عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ)(١) الآية. وقال أبو العالية ومجاهد : كلّ مقرّ بخلقه إياه وإن أشرك معه غيره كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٢) وقيل : عني بالكره من قوتل وألجىء إلى أن يؤمن ، وهذه الأقوال إنّما تتمشّى في حقّ من في الأرض دون من في السماء. وقال ابن عباس : أسلموا بأحوالهم المنبئة عنهم وإن كفر بعضهم بمقالته وذلك هو الإسلام في الذّرّ الأول حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٣). وذلك هي دلائلهم التي فطروا عليها من العقل المقتضي لأن يسلموا. وإليه أشار بقوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(٤). ونقل الراغب عن بعض الصوفية (٥) أنّ من أسلم طوعا هو [من] طالع المثيب والمعاقب لا الثواب والعقاب. ومن أسلم كرها هو من طالع الثواب والعقاب فأسلم رغبة ورهبة ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٦).

قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) ، قيل : كان الرجل في الجاهلية إذا مات وترك امرأة وله ولد ذكر أمسكها بعقد أبيه الأول حتى تموت ، فيرث منها ما ورثته من أبيه ويقول : أنا أحقّ بامرأته. وقيل : بل كان إذا تركها وله ورثة فإن سبق واحد منهم إليها وألقى عليها رداءه أو ثوبه فهو أحقّ بها أن ينكحها بمثل مهر مورّثه ، أو ينكحها غيره ويكون مهرها له. وهذه أحكام جاهلية طهّر الله دينه منها بشرعه القويم على لسان نبيّه الكريم.

قوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)(٧) يجوز أن يكون حالا من أمّه إمّا على المبالغة أو على حذف مضاف أي ذات كره ، أو على أنّه بمعنى مكرهة ، وأن يكون نعتا لمصدر محذوف أي حملا مكرها. والمراد ما يحصل لها من الثقل وعدم النهوض حال

__________________

(١) ٨٤ / غافر : ٤٠.

(٢) ٨٧ / الزخرف : ٤٣.

(٣) ١٧٢ / الأعراف : ٧.

(٤) ١٥ / الرعد : ١٣.

(٥) المفردات : ٤٣٠ ، والإضافة منه.

(٦) ١٥ / الرعد : ١٣.

(٧) ١٥ / الأحقاف : ٤٦.

٤٦١

حملها لا سيّما إذا قاربت الوضع وجدت مشقة لثقله ، ولذلك قال تعالى : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)(١) أي صارت ذات ثقل.

ويقال : كرهت الشيء أكرهه كرها (٢) وكراهة وكراهية. والكراهة ـ غالبا ـ ما لا إثم فيه ، وقد يراد بها الحرام.

فصل الكاف والسين

ك س ب :

قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٣) أتى باللام في جانب الكسب وب «على» في جانب الاكتساب لفائدة جليلة وهي التّنبيه على مزيد كرمه وتطاول فضله ، من حيث إنه تعالى يعيد للإنسان ما ينسب إلى كسبه ، وإن لم يكن منه تعاط لذلك ولا مباشرة ، بل إذا كان سببا في شيء عدّ ذلك كسبا له ، حتى الولد الصالح جعل من كسبه (٤) فيثاب بأعمال ولده الصالحات ، وأمّا ما يؤاخذ به وهو الذي عبّر عنه بأنه عليه فلم يؤاخذ به إلا إذا كان له فيه / عمل ومباشرة وافتعال ؛ ألا ترى أنّ الافتعال يؤذن بالاهتمام بالفعل ، بخلاف مجرد الفعل ، فاللام غالبا لما يجب بخلاف على. وإنّما استظهرت تعاليا لقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)(٥).

وقيل : الكسب ما يتحرّاه من المكاسب الأخروية ، والاكتساب ما يتحرّاه من المكاسب الدنيويّة. وقيل : عنى بالكسب ما يفعله الإنسان من فعل خير ، وجلب منفعة إلى غيره ، والاكتساب ما يحصّله لنفسه من نفع ، فنبّه على أنّ ما يفعله الإنسان لغيره من نفع ليوصّله

__________________

(١) ١٨٩ / الأعراف : ٧. وكل ما في كتاب الله من الكره فالفتح فيه جائز إلا هنا فالاجماع على ضمه (ابن منظور ـ كره).

(٢) بفتح الكاف وضمها.

(٣) ٢٨٦ / البقرة : ٢.

(٤) من الحديث : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه».

(٥) ٧ / الإسراء : ١٧.

٤٦٢

إليه فله الثواب ، وأنّ ما يحصّله لنفسه وإن كان متناولا من حيث يجوز على الوجه ، فقلما ينفكّ [من](١) أن يكون عليه ، إشارة إلى ما قيل : «من أراد الدنيا فليوطّن نفسه على المصائب».

والكسب ـ في الأصل ـ ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه جلب نفع أو دفع ضرّ. وغلب استعماله في تحصيل الأموال وتوابعها. قال الراغب (٢) : وقد يستعمل الكسب فيما يظنّ الإنسان أنه يجلب منفعة ثم استجلب به مضرّة. فالكسب فيما أخذه لنفسه ولغيره ، ولهذا قد تعدّى لمفعولين ، نحو : كسبت زيدا مالا. والاكتساب لا يقال إلّا فيما استفدته لنفسك ، فكلّ اكتساب كسب ، وليس كلّ كسب اكتسابا ، وذلك نحو : خبز واستخبز ، وشوى واشتوى انتهى. ففرّق بينهما من هذه الحيثية. وهي ـ في التحقيق ـ راجعة إلى ما قدمته. ثم في نحو : خبز واستخبز نظر ، وكأنه سبق قلم أو لسان ، وصوابه : واختبز ، ويدلّ عليه قوله بعد ذلك : وشوى واشتوى ، وذلك أنّ كلامه في الفرق بين فعل وافتعل ، لا بينه وبين استفعل.

