما ، حسبما ورد بذلك ظاهر أحاديث مشهورة.

وقوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ)(١) أي فصلناه وبينّا فيه الأحكام ، وقرىء (فَرَقْناهُ)(٢) مشددا أي نجّمناه في التنزيل ، ولذلك قال : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)(٣).

قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(٤) إنّما دخلت بين على أحد وإن كان بلفظ الإفراد. وبين لا تدخل إلا على متعدّد لأنّه يفيد الجمع في سياق النفي ، والمعنى أنّ الإيمان بكلّ الرسل واجب ، وكذلك بجميع الكتب السماوية وبجميع الملائكة ، فلو آمن واحد ببعض أولئك فإيمانه كلا إيمان ، وحينئذ يكون المؤمن بالبعض قد فرّق بين رسول ورسول وكتاب وكتاب ، مع أن كلّا منهم يدلي بما يدلي الآخر. فما معنى التفرقة بينهم في ذلك؟

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ)(٥) أي جعلوا دينهم مختلفا ، فخلطوا حقّه بباطله ، بأن آمنوا ببعض الرسل وبعض الكتب ، وكفروا ببعض ، فهو في معنى الآية قبلها. وقرىء فارقوا (٦) أي تركوا. ويطابق الأولى قوله بعده (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة.

قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(٧) أي نورا وتوفيقا في قلوبكم يفرق بين الحقّ والباطل ، فكأنّ الفرقان ههنا كالسّكينة والرّوح في غيره. وقال الفراء : أي فتحا ونصرا ونجاة.

__________________

(١) ١٠٦ / الإسراء : ١٧.

(٢) قراءة أبيّ وابن عباس ومجاهد (مختصر الشواذ : ٧٧).

(٣) تتمة الآية السابقة.

(٤) ٢٨٥ / البقرة : ٢.

(٥) ١٥٩ / الأنعام : ٦.

(٦) قرأها علي ، وقال : «والله ما فرّقوه ولكن فارقوه» وهم اليهود والنصارى (معاني القرآن للفراء : ١ / ٣٦٦). ويقول الفراء : وكلّ وجه.

(٧) ٢٩ / الأنفال : ٨.

٢٦٥

يقال للصبح فرقان لفرقه بين النور والظلمة ، ولأنه يفرق به بين الأشياء ، ومنه قولهم : قد طلع الفرقان.

والفرقان : كلام الله تعالى في سائر كتبه المنزلة لأنه يفرق بين الحقّ والباطل في الاعتقاد ، والكذب والصدق في المقال ، والصالح والطالح في الأعمال. وهذا المعنى موجود في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً)(١).

قوله تعالى : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ)(٢) أي تيقّن أو ترجّح عنده أنه ز من مفارقته الدنيا ، وأنه ميت لا محالة ، يعني بذلك المحتضر بدليل تقدّم قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) ، وتأخّر قوله : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)(٣) الآية. والفراق والمفارقة يكونان بالأبدان وبغيرها ولكن بالأبدان أكثر ؛ فيقال : فارقت روحه جسده.

والفرق : شدّة الفزع لأنه يفرق القلب ويشعّبه لما يحصل فيه من الخوف ، واستعمال الفرق فيه كاستعمال الصّدع والشّقّ فيه. ويقال : رجل فروق وفروقة أي كثير الفرق ، وفروقة أبلغ كعلّامة ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث ؛ فيقال : امرأة فروق وفروقة. ومنه قيل للناقة النّادّة في الأرض من وجع المخاض : فارق وفارقة ، وبه شبّهت السحابة المنفردة فقيل لها فارق.

والأفرق من الدّيكة : ما عرفه مفروق ، ومن الخيل ما إحدى وركيه أرفع من الأخرى. والفروقة : ـ أيضا ـ شحم الكليتين. والفريقة : تمر يطبخ بحلبة.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ)(٤) أي يظهرون الإيمان بالله ويكفرون بالرسول ، وهذا خلاف ما أمرهم الله به ، فإنه قرن الإيمان به بالإيمان بالله ، فمن كفر برسوله لم يؤمن بالله. فنسأل الله تعالى بمن جعل له هذه الرّتبة أن يمنّ علينا برؤياه في الجنة آمين.

