عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

وقال الهرويّ : انفاضت البئر (١) انهارت. ويحتمل أن يروى بالصاد من : فيص البيضة وهو ما انفلق عنها من قشرها ، ومعناهما بعيد من الحديث.

ف ض ل :

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)(٢) قال ابن عرفة : إنّ كلّ من قدم خيرا يلتمس به فضل الله بنيّة أو لسان أو جارحة أعطاه الله فضل ذلك العمل. وقال الأزهريّ : أي من كان ذا فضل في دينه فضّله الله في الآخرة.

وأصل الفضل الزيادة على الاقتصاد ، وذلك ضربان : محمود كفضل العلم والحلم ، ومذموم كفضل الغضب على ما يجب أن يكون. والفضل في المحمود أكثر استعمالا ، والفضول في المذموم. والفضل إذا استعمل لزيادة حسنة أحد الشيئين على الآخر على ثلاثة أضرب : فضل من حيث الجنس كفضل جنس الحيوان على جنس النبات ، وفضل من حيث النوع كفضل الإنسان على غيره من الحيوان ، وفضل من حيث الذات كفضل رجل على آخر ؛ فالأولان جوهريان (٣) لا سبيل للناقص فيهما أن يزيل نقصه وأن يستفيد الفضل ، كالفرس والحمار لا يمكنهما أن يكتسبا الفضيلة التي خصّ بها الإنسان. والفضل الثالث قد يكون عرضيا فيوجد السبيل إلى اكتسابه. ومن هذا النحو التفضيل المذكور في قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)(٤).

قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)(٥) أي ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، كلّ ذلك يريد به المال وما يكتسب. وقال أبو منصور : المعنى في قوله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أنّ الله فضّل الملّاك على مماليكهم فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مالكه. واعلم أن المالك لا يردّ عن مملوكه من فضل ما في يده شيئا حتى لا يستوي حالهما في الملك ، فأنتم لا تسوّون بينكم وبين مماليككم وكلكم بشر ، فكيف

__________________

(١) الكلمة ساقطة من الأصل ، ومذكورة في د.

(٢) ٣ / هود : ١١.

(٣) في الأصل : جوهران ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٤) ٧١ / النحل : ١٦.

(٥) ١٢ / الإسراء : ١٧.

٢٨١

تجعلون بعض الذي رزقكم الله لله وبعضه لأصنامكم ، فتشركون بين الله وبين الأصنام ، وأنتم لا ترضون لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركة؟

وقوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)(١) يعني ما خصّ به الرجل من الفضيلة الذاتية والفضل الذي أعطاه من المكنة والمال والجاه والقوة. وكلّ عطية لا تلزم من تعطى له يقال لها فضل نحو قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)(٢).

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ)(٣) يصلح أن يتناول أنواع الفضل الثلاثة التي قدّمنا ذكرها .. ومن فسّرها بالإسلام فقصر اللفظ على بعض محامله ، وكذا قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٤) وقوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)(٥) في الدنيا والآخرة.

قوله : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)(٦) أي يكون ذا فضل وعلوّ في المنزلة ، وفي الحديث : «فضل الإزار في النار» (٧) قال المبرد : إنّما أراد معنى الخيلاء ، واستدلّ بقوله في حديث آخر أنه قال : «إياك والمخيلة! قال : وما والمخيلة؟ قال : سبل الإزار» (٨) وأنشد لزهير (٩) : [من الوافر]

يجرّون البرود وقد تمشّت

حميّا الكأس فيهم والغناء

وأنشد لابن أحمر (١٠) : [من الوافر]

__________________

(١) ٣٤ / النساء : ٤.

(٢) ٣٢ / النساء : ٤.

(٣) ٢٩ / الحديد : ٥٧.

(٤) ٥٨ / يونس : ١٠.

(٥) ٦٤ / البقرة : ٢.

(٦) ٢٤ / المؤمنون : ٢٣.

(٧) النهاية : ٣ / ٤٥٥ ، هو ما يجره الإنسان من إزاره على الأرض على معنى الخيلاء والكبر.

(٨) سنن أبي دؤاد ، لباس : ٢٤. الترمذي ، لباس : ٨.

(٩) شعر زهير : ١٣٥. حميا الكأس : سورتها وصدمتها.

(١٠) شعر ابن أحمر الباهلي : ٧٧.

٢٨٢

ولا ينسيني الحدثان عرضي

ولا أرخي من المرح الإزارا (١)

وحلف الفضول كان في دار عبد الله بن جدعان ، [وهو الذي قال فيه عليه‌السلام : «رأيت في دار عبد الله بن جدعان](٢) حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت». وسمي حلف الفضول لأنّه قام به رجال يقال لكل منهم فضل وهم : فضل بن وداعة ، وفضل بن الحارث ، وفضل بن فضالة. والفضول جمع فضل نحو السعود جمع سعد.

ف ض ي :

قوله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)(٣) أي خلا وجامع ، وهذا من أحسن الكنايات. قال بعضهم : الإفضاء إذا كان معها في لحاف جامع أو لم يجامع. وفي الحديث : «من أفضى بيده إلى ذكره فليتوضّأ» (٤) أي من مسّ فرجه ، قيل : ولا يقال ذلك لغة إلا إذا كان بباطن الكفّ.

