عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

واستكفّ الشمس إذا كفّ ضوءها عن عينيه بكفّيه ، يشير بذلك لرؤية ما يريد.

والكفاف من القوت : ما ليس بالواسع بل المساوي للحاجة ، وفي الحديث : «اللهمّ اجعل قوت آل محمد كفافا» (١) ؛ فكفكف تكرير كفّ نحو كبكب تكرير كبّ. وتقدّم كلام الناس فيه ، قال النابغة (٢) : [من الطويل]

فكفكفت مني دمعة فرددتها

على النّحر منها مستهلّ ودامع

و «كفّوا صبيانكم» (٣) أي امنعوهم خوفا عليهم من الجنّ أو من بعض الهوامّ.

ك ف ل :

قوله تعالى : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها)(٤) الكفل : الخطّ والنصيب الذي فيه الكفالة كأنه تكفّل بأمره ، واشتقاقه من الكفالة وهي الضمان من قولهم : كفّلت فلانا وتكفّلته وتكفّلت به لأنه نصيب (٥) مضمون. وقال أبو منصور : اشتقاقه من الكفل الذي هو الكساء الحاوي للراكب ، وذلك أنّ الرديف يحوي كساء على سنام البعير لئلّا يسقط عند ركوبه. فكأن ذلك النصيب حافظا لصاحبه كما يحفظ الكساء الراكب ، وقد آل الأمر أنّ المادة تدلّ على الحفظ فإنّ الكفالة بمعنى الضمان تقتضي ذلك كما يقتضيه الكساء المذكور.

قوله : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)(٦) أي نصيبين يحفظانكم من المعاصي الموقعة في الهلكة. وقيل : نصيبين من نعمته في الدنيا والآخرة وهما المرغوب إلى الله تعالى فيهما بقوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)(٧). وقيل : لم يرد هنا بالتثنية ما

__________________

(١) في رواية صحيح مسلم (الزهد : ١٩): «اللهم ارزق محمدا كفافا». وفي رواية النهاية (٤ / ١١٩) : «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا».

(٢) الديوان : ٤٤ ، وفيه : فأسبل مني ..

(٣) صحيح البخاري ، بدء الخلق : ١٥ ، ١٦.

(٤) ٨٥ / النساء : ٤.

(٥) لعله يريد : كفيل مضمون.

(٦) ٢٨ / الحديد : ٥٧.

(٧) ٢٠١ / البقرة : ٢.

٤٨١

يشفع الواحد فقط ، بل أراد النعم المتوالية المتكفّلة بكفالته تعالى. ويكون فيه تنبيه على ما ذكر في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(١). وقولهم : لبّيك (٢) وسعديك ، المعنى : كرّة بعد أخرى ، وتلبية بعد تلبية ، وإسعادا بعد إسعاد. وإنّما قال تعالى في جانب الحسنة يكن له نصيب منها ، وفي جانب السيئة يكن له كفل منها ، لمعنى حسن ذكره بعض أهل العلم ، فقال : الكفل ها هنا ليس هو بمعنى الأول بل هو مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء. واشتقاقه من الكفل ، ذلك أن الكفل لمّا كان مركبا ينبو براكبه ، صار متعارفا في كلّ شدة كالسّيساء (٣) وهو العظم الناتىء في ظهر الحمار ، فيقال : لأحملنّك على الكفل وعلى السّيساء. وأنشد (٤) : [من الخفيف]

وحملناهم على صعبة زو

راء يعلونها بغير وطاء

قال (٥) : فمعنى الآية من ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكن له منها نصيب ، ومن ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدّة. وفي هذا الكلام ـ وإن كان حسنا ـ نظر من وجه آخر وهو أنه جاء الكفل في جانب السيئة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)(٦). وقيل : الكفل هنا الكفيل ، ونبّه بذلك على أنّ من تحّرى شرا فله من فعله كفيل يسلمه كما يسلم الكفيل المكفول ببدنه. وقد صرّحوا بذلك في قولهم : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ، منبهة منهم على أنه لا يمكن التخلص من تبعة ظلمه وعقوبته عليه ، فخوطبوا بذلك. فلله درّ فصاحة القرآن حيث جرى معهم في كلّ أسلوب من أساليب كلامهم ، فتظهر فصاحته وبلاغته في ذلك الأسلوب على كلّ فصيح بليغ. فأين هذا الكلام وهو قولهم : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ، من قوله تعالى : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ

__________________

(١) ٤ / الملك : ٦٧.

(٢) وتأويله : إلبابا بك بعد إلباب ، أي لزوما لطاعتك بعد لزوم وإسعادا بعد إسعاد.

(٣) ويقول : ابن منظور : السيساء من الحمار أو البغل : الظهر ، ومن الفرس : الحارك.

(٤) الشاهد في المفردات : ٤٣٦.

(٥) يعني الراغب ، وفي النقل تشويه صوّبناه من النسخة د ، ومن المفردات.

(٦) ٢٨ / الحديد : ٥٧.

٤٨٢

مِنْها). وهذا كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(١) وقولهم : القتل أنفى للقتل.

قوله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)(٢) قرىء بالتخفيف على معنى أنّ زكريا كفلها وحفظها من كلّ ما يسوؤها وتكفّل بأمرها (٣). قوله : (فَقالَ أَكْفِلْنِيها)(٤) أي اجعلني كافلا لها.

قوله : (وَذَا الْكِفْلِ)(٥) قيل : هو رجل من الصالحين تكفّل بنبيّ من الأنبياء بأمر فوفى به ، وقيل : نبيّ تكفّل لله بأمور فلم يخلّ منها بشيء كما هو ديدن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. فالكفل ههنا بمعنى الكفالة ، وفي حديث إبراهيم : «أنه كره الشرب من ثلمة القدح وقال : إنّها كفل الشيطان» (٦). قال أبو عبيدة : الكفل أصله المركب ، أراد أنّ الثلمة مركب الشيطان.