__________________

(١) ٤٨ / الأنبياء : ٢١.

(٢) ٢٨ / القيامة : ٧٥.

(٣) الآيتان ٢٦ و ٢٩ من السورة السابقة.

(٤) ١٥٠ / النساء : ٤.

٢٦٦

والفرق ـ أيضا ـ إناء أو مكيال يسع اثني عشر مدّا ، وفي الحديث : «كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنهما من إناء يقال له الفرق» (١). قال أبو الهيثم : هو إناء يأخذ ستة عشر رطلا وذلك ثلاثة أصوع.

والفريقة ـ أيضا ـ طائفة تشذّ وتنفرد عن الغنم ، ومنه الحديث : «ما ذئبان عاديان أصابا فريقة غنم» (٢) والفرق ـ أيضا ـ : القطيع من الغنم ، وفي حديث عثمان أنه سأل فقال : «كيف تركت أفاريق العرب» (٣) الأفاريق جمع أفراق ، والأفراق جمع فرق. وفريق وفرقة بمعنى واحد.

ف ر ه :

قوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ)(٤) أي أشرين بطرين ، والجمع فرّه. وقرىء فارهين وفرهين فقيل بمعنى ، نحو [بارّ وبرّ](٥). وقيل : فارهين : حاذقين ، وفرهين : أشرين مرحين (٦).

وناقة مفره ومفرهة : تنتج الفرّه. والفراهة تكون في الإنسان وفي غيره من الحيوان ؛ يقال : رجل فاره ودابّة فاره.

وقولهم : هو أفره عبد وأفره عبدا ؛ فهو على الأول عبد وعلى الثاني مالك عبد ، وهذا يعرف من صناعة النحو لا من هنا.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٣٧.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٤٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ١٤٩ / الشعراء : ٢٦.

(٥) بياض في الأصل ، والإضافة من د.

(٦) وهو رأي الفراء في معانيه : ٢ / ٢٨٢.

٢٦٧

ف ر ي :

قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا)(١) أي عظيما ، وقيل : عجيبا ، وقيل : مصنوعا مختلفا ، ومعناها متقارب. وفي الحديث لما وصف عمر فقال : «لم أر عبقريا يفري فريّه» (٢). وأصل الفري قطع الجلد للخرز ، قال زهير بن أبي سلمى (٣) : [من الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ، ثمّ لا يفري

والفري : الإصلاح ، والإفراء : الإفساد ، كأنّ الهمزة فيه للسلب ، وإذا أزيل الإصلاح صار فسادا. والافتراء : افتعال من الفري من الفري أو الإفراء ، وهو أقبح الكذب ، أو الكذب مع التعمّد عند من يرى أن الكذب مخالفة ما في الواقع مطلقا. ولذلك موضع حقّقناه فيه ولله الحمد ، وقد ذكرنا منه طرفا في هذا الكتاب عند كلامنا على الصدق والكذب.

ووقع الافتراء والمراد به الكذب والشرك والظلم ، كلّ ذلك بحسب المقامات الواردة في الكتاب.

وافترى الرجل : لبس الفراء. والفراء : جمع فروة ، وهذا يستعمل في التورية فيقال : افترى زيد : أي لبس الفروة. وقوله عليه‌السلام في حقّ سفيان بن حرب : «أنت كما قيل : كلّ الصّيد في جوف الفرا» (٤) فالفراء مقصور مهموز ليس من هذه المادة وإن كان بعضهم يرويه «الفراء» بحرف المد وليس بصواب ، كذا قيل ، وفيه نظر من حيث إنه إذا وقف على مثل هذه الهمزة جاز قلبها ألفا ، فالنطق بذلك ليس خطأ إنما الخطأ اعتقاد كونه غير مهموز ، والله أعلم.

__________________

(١) ٢٧ / مريم : ١٩.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٤٢ ، وهو من حديث الرؤيا. أي يعمل عمله ويقطع قطعه.