والفضاء : هو الواسع من الأرض ؛ فقولك : أفضى فلان أصله صار إلى الفضاء ، ثم عبّر به عن الميل والجماع ، قال الراغب (٥) : أفضى بيده إلى امرأته في باب الكناية أبلغ وأقرب إلى التصريح من قولهم : خلا بها. وقول الشاعر (٦) : [من الطويل]

طعامهم فوضى فضا في رحالهم

أي مباح غير ممنوع كأنه موضوع في فضاء يتصرّف به من يريد.

__________________

(١) وفي الديوان : ولا ألقي من الفرح.

(٢) كلام ساقط أضفناه من النسخة د. والحديث في النهاية : ٣ / ٤٥٦.

(٣) ٢١ / النساء : ٤.

(٤) سنن النسائي ، الطهارة : ١١٧.

(٥) المفردات : ٣٨٢.

(٦) صدر بيت للمعذّل البكري ، وعجزه كما في اللسان ـ مادة فضا :

ولا يحسنون الشرّ إلا تناديا

٢٨٣

فصل الفاء والطاء

ف ط ر :

قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ)(١) أي مبتدعها ومنشئها من غير مثال احتذاه. وفطرت البئر : ابتدعتها وحفرتها. وفطر ناب البعير : أي طلع. وأصل الفطر (٢) الشقّ طولا. وفطر يكون قاصرا ومصدره الفطور ، ومتعديا ومصدره الفطر. وقد فطرته فانفطر انفطارا ؛ قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)(٣)(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ)(٤).

وفطرت الشاة : حلبتها بإصبعين. وفطرت العجين : خبزته من فوره. وعن ابن عباس : «ما كنت أدري ما فاطر السماوات حتى احتكم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها» أي ابتدأتها (٥).

وقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)(٦) أي يتشقّقن.

وقوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)(٧) أي خلقني. قوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(٨) أي اتّبع فطرة الله ، وهو كقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ)(٩) أي اتّبع الدين القيّم الذي فطر عليه. وقيل : الفطرة : الخلقة التي يخلق المولود عليها في رحم أمّه ، وفي الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة» (١٠) قال ابن المبارك : أي على ابتداء الخلقة في علم الله مؤمنا كان أو كافرا. قال أبو الهيثم : يعني على الخلقة التي فطر عليها في الرحم

__________________

(١) ١٤ / الأنعام : ٦ ، وغيرها.

(٢) في الأصل : الفطير ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٣) ١٨ / المزمل : ٧٣.

(٤) ١ / الانفطار : ٨٢.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٥٧ ، يعني ابتدأت حفرها.

(٦) ٩٠ / مريم : ١٩.

(٧) ٢٧ / الزخرف : ٤٣.

(٨) ٣٠ / الروم : ٣٠.

(٩) أول الأية السابقة.

(١٠) النهاية : ٣ / ٤٥٧.

٢٨٤

من سعادة وشقاوة «فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه» في حكم الدّنيا. وقال الراغب (١) : وفطر الله الخلق : وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال. وقوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته تعالى. ففطرة الله تعالى هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان ، وهو المشار إليه بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٢).

وقوله : (وَالَّذِي فَطَرَنا)(٣) أي أبدعنا وأوجدنا. ويصحّ أن يكون الانفطار في قوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) إشارة إلى قبول ما أبدعه وأفاضه علينا منه.

والفطر : ترك الصّوم ؛ يقال : فطرته ، وأفطر هو. وقيل للكمأة فطر لأنه يفطر الأرض أي يخرج منها. وقيل : فطر الصائم وإفطاره : شقّه صومه بالفطور. ويقال : أفطر الصائم إذا تعاطى ما يفطره. وأفطر : دخل في وقت الإفطار ، نحو : أصبح ، ومنه الحديث : «إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم» (٤) أي جاز له أن يفطر وحلّ له بعد أن كان محظورا عليه.

والفطر : المذي أيضا. وفي الحديث أنه سئل عن المذي فقال : «ذاك الفطر» (٥) قال أبو عبيد : سمي فطرا لأنه شبه بالفطر في الحلب. يقال : فطرت الناقة أفطرها. ورواه غير أبي عبيد كالنّضر بن شميل الفطر ، بالضم.

وقوله : (فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٦) أي فتقهما من بعد أن كانتا ملتصقتين ، إشارة إلى قوله : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)(٧) وقوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)(٨) أي من خلل بحصول شقوق فيها وارتفاع وانخفاض ، فليس بين قوله تعالى : (فَطَرَ السَّماواتِ) وبين قوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) تناف ، والله أعلم.

__________________

(١) المفردات : ٣٨٢.

(٢) ٨٧ / الزخرف : ٤٣.

(٣) ٧٢ / طه : ٢٠.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٥٧ ، وفيه : «إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم».

(٥) النهاية : ٣ / ٤٥٨.

(٦) ٧٩ / الأنعام : ٦.