ك ف ي :

قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ)(٧) الكفاية : سدّ الخلّة وبلوغ المراد من الأمر. والكفية من الطعام : ما فيه كفاية ، وجمعها كفى.

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)(٨) أي هو كافيه من أعدائه متولّ كفايته ، وناهيك بمن يتولّى الله كفايته.

وقوله : (كَفى بِهِ شَهِيداً)(٩) قيل : معناه اكتف بالله ، فهي اسم فعل. وقيل : الباء

__________________

(١) ١٧٩ / البقرة : ٢.

(٢) ٣٧ / آل عمران : ٣.

(٣) كفلها في وزن عملها ، رواية ابن كثير (مختصر الشواذ : ٢٠).

(٤) ٢٣ / ص : ٣٨.

(٥) ٤٨ / ص : ٣٨ ، وغيرها.

(٦) هو إبراهيم النخعي (النهاية : ٤ / ١٩٢).

(٧) ٢٥ / الأحزاب : ٣٣.

(٨) ٣٦ / الزمر : ٣٩.

(٩) ٨ / الأحقاف : ٤٦.

٤٨٣

مزيدة في الفاعل ، والأصل : كفى الله شهيدا ، وهذا هو الصحيح بدليل قول الشاعر : (١) [من الطويل]

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

فأسقطها. ولنا فيه كلام متقن في غير هذا.

قال بعضهم : قد كفيتك ، وقالوا : كافيك من رجل أي حسبك به.

قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ)(٢) أي قد سدّ خلّتكم وقضى مرادكم بإمداده إياكم الملائكة.

فصل الكاف واللام

ك ل أ :

قوله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ)(٣) أي يحرسكم ويحفظكم ؛ يقال : كلأته أكلؤه كلاءة ـ بالكسر ـ أي حفظته ، وأنشد (٤) :

إنّ سليمى والله يكلؤها

ضنّت بشيء ما كان يرزؤها

أي : والله يحفظها. وقيل : كلأة الشيء : حفظه وتبعيته بالمراعاة ، وهو راجع لمعنى الأول. وفي الحديث : «بلغ الله بك أكلأ العمر» (٥) أي آخره وأبعده ، وحقيقته حفظك الله وأبقاك لأنه إذا حفظ بلغ أجله.

واكتلأت بعيني أي حفظت بمراعاة ونظر.

__________________

(١) عجز لمطلع قصيدة لسحيم عبد بني الحسحاس (الديوان : ١٦) ، وصدره :

عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا

(٢) ١٢٤ / آل عمران : ٣.

(٣) ٤٢ / الأنبياء : ٢١.

(٤) الشاهد من شواهد اللغويين وهو لابن هرمة (مغني اللبيب : ٣٨٨. واللسان ـ كلأ). وفي اللسان : ضنت بزاد.

(٥) قول مأثور مذكور في النهاية : ١ / ١٩٤.

٤٨٤

والكلأ : النبات لأنه يحفظ بنية الحيوان ، أو لأنه يحفظ للرعي ؛ يقال : مكان مكلأ وكالىء أي كثير الكلأ.

وأكلأ : صار ذا كلأ ، كأعشب وأبقل أي صار ذا عشب وبقل. وفي الحديث : «من مشى على الكلّاء» (١) الكلّاء والمكلّأ : شاطىء النهر ومرفأ السفن. ومعنى الحديث أنه مثل لمن عرّض بالقذف ؛ شبّهه في مقاربته التصريح بالماشي على النهر في كونه قارب أن يجد (٢) كما قارب ذاك أن يقع في الماء.

والكّلاء : موضع ، ويقال سوق بالبصرة كأنه كان مكلأ للسفن. وفي الحديث : «نهى عن بيع الكالىء بالكالىء» (٣) يعني الدّين بالدّين ، وقيل : النسيئة بالنسيئة ، وهو قريب من الأول ، قال بعضهم في تفسيره : أن يشتري الرجل مؤجّلا ، فإذا حلّ الأجل لم يجد ما يقضي به (٤) فيقول له : بعه مني إليّ إلى أجل آخر بزيادة شيء. فيبيعه منه غير مقبوض منه.

ك ل ب :

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ)(٥) أي معلّمين ، والمكلّب : المسلّط الكلاب على الصّيد والمعلّمها أيضا. والكلّاب : صاحب الكلاب والصائد بها أيضا. قال النابغة (٦) : [من البسيط]

فارتاع من صوت كلّاب

قيل : واشتقاقه من لفظ الكلاب لأنها هي التي يصاد بها غالبا ، والمعنى : في حال تضريتكم (٧) هذه الجوارح على الصّيد.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١٩٤.

(٢) وفي الأصل : قارب أن يقارب ، والتصويب من د.

(٣) النهاية : ٤ / ١٩٤.

(٤) في الأصل : منه ، والتصويب من النهاية.

(٥) ٤ / المائدة : ٥.

(٦) وتمام البيت (الديوان : ٨) :

فارتاع من صوت كلاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد

(٧) وفي الأصل : تغريتكم ، ولعلها كما ذكرنا.

٤٨٥

ويجمع الكلب على أكلب وكلاب ، وأكالب جمع أكلب فهو جمع الجمع. والكليب اسم جمع نحو الغريق. قال عبدة (١) [من الطويل]

[تعفّق بالأرطى لها] وأرادها

رجال فبذّت نبلهم وكليب

والأنثى كلبة.