(٣) شعر زهير : ١١٩ ، من قصيدة في مدح هرم.

(٤) مجمع الأمثال : ٢ / ٣٠١١. ولقد تألّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان بهذا القول على الإسلام ، وذلك حين حجبه قليلا. وقال أبو العباس : معناه إذا حجبتك قنع كل محجوب. الفرا : الحمار الوحشي.

٢٦٨

فصل الفاء والزاي

ف ز ز :

قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ)(١) أي أزعجهم وقلقلهم. يقال : استفزّه يستفزّه أي : استخفّه مزعجا له ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها)(٢) ، ومثله : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ)(٣) أي يزعجهم ويحركهم تحريكا عنيفا.

ويقال : فلان أزعجني واستفزّني : استدعاني استدعاء يستخفّني به ، وأنشد لأبي ذؤيب (٤) : [من الكامل]

والدّهر لا يبقى على حدثانه

شبب أفزّته الكلاب مروّع

أي استخفّته وأزعجته ، فالمعنى : استدعهم استدعاء تستخفّهم به إلى إجابتك بصوتك أي بدعائك.

وسمي ولد البقرة فزّا لما تصوّر فيه من الخفّة ، كما سمي عجلا لما تصوّر فيه من العجلة.

ف ز ع :

قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)(٥). الفزع : قيل الخوف وليس بظاهر ، بل الفزع أخصّ منه. وهو كما فسّره بعض الحذّاق : انقباض يعتري الإنسان ونفار من كلّ شيء مخيف ، وهو من جنس الجزع. قال : ويقال : خفت من الله ولا يقال : فزعت منه.

__________________

(١) ٦٤ / الإسراء : ١٧.

(٢) ٧٦ / الإسراء : ١٧.

(٣) ١٠٣ / الإسراء : ١٧.

(٤) ديوان الهذليين : ١ / ١٠. الشبب : الثور المسن. أفزّته : استخفته وطردته.

(٥) ٨٩ / النمل : ٢٧.

٢٦٩

وقوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)(١). قيل : الفزع : دخول النار والخلود فيها. وقيل : هو أن يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، وأهلهما ينظرون إليه فيذبح ويقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، فذلك هو الفزع الأكبر. اللهمّ أمّنّا كما أمّنت أولئك من هذا الفزع الأكبر بحرمة من أنزلت عليه كتابك الكريم.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)(٢) أي كشف عن قلوبهم الفزع ، قال الفراء (٣) : المفزّع يكون شجاعا ويكون جبانا ؛ من جعله شجاعا مفعولا به قال : [من الكامل]

وبمثله تتنزّل الأفزاع

قال الهرويّ : ومنه قول عمرو بن معدي كرب وقد قال له بعضهم : «لأضرّطنّك» (٤) : «إنها لعزوم مفزّعة» أي صحيحة بها تنزل الأفزاع فتجلّيها ، ومن جعله جبانا أراد : يفزع من كلّ شيء. قال الفراء : هذا مثل قولهم : رجل مغلّب أي غالب ، ومغلّب أي مغلوب.

وفزع يفزع فزعا : إذا حلّ به الفزع. وفزع ـ أيضا ـ استغاث. وفزع : أغاث. وفي الحديث : «فزع أهل المدينة ليلا فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا معروريا لأبي طلحة» (٥) أي استغاثوا. ومن مجيء فزع بمعنى أغاث قول طلحة اليربوعيّ (٦) [من الطويل]

فقلت لكأس ألجميها فإنّما

حللت الكثيب من زرود لأفزعا

__________________

(١) ١٠٣ / الأنبياء : ٢١.

(٢) ٢٣ / سبأ : ٣٤.

(٣) معاني القرآن : ٢ / ٣٦١ ، والشاهد فيه.

(٤) قاله له الأشعث (النهاية : ٣ / ٤٤٤). وفي رواية اللسان بسكون الضاد ـ مادة فزع.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٤٣ ، عدا كلمة «معروريا». وفرس معرور : لا سرج عليه ولا غيره. والكلمة مذكورة في اللسان ـ مادة عرا.