(٧) ٣٠ / الأنبياء : ٢١.

(٨) ٣ / الملك : ٦٧.

٢٨٥

فصل الفاء والظاء

ف ظ ظ :

قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(١) الفظّ : القاسي القلب الغليظ الجانب السيء الخلق. قال الأزهريّ : أصل الفظ ماء الكرش يعتصر فيشرب عند إعواز الماء وشدّة الضّرورة ، وسمّي فظا لغلظ شربه.

فصل الفاء والعين

ف ع ل :

قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(٢) أي قادرين. فالفعل يعبّر به عن القدرة على الشيء. قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ)(٣) أي غير مضيّعين لها موفون بها.

والفعل : تأثير من جهة مؤثر ، وهو عامّ لما كان بإجادة وغير إجادة ، ولما كان بعلم أو بغير علم ، ولما كان بقصد وبغير قصد ، ولما كان من الإنسان والحيوانات والجمادات. والعمل أعمّ والصّنع أخصّ منه ، كما تقدم.

والذي من جهة الفاعل يقال له مفعول ومنفعل ، وقد فصل بعضهم بين المفعول والمنفعل فقال : المفعول يقال إذا اعتبر لفعل الفاعل ، والمنفعل يقال إذا اعتبر قبول الفعل في نفسه. فالمفعول أعمّ من المنفعل لأنّ المنفعل يقال لما لا يقصد الفاعل إيجاده وإن تولّد منه ، كحمرة اللون من خجل تعتري من رؤية إنسان ، والطرب الحاصل من الغناء ، وتحرك العاشق لرؤية معشوقه. وقيل لكلّ فعل انفعال إلا الإبداع من الله تعالى فذلك إيجاده من عدم لا في مادة وجوهر بل هو إيجاد الجوهر.

__________________

(١) ١٥٩ / آل عمران : ٣.

(٢) ١٠٤ / الأنبياء : ٢١.

(٣) ٤ / المؤمنون : ٢٣.

٢٨٦

فصل الفاء والقاف

ف ق د :

قوله تعالى : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ)(١) أي نعدمه. والفقد : عدم الشيء بعد وجوده ، فهو أخصّ من العدم ؛ كأنّ المعدوم يقال فيه وفيما لم يوجد بعد.

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)(٢) أي تفقّد حالها ، وحقيقته طلب المفقود. وقيل : التفقد : التعهّد لكن حقيقة التفقّد تعرّف فقدان الشيء والتّعهّد تعرف العهد المتقدّم.

والفاقد : المرأة تفقد ولدها أو زوجها. وفي حديث أبي الدّرداء : «من يتفقّد يفقد» (٣) أي من طلب الخير في الناس يفقده. وفقد وعدم خرجا عن الأفعال ، فإن تعدّيا رافعين الضمير المتصل إلى ضميره المتّصل ؛ نحو قولك : فقدتني وعدمتني. ولو قلت : ضربتني لم يجز ، وأنشد (٤) : [من الطويل]

لقد كان لي عن ضرّتين عدمتني

وعمّا ألاقي منهما متزحزح

ومثل فقد وعدم في ذلك ظنّ وبابها ، وقد حقّقنا هذا في غير هذا الموضع (٥).

ف ق ر :

قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ)(٦) والفقر : الخلّة والحاجة الضرورية ، ويقال :

__________________

(١) ٧٢ / يوسف : ١٢.

(٢) ٢٠ / النمل : ٢٧.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٦٢ ، وفي الأصل : «من تفقد ..».

(٤) البيت لجران العود ، وهو من شواهد ابن يعيش (شرح المفصل : ٧ / ٨٨).

(٥) ذلك لأنهما من أفعال النفس التي لا تتعدى ، ويقول ابن يعيش : اعلم أن الأفعال المؤثرة إذا أوقعها الفاعل بنفسه لم يجز أن يتعدى فعل ضميره المتصل إلى ضميره المتصل بأن يكون الضميران للمتكلم. وإذا اختلف الضميران جاز كقوله : ما ضربني إلا أنا.

(٦) ٦٠ / التوبة : ٩.

٢٨٧

أشدّ الحاجة ، وهو مأخوذ من فقار الظهر كأنّه لاحتياجه انكسر فقاره فهو لا ينهض. كما قيل : إنّ المسكين من السكون ، لاحتياجه سكن وانقطع عن الحركة ، وقيل : هو فعيل بمعنى مفعول ، فالفقير هو المكسور الفقار على التشبيه ، ومنه : فقرته الفاقرة ، أي الداهية التي تكسر فقار ظهره.

وقولهم : أفقرك الصّيد فارمه ، أي مكّنك من فقاره ، ويقال : فقره : أي أصاب فقار ظهره ، نحو كبده ورأسه.

والفقر : خرزات الظهر ، الواحدة فقرة ، كسدرة وسدر.