وكليب : اسم علم مشهور ، ومثله كلاب وكلب أيضا ، واشتقّ منه للحريص فقيل : هو كلب على الدنيا ، لأنه أحرص الحيوان على ما عنده ، وفي المثل : «أحرص من كلب». وكلب كلب : مجنون يكلب بلحوم الناس فيأخذه منه شبه الجنون. قيل : هو العقور المأمور بقتله في الحلّ والحرم ، فهو أحد السبع الفواسق ، ومن عقره (كلب أي يأخذه داء) (٢) فيقال فيه : رجل كلب ورجال كلبى. والداء الذي يأخذه يقال له الكلب ، قال الشاعر (٣) : [من البسيط]

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب

وقال آخر (٤) : [من الوافر]

دماؤكم من الكلب الشّفاء

وقد يصيب الإبل ذلك فيقال : أكلب الرجل أي أصاب إبله ذلك.

والكلب (٥) ـ أيضا ـ شدة البرد. وأرض كلبة : لم ترو. والكلب ـ أيضا ـ مسمار في

__________________

(١) عزاه المؤلف إلى طرفة وليس له ، إنما هو لعبدة بن الطبيب كما في الجمهرة : ٣ / ١٢٦ وشرح بائيته : ١٩. الإضافة منه.

(٢) ليس في النسخ الثلاث سوى : ذلك ، وما بين قوسين أضفناه من المفردات : ٤٣٨ ، لمناسبة السياق.

(٣) البيت للكميت (الديوان : ١٣٦) وهو مذكور في اللسان ـ مادة كلب ، وفيهما : يشفى بها الكلب.

(٤) عجز للحصين بن حمام المري كما في الجمهرة : ١ / ٣٢٦ ، وصدره فيه :

بناة مكارم وأساة كلم

وكذا نسبه ابن هشام. على أن الضبي في اختياراته عزاه إلى عوف بن الأحوص الكلابي ، وفي روايته خلاف.

(٥) بسكون اللام وكسرها.

٤٨٦

قائم السيف. والكلبة : سير يدخل تحت السّير الذي في المزادة ليخرز به تشبيها بالكلب في الاصطياد ، ومنه : كلبت الأديم ، أي خرزته ، قال الشاعر (١) : [من الرجز]

سير صناع في خريز تكلبه

والكلب ـ أيضا ـ نجم في السماء ؛ سمي بذلك لأنه يتبع نجما يقال له الراعي. والكلبتان : آلة الحدّاد المعروفة تشبيها بالكلب لصورة الاصطياد وثنّيا لأنّهما قطعتان.

والكلّوب : ما يعلّق به اللحم ونحوه ، والجمع : كلاليب ، ومنه استعير لمخالب البازي الكلاليب لإمساكها ما يعلق بها. وفي الحديث : «فأصاب كلّاب سيف فاستلّه» (٢) قال شمر : الكلب والكلّاب : الحلقة التي فيها السّير في قائم السيف.

ك ل ح :

قوله : تعالى : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ)(٣) الكلوح : تكشّر في عبوس ، والكالح : من تقلّصت شفتاه عن أسنانه ، قيل : إنّ شفاههم العليا تصل إلى رؤوسهم ، والسّفلى إلى صدورهم. وهذا مشاهد ، ألا ترى إلى رؤوس الغنم إذا شويت كيف تقلّصت شفاهها عن الأسنان (٤).

وتكلّح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته. ودهر كالح ، أي شديد. والكلاح ـ بالضم ـ : السّنة المجدبة (٥) وأنشد للبيد (٦) : [من الرجز]

كان غياث المرمل الممتاح

وعصمة في الزّمن الكلاح

__________________

(١) الرجز لدكين ينعت فيه فرسا من قطعة في الجمهرة : ١ / ٣٢٦. وفي الأصل : أرض ، والتصويب منه. وفي المفردات : أديم.

(٢) النهاية : ٤ / ١٩٦ ، من حديث أحد.

(٣) ١٠٤ / المؤمنون : ٢٣.

(٤) الوصف مذكور في اللسان ـ مادة كلح.

(٥) ذكر ابن منظور : كلاح على وزن فعال.

(٦) من قصيدة يرثي بها عمه أبا براء (الديوان : ٣٣٣). المرمل : الفقير المعدم. الممتاح : من يطلب رزقا. وضبط كاف «كلاح» في الديوان بالفتح وهو وهم.

٤٨٧

ك ل ف :

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) أي لا يحمّلها من أمر دينها إلا ما هو في طوقها. وبه استدلّ من يرى تكليف ما لا يطاق. وقيل : لا يكلفها إلا ما قرّره على لسان نبيّه ممّا هو في قدرتها ؛ فكلّ ما قرّره الشارع فهو في وسعها وإن كان يشقّ عليها ، ألا ترى إلى قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(٢). وقيل : ما تعدّونه من مشقّة فهو سعة في المآل كقوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(٣)(فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(٤).

وأصل التكليف من الكلف وهو الإيلاع بالشيء ، ومنه كلف فلان فأكلفته : جعلته كلفا به ، ومنه الكلف في الوجه لتصّور كلفة به.

وتكلّف الشيء : ما يفعله الإنسان مع إظهار كلف به مع مشقّة تناله في تعاطيه (٥). وقيل : الكلف : المشقّة ، وتحقيقه ما قدّمته ، فصار التكليف في العرف العامّ حمل المكلّف على ما فيه مشقّة ، والتكلف اسما لما يفعل بمشقّة أو تصنّع أو تتبّع. ومن ثمّ انقسم التكلّف (٦) إلى قسمين : الأول مذموم ، وهو ما يفعل المرء ويتحرّاه فاعله مرائيا. وإياه عنى عليه الصلاة والسّلام بقوله : «أنا وأمّتي برآء من التكلّف» (٧) وإليه أشار بقوله في حقّ نبيّه : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)(٨). والثاني ممدوح ، وهو ما يتحرّاه فاعله ليصير فعله سهلا عليه ويصير كلفا به ومحبا له. وبهذا النظر استعمل التكليف في تكلّف العبادات.