(٦) من شواهد اللسان ، وفيه : الكلحبة اليربوعي واسمه هبيرة بن عبد مناف ، والكلحبة أمه وفي رواية القاموس : حللنا .. لنفزعا.

٢٧٠

أي لأغيث ، ومن مجيء فزع بمعنى أغاث ـ أيضا ـ قول سلامة (١) : [من البسيط]

كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصّراخ له قرع الظّنابيب

كذا قال الهرويّ ، إلا أن الغالب لم يرتض بذلك فقال : وقول الشاعر :

كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

أي صارخ أصابه فزع. ومن فسّره بأنّ معناه المستغيث كان ذلك تفسيرا للمقصود من الكلام لا للفظ الفزع. وقال الهرويّ بعد إنشاد البيت : تقول : إذا ما أتانا مستغيث كانت إعانته منا الجدّ في نصرته.

يقال : قرع لذلك الأمر ظنبوبه : إذا جدّ فيه ، قال : فالفزع يكون بمعنيين ؛ أحدهما الرعب ، والثاني النّصرة.

والفزع ـ أيضا ـ : الهبوب من النوم ، وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسّلام فزع من نومه يضحك» (٢) أي هبّ. وقال عليه الصلاة والسّلام / للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع» (٣) يريد عليه الصلاة والسّلام : تكثرون عند النّصرة والإغاثة والإنجاد.

وأفزع يقال بمعنيين أحدهما : أزال فزعي ونصرتي ، والثاني : حصّل لي فزعا ؛ فالهمزة تكون للسلب وللصيرورة ، وكذلك التضعيف ، يقال : فزّعني ، أي أزال فزعي أو حصّله لي.

__________________

(١) الديوان : ١٢٥. وهو من الأبيات المشهورة في كتب الأدب واللغة. وقرع الظنابيب : كناية عن العزم على الغوث.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٤٤.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٤٣.

٢٧١

فصل الفاء والسين

ف س ح :

(إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ)(١) أي توسّعوا في مجالسكم بأن تتأخروا ولا تضيّقوا ، وذلك أنّ بعض أكابر الصحابة أتى مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجد مكانا ، وأبى القوم أن يفسحوا له فنزلت ، ولذلك قال : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا)(٢) أي ارتفعوا عن أمكنتكم لتوسعوا لغيركم.

ومكان فسح وفسيح وفساح أي : متسع ، وفي حديث أمّ زرع : «وبيتها فساح» (٣). ويروى فيّاح (٤) ، وهما بمعنى. ومنه استعير : فسّحت له في هذا الأمر ، أي أذنت له فيه ، ولم أمنعه من فعله فأضيّق عليه.

ف س د :

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(٥) الفساد لغة : خروج الشيء عن الاعتدال والاستقامة ، قلّ ذلك الخروج أو كثر ، ويكون في الأعيان والمعاني. ومنه فساد العقائد أعاذنا الله منه. ويستعمل في النفس والبدن. وفي الحديث : «إذا فسد القلب فسد سائر البدن» (٦) يقال : فسد يفسد فسادا فهو فاسد. وأفسد يفسد فهو مفسد إفسادا.

قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)(٧) من باب عطف الخاصّ على العامّ تنبيها على زيادته في جنسه ، فإنّ الإفساد يعمّ إهلاك الحرث

__________________

(١) ١١ / المجادلة : ٥٨.

(٢) تتمة الآية السابقة.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٤٥.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٨٤ ، وهو رواية أبي عبيد.

(٥) ١٢ / البقرة : ٢.

(٦) الفتح الكبير : ٢ / ٨٢.

(٧) ٢٠٥ / البقرة : ٢.

٢٧٢

والنسل وغيره. قوله تعالى بعد ذلك : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١). نفى محبّته للفساد من الأصل وإن كان لو لا ذلك المعنى المقصود الإفساد هو المطابق لقوله أولا ليفسد فيها لأنه من أفسد.