وحكى ابن الأعرابيّ : أكسبت زيدا مالا ، وأنشد : [من الطويل]

فأوسعته مدحا وأوسعني قرى

وأكسبني مالا وأكسبته حمدا

قوله : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ)(٣) يجوز أن تكون ما مصدرية فتتأوّل مع ما بعدها بمصدر أي وكسبه. ثم هذا الكسب يجوز أن يكون باقيا على مصدريته بطريق الأصالة ، وأن يكون واقعا موقع المفعول ، وحينئذ فيجوز أن يراد به المال الذي كسبه. وقيل : يجوز أن يراد به الولد ، والولد من كسبه. ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، وحينئذ يراد به المال أي والذي كسبه. قيل : ويجوز أن يراد به الولد ، وفيه ضعف من حيث إن ما لغير العاقل عند الجمهور ، وفي الحديث : «إنّ أطيب ما أكل المرء من كسبه وإنّ ولده من كسبه» (٤).

__________________

(١) إضافة مناسبة للسياق.

(٢) المفردات : ٤٣٠.

(٣) ٢ / المسد : ١١١.

(٤) النهاية : ٤ / ١٧١.

٤٦٣

قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ)(١) أي كسبكم أو الذي كسبتموه ، وفي الحديث : «أنه سئل : أيّ الكسب أفضل؟ فقال : عمل الرجل بيده» (٢) ومنه الحديث المتقدّم أيضا : «إنّ أطيب ما أكل المرء من كسبه» الحديث. وقد ورد في الكتاب العزيز استعمال الكسب في الصالح والسيىء وكذلك الاكتساب ؛ فمن ورود الكسب في الصالح قوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٣) ومن وروده في السيّيء : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً)(٤)(كَسَبُوا السَّيِّئاتِ)(٥)(أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ)(٦). قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ)(٧) شامل للأمرين جميعا ، ومن ورود الاكتساب في الصالح قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(٨). ومن وروده في غيره قوله تعالى : (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٩) وقد تقدّم ما في ذلك.

ك س ف :

قوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً)(١٠) الكسف جمع كسفة ، وهي القطعة التي تسقطها علينا قطعا. وأصله من قولهم : كسفت الثوب أكسفه كسفا أي قطعته قطعا ، حكاه أبو زيد.

وكسفت عرقوب البعير ، وإنّما يقال كسحت لا غير. والكسفة : القطعة من السحاب والقطن ونحوهما من الأجسام المتخلخلة.

__________________

(١) ٢٦٧ / البقرة : ٢.

(٢) المفردات : ٤٣٠.

(٣) ١٥٨ / الأنعام : ٦.

(٤) ٨١ / البقرة : ٢.

(٥) ٢٧ / يونس : ١٠.

(٦) ٧٠ / الأنعام : ٦.

(٧) ٢٨١ / البقرة : ٢.

(٨) ٣٢ / النساء : ٤.

(٩) ٢٨٦ / البقرة : ٢.

(١٠) ٩٢ / الإسراء : ١٧.

٤٦٤

وكسوف الشمس والقمر : استتارهما بعارض في علم الله تعالى. ومنهم من خصّ الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر. ثم استعير ذلك لتغيّر الوجه والحال ، فقيل : كسف وجهه وحاله وماله ، قال الشاعر (١) : [من الخفيف]

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

إنّما الميت من يعيش كئيبا (٢)

كاسفا باله قليل الرّخاء

قال شمر : الكسوف في الوجه صفرة وتغيّر ، وقال أبو زيد : كسف باله : إذا حدّثته نفسه الشرّ. وقيل : كسوف البال : أن يضيق عليه أمله ، وقال الشاعر (٣) : [من البسيط]

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وللنحاة في نصب «نجوم» كلام حرّرناه في غير هذا.

وقرىء : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً)(٤) و «كسفا» (٥) فالأول على أنّه جمع كسفة نحو سدرة وسدر. والثاني على أنه اسم جنس نحو : قمح وقمحة ، والجمع كسوف وأكساف. والمعنى : أو تسقطها علينا كسفا طبقا. قيل : واشتقاقه من كسفت الشيء : غطيته ، وما قدّمته أشهر.

ك س ل :

قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى)(٦) أي متباطئين. والتكاسل : التثاقل عمّا لا ينبغي التّثاقل عنه ، وغلب فيمن قلّت مروءته وتقاعد عن شغله. يقال : رجل كسل وكسلان ، والجمع كسالى وكسالى نحو : سكارى وسكارى ، جمع سكران.

__________________

(١) البيتان للشاعر عديّ بن الرّعلاء كما في اللسان (مادة موت) ، وشرح المفصل : ١٠ / ٦٩ ، والأصمعيات : ١٥٢.

(٢) في اللسان والأصمعيات : ذليلا. والأصمعيات : سيئا باله.

(٣) رواه الليث كما في اللسان ـ مادة كسف.

(٤) ١٨٧ / الشعراء : ٢٦.

(٥) المفردات : ٤٣١.

(٦) ١٤٢ / النساء : ٤.

٤٦٥

والمكسال : المرأة المتنعمة الفاترة عن القيام ، وهو كناية عن ضخامتها وسمنها وتنعّمها ، كما قيل : [من الرجز]

يقعدها من خلفها الكفل

والكسل مذموم ، ولذلك تعوّذ منه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أعوذ بالله من الكسل والفشل» (١). وفحل كسل : كسل عن الضّراب. وفلان لا تكسله المكاسل : أي لا ينثني عمّا يقصده وإن خوّف منه وثبّط.