وقوله تعالى : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(١) أي داهية عظيمة تكسر منها الفقار. وفي حديث عثمان رضي الله عنه : «استحلّوا منه الفقر الثلاث» (٢) أي الأمور العظام : حرمة الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الخلافة. وقالت عائشة رضي الله عنها في حقّه (٣) : «المركوب فيه الفقر الأربع» ، ضربت ذلك مثلا لما ارتكب منه ، لأنّ الظهر محلّ الركوب والفقر فيه ، وأرادت أنه ارتكب منه أربع حرم فانتهكوها وهي : حرمة صحبته وصهره ، وحرمة البلد ، وحرمة الخلافة ، وحرمة الشهر الحرام. وقال الأزهريّ : هي الفقر ، بضم الفاء (٤).

وقيل : اشتقاق الفقير من قولهم : فقرت البعير ، وذلك أن يحزّ أنف البعير إلى أن يصل الحزّ إلى العظم ثم يلوى عليه جرير ، أي حبل ونحوه ليذلّ بعد صعوبته ، فكذلك الفقير يحصل له من الغلّ ما يجعله بمنزلة البعير المذلّل المقيّد. وقيل : اشتقاقه من الفقرة أي الحفرة ، ومنه قيل لكلّ حفيرة يجتمع فيها الماء.

وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة غرسته فيها ، قال الشاعر (٥) : [من الرجز]

__________________

(١) ٢٥ / القيامة : ٧٥.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٦٣.

(٣) الضمير عائد على عثمان (رضي) ، والحديث في النهاية : ٣ / ٤٦٣.

(٤) قال الأزهري : ومفردها الفقرة ، وهي الأمر العظيم الشنيع.

(٥) من شواهد اللسان ـ مادة فقر ، وعجزه :

مجنونة تودي بروح إنسان

٢٨٨

ما ليلة الفقير إلا شيطان

وقيل : هو اسم بئر.

وفقرت الخرز : ثقبته ، وأفقرت البعير : ثقبت خطمه ، فكأنّ الفقير لقلة موجوده قد دفن في فقير.

واختلف الناس في الفقير والمسكين ؛ فذهب الشافعيّ وجماعة أنّ الفقير أسوأ حالا من المسكين ؛ وهو من لا يقع ماله ولا كسبه اللائق به غير المانع له من النفقة موقعا من كفايته ، والمسكين عنده من يقع ماله أو كسبه موقعا من كفايته ولا يكفيه. واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)(١). فأثبت لهم ملكا ، وذهب أبو حنيفة وغيره إلى أن المسكين أسوأ حالا ، مستدلا بقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(٢) أي لصق جلده بالتراب لعدم موجوده ، وبقول الشاعر (٣) : [من البسيط]

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

وردّ أصحابنا هذا بأنه قال «كانت» أي ثم عدمت. وقال ابن عرفة : أخبرني أحمد بن يحيى عن محمد بن سلّام قال : قلت ليونس : أفرق لي بين الفقير والمسكين. فقال : الفقير الذي لا يجد القوت ، والمسكين الذي لا شيء له. وقال ابن عرفة : الفقير عند العرب : المحتاج ؛ قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ)(٤) أي المحتاجون إليه.

قلت : هذا بالنسبة إلى الفقير لغة ، أما الفقير شرعا فكما قدّمنا ذكره. ونقل عن الشافعيّ أنه قال : الفقراء الزّمنى الذين لا حرفة لهم ، وأهل الحرف الذين لا تقع حرفتهم من حاجتهم موقعا ، والمساكين : السّؤّال ممن له حرفة تقع موقعا ولا تغنيه وعياله. وقد قسم بعضهم الفقر إلى أربعة أقسام فأجاد فيها فقال : الفقر يستعمل على أربعة أوجه ؛ الأول عدم وجود الحاجة الضرورية ، وذلك عام للإنسان ما دام في دار الدنيا بل هو عامّ للموجودات

__________________

(١) ٧٩ / الكهف : ١٨.

(٢) ١٦ / البلد : ٩٠.

(٣) البيت للراعي في مدح عبد الملك بن مروان ويشكو إليه سعاته (اللسان ـ مادة فقر).

(٤) ١٥ / فاطر : ٣٥.

٢٨٩

كلّها ، وإلى هذا الفقر أشار بقوله في وصف الإنسان : «وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام» (١). والثاني : عدم المقتنيات وهو المذكور في قوله : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(٢). والثالث : فقر النّفس ، وهو الشّره المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاد الفقر أن يكون كفرا» (٣) وهو المقابل بقوله : «إنّما الغنى غنى النفس» (٤) وهو المعنيّ بقولهم : «من عدم القناعة لم يفده المال غنى». والرابع : الفقر إلى الله تعالى ، وهو المشار إليه بقوله : «اللهمّ أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك» وإياه عنى بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(٥). وقد ألمّ الشاعر بهذا المعنى فأجاد بقوله (٦) : [من الطويل]

ويعجبني فقري إليك ولم يكن

ليعجبني ، لولا محبّتك ، الفقر

ف ق ع :

قوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها)(٧) أي خالص ، يقال : أصفر فاقع أي صادق الصّفرة ، وأسود حالك وحانك من قولهم : أسود من حلك الغراب ومن حنك الغراب ـ باللام والنون ـ وأبيض يقق (٨) وأخضر ناصع وأحمر قانىء.