ف س ر :

قوله تعالى : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(٢) أي كشفا وبيانا. والتّفسرة لغة : الكشف لما ينظر فيه الطبيب فينكشف له ذلك الداء. وقال الراغب : الفسر (٣) ؛ إظهار المعنى المعقول ، ومنه قيل لما ينبىء عنه القول : تفسرة ، وسمّي بها قارورة الماء.

وتفسير القرآن : بيان ألفاظه وبيان معانيه وأحكامه ، وتأويله : حمله على المعاني اللائقة ، ما ظاهره قد يفهمه من لم تثبت قدمه في العلم المتغاير ، وهل التفسير والتأويل الواردان في القرآن مترادفان أو متغايران؟ فقيل : التفسير : معرفة مدلولات الألفاظ وأسباب النزول والوقائع ، وأما التأويل فهو ردّ اللفظ إلى ما يليق به من المعنى ، ولذلك يجوز لمن تثبت قدمه في العلم أن يتكلم فيه باجتهاده ، ونظره هذا أحسن ما قيل في الفرق بينهما. وقال الهرويّ : قال أبو العباس : التأويل : التفسير والمعنى واحد. وقال غيره : التفسير : كشف المراد عن اللفظ المشكل ، والتأويل ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. وقال الراغب : والتفسير قد يقال فيما يختصّ بمفردات الألفاظ وغريبها وفيما يختصّ بالتأويل ، ولذلك قيل : تفسير الرؤيا وتأويلها. قلت : التأويل تفعيل من آل يؤول ، أي رجع. فمعنى التأويل : الرجوع باللفظ عن ظاهره إلى معنى يستقيم به ذلك اللفظ ، ولذلك يقابل العلماء بينه وبين الظاهر فيقال : الظاهر والمؤول كتأويلنا قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(٤) على أن المراد النعمة والقدرة ، وكجمعنا بين قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(٥) وبين قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٦) بأنّ يوم القيامة

__________________

(١) تتمة الآية السابقة.

(٢) ٣٣ / الفرقان : ٢٥.

(٣) كذا في المفردات (ص ٣٨٠) ، وفي الأصل : التفسير.

(٤) ٦٤ / المائدة : ٥.

(٥) ٩٢ / الحجر : ١٥.

(٦) ٣٩ / الرحمن : ٥٥.

٢٧٣

ذو مواطن وأزمنة مختلفة فيسألون في وقت ، ولا يسألون سؤال تكرمة بل سؤال تقريع وتوبيخ. ولذلك قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(١) عند من وقف عند (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وهو الظاهر. كان ابن عباس ، وحقّ له أن يقول لقوله عليه الصلاة والسّلام في حقّه : «اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التأويل» (٢) يقول : أنا منهم. وقد ذكرنا طرفا من القول في مادة «أول» في صدر هذا الموضوع.

ف س ق :

قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(٣) أي خرج. والفسق : الخروج ، يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها. والفسق الشرعيّ : عبارة عن الخروج عن الطاعة وهي امتثال الأوامر واجتناب النّواهي. قال الراغب (٤) : الفسق أعمّ من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب والكثير ، لكن تعورف فيما كان كبيرة ، قال : وأكثر ما يقال الفاسق لمن (٥) التزم حكم الشرع وأقرّ به ثم أخلّ بجميع أحكامه أو بعضها.

وقيل للكافر الأصليّ فاسق لأنه أخلّ بما التزمه العقل واقتضته الفطرة ، وقوبل بالمؤمن في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً)(٦) وقوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)(٧). فالفاسق أعمّ من الكافر ، والظالم أعمّ من الفاسق.

قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)(٨) أي لخروج عن الحقّ. وقد غلط ابن الأعرابيّ فقال : لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب ، وإنما قالوا : فسقت الرّطبة عن قشرها.

__________________

(١) ٧ / آل عمران : ٣.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٦٥ ، أي فهّمه.

(٣) ٥٠ / الكهف : ١٨.

(٤) المفردات : ٣٨٠.

(٥) في الأصل : لما ، والتصويب من المفردات.