__________________

(١) ٢٨٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٤٥ / البقرة : ٢.

(٣) ٢١٦ / البقرة : ٢.

(٤) ١٩ / النساء : ٤.

(٥) في الأصل : مع تعاطيه.

(٦) وفي الأصل : التكليف.

(٧) النهاية : ٤ / ١٩٦.

(٨) ٨٦ / ص : ٣٨.

٤٨٨

ك ل م (١) :

قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)(٢) أي أنّ الله تعالى أوحاها إليه فتلقّاها بالقبول. وفي التفسير أنها قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(٣) الآية. وقيل : هي الأمانة المشار إليها بقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ)(٤)

وقيل في الأمانة : هي كلمة التّوحيد والوفاء بها وبما يترتّب عليها. وقيل : هي قول آدم : ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسكنّي جنّتك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ أرأيت إن تبت كنت تعيدني إلى الجنة؟ قال : نعم!

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ)(٥). قيل : هي خصال عشرة من الطّهارة ؛ خمس في الرأس وخمس في البدن : الفرق والمضمضة والاستنشاق وقصّ الشارب والاكتحال ونتف الإبط وقلم الأظفار وحلق العانة والختان وغسل البراجم (٦). وقيل : هي ما امتحن به من ذبح ولده وختانه بعد ثمانين سنة. ونحو ذلك قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى)(٧) قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ)(٨) ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ)(٩).

قوله. (وَكَلِمَتُهُ)(١٠) إنّما سمي كلمة لأنه وجد بها من غير سبب آخر ؛ يريد قوله «كن» بخلاف غيره من البشر فإنّه وإن كان موجودا بكلمة «كن» إلا أنّ له سببا ظاهرا وهو الوالد. وقيل : سمي كلمة لاهتداء الناس به كاهتدائهم بكلام الله تعالى. وقيل : لما خصّه الله

__________________

(١) قدّم المؤلف مادة (ك ل م) على (ك ل ل).

(٢) ٣٧ / البقرة : ٢.

(٣) ٢٣ / الأعراف : ٧.

(٤) ٧٢ / الأحزاب : ٣٣.

(٥) ١٢٤ / البقرة : ٢.

(٦) البراجم : مفاصل الأصابع وهي رؤوس السلاميات من ظهر الكف ، مفردها البرجمة.

(٧) ١٣٧ / الأعراف : ٧.

(٨) ٥ / القصص : ٢٨.

(٩) الآية بعدها.

(١٠) ١٧١ / النساء : ٤.

٤٨٩

تعالى في صغره حيث قال في مهده : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ)(١). وقيل : سمي كلمة من حيث إنه صار نبيّا كما سمي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذكرا رسولا» (٢).

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)(٣). وقيل : الكلمة هنا القضيّة ؛ قال الراغب (٤) : وكلّ قضية تسمّى كلمة سواء كان مقالا أو فعالا ، ووصفها بالصّدق لأنه يقال : قول صدق وفعل صدق.

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) إشارة إلى نحو قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(٥). ونبّه بذلك على أنّه لا نسخ للشريعة بعد هذا. وقيل : إشارة إلى ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما خلق الله القلم فقال له : أجر بما هو كائن إلى يوم القيامة» (٦). وقيل : الكلمة هي القرآن ، وتسميته كلمة كتسمية القصيدة كلمة. قلت : ومن ذلك تسميتهم قصيدة الحويدرية كلمة ، فيقولون : قصيدة الحويدرة (٧) ، وتسميتهم القصيدة قافية كقوله (٨) : [من الوافر]

وكم علّمته نظم القوافي

فلّما قال قافية هجاني

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : [من الطويل]

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل (٩)

فقوله : (تَمَّتْ) تنبيه على حفظها ، يعني أنّ الله تعالى حافظ القرآن ، قال الراغب (١٠) : فذكر أنها تتمّ وتتلى بحفظ الله إيّاها ، فعبّر عن ذلك بلفظ الماضي تنبيها على أن ذلك في حكم الكائن. وإلى هذا المعنى من حفظ القرآن أشار بقوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها

__________________

(١) ٣٠ / مريم : ١٩.

(٢) من الآيتين : ١٠ و ١١ / الطلاق : ٦٥.

(٣) ١١٥ / الأنعام : ٦.

(٤) المفردات : ٤٤٠.

(٥) ٣ / المائدة : ٥.

(٦) الدارمي ، سنّة : ١٦ ، وفيه : «إن أول ..».

(٧) حويدرة : اسم شاعر.

(٨) من قصيدة مشهورة تعزى إلى معن بن أوس أو إلى عقيل بن علّفة في ابنه عميس.

(٩) الديوان : ٢٥٦ ، وهو عند الخالديين أول القصيدة. واشتهر البيت لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه هذا.

(١٠) المفردات : ٤٤٠ ، وفيه : «تتم وتبقى ..».

٤٩٠

قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)(١). وقيل : عنى بها ما وعد من الثواب والعقاب. وقيل : عنى بالكلمات الآيات والمعجزات ، نبّه بذلك على أنّ ما أرسل من الآيات تامّ وفيه بلاغ.

وقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)(٢) ردّ لقوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ)(٣). وقيل : أراد بكلمة ربّك أحكامه التي حكم بها وبيّن أنه شرّع لعباده ما فيه بلاغ.

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(٤) يعني وعدهم الساعة ، قال تعالى : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)(٥). وقيل : إشارة إلى حكمه الذي اقتضته حكمته وأنّه لا تبديل لكلماته.

قوله : (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)(٦) أي. بحججه التي جعلها الله لكم سلطانا مبينا أي قوته.

قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ)(٧) إشارة إلى ما قال : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)(٨) ، وذلك أنه تعالى لمّا قال : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا) قال هؤلاء المنافقون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ)(٩). وقصدهم بذلك تبديل كلام الله ، فنبّه أنّ هؤلاء لا يفعلون ، وكيف يفعلون وقد علم الله منهم أنّهم لا يفعلون ذلك ، وقد سبق بذلك حكمه. وقرىء : «كلام الله» و «كلم الله» (١٠) ومعناهما متقارب.

قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)(١١) قيل : إنّهم كانوا يبدّلون الألفاظ ويغيرونها ،

__________________

(١) ٨٩ / الأنعام : ٦.

(٢) ١١٥ / الأنعام : ٦.

(٣) ١٥ / يونس : ١٠.

(٤) ١٢٩ / طه : ٢٠.

(٥) ٤٦ / القمر : ٥٤.

(٦) ٢٤ / الشورى : ٤٢.

(٧) ١٥ / الفتح : ٤٨.

(٨) ٨٣ / التوبة : ٩.

(٩) تابع آية الفتح.

(١٠) قرأها يحيى «كلم» وحده والقراء بعد بالألف (معاني القرآن للفراء : ٣ / ٦٦). واختلف القراء في مد «كلام الله» ؛ فحمزة والكسائي وخلف بكسر اللام بلا ألف جمع كلمة اسم جنس ، والباقون بفتح اللام وألف بعدها على جعله اسما للجملة (الحاشية : ٥ من معاني القرآن).

(١١) ٤٦ / النساء : ٤ ، وغيرها.

٤٩١

وذلك نحو وصفهم : آدم طوال ، فكان معتدلا أبيض مشرّبا بحمرة ، في صفته عليه الصلاة والسّلام. وقيل : إنّ تحريفهم كان من جهة المعنى ، وهو حمله على غير ما قصد به واقتضاه. وقد رجّح هذا جماعة ، منهم الراغب فقال : وهذا أمثل القولين (١). ولم يبين وجه ذلك ، وبيّنه / غيره فقال : كيف يعتقد أنه تغيير اللفظ والتوراة كثيرة النسخ منتشرة في البلدان؟ فهب أنّ يهود المدينة حرّفوا كتبهم فكيف وافقهم جميع الناس؟ وكيف اتفق التغيير أيضا؟ وعندي جواب نقلته عن شيخنا برهان الدين الجعبريّ المقرىء (٢). وقد ذكرت هذا الاعتراض بحضرة جماعة بالحرم ؛ حرم الخليل إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر لي أن بعض مشايخه أجاب به وهو أنّ اليهود كانوا منحصرين بالمدينة وما حواليها ، والتوراة لم تعلم إلا عندهم ، وذلك أنهم انتقلوا من الشام لانتظار النبيّ المبعوث كما هو في القصّة المشهورة. فقولهم : إنّ اليهود كانوا في البلدان والتوراة منتشرة معهم خلاف الواقع ، وإن وجد اليهود بأرض فإنما ذلك على سبيل التردّد لا الإقامة ، وإن اتّفق ذلك فنادر. قوله : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ)(٣) أي مواجهة.

قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)(٤). اعلم أنّ كلام الله البشر على ضربين ؛ أحدهما في الدّنيا وهو ما نبّه عليه بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ)(٥) الآية ، والثاني في الآخرة يكلمهم بما فيه غاية السعادة ، وهو قوله كما أخبر عنه الصادق : «اليوم أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم [بعده] أبدا» (٦). قال بعضهم : كلامه لهم في الآخرة ثوابه للمؤمنين وكرامة لهم تخفى عليهم كيفيته. ونبّه تعالى أنه يحرم ذلك على الكفار بقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)(٧).

__________________

(١) المفردات : ٤٤١.

(٢) هو إبراهيم بن عمر ، ولد بقلعة جعبر (على الفرات) سنة ٦٤٠ فنسب إليها. له نحو مئة كتاب أكثرها مختصر. توفي سنة ٧٣٢ ه‍.

(٣) ١١٨ / البقرة : ٢.

(٤) ٥١ / الشورى : ٤٢.

(٥) مطلع الآية السابقة.

(٦) البخاري ، التوحيد : ٣٧ ، والإضافة منه.

(٧) ٧٧ / آل عمران : ٣.

٤٩٢

قوله : (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)(١) أي علمه.

قوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ)(٢) هي مفسّرة بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ)(٣) الآية. وكلّ ما دعا الله الناس إليه فهو كلمة.

قوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ)(٤) قيل : عنى بها عيسى ، وفيه نظر من حيث الجمع. وفي الحديث : «أعوذ بكلمات الله التامّات» (٥) ، عنى بها القرآن. وفيه : «واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» (٦) قيل : أراد قوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)(٧).

وأصل اشتقاق الكلام من الكلم وهو التأثير ، ومنه قيل للجرح كلم لتأثيره في الجلد. وقد قرىء : (تُكَلِّمُهُمْ) و (تُكَلِّمُهُمْ)(٨) أي تسمهم ، أي تخيّل منه التأثير المعنويّ ، فقيل : جرحه بلسانه : إذا كلّمه بكلام أثّر فيه ؛ قال امرؤ القيس (٩) : [من المتقارب]

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال الراغب (١٠) : والكلم : التأثير بإحدى الحاسّتين : السمع والبصر ، فالكلام مدرك بحاسّة السمع والكلم مدرك بالبصر.

وكلّمته : جرحته جراحة بان أثرها ، ولاجتماعهما في ذلك قال (١١) :

والكلم الأصيل كأرعب الكلم

__________________

(١) ١٠٩ / الكهف : ١٨.

(٢) ٦٤ / آل عمران : ٣.

(٣) تابع الآية السابقة.

(٤) ١٢ / التحريم : ٦٦.

(٥) النهاية : ٤ / ١٩٨.

(٦) المصدر السابق.

(٧) ٢٢٩ / البقرة : ٢.