والفقع : ضرب من الكمأة ، وبه شبّه الذليل ، فيقال : أذلّ من فقع بقاع. وقال كعب ابن زهير (٩) قال الخليل بن أحمد : وسمي الفقّاع فقّاعا لما يرتفع من زبده.

وفقاقيع الماء : نقاطاته ـ على التشبيه ـ وفي حديث ابن عباس : «نهى عن التّفقيع في

__________________

(١) ٨ / الأنبياء : ٢١.

(٢) ٢٧٣ / البقرة : ٢.

(٣) المفردات : ٣٨٣.

(٤) رواه أحمد والترمذي و ... عن أبي هريرة (الفتح الكبير : ٢ / ٥٨) ، وهو جزء من حديث.

(٥) ٢٤ / القصص : ٢٨.

(٦) من شواهد الراغب في مفرداته : ٣٨٣.

(٧) ٦٩ / البقرة : ٢.

(٨) أبيض يقق : ناصع ، وترد بكسر العين.

(٩) يبدو أن المؤلف ـ أو الناسخ ـ سها عن ذكر شعر كعب ، ولم تذكره النسخ الثلاث.

٢٩٠

الصلاة» (١) هي الفرقعة وغمز الأصابع حتى يسمع نقيضها ، ومنه تفقيع الورد. ويقال للزّبد الذي يطفو على وجه الماء فقاقيع. وفي الحديث : «إذا تفاقعت عيناك» (٢) أي رمصتا ، وفي الحديث : «عليهم خفاف لها فقع» (٣) أي خراطيم. يقال : خفّ مفقّع أي مخرطم.

ف ق ه :

قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(٤) أي يطلبون أن يفقّهوا دين الله. وأصل الفقه الفهم. وقيل : فقه الأشياء الخفيّة ، فهو أخصّ من مطلق الفهم ، وقيل : هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، فهو أخصّ ـ أيضا ـ من مطلق الفهم ، ولذلك قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٥) أي ليس في وسعهم أن يعرفوا حقيقة ذلك.

ويقال : فقه ـ بالضم ـ أي صار الفقه سجية له وطبعا. وفقه : أي حصل له فهم. وفقه ـ بالفتح أي غلب غيره في الفقه ، نحو شعره أي غلبه في الشّعر ، ومصدر الأول فقاهة ، والثاني فقها.

قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(٦) أي لا يعلمون العلم الشرعيّ. وقيل : لمّا لم ينتفعوا بفهومهم جعلوا كأنهم [مكوّنو ذلك](٧) كقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(٨). وقد كانوا ذوي أسماع وألسنة وأبصار لكن لم ينتفعوا بها ، كأنّهم فقدوها. وفي دعائه عليه‌السلام لابن عباس : «اللهمّ فقّهه في الدين» (٩) أي فهّمه علم تفسير كتابك ، وفي الحديث : «لعن الله النائحة والمستفقهة» (١٠) يعني التي تفقّه قولها وتتلقّفه لتجيبه عن ذلك.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٦٤.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٦٥ ، والحديث لأم سلمة.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ١٢٢ / التوبة : ٩.

(٥) ٤٤ / الإسراء : ١٧.

(٦) ٦٥ / الأنفال : ٨.

(٧) بياض في النسختين ، والإضافة من النسخة د .. ولعل الكلمة الأولى غير ذلك.

(٨) ١٨ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٩) النهاية : ٣ / ٤٦٥ ، وتتمته : « .. وعلمه التأويل».

(١٠) المصدر السابق.

٢٩١

فصل الفاء والكاف

ف ك ر :

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)(١). الفكر : قوة نظريّة للعلم إلى المعلوم. والتفكّر جولان (٢) تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك يختصّ من الحيوان بالإنسان ، ولا يمكن أن يقال إلا لما يحصل له صورة في القلب إذ كان منها عن اتّصاف بالصورة. وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)(٣) وذلك ممكن لا محالة ، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٤). وقال بعض أهل الأدب : الفكر مقلوب من الفرك ، لكن يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها.

ف ك ك :

قوله تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ)(٥) أي خلاص. والفكّ : الخلاص والتخليص : ومنه فكّ الرّهن وهو تخليصه من تعلّق حقّ المرتهن ، ولذلك يقال : علق الرهن ضدّ انفكّ. وفي معنى الآية قولان : أحدهما ـ وهو المشهور ـ أنه عتق الرقاب [من المماليك. والثاني أن المعنى ينقذ نفسه من الهلكة بالكلم الطيب](٦) والعمل الصالح. ولذلك ورد : مشتر نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها. وقيل : هي إعانة المكاتب. ويؤيد ذلك أنه قد ورد في الحديث : «أعتق النّسمة وفكّ الرقبة» (٧) أي يعين في عتقها. قيل : أو ليسا واحدا. قال لا ، عتق النسمة أن ينفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن يعنى في عتقها.

__________________

(١) ١٨٤ / الأعراف : ٧.

(٢) في الأصل : ضربان ، ولعلها كما أثبتناه.

(٣) ٨ / الروم : ٣٠.

(٤) ٢١ / الذاريات : ٥١.