(٦) ١٨ / السجدة : ٣٢.

(٧) ١١ / الحجرات : ٤٩.

(٨) ١٢١ / الأنعام : ٦.

٢٧٤

وقد أثبت بعض المعتزلة قسما ثالثا زيادة على الكافر والمؤمن فقال : الناس مؤمن وكافر وفاسق.

وسميت الفأرة فويسقة لما فيها من الخبث والفسق. وفي الحديث : «اقتلوا الفويسقة فإنها تضرم على الناس بيوتها» (١). وفيه أيضا : «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والحية والكلب العقور» (٢).

فصل الفاء والشين

ف ش ل :

قوله تعالى : (لَفَشِلْتُمْ)(٣) أي لجبنتم. يقال : فشل من الأمر يفشل فشلا : إذا جبن ؛ فالفشل : ضعف القلب وخور الجنان ، ومنه قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)(٤). وقيل : الفشل ضعف مع جبن.

وتفشّل (٥) الماء : إذا سال ، وتفاشل مثله.

__________________

(١) المفردات : ٣٨٠.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٤٦.

(٣) ٤٣ / الأنفال : ٨.

(٤) ١٢٢ / آل عمران : ٣.

(٥) في الأصل : فشل. والتصويب من اللسان والمفردات.

٢٧٥

فصل الفاء والصاد

ف ص ح :

قوله تعالى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)(١). الفصاحة : خلوص الكلام وبيانه بحيث لا يلتبس على سامعه. وفصح الرجل : جادت لغته ، وأفصح : تكلّم بالعربية ، وقيل بالعكس ، قال الراغب (٢) : والأول أصحّ. والفصيح : من ينطق والأعجم من لا ينطق ، ومنه استعير فصح الصّبح : بدا ضوؤه.

وأصل الفصاحة من فصح اللبن يفصح فهو فصيح ، وأفصح يفصح فهو مفصح إذا خلص من الرّغوة وتعرّى عنها. فالفصح : خلوص الشيء ممّا يشوبه ، وفي المثل : «تحت الرّغوة اللبن الفصيح» (٣) فأتبعته ذلك للفصاحة في الكلام.

والفصاحة في اصطلاح أهل البيان تتعلق بالكلمة والكلام والمتكلم ، والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط. وقد حقّقنا ذلك في غير هذا الموضوع. فأمّا قولهم : كلمة بليغة ، فلأنّ الكلمة في هذا المقام بمعنى الكلام.

ف ص ل :

قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ)(٤) أي فارق مكانه ومركزه الذي كان فيه ،

__________________

(١) ٣٤ / القصص : ٢٨.

(٢) المفردات : ٣٨٠.

(٣) شطر من شعر نضلة السّلميّ بإضافة واو العطف. وهو عجز لبيتين ذكرهما ابن منظور في مادة ـ فصح. ولم نجد الحديث في المظان. وصدره :

فلم يخشوا مصالته عليهم

(٤) ٢٤٩ / البقرة : ٢.

٢٧٦

وكذا قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ)(١). وأصل الفصل : إبانة الشيء من الشيء وقطعه حتى يكون (٢) بينهما فرجة. ومنه مفاصل الإنسان ، الواحد مفصل. وفصلت الشاة : قطعت مفاصلها.

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ)(٣) أي يوم يفصل فيه بين الحقّ والباطل ، والظالم والمظلوم ؛ بأن يحكم الله بين عباده ، فيفصل بينهم بعلمه فيهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ)(٤) أي بيّن ظاهر ، يفصل به بين الأشياء لا التباس ولا لبس فيه (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)(٥).

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)(٦) أي قطع الحكم وبيانه ، والفصل بين الخصوم. وقيل : هي كلمة أمّا بعد. وقيل : هو قوله : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه. وقيل : الفصل بين الحقّ والباطل.