وفي الحديث : «ليس في الإكسال [إلا] الطّهور» (٢) الإكسال ، مصدر أكسل الرجل : إذا جامع فلحقه فتور فلم ينزل ، وهذا يشبه قوله : «إنّما الماء من الماء» (٣) وفيه بحث حقّقناه في غير هذا الموضوع ، ومثله قوله عليه الصلاة والسّلام : «إذا أتى الرجل أهله فأقحط فلا يغتسل» (٤).

ك س و :

قوله تعالى : (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(٥) الكسوة ما يكتسى به من الملبوسات على اختلاف أنواعها بحسب أهل كلّ بلدة. وكانوا في العصر الأول يلبسون الجلود حتى علّم الله تعالى «شيث» صنعة النّسج. وهذا دليل أنّ ستر العورة ممّا يهتمّ بشأنه ، وأيضا فإنّ فيه دفع ضرر البرد والحرّ ، ولذلك قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(٦). قيل : تقديره : والبرد ، والمادة تدلّ على ستر الشيء وتغطيته ، وعليه قوله تعالى : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً)(٧). واكتسى الغصن بالورق. ويحتمل أن يكون ذلك من

__________________

(١) في البخاري ، الجهاد ٢٥ «أعوذ بك من الكسل».

(٢) النهاية : ٤ / ١٧٤ ، والإضافة منه.

(٣) كنوز الحقائق ، ورقة : ٢١.

(٤) النهاية : ٤ / ١٧ ، مع خلاف في الرواية.

(٥) ٢٣٣ / البقرة : ٢.

(٦) ٨١ / النحل : ١٦.

(٧) ١٤ / المؤمنون : ٢٣.

٤٦٦

الاستعارة. واكتست الأرض بالنبات من ذلك ، يقال : كساه يكسوه كسوة ، بكسر الكاف وضمّها ، وأنشد (١) : [من الطويل]

فبات لها دون الصّبا وهي قرّة

لحاف ومصقول الكساء رقيق

شبّه نبات الأرض بالكسوة ، وقيل : هو كناية عن الدّواية التي تعلو اللّبن وهي ما يحمل على وجهه فيكون كالجليدة الرقيقة ، وكذلك ما يعلو المرقة يقال فيه دواية بضمّ الدال وكسرها. وقال آخر (٢) : [من المنسرح]

حتى أرى فارس الصّيموت على

أكساء خيل كأنها الإبل

عنى بأكسائها ما يعلوها من الغبار ويلبسها منه عند عدوها حتى تكون بمنزلة الكسوة لها. وقيل : عنى باكتسابها أعقابها.

وفي الحديث : «ونساء كاسيات عاريات» (٣) فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : كاسيات من النّعم ، عاريات من الشّكر. الثاني : أنهنّ يكسين بعض أجسادهنّ بأن يوسّعن جيوبهنّ فترى صدورهنّ ونحو ذلك. الثالث : أنهنّ يلبسن رقيقا فيصف بشرتهنّ.

فصل الكاف والشين

ك ش ط :

قوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ)(٤) أي قلعت عن مقرّها. ونحوه : (تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً)(٥) أي قلعت كما يقلع سقف البيت ، من قولهم : كشطت الحبل عن ظهر

__________________

(١) البيت لعمرو بن الأهتم ، في اللسان ـ مادة كسا.

(٢) من شواهد الراغب في المفردات : ٤٣٢ ، واللسان ـ مادة صمت ، والبيت للمثلّم بن عمرو التّنوخي ، والصموت اسم فرس له.

(٣) النهاية : ٤ / ١٧٥.

(٤) ١١ / التكوير : ٨١.

(٥) ٩ / الطور : ٥٢.

٤٦٧

الفرس وقشطته ، وكشطت جلد الناقة وقشطته : أي سلخته وسحبته. قال ابن عرفة : تكشط السماء كما يكشط الغطاء عن الشيء ، ومنه : كشطت الورقة وقشطتها : إذا أزلت كتابتها بسكّين ونحوها.

ك ش ف :

قوله تعالى : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(١) أي نفس كاشفة ، وقيل : التاء للمبالغة كراوية. وقيل : هو مصدر على فاعلة كالعاقبة أي ليس [لها](٢) كشف وظهور.

وأصل الكشف إزالة الغطاء ونحوه عن الشيء. ويستعار ذلك في المعاني كقوله : (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ)(٣)(فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فالكشف يقارب الكشط.

قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ)(٤) هو الكناية عن شدّة الأمر كقولهم : قامت الحرب على ساق (٥). وقيل : أصله من ذمر الناقة ، وذلك أنه إذا خرجت رجل البعير من بطنها يقال : كشف عن الساق (٦). ويروى أنه يكشف الرحمن عن ساقه ويدعو الخلائق للسجود ؛ فالمؤمن يسجد والمنافق يصير ظهره طبقا ، فلذلك قال : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ)(٧). ومعنى ساق الرحمن أنه تعالى يجعل شيئا من الأشياء علامة لذلك سماه ساقا ، لا كما يخطر لأجهل الناس.

وفي الحديث : «وتكاشفتم ما تدافنتم» (٨) أي لو اطلع بعضكم على سريرة بعض

__________________

(١) ٥٨ / النجم : ٥٣.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) ٨٤ / الأنبياء : ٢١.

(٤) ٢٢ / ق : ٥٠.

(٥) ٤٢ / القلم : ٦٨.

(٦) ويقال : المذمّر : الذي يدخل يده في حياء الناقة لينظر أذكر جنينها أم أنثى (اللسان ـ مادة ذمر).