(٨) ٨٢ / النمل : ٢٧. اجتمع القراء على تشديد اللام وهو من الكلام (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٠٠).

(٩) عزاه المؤلف لطرفة وليس له. وهو لامرىء القيس كما في الديوان : ١٢٦ ، والجمهرة : ٢ / ٥٥.

وصدره :

ولو عن نثا غيره جاءني

(١٠) المفردات : ٤٣٩.

(١١) كذا!

٤٩٣

وقال الآخر :

وجرح اللسان كجرح اليد

قال : والكلام يقع على الألفاظ المنظومة وعلى المعاني التي تحتها مجموعة ، وعند النحويين يقع على الجزء منه ، اسما كان أو فعلا أو أداة. وعند كثير من المتكلمين لا يقع إلا على الجملة المركبة المفيدة ، وهو أخصّ من القول ؛ فإنّ القول عندهم يقع على المفردات ، والكلمة تقع على كلّ واحد من الأنواع الثلاثة ، وقد قيل بخلاف ذلك. قلت : ما ذكره من كون الكلام عند المتكلمين كذا وعند النحويين كذا ليس كما زعم بل ما قاله عن المتكلمين هو مذهب النحاة. وقد فرّقنا بين الكلام والكلم والكلمة والقول. وذكرنا ما بينهما من العموم والخصوص وغير ذلك في غير هذا الموضع.

والكلام ليس مصدرا بل اسم مصدر وهو التّكليم ، ولكنّه يعمل عمل المصدر ، وأنشد : [من الطويل]

فإنّ كلامها شفاء لما بيا

ك ل ل :

قوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)(١). كلّ من ألفاظ العموم ، واستعماله مؤكدا لغيره تابعا له في إعرابه أكثر من استعماله مبنيا على عامل لفظيّ أو معنويّ ، نحو : جاء كلّ القوم و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٢) وضربت كّلا ومررت بكلّ. وهي من الأسماء اللازمة للإضافة. وقد تقع لفظا فتنوّن ، وفيه خلاف ؛ هل هو تنوين عوض أم لا؟ وهي نقيضة بعض ، وإذا أضيفت إلى معرفة جاز أن يراعى لفظها تارة ومعناها أخرى ، قال تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٣). وإن أضيفت إلى نكرة فالمشهور اعتبار لفظها نحو : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وكلّ رجل قائم ، فأمّا قول عنترة (٤) : [من الكامل]

__________________

(١) ٩٥ / النساء : ٤ ، وغيرها.

(٢) ١٨٥ / آل عمران : ٣.

(٣) ٩٥ / مريم : ١٩.

(٤) في الأصل : زهير ، وهو وهم. فالبيت في ديوان عنترة : ١٤٤ من ميمية طويلة. كما أنه في اللسان ـ مادة حدق ، وفيه : .. كل بكر.

٤٩٤

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

فقد راعى معناها من حيث إنه قال : فتركن ، فأتى بضمير الجمع ، وليس بقياس (١). وإذا قطعت عن الإضافة روعي معناها ـ وهو الأكثر ـ كقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٢) وللزومها الإضافة خطىء من أدخل عليها «ال» ونصبها حالا. وأما قراءة : إنا كلا فيها (٣) فكلا تأكيد لاسم إنّا ، وفيها أبحاث كثيرة تركناها هنا إيثارا للاختصار واستغناء بما أودعناه غيره من الكتب اللائقة بذلك.

قال الراغب (٤) : لفظ كلّ هو لضمّ أجزاء الشيء ، وذلك ضربان : أحدهما الضّامّ لذات الشيء وأحواله المختصّة به ، ويفيد معنى التّمام نحو قوله تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(٥) أي بسطا تاما ، وأنشد (٦) : [من مجزوء الكامل]

ليس الفتى كلّ الفتى

إلا الفتى في أدبه

أي التامّ الفتوّة. والثاني الضّامّ للذّوات ، وقد تضاف تارة إلى جمع معرّف بالألف واللام نحو : كلّ القوم ، قال (٧) : وقد تعرّى عن الإضافة ، وتقدير ذلك فيه نحو : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٨). ولم يرد في شيء من القرآن ولا في شيء من كلام العرب الفصحاء «الكلّ» بالألف واللام ، وإنما ذلك شيء يجري في كلام المتكلمين والفقهاء ومن نحا نحوهم.

__________________

(١) يريد : لم يقل «تركت» ، وهو شاهد عند النحويين على جواز : كلّ رجل قائم ، وقائمون. (أنظر مغني اللبيب : ١٩٨).

(٢) ٨٧ / النمل : ٢٧.

(٣) قوله : «إنّا كلّ فيها» (٤٨ / غافر : ٤٠) رفعت «كل» ب «فيها» ولم تجعله نعتا لإنّا. ولو نصبته على ذلك وجعلت خبر «إنا» فيها (معاني القرآن للفراء : ٢ / ١٠).

(٤) المفردات : ٤٣٧.

(٥) ٢٩ / الإسراء : ١٧.

(٦) عزاه المؤلف إلى لبيد ولم نجده في ديوانه. وهو من شواهد الراغب في مفرداته من غير عزو : ٤٣٧.

(٧) يعني الراغب.

(٨) ٣٣ / الأنبياء : ٢١.

٤٩٥

قلت : وقد وجد ذلك في عبارة بعض النحاة لكنه اعتذر عنه ، نحو : بدل الكلّ والبعض.