قوله : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ)(٧) أي مبيّنات. وقيل : تفصيلها : فصلها وتمييزها بعضها من بعض ، أي بين كلّ آيتين فصل ؛ تمضي هذه وتأتي هذه. وقيل : من تفصيل القلائد بالشذر لأنّ آيات القرآن مفصلة بالأحكام كما تفصّل القلائد بالشّذر والخرز ، وهذا القول مقول في قوله تعالى : (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(٨). وقيل : بيّن فيها الحلال والحرام. وقيل : جاءت شيئا بعد شيء.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ)(٩) أي ما سبق من أنّ الله تعالى يؤخّر الحكم بينهم إلى يوم القيامة ، أي لو لا ما تقدّم من وعد الله أنه يفصل بينهم يوم القيامة لفصل

__________________

(١) ٩٤ / يوسف : ١٢.

(٢) وفي الأصل : لا يكون ، ولعل الفصيح ما أثبتناه.

(٣) ٢١ / الصافات : ٣٧.

(٤) ١٣ / الطارق : ٨٦.

(٥) ٢٨ / الزمر : ٣٩.

(٦) ٢٠ / ص : ٣٨.

(٧) ١٣٣ / الأعراف : ٧.

(٨) ١ / هود : ١١.

(٩) ٢١ / الشورى : ٤٢.

٢٧٧

الآن. وقيل : قوله تعالى : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) إشارة إلى قوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١).

قوله : (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ)(٢). فصيلة الرجل : عشيرته المنفصل هو عنها. وقيل : الفصيلة أقرب القبيلة. وأصل الفصيلة : القطعة من لحم الفخذ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على القبيلة وما بعدها من المعمرة (٣) والفخذ والبطن ونحوها. وكان يقال : العباس رضي الله عنه فصيلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ)(٤) أي فطامه ، وذلك لانفصال الولد عن أمّه التي ترضعه. وكذا قوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً)(٥) أي فطم ولدهما.

وفي وصف كلامه عليه الصلاة والسّلام : «فصل لا نزر ولا هذر» (٦) فالفصل للفاصل بين الحقّ والباطل والقاطع بين الخصوم. والنزر : القليل ، والهذر : الكثير.

والمفصّل من القرآن : السّبع الأخير ، وذلك للفصل بين القصص بالسور القصار. وقيل : سمي مفصّلا لقصر أعداد سوره من الآي. واختلف الناس في المفصّل ؛ فقيل : السّبع الأخير كما تقدّم نقله عن الراغب (٧). وقيل : من الحجرات ، وقيل : من سورة ق إلى آخر القرآن. والفواصل : أواخر الآي. وفواصل القلادة : شذر يفصل به بينها. وفي الحديث : «من أنفق نفقة فاصلة فله من الأجر كذا» (٨) أي يفصل بين الإيمان والكفر. والفيصل : الكثير الفصل. وفي الحديث : «لو علم بها لكانت الفيصل بيني وبينه» (٩) أي القطيعة. والفصيل أيضا : الحوار لانفصاله عن أمّه ، وهو مختصّ به خصّصه الاستعمال العرفيّ. والفصيل أيضا ، حائط دون سور المدينة.

__________________

(١) ٨٩ / النحل : ١٦.

(٢) ١٣ / المعارج : ٧٠.

(٣) وفي اللسان : العمارة (بكسر العين).

(٤) ١٥ / الأحقاف : ٤٦.

(٥) ٢٣٣ / البقرة : ٢ ، أي قبل عامين.

(٦) النهاية : ٣ / ٤٥١.

(٧) المفردات : ٣٨١.

(٨) النهاية : ٣ / ٤٥١.

(٩) النهاية : ٣ / ٤٥٢ ، من حديث ابن عمر.

٢٧٨

ف ص م :

قوله تعالى : (لَا انْفِصامَ لَها)(١) أي لا انقطاع. يقال : فصمت الشيء : إذا كسرته أو قطعته من غير بينونة فيه بعضه من بعض. فإذا فصلته منه قيل له قصم ـ بالقاف ـ ولذلك كان نفي الانفصام في الآية أبلغ من نفي الانقصام ، لأنّه إذا انتفى الفصم مع قلّته فلينتف القصم بطريق الأولى وهذا كما قالوا في الخصم والفصم والقبض والقنص والوكز واللكز. وفي حديث عائشة رضي الله عنها : «فيفصم عنه الوحيّ وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» (٢) أي يقلع عنه. وفي الحديث : «درّة بيضاء ليس فيها قصم» (٣).