(٧) ٤٢ / القلم : ٦٨ ، وغيرها.

(٨) النهاية : ٤ / ١٧٦.

٤٦٨

لأنف من دفنه ومواراته ، فسبحان من يعلم الذنب ويقدر على كشفه والمعاقبة عليه فيستره ويعفو.

فصل الكاف والظاء

ك ظ م :

قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)(١) أي الحابسين غيظهم المسكة ، من : كظمت القربة والسّقاء : إذا شددت فاهما. قال ابن عرفة : الكاظم : الممسك على ما في قلبه ، ومنه : كظم البعير لأنه يمسك جرّته فلا يجترّ. وكظم فلان غيظه : إذا تجرّعه وهو قادر على الإيقاع بعدوّه فأمسك عنه.

والكظم : مخرج النّفس. يقال : أخذ بكظمه : إذا أخذ بحلقه. والكظوم : احتباس النّفس ، ويعبّر عنه بالسكوت كما يعبّرون عنه بقولهم : حبس نفسه.

قوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ)(٢) أي مملوء كربا ، وقيل : بمنزلة من حبس نفسه. قوله : (وَهُوَ كَظِيمٌ)(٣) أي ممسك على غيظ. وكظم فلان خصمه : إذا أجابه بجواب مسكت فأفحمه ، ومثله : كظمه.

والكظامة : حلقة تجمع فيها الخيوط في طرف حديدة الميزان ، والسّير الذي يوصل بوتر القوس. والكظائم : خروق بين البئرين يجري فيها الماء. كلّ ذلك تشبيه بمجرى النّفس.

قوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ)(٤) حال من أصحاب القلوب أي ممسكين علي غيظ قد ملأ قلوبهم مع زوالها عن مقرّها حتى صارت قريبة من أفواههم. وقيل :

__________________

(١) ١٣٤ / آل عمران : ٣.

(٢) ٤٨ / القلم : ٦٨.

(٣) ٥٨ / النحل : ١٦ ، وغيرها.

(٤) ١٨ / غافر : ٤٠.

٤٦٩

كاظمين على قلوبهم خوفا أن تخرج لأنها بلغت حدّ الخروج. وقيل : هو حال من القلوب ، ويستشكل جمعها جمع سلامة ويجاب بجريانها مجراهم كقوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ)(١) وبابه. ولنا فيه كلام أكثر من هذا.

فصل الكاف والعين

ك ع ب :

قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢). الكعب : العظم المرتفع بين مفصل الساق والقدم. وكلّ ما بين عقدتين من القضيب والرمح ونحوهما فهو كعب ، قيل : سببه تكعب الإنسان ، ومنه قول الشاعر (٣) : [من الوافر]

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

وقيل : سميت الكعبة كعبة لأنها على هيئتها في التّربيع. وكلّ بيت مربع فهو كعبة. وقيل : سميت كعبة لارتفاعها ، وكلّ ما ارتفع فهو كعبة. وفلان جالس في كعبته : أي في غرفته وبيته. وأل في الكعبة للغلبة كهي في المدينة.

والكعاب والكاعب : من تكعّب ثدياها ، أي ارتفعا في صدرها ، والجمع كواعب ؛ قال عمر بن أبي ربيعة (٤) : [من الطويل]

فكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص : كاعبان ومعصر

وقال تعالى : (وَكَواعِبَ أَتْراباً)(٥) وصفهنّ صفات يحبونها ، وأنهنّ متقاربات الأسنان.

__________________

(١) ١١ / فصلت : ٤١.

(٢) ٦ / المائدة : ٥.

(٣) البيت لزياد الأعجم ، وهو من شواهد النحويين (الكتاب : ٣ / ٤٨ ، مغني اللبيب : ٦٦) وذلك على مجيء «أو» بمعنى إلا في الاستثناء.

(٤) في الأصل : عمرو بن معدي كرب ، وهو وهم. والبيت لعمر بن أبي ربيعة كما في اللسان ـ مادة شخص ، والديوان : ٤.

(٥) ٣٣ / النبأ : ٧٨.

٤٧٠

وقد كعب الثّدي كعبا ، وكعّب تكعيبا (١). وثوب مكعّب : مطويّ شديد الأدراج. وفي الحديث : «وجعل كعبك عاليا» (٢) أي شرّفك ؛ عبّر بذلك عن ثبات العزّ والشرف ودوامهما ، ومثله : ثبّت الله قدمك ، عكسه : أزال الله قدمه وأزلقها.

فصل الكاف والفاء

ك فء :

قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٣) أي مكافئا ومساويا ونظيرا. يقال : فلان يكافىء فلانا ، أي يساويه. ومنه الحديث : «تتكافأ دماؤهم» (٤) أي تتساوى فيقاد العالم بالجاهل والشريف بالدّنيء. وهو كفؤك وكفيؤك وكفاؤك ، أي مساويك. وفي صفته عليه الصلاة والسّلام : «إذا مشى تكفّى تكفّيا» (٥) قد فسّره شمر بما لا يليق فقال : أي تمايل كما تتكفّأ السفينة يمينا وشمالا. قال الأزهريّ : وهذا خطأ. ومعنى التكفّؤ : الميل إلى سنن ممشاه ، وهذا كقوله : «كأنّما ينحطّ من صبب» (٦). قال : والتمايل يمينا وشمالا إنما هو الخيلاء. قلت : لا يريد شمر تفسير مشيه بتكفّؤ السفينة [يمينا وشمالا إنما يريد تفسير مطلق الميل وقوله : يمينا وشمالا ، تفسير لتمايل السفينة](٧) لا لتمايله عليه الصلاة والسّلام فوقع التشبيه في أصل الميل. وإنما قلت ذلك لأنه لا يظن بشمر مثل ذلك والعياذ بالله ، متى اعتقده كفر.