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(١). اختلف الناس في ذلك اختلافا كثيرا ؛ فقال ابن عباس : الكلالة اسم لمن عدا الولد ، وقيل : لمن عدا الوالد والولد (٢) ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : «من مات وليس له ولد ولا والد» (٣) فجعله اسما للميت. قال الراغب : وكلا القولين صحيح ؛ فإنّ / الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث ، وتسميتها بذلك إمّا لأنّ النسب كلّ عن اللحوق به ، أو لأنه قد لحق به بالعرض من أحد طرفيه ، وذلك أنّ الانتساب ضربان : أحدهما بالعمق كنسبة الأب والابن. والثاني بالعرض كنسبة الأخ والعمّ. وقال قطرب : الكلالة اسم لما عدا الأبوين والأخ. وردّه الهرويّ ، وقال آخرون : هو اسم لكلّ وارث ، وأنشد (٤) : [من مجزوء الكامل]

والمرء يبخل بالحقو

ق وللكلالة ما يسيم

وقد ردّه الراغب فقال : ولم يقصد الشاعر بما ظنّه هذا ، وإنما خصّ الكلالة ليزهد الناس في جمع المال ؛ لأنّ ترك المال لهم أشدّ من تركه للأولاد ، وتنبيها أنّ من خلّفت له المال فجار مجرى الكلالة ، وذلك كقولك : ما تجمعه فهو للعدوّ. وقال السّدّيّ : الكلالة الذي لم يدع والدا ولا ولدا. وهذا ينبغي أن يكون أصحّها لما تقدّم في الحديث. قال أبو منصور : أصلها من تكلّله النسب إذا لم يكن الذي (٥) يرثه ابنه ولا أبوه. فالكلالة ما عدا الوالد والولد فكأنه قال : وإن كان رجل يورث متكلّلا لهم نسبا.

والكلالة تكون الوارث وتكون الموروث ، وهم الإخوة للأمّ دون الأب ، فأمّا الكلالة

__________________

(١) ١٧٦ / النساء : ٤.

(٢) يعني من الورثة. فالكلالة : أن يموت الرجل ولا يدع والدا ولا ولدا يرثانه ، وأصله من تكلّله النسب : إذا أحاط به. وقيل غير ذلك (أنظر اللسان ـ النهاية : ٤ / ١٩٧).

(٣) صحيح البخاري ، الجنائز : ٦.

(٤) من شواهد الراغب في المفردات : ٤٣٨.

(٥) مذكورة في النسخة : د.

٤٩٦

في آخر هذه السورة (١) فهي الأخت للأب ، قاله الهرويّ ، وقال ابن عرفة : فإذا مات الإنسان وليس له ولد ولا والد فذلك الكلالة ، لأنّ ورثته متكلا نسبهم. وقال القتيبيّ : الأب والابن طرفان للرجل ، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة. وقال غيره : كلّ ما أحيف بالشيء من جوانبه فهو إكليل له ، وبه سميت الكلالة لتكلّل النسب ، والعصبة ـ وإن بعدت ـ كلالة ، وتقول العرب : لم يرث فلان كذا كلالة ، لمن تخصّص بشيء قد كان لأبيه ، وأنشد (٢) : [من الطويل]

ورثتم قناة الملك غير كلالة

عن ابني مناف : عبد شمس وهاشم

والإكليل سمي لإطافته بالرأس ، وفي حديث جابر : «مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله إني رجل ليس يرثني إلا كلالة» (٣) أي يرثني ورثة ليسوا بوالد ولا ولد ، وإنما كان يرثه أخواته فهذا واقع على الوارث. وظاهر القرآن يدلّ على أنه اسم للميت ، فإنّ كلالة من قوله : (يُورَثُ كَلالَةً)(٤) حال من الموروث ، ومن جعله اسما للوارث قال : تقديره ذا كلالة وقد حقّقنا ذلك في «الدرّ» وغيره. وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : «سلوني ما شئتم إلا الكلالة».

قوله تعالى : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ)(٥) أي ثقيل ، يقال : كلّ فلان أي ثقل ، وكلّ في مشيه كلالا : ثقل عنه. وكلّ السيف : إذا نبا ، واللسان : إذا تعب ، كلولا وكلّة وأكلّ [فلان](٦) : كلّت راحلته. والكلكل : الصدر ، قال امرؤ القيس (٧) : [من الطويل]

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

__________________

(١) أنظر الآية ١٢ / النساء : ٤.

(٢) البيت للفرزدق كما في ديوانه : ٨٥٢.

(٣) ذكره ابن حنبل في القسم ٣ : ٢٩٨.

(٤) راجع باب الدلالة في سنن الدارمي ، باب الفرائض : ٢.

(٥) ٧٦ / النحل : ١٦.

(٦) إضافة المحقق للسياق.

(٧) من معلقته ، الديوان : ٣٦. وفي الأصل : بجوزه ، وهذه رواية اللسان أيضا.

٤٩٧

وقال : [من الوافر]

ولمّا أن توافينا قليلا

أنخنا للكلاكل فارتمينا

كأنّه سمّي بذلك لأنه محلّ الكلال ، فإنّ البعير يبرك عليه.

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ)(١). اعلم أنّ كلّا حرف موضوع للرّدع والزجر ، وقد جعلها بعضهم على أضرب : أحدها أنه ردع وزجر لقوله تعالى : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)(٢)(رَبِّي أَهانَنِ)(٣) ثم قال : «كلّا» أي ارتدعوا عن هذا الاعتقاد ؛ فإنّ من رزقه الله مالا لا يدلّ على كرامته عنده ، ولا من حرمه مالا لا يدلّ على إهانته عنده ، فقد جعل الكفرة ملوكا. الثاني : حرف استفتاح ، كقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)(٤). الثالث : بمعنى حقا كقوله : (ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا)(٥). وهذه يوقف عليها ولا يبتدأ بها. الرابع أنها بمعنى ليس كقوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا) أي : ليس الأمر كذلك. والتحقيق أنها ردع وزجر ، وما ذكر من هذا الآي صالح له ، وقد حققناه في غير هذا ، وذلك بحسب المواد ، ولذلك قال الراغب : كلّا : ردع وزجر وإبطال لقول القائل ، وذلك نقيض «إي» في بعض الإثبات ، قال تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا)(٦). قلت : يعني نقيض «أي» بكسر الهمزة وسكون الياء ، ويعني بها حرف الجواب الواقع قبل القسم ، كقوله : (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ)(٧).