فصل الفاء والضاد

ف ض ح :

قوله تعالى : (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ)(٤) أي تظهروا لي الفضيحة. وأصل الفضح بيان الشيء وكشفه. والفضيحة ما يستحى من إظهاره. ومنه : فضح الصبح أي ظهر ضوؤه. وفي الحديث : «حتى فضحه الصبح» (٥) قال الهرويّ : معناه حتى دهمته فضحة الصّبح وهي بياضه. والأفضح : الأبيض الذي لم ينصع بياضه.

ف ض ض :

قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(٦) أي لتفرّقوا. وكذا (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها)(٧) أي ذهبوا ومضوا وتفرّقوا عنك. وأصل لانفضاض الانكسار ؛ يقال : فضضت الخاتم : كسرته وفرّقت أجزاءه ، وعنه استعير : انفضّ القوم. وكلّ شيء كسرته فقد فضضته ، وبها فضّ من الناس : أي نفر متفرّقون ، وقالت عائشة

__________________

(١) ٢٥٦ / البقرة : ٢.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٥٢.

(٣) المصدر السابق ، وتتمته : « ... ولا فصم».

(٤) ٦٨ و ٦٩ / الحجر : ١٥.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٥٣.

(٦) ١٥٩ / آل عمران : ٣.

(٧) ١١ / الجمعة : ٦٢.

٢٧٩

لمروان : «وأنت فضض» (١) أي قطعة.

وفضض الماء : نشره ، وهو ما ينتشر منه عند التطهّر به ، وفي حديث عمر : «حتى انقطعنا من فضض الحصى» (٢) أي ما تفرّق منه. والفضيض والفضض : أول ما يطلع من الطّلع ، والفضفاض : الدرع الواسع. وفي حديث سطيح وشعره : / [من الرجز]

أبيض فضفاض الرداء والبدن

وهذا كناية عن سعة صدره وعظم بدنه. وقال العباس رضي الله عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني امتدحتك. فقال : إذا لا يفضض الله فاك» (٣) أي لا يفرّق أسنانك.

وفضضت ختم الكتاب : إذا كسرته. وانفضّت أوصاله : تفرّقت ، وأنشد لذي الرمّة (٤) : [من البسيط]

تعتادني زفرات حين أذكرها

تكاد تنفضّ منهنّ الحيازيم

وافتضّ الماء : صبّه. والفضيض : هو الماء السائل ، وفي الحديث : «كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ، ثم لبست شرّ ثيابها ، حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بدابة ، شاة أو طائر فتفتضّ بها ، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات» (٥). قال القتيبيّ : سألت الحجازيين عن الافتضاض فذكروا أن المعتدّة كانت لا تغتسل ولا تمسّ ماء ولا تقلّم ظفرا حتى تخرج بعد الحول بأقبح منظر ، ثم تفتضّ ، أي تكسر ما هي فيه من العدّة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش. وقد رواه الشافعيّ فتقضي ؛ بالقاف والضّاد والياء آخر الحروف ، كذا قال الأزهريّ. قلت : ومعنى الحرف : السقوط ، وفيض السنّ : سقوطها من أصلها ، وأنشد لأبي ذؤيب (٦) : [من الطويل]

فراق كفيض السّنّ فالصّبر إنّه

لكلّ أناس عثرة وجبور

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٥٤.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٥٤.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٥٣.

(٤) الديوان : ١ / ٣٨١ ، وفيه الرواية بالقاف «تنقض». ورواية اللسان والتاج تؤيد ما أثبتناه ، ورواية محاضرات الأدباء للراغب «تنقد».

(٥) النهاية : ٣ / ٤٥٤.

(٦) ديوان الهذليين : ١ / ١٣٨ ، والرواية فيه «كقيص» بالصاد.

٢٨٠