قال : والسفينة تتكفّأ أي تتمايل على سمتها التي تقصد ، وفي حديث علي كرم الله

__________________

(١) وفي الأصل : تكعب ، ولعلها كما أثبتنا.

(٢) وفي النهاية : (٤ / ١٧٩): «والله لا يزال كعبك عاليا» والحديث لقيلة ، وهو دعاء لها بالشرف.

(٣) ٤ / الإخلاص : ١١٢.

(٤) النهاية : ٤ / ١٨٠ ، والمقصود المسلمون.

(٥) هكذا روي غير مهموز ، وبعضهم يرويه مهموزا «تكفّأ تكفّؤا». وعينه إذا اعتلّ انكسرت (النهاية : ٤ / ١٨٣).

(٦) النهاية : ٣ / ٣ ، وفيه : « .. في صبب».

(٧) إضافة من النسخة د ، وبها يستقيم المعنى.

٤٧١

وجهه : «يتكفّأ كأنّما يمشي في صبب» (١) وهذا يفسر ما ذكرته. وفي الحديث : «كان عليه الصلاة والسّلام لا يقبل [الثناء] إلا من مكافىء» (٢). قال القتيبيّ : معناه أنّه إذا أنعم على رجل فكافأه بالثناء عليه قبل ثناءه ، وإذا أثنى عليه قبل أن ينعم عليه لم يقبله. وهذا التفسير قد ردّه ابن الأنباريّ وقال : إنه غلط بيّن ، ولقد صدق ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لا ينفكّ أحد عن إنعامه إذ كان الله قد بعثه للناس كافّة ورحم به وأنقذ ؛ فنعمه سابقة إليهم لا يخرج منها مكافىء ولا غير مكافىء. هذا والثناء عليه فرض لا يتمّ الإسلام إلا به. وإنّما (٣) المعنى أنه لا يقبل الثناء إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه ، ولا يدخل عنده في جملة المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. فإذا كان المثني عليه بهذه الصفة قبل ثناءه وكان مكافئا ما سلف من نعمه عليه‌السلام عنده وإحسانه إليه. قال الأزهري : وفيه قول ثالث : إلا من مكافىء : إلا من مقارب مدحه (٤) غير مجاوز به حدّ مثله ولا مقصّر عمّا وفّقه الله إليه ؛ ألا تراه يقول : «لا تطروني كما أطرى النّصارى عيسى ولكن قولوا عبد الله ورسوله» (٥). فإذا وصف بكونه نبيّ الله ورسوله فقد وصف بما لا يوصف به أحد من أمته ، فهو مدح ومكافىء له. وفي الحديث : «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفىء ما في إنائها» (٦) يكتفىء ، أي يقلب ويكبّ ؛ تفتعل ، من كفأت القدر : إذا كببتها لتفرغ ما فيها. وهو تمثيل (٧) لإمالة الضّرّة حقّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها. وقال الكسائيّ : كفأت الإناء : كببته ، وأكفأته : أملته ، ومنه الحديث : «إذا مشى تكفّأ» تكفأ : أي تمايل إلى قدام كما تتكفّأ السفينة في جريها. والأصل فيه الهمز فترك. وفي حديث عليّ : «أنه تكفّأ لونه عام الرّمادة» (٨) أي تغيّر ،

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣. والحديث في صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : في موضع منحدر وكلمة «يتكفأ» تلفيق من حديث آخر.

(٢) النهاية : ٤ / ١٨٠ ، والإضافة منه.

(٣) في الأصل : وأما.

(٤) ورواية الهروي : إلا من مقارب في مدحه.

(٥) النهاية : ٣ / ١٢٣. والإطراء : مجاوزة الحد في المدح.

(٦) النهاية : ٤ / ١٨٢. وفي الأصل : لتكفىء.

(٧) وفي الأصل : ميل.

(٨) المفردات : ٤ / ١٨٣ ، وفيه : «أنه انكفأ».

٤٧٢

وحقيقته انقلب لونه من حال إلى حال. والإكفاء : قلب الشيء كأنّه إزالة المساواة ، ومنه الإكفاء في الشعر (١).

ك ف ت :

قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً)(٢) أي جامعة. والكفت : الضمّ والجمع ، وكلّ شيء كفتّه فقد جمعته ، وفي الحديث : «اكفتوا صبيانكم بالليل» أي ضمّوهم ، وفي رواية «كفّوا» وهو بمعنى الأول وتفسير له. والكفات قيل : هو اسم ما يكفت فيه نحو الجراب ، وأنشد لصمصامة بن الطرمّاح : [من الوافر]

وأنت اليوم فوق الأرض حيّا

وأنت غدا نضمّك في كفات

وحينئذ لا بدّ من ناصب لأحياء ، وهو مقدر : يكفت أحياء. وقيل : بل هو مصدر (٣) كالقيام ؛ فأحياء منصوب به ، ولكن لا بدّ من تجوّز في وقوع المصدر عليها ، وفيه التأويل المشهورة ، أي ذات كفات أو نفس الكفات مبالغة أو كافاته. ومعنى كونها كفاتا لهم أنها تضمّ الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها. وقيل : معناه تضمّ الأحياء التي هي الإنسان والحيوان والنبات ، والأموات التي هي الجمادات من الأرض والماء وغير ذلك. قلت : وعلى هذا فأحياء وأمواتا بدل من كفاتا بيانا له. وقيل : أحياء مفعول به ثان على حذف مضاف ؛ أي ذات أحياء وأموات ، وكفاتا حال أيضا ، وقد تكلّمنا عليه بأوسع من هذا في «الدر».