(٥) ١٣ / البلد : ٩٠.

(٦) ساقط من ح وس ، والإضافة من د.

(٧) النهاية : ٣ / ٤٦٥.

٢٩٢

قوله تعالى : (وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ)(١) قال مجاهد : منفكين : منتهين ، وقال غيره : زائلين من الدنيا ، يقول : ولم يتفانوا (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)(٢). وقال ابن عرفة : لم يكونوا مفارقين الدنيا حتى تأتيهم البينة التي أثبتت لهم في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الهرويّ : لفظه لفظ المضارع ومعناه الماضي. وهذا غير جائز البتّة لأنّ حتى حرف غاية ، والغاية في المستقبل ، وأيضا فهو منصوب بأن ، وأن مخلصة للاستقبال. وقال الأزهريّ : ليس هو من باب ما انفكّ وما زال ، وإنما هو انفكاك الشيء إذا انفصل عنه ، وقيل : معناه : لم يكونوا متفرّقين بل كانوا كلّهم على الضلال كقوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(٣).

والفكّ : انفراج المنكب عن مفصله. والفكّان : ملتقى الشّدقين.

ف ك ه :

قوله تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ)(٤) أي فرحين مسرورين فأبدلهم الله بذلك حزنا كثيرا. وقوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ)(٥) أي مسرورون بما نعّمهم الله تعالى في الآخرة ؛ بما تحمّلوا من مشاقّ الصبر على عمل الطاعات واجتناب المعاصي. وهو مأخوذ من لفظ الفاكهة لأنّ بها يحصل التلذّذ.

والفكاهة : المزح ؛ قال أبو عبيد : الفاكه المازح ، والاسم : الفكاهة والفكاه. وقوله :

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ)(٦) أي ناعمين أشرين بطرين.

والفكه : ذو الفكاهة أو الفكاهة ، والفكه : من يتفكّه ، وقد قرىء «فاكهين»

__________________

(١) ١ / البينة : ٩٨.

(٢) تابع الآية السابقة.

(٣) ٢١٣ / البقرة : ٢.

(٤) ٣١ / المطففين : ٨٣.

(٥) ٥٥ / يس : ٣٦.

(٦) ٢٧ / الدخان : ٤٤.

٢٩٣

و «فكهين» (١) فقيل هما بمعنى. وقيل : الفاكه : ذو الفكاهة ، نحو : لابن وتامر. والفكه : من بالغ في ذلك. وفي الحديث : «أربعة ليس غيبتهنّ بغيبة .. كذا وكذا .. والمتفكّهون بالأمّهات» (٢) أي معناه الذين يشتموهنّ متفكّهين به.

وقوله : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)(٣) قيل : معناه تندّمون. وفكه وفكن : تندّم. والتفكيه والتفكّن : التندّم ، وقيل : معناه تتعجبّون. وكذا قوله : (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ)(٤) أي معجبين.

والفاكهة : ما يتفكّه به من الثمار ، ويغلب في الرّطب منها ، وقال الراغب : (٥) : وقيل هي الثمار ما عدا العنب والرمان. وقائل هذا كأنّه نظر إلى اختصاصهما بالذكر وعطفهما على الفاكهة ـ انتهى ـ قلت : كأنه سبق لسانه أو قلمه من الرطب إلى العنب لأنه يريد أنهما عطفا على الفاكهة وليس ذلك إلا في قوله فيهما : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)(٦) فالمراد بالنخل ثمره وهو الرّطب.

فصل الفاء واللام

ف ل ت :

قرأ ابن عباس : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٧) بالفاء والتاء ، والانفلات : التخلص من وثاق. يقال : أفلتت الدابة تفلت فهي مفلتة إذا ندّت وهربت وأفلتها غيره ، قال الشاعر (٨) : [من الطويل]

__________________

(١) لم تذكر في هذه السورة ، بل ذكرت القراءتان في سورة المطففين السابقة الذكر. ويقول الفراء : وكلّ صواب.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٦٦.

(٣) ٦٥ / الواقعة : ٥٦.

(٤) ٣١ / المطففين : ٨٣.

(٥) المفردات : ٣٨٤.

(٦) ٦٨ / الرحمن : ٥٥.

(٧) ٢٢٧ / الشعراء : ٢٦.

(٨) أنشده ابن السكيت كما في اللسان ـ مادة فلت.

٢٩٤

وأفلتني منها حماري وجبّتي

جزى الله خيرا جبّتي وحماريا

وفي الحديث : «إنّ الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (١) أي لم يخلصه منه أحد ، وفيه : «إنّ أمّي افتلتت نفسها» (٢) أي ماتت فجأة. وكلّ أمر عوجل به من غير رويّة فهو فلتة ؛ يقال : كان هذا فلتة من فلان : أي من غير قصد.

ف ل ح :

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣) الفلاح : الفوز والظفر بالبغية ، وأصله من فلحت الحديد ، أي شققته. قال الشاعر (٤) : [من الرجز]

إنّ الحديد بالحديد يفلح

ومنه الفلّاح لأنه يشقّ الأرض.