ك ل و :

قوله تعالى : (أَوْ كِلاهُما)(٨) كلا ألفها عن واو بدليل قولهم في مؤنّثه كلتا ، فأبدلوا

__________________

(١) ١٨ / المطففين : ٨٣.

(٢) ١٥ / الفجر : ٨٩.

(٣) الآية بعدها.

(٤) ٤ و ٥ / النبأ : ٧٨.

(٥) ١٤ و ١٥ / المعارج : ٧٠.

(٦) ١٠٠ / المؤمنون : ٢٣.

(٧) ٥٣ / يونس : ١٠.

(٨) ٢٣ / الإسراء : ١٧.

٤٩٨

الواو تاء لأنّه قد كثر إبدالها منها في ترة وتولج وتخمة (١) وأخوات لها مذكورة ، ولفظهما مفزد ومعناهما التثنية ، ولذلك روعي هذا مرة وهذا أخرى ، وقد جمع بينهما من قال (٢) : [من البسيط]

كلاهما حين جدّ الجري بينهما

قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

فراعى المعنى في قوله : بينهما وأقلعا ، فثنّى ، واللفظ في قوله : رابي فأفرد ، لكنّ الأكثر مراعاة اللفظ ، ولذلك لم يجىء التنزيل إلا عليه كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها)(٣) ولم يقل : آتتا أكلهما. وزعم الكوفيون أنّهما مثنيان لفظا ومعنى ، وأنه يقال : كل وكلت ، وأنشدوا (٤) : [من الرجز]

في كلت رجليها سلامى واحده

كلتاهما قد قرنت بزائده

وزعم البصريون أنه موضوع.

ويجريان مجرى المثنّى في الإعراب إذا أضيفا إلى مضمر ، ويقدّر إعرابهما كالمثنى (٥). ويقدّر إعرابهما كالمقصور إذا أضيفا إلى ظاهر عند غير بني كنانة ، وعندهم كالمثنى مطلقا ، ويلزمان الإضافة لفظا ومعنى. ولا يضافان إلا إلى مثنى أو ما أفهم المثنى ، نحو : كلانا على طاعة الرحمن. فأمّا قول الشاعر (٦) : [من الرمل]

إنّ للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

__________________

(١) الترة النقص ، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة مثل وعدته عدة. التّولج : كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه ، التاء مبدلة من الواو. التخمة : استوخمت الطعام وتوخّمته إذا استوبلته. ومنه اشتقت التخمة. وشيء وخم أي وبيء ، تاؤه مبدلة من واو.

(٢) من شواهد المغنى : ٢٠٤ ، وفيه : حين جدّ السير. أورده ابن هشام شاهدا في مراعاة كلا وكلتا في الإفراد ومراعاة معناهما.

(٣) ٣٣ / الكهف : ١٨.

(٤) الرجز من شواهد اللسان من غير عزو ، وفيه : مقرونة بزائده. أراد : في إحدى رجليها ، فأفرد. وهو مذكور في معاني القرآن : ١ / ٤٠٥ و ٣ / ١٢٣.

(٥) وفي الأصل : كالمقصور ، وهو سهو من الناسخ. وهما في هذه الحال يلحقان بالمثنى ويعربان إعرابه ، أي يرفعان بالألف وينصبان ويجران بالياء.

(٦) البيت لابن الزبعرى في يوم أحد من قطعة ذكرها ابن يعيش (شرح المفصل : ٣ / ٣).

٤٩٩

فلأنّ ذلك يقع موقع المثنى ، كقوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)(١). فذلك إشارة لقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) ، فإن فرّق بالعطف جاز ذلك على قلّة كقول الشاعر (٢) : [من الطويل]

كلا السيف والساق الذي ضربت به

على مهل ألقاه باثنين صاحبه

وفي إمالتها خلاف بين القراء ، وهي في تأكيد المثنى ككلّ في تأكيد الجمع ، فلا يقال : تقاتل الزيدان كلاهما ، إذ لا يتأتّى ذلك إلا في اثنين. وقد أتقنّا جميع ذلك في غير هذا الموضع ولله الحمد والمنّة.

فصل الكاف والميم

ك م ل :

قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(٣) إي كاملة الأجر ، وقيل : هو على التأكيد ، وقيل : إنّما ذكر العشرة الكاملة ، لا ليعلمنا أنّ السبعة والثلاثة عشرة ، بل ليبين أنّ بحصول صيام العشرة يحصل كمال الصوم القائم مقام الهدي. وقيل : إنّ وصفه العشرة بالكاملة استطراد في الكلام وتنبيه على فضيلة له فيها بين علم العدد ، وأن العشرة أول عقد ينتهي إليه العدد فيكمل ، وما بعده يكون مكرّرا ممّا قبله ، فالعشرة هي العدد الكامل.

والكمال لغة ـ حصول ما فيه الغرض منه ؛ فإذا قيل : كمل معناه ، فمعناه حصول ما هو الغرض منه ، وعليه قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٤) نبّه بذلك على أنها غاية ما يتعلّق به إصلاح الولد.

__________________

(١) ٦٨ / البقرة : ٢.

(٢) من شواهد شرح المفصل : ٣٣ ، وفيه : على دهش. والشاهد فيه إضافة كلا إلى السيف وهو اسم مفرد ، وهي لا تضاف إلا إلى المثنى. وجاز ذلك لأنه عطف على المفرد مفردا آخر فصار كأنه أضافها إلى المثنى.

(٣) ١٩٦ / البقرة : ٢.

(٤) ٢٣٣ / البقرة : ٢.

٥٠٠