والكفات ـ أيضا ـ : الطيران السريع ، وحقيقته قبض الجناح للطيران كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)(٤) فالقبض هنا كالكفات هناك.

والكفت : السّوق الشديد ؛ قال الراغب (٥) : واستعمال الكفت في سوق الإبل

__________________

(١) الإكفاء : الإقواء ، ويرونه فسادا في آخر البيت من غير أن يحدّوا في ذلك شيئا ، والإجماع على أنه اختلاف الحروف.

(٢) ٢٥ و ٢٦ / المرسلات : ٧٧.

(٣) مصدر من كفت إذا ضم وقبض.

(٤) ١٩ / الملك : ٦٧.

(٥) المفردات : ٤٣٣.

٤٧٣

كاستعمال القبض فيه ، كقولهم : قبض (١) الراعي الإبل. وكفت الله فلانا إلى نفسه كقولهم قبضه إليه ، وفي الحديث : «رزقت الكفيت» (٢). قيل : ما أكفت به من معيشتي ، وقيل : القوة على الجماع ، وقيل : أنزلت إليه قدر أكل منها فقوي على الجماع ، ويؤيده في حديث آخر : «فأتاني جبريل بقدر يقال لها الكفيت» (٣) قال بعضهم : الكفيت القدر ، ولم يقيّدها. والكفت : القدر الصغير. قلت : هذا من قبيل ما زيادة اللفظ فيه تدلّ على زيادة المعنى. وقد حققناه في «الرحمن الرحيم». ومن أمثالهم : «كفت إلى وئيّة» (٤) الكفت : القدر الصغير كما تقدّم. والوئية : القدر الكبير ، يضرب مثلا لمن يحمّل غيره مكروها ثم يزيده. قلت : وإنما سميت القدر بالكفيت والكفت لأنها تضمّ وتجمع ما يكفي فيها.

ك ف ر :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٥). الكفر أصله التّغطية والسّتر. وسمي الكافر الشرعي كافرا لأنه ستر الحقّ وغطّى عليه. وسمي الليل كافرا لستره الأشياء بظلامه. وأنشد لثعلبة (٦) : [من الكامل]

فتذكّرا ثقلا رثيدا بعد ما

ألقت ذكاء يمينها في كافر

ذكاء هي الشمس والكافر الليل ، وهذا من أحسن الاستعارات حيث استعار للشمس يمينا / ، وأخبرنا عنها بأنها ألقتها في الليل يعني بذلك غيبوبتها. ومنه : كفر الغمام النجم ، أي ستره ، وأنشد (٧) : [من الكامل]

__________________

(١) في الأصل : قبض الله ، ولفظة «الله» غير موجودة في د والمفردات.

(٢) النهاية : ٤ / ١٨٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المستقصى : ٢ / ٢١٩. والمعنى : بليه إلى جنبها أخرى (اللسان ـ مادة كفت).

(٥) ٤ / آل عمران : ٣ ، وغيرها.

(٦) البيت لثعلبة بن صعير المازني يصف الظليم والنعامة ورواحهما إلى بيضهما عند غروب الشمس (الشعر والشعراء : ٢٠٤ ، اللسان ـ مادة كفر ، إصلاح المنطق : ١٧٥ ، والبيت من المفضلية رقم ٢٤ ، الجمهرة : ٢ / ٤٠١).

(٧) البيت للبيد كما في الديوان : ٣٠٩ ، الجمهرة : ٢ / ٤٠١ وصدره :

يعلو طريقة متنها متواتر

٤٧٤

في ليلة كفر النجوم غمامها

وسمي الزراع كافرا لستره البذر بالتراب. ومنه في أحد القولين قوله تعالى : (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ)(١) أي الزّراع. والثاني أنّهم الكفار شرعا. ومنه ـ أيضا ـ الكافور وهو اسم أكمام الثمرة التي تكفرها ، وأنشد (٢) : [من الرجز]

كالكرم إذ نادى من الكافور

وكفر النّعمة : سترها بعدم أداء شكرها لأنه إذا شكرها نوّه بذكرها فأظهرها ، وإذا كتمها ولم يشكرها فقد سترها وغطّاها. وغلب الكفر في تغطية الحقّ والدين ، والكفران في تغطية النعمة وجحودها.

والكفور مصدر للكفر مستعمل في جحود الوحدانية وجحود النّعمة معا. والكفور : المبالغ في الكفر قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣). واستشعر الراغب سؤالا فقال (٤) : إن قيل كيف وصف الإنسان ههنا بالكفور ولم يرض بذلك حتى أدخل عليه إنّ واللام وكلّ ذلك تأكيد؟ وقال في موضع آخر : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ)(٥) قيل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦) تنبيه على ما ينطوي عليه الإنسان من كفران النّعمة وقلّة ما يقوم بأداء الشكر ، وعلى هذا : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)(٧) وقوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(٨).

وجعل الراغب الكفّار أبلغ من الكفور لقوله : (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)(٩). وقد أجري الكفّار مجرى الكفور في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). وفي ما قاله نظر لأنّ فعّالا

__________________

(١) ٢٠ / الحديد : ٥٧.

(٢) رجز للعجاج (الديوان : ١ / ٢٣٩) ومذكور في اللسان ـ مادة كفر. والكافور : وعاء الطلع.

(٣) ٣٤ / إبراهيم : ١٤.

(٤) المفردات : ٤٣٤.

(٥) ٧ / الحجرات : ٤٩.

(٦) ٦٦ / الحج : ٢٢.

(٧) ١٧ / عبس : ٨٠.