ورجل أفلح : أي مشقوق الشّفة. وفي الحديث : «لو لا شيء يسوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضربت فلحتك» (٥) أي موضع الفلح. وقيل : الفلاح : البقاء ، ومثله الفلح ، وأنشد لأبي الدّحداح (٦) : [من الرجز]

بشّرك الله بخير وفلح

وقال الأعشى (٧) : [من الرمل]

أو لئن كنّا كقوم هلكوا

ما لحيّ ، يا لقومي ، من فلح

وقيل : هو الغنى والعزّ ، وإياه قصد الشاعر بقوله (٨) [من الرجز]

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٦٦.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٦٧.

(٣) ٥ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٤) وصدره كما في اللسان ـ مادة فلح.

(٥) قاله رجل لسهيل بن عمرو (النهاية : ٣ / ٤٦٩). الفلحة : الشق في الشفة السفلى.

(٦) من حديثه (النهاية : ٣ / ٤٦٩).

(٧) الديوان : ٢٣٧.

(٨) البيت لعبيد كما في الديوان : ٢٦ ، وفيه : فقد يبلغ.

٢٩٥

أفلح بما شئت فقد يدرك بال

ضّعف ، وقد يخدع الأريب

قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)(١) أي صاروا إلى البقاء ، وقيل : أصابوا نعيما يخلدون فيه. وقول المؤذن : «حيّ على الفلاح» أي هلمّوا إلى سبب البقاء ، ثمّ الفلاح بمعنى إدراك البغية على ضربين : دنيويّ وأخرويّ ؛ فالدّنيويّ : الظفر بالسعادات التي بها تطيب حياة الدنيا ، ومنه قول الشاعر :

أفلح بما شئت .... البيت

والأخرويّ أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّ بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، وكذلك قال الصادق الصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عيش إلا عيش الآخرة» (٢). وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)(٣) هو الفلاح الدنيويّ.

وسمي السّحور الفلاح إمّا لأنّ به بقاء البدن والحفظ من الضعف ، وإمّا لأنه يقال عنده «حيّ على الفلاح». وسمي وقت الصّبح فلاحا لذلك ، ومنه : «خفنا أن يدركنا الفلاح». وعندي : حتى يدركنا هذا القول لأنّه إنما يقال عادة عند الصبح فيكون هذا من الكنايات. وقيل : المعنى أن يدركنا السحور. والمعنى وقته ومعناه ما قدّمته. وفي حديث آخر : «حتى خفنا أن يفوتنا الفلاح» (٤) قال الراغب : أي الظفر الذي جعل لنا بصلاة العتمة.

ف ل ق :

قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)(٥) أي انشقّ. والفلق : انشقاق الشيء وبينونة بعضه من بعض. وقوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)(٦) الفلق : الصبح ، والمعنى بربّ الصبح ، وذلك لانفلاق الظلام عنه. وقيل : الفلق : الأنهار لأنها مفلوقة في

__________________

(١) ١ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) صحيح البخاري ، الرقاق : ١ ، الجهاد : ٣٣.

(٣) ٦٤ / طه : ٢٠.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٦٩ ، وفيه «حتى خشينا». ورواية المفردات مناسبة للنص (ص ٣٨٥).

(٥) ٦٣ / الشعراء : ٢٦.

(٦) ١ / الفلق : ١١٣.

٢٩٦

الأرض. وقد أشار إليها بقوله تعالى : (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً)(١). وقيل : هي الكلمة التي علّم الله موسى عليه‌السلام فدعا بها فانفلق البحر.

وقوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ)(٢) أي شاقّ الظلمة عن النور ، وهو راجع إلى معنى خالق ، وقيل : الفلق : الخلق كلّه.

قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)(٣) أي يشقّ الحبة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر. وفي رؤياه عليه الصلاة والسّلام : «فتأتي مثل فلق الصّبح» (٤) يعني في وضوحها مثل إنارته وإضاءته. وفي حديث الدجّال : «رجل فيلق» (٥) وهو العظيم ؛ يقال : رجل فيلق وفيلم. وتفيلق الغلام وتفيلم. وسئل الشعبيّ عن مسألة فقال : «ما يقول فيها هؤلاء المفاليق؟» (٦) يعني الذين لا علم لهم. وأصله أن المفاليق جمع مفلاق ، والمفلاق من لا مال له ، فشبّه من لا علم له عنده بهم ، وهو تشبيه حسن.

والفلق : المفلوق ، كالنّكث والنّقض. وقيل : هو العجب (٧) أيضا. والفليق والفالق : ما بين الجبلين وما بين السّنامين.

ف ل ك :

قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٨) الفلك : مجرى الكواكب ، وقيل : الأفلاك : هيئة مستديرة كالتي للساقية ، وبعضها يدخل في بعض ، أعلاها الفلك الأطلس وهو الفلك الأثير. ويقال له الفلك المحيط ، ولأهل الهيئة فيها كلام ليس هذا موضع بيانه.

__________________

(١) ٦١ / النمل : ٢٧.

(٢) ٩٦ / الأنعام : ٦.

(٣) ٩٥ / الأنعام : ٦.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٧١.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٧٢.