(٨) ١٣ / سبأ : ٣٤.

(٩) ٢٤ / ق : ٥٠.

٤٧٥

وفعولا من جملة أمثلة المبالغة من غير تفاضل بين شيء منها. وصيغ المبالغة خمس وزاد بعضهم سادسا وهي : فعّال وفعول ومفعال وفعيل وفعّيل نحو : شرّيب العسل ، ولكنه يوهم الأبلغية من وصفه بعنيد وتوهم المساواة بينهما من انضمام ظلوم إلى كفّار. فلما جاور فعول فعّالا كان بمعناه. ولقائل أن يقول : ليس ما ادّعاه بأولى من عكسه بأن يجعل فعول بمعنى فعّال لمجاورته له.

والكفار في جمع الكافر المضادّ للمؤمن أكثر استعمالا ، كقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(١). والكفرة جمع كافر النعمة أكثر استعمالا كقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٢) قال الراغب (٣) : ألا ترى أنه قد وصف الكفرة بالفجرة؟ والفجرة قد يقال للفسّاق من المسلمين وفيه نظر ، وإنما كان ينهض دليله لو كان الفجور مختصا بغير الكفرة. ثم إنّ هؤلاء المذكورين كفار يضادّون المؤمنين ليس إلا لقوله قبل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ)(٤). وعنى بهم المسلمين ، ثم قابلهم بأولئك الذين وجوههم (عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ)(٥).

قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٦) تنبيه على أنّه عرّفه الطريقين ، كما قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(٧) ؛ فمن سالك سبيل الشكر ومن سالك سبيل الكفر.

قوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٨) أي تحّريت كفران نعمتي. ولمّا كان الكفر نقيض جحود النعمة صار يستعمل في الجحود ، ومنه : «ولا تكونوا أول كافر به» (٩) أي جاحد له وساتر لحقّه. نهاهم أن يكونوا مقتدين بهم في ذلك. وهذا جواب عمّا يفترض به الجهاد ، فيقولون : مفهومه أنهم غير منتهين عن كونهم ثاني كافر أو ثالث ، وهذا ساقط جدا لما ذكرته.

__________________

(١) ٢٩ / الفتح : ٤٨.

(٢) ٤٢ / عبس : ٨٠.

(٣) المفردات : ٤٣٥.

(٤) ٣٨ / عبس : ٨٠.

(٥) ٤٠ و ٤١ / عبس : ٨٠.

(٦) ٣ / الإنسان : ٧٦.

(٧) ١٠ / البلد : ٩٠.

(٨) ١٩ / الشعراء : ٢٦.

(٩) ٤١ / البقرة : ٢.

٤٧٦

والكافر على الإطلاق من جحد الوحدانية أو النبوّة أو الشريعة ، وترك ما لزمه من ترك النعمة ، كافر لقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(١) قال الراغب (٢) : ويدلّ على ذلك مقابلته بقوله : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)(٣) وفيه نظر إذ الظاهر حمله على الكفر المتعارف.

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤) عنى بالكافر الساتر للحقّ فلذلك جعله فاسقا ، ومعلوم أنّ الكفر المطلق هو أعظم من الفسق ، ومعناه من يجحد حقّ أبيه فقد فسق عن الذرية بظلمه. ولّما جعل كلّ فعل محمود من الإيمان جعل كلّ فعل مذموم من الكفر. وقال في السّحر : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)(٥). وقال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٦) ثم قال : (وَمَنْ كَفَرَ) أي : ومن تركه جاحدا له. وقيل : هو تغليظ كقوله عليه الصلاة والسّلام : «من قدر على الحجّ ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» (٧).

قوله : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)(٨) يعني به نوحا ومن جرى مجراه من الأنبياء عليهم‌السلام ، وفي معناهم من هذه الحيثيّة من أمر بمعروف ونهى عن منكر مخلصا فيه لربّه.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)(٩) : قيل : عني بهم آمنوا بموسى ثم كفروا بمن بعده. وقيل : آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ لم يؤمنوا بغيره. وقيل : إشارة إلى المذكورين في قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(١٠) لم يرد أنّهم آمنوا مرتين (١١) بل إشارة إلى أحوال

__________________

(١) ٤٤ / الروم : ٣٠.

(٢) المفردات : ٤٣٤.

(٣) ٤٤ / الروم : ٣٠.

(٤) ٥٥ / النور : ٢٤.

(٥) ١٠٢ / البقرة : ٢.

(٦) ٩٧ / البقرة : ٢.

(٧) رواه الترمذي والبيهقي بإسناد ضعيف (الفتح الكبير : ٣ / ٢٤١).

(٨) ١٤ / القمر : ٥٤.

(٩) ١٣٧ / النساء : ٤.

(١٠) ٧٢ / آل عمران : ٣.

(١١) آمنوا مرتين وكفروا مرتين.

٤٧٧

كثيرة. وقيل : كما يصعد الإنسان في الفضائل ثلاث درجات ينعكس في الرذائل ثلاث درجات.

وقد يعبّر بالكفر عن التكذيب ولذلك تعدّى تعديته لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ)(١).

ويقال : كفر إذا اعتقد الكفر أو أظهره ولم يعتقده ، ولذلك قال تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٢). وقد يعبّر بالكفر عن التّبرّي ؛ قال تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)(٣).

وكفر فلان بكذا ، أي بسببه ، نحو : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)(٤). وكفر فلان بالشيطان : إذا خالفه وآمن به (٥).

قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ)(٦) أي فالذي يمحوه. والكفّارة : ما يستر الذنب ؛ سميت بذلك بصفة من أمثلة المبالغة نحو ضرّابة وعلّامة ، نحو : كفّارة القتل والظّهار واليمين. والتكفير : ستر ذلك. وقيل : سميت كفّارة لإزالتها الإثم ، وفيهما نظر من حيث إنّ الكفارة تجب فيما لا إثم فيه وهو القتل خطأ ، وقال بعضهم : ويصحّ أن يكون أصله إزالة الكفر والكفران ، كما أنّ التمريض إزالة المرض ، والتّقذية إزالة القذى.

قوله تعالى : (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ)(٧) أي محوناها كأن لم توجد ، ونحوه قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(٨).

__________________

(١) ١٣٦ / النساء : ٤.

(٢) ١٠٦ / النحل : ١٦.

(٣) ٢٥ / العنكبوت : ٢٩.

(٤) ٢٥٦ / البقرة : ٢.

(٥) أي خالف الشيطان وآمن بالله.

(٦) ٨٩ / المائدة : ٥.

(٧) ٦٥ / المائدة : ٥.

(٨) ١١٤ / هود : ١١.

٤٧٨

قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها كافُوراً)(١) سمي الكافور لستره الأشياء بطيبه ورائحته ، كما سمي الكمام كافورا لستره الثّمرة.

وفي الحديث : «لا ترجعوا بعدي كفّارا» (٢) قال أبو منصور : فيه قولان ؛ أحدهما من كفر إذا لبس سلاحه لأنه ستر نفسه ، ومنه قول الشاعر (٣) : [من الكامل]

قد كفّرت آباؤها أبناءها

والثاني أن يقول أحدهم للآخر : يا كافر لأن من كفّر غيره فقد كفر (٤).

وفي الحديث : «لتخرجنّكم الروم من أرضكم كفرا كفرا» (٥) الكفر : القرية من قرى الريف. ومن كلام معاوية : «أهل الكفور أهل القبور» (٦) يعني أنّهم لبعدهم عن الأمصار ، وأهل العلم والأدب بمنزلة الموتى سمي كفرا لستره أهله ، وفيه أيضا : «المؤمن مكفّر» (٧) أي تكفّر عنه خطاياه بالرزايا التي تصيبه في ماله وفي نفسه. وفي القنوت : «واجعل قلوبهم كقلوب نساء كوافر» (٨) يعني في الاختلاف ، وخصّ النساء لأنهنّ أضعف قلوبا من الرجال ، وخصّ الكوافر لأنهنّ أضعف من المسلمات.

__________________

(١) ٥ / الإنسان : ٧٦.

(٢) النهاية : ٤ / ١٨٤ ، وفيه : «ألا لا ترجعنّ ..».

(٣) عجز للفرزدق ، وصدره :

حرب تردّد بينها بتشاجر

والشاهد مذكور في اللسان مع بيت آخر. والشاهد غير وارد في الديوان ، في حين أن البيت الآخر مذكور مع خلاف في روايته.

(٤) من الحديث : «من قال لأخيه : يا كافر ، فقد باء به أحدهما» (النهاية : ٤ / ١٨٥).

(٥) النهاية : ٤ / ١٨٩.

(٦) المصدر السابق ، وفيه : « .. هم أهل القبور».

(٧) حديث في النهاية : ٤ / ١٨٩ ، مكفّرا : مرزّأ.

(٨) النهاية : ٤ / ١٨٨.

٤٧٩

ك ف ف :

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)(١) الكفّ : المنع ، ومنه قيل لكفّ الإنسان كفّ لأنه يمنع ما فيه ؛ سمي باسم المصدر. يقال : كففته أكفّه كفّا.

قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(٢) أي جميعا. وأصله من كفّة الثوب ـ بالضمّ ـ وهي حاشيته اعتبر فيها معنى الإحاطة. وكلّ مستطيل من ذلك كفّة نحو كفة الرمل. وكلّ مستدير كفّة ـ بالكسر ـ نحو كفّة الميزان وكفّة الحابل ، وغير الكسر في ذلك خطأ. ولا تثنّى كافّة ولا تجمع ولا تكون إلا حالا ، ولذلك لحن من يقول : على كافّة المسلمين. وقيل : الهاء في كافة للمبالغة كعلامة ؛ فمعنى قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(٣) وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(٤) أي كافّين لهم وكافّين لكم. وقيل : معناه جماعة ، وذلك أنّ الجماعة تكفّ من يقصدهم بسوء أو يكفّ بعضها بعضا.

وكففته : أصبته بالكفّ ودفعته به أو أصبت كفّه نحو كبدته. وتعورف الكفّ بالدفع مطلقا سواء أكان ذلك بكفّ أم بغيرها.

وتكفّف الرجل : مدّ كفّه سائلا ، وفي الحديث : «يتكفّفون الناس» (٥) ، واستكفّ : إذا مدّ كفّه سائلا أو معطيا. ورجل مكفوف : غلب في الأعمى ، وهو من أصيب كفّه أيضا.

قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(٦) أي ابلغوا في الإسلام إلى حيث تنتهي شرائطه فيكفّوا أن يعتدّوا فيه. وقيل أراد بالكافّة الإحاطة بجميع حدود الإسلام. قلت : وهذان إنّما يتمشّيان على جعل كافة حالا من السّلم ، إلا أنّ المشهور عند المعرّبين جعلها حالا من المخاطبين بمعنى جميعا ، وهو الظاهر.

__________________

(١) ٢٤ / الفتح : ٤٨.

(٢) ٢٠٨ / البقرة : ٢.

(٣) ٢٨ / سبأ : ٣٤.

(٤) ٣٦ / التوبة : ٩.

(٥) النهاية : ٤ / ١٩٠ ، من حديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد.

(٦) ٢٠٨ / البقرة : ٢.

٤٨٠