(٦) النهاية : ٣ / ٤٧٢.

(٧) بياض في الأصل ، والإضافة من د.

(٨) ٣٣ / الأنبياء : ٢١.

٢٩٧

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١). الفلك : السفينة ، ويكون جمعا ، ويكون واحدا ؛ فمن الأول قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(٢) فأعاد ضمير الجمع على لفظ. ومن الثاني قوله تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فوصفه بالمفرد ، وهذا مما خرج عن القاعدة ، فكان لفظ مفرده كلفظ جمعه ، وهو جمع تكسير ، وعند الأخفش (٣) ممّا اشترك فيه لفظ الواحد والجمع كجنب وشلل. وردّ سيبويه هذا بقولهم : فلكان في التثنيه. وتحقيقه في غير هذا الموضع. ومثله ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص ، فضمة فلك جمعا كضمّة بدن وحمر ، وضمته مفردا كضمة قفل ، وكسرة هجان جمعا ككسرة رجال ، وكسرته مفردا ككسرة كتاب.

وقيل : فلك جمع فلك ، نحو أسد وأسد ، والفلك كل ما استدار ومنه فلكة المغزل. وفلكت الجدي : جعلت في لسانه مثل فلكة المغزل لتمنعه من الرّضاع. وفي حديث ابن مسعود : «تركت فرسي كأنّه يدور في فلك» (٤). قال بعض الأعراب : الفلك : الموج إذا هاج البحر واضطرب ، وذلك أنه أصابته عين.

ف ل ن :

قوله تعالى : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً)(٥) في هذا تنبيه أنّ كلّ إنسان يتندّم عن من خالّه وصاحبه في تحرّي باطل ، وإلى ذلك أشار بقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)(٦).

وفلان وفلانة : كناية عن أعلام العقلاء ، والفلان والفلانة : كناية عن أعلام غير

__________________

(١) ٤١ / يس : ٣٦.

(٢) ٢٢ / يونس : ١٠.

(٣) معاني القرآن للأخفش : ٢ / ٥٦٦.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٧٢ ، وفيه : «تركت فرسك».

(٥) ٢٨ / الفرقان : ٢٥.

(٦) ٦٧ / الزخرف : ٤٣.

٢٩٨

العقلاء. وفل (١) الملازم للنّداء أصله فلان ، وشذّ قوله (٢) : [من الرجز]

في لجّة أمسك فلانا عن فل

فصل الفاء والنون

ف ن د :

قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(٣) التّفنيد : نسبة الإنسان إلى الفند. والفند : الفساد والخبل وضعف الرأي. وقيل : معناه : تلوموني ، وهو راجع لما ذكرت. وقيل معناه : تخرّفون أي تقولون : قد خرفت. وفي الحديث : «ما ينتظر أحدكم إلا هرما مفندا» (٤) يقال : أفند الرجل : كثر كلامه ، وأفنده الكبر ؛ يستعمل قاصرا ومتعديا. وفي حديث أمّ معبد : «لا عابس ولا مفنّد» (٥) أي لا ساقط الكلام لخرفه. وفي حديث آخر : «يعيش الناس بعدي أفنادا» (٦) الأفناد : جمع فند ، والفند : الجماعة على حدة ، والفند ـ أيضا ـ شمراخ الجبل (٧) ، وبه سمي الرجل. وفي الحديث : «إني أريد أن أفنّد فرسا» (٨) أي أقتني. وقال الأزهريّ : أي أرتبط فرسا. وحقيقته : أتّخذ حصنا ألتجىء إليه كما يلجأ إلى فند الجبل.

__________________

(١) إن ترخيم فلان «فل» ، وقد ترخم ب «فلاه» ؛ فمن قال الأول مضى فرفع بغير تنوين ومن قال الثانية فسكت أثبت الهاء فطرح ونصب. ولهم أقوال أخرى فيها.

(٢) يريد أنها لم تجىء هنا في النداء ، وكسر اللام للقافية. والشاهد في اللسان ـ مادة فلن من غير عزو ، ومنسوب إلى النجم العجلي في الصحاح مادة ـ فلل.

(٣) ٩٤ / يوسف : ١٢.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٧٤.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٧٥ ، وهو الذي لا فائدة في كلامه لكبر أصابه.

(٦) النهاية : ٣ / ٤٧٥ ، وفيه : «بعدهم ..» ، وهو أصوب.

(٧) الشمراخ : رأس مستدير طويل دقيق في أعلى الجبل ، أو أنفه.

(٨) النهاية : ٣ / ٤٧٥.

٢٩٩

ف ن ن :

قوله تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ)(١). قيل : هو جمع فنن ، والفنن : الغصن الغضّ المورق ، كذا قيّده الراغب : (٢) ولم يقيّده غيره ، قال الهروي : وشجرة فنواء أي ذات أغصان ، ولا يقال فنّاء.

قلت : القياس فنّاء وإنّما ترك لشهرة استعمال غيره. وقيل : هو جمع فنّ ، والمعنى : ذوات ألوان من الثمار ، وفي الحديث : «أهل الجنة جرد مكحّلون أولو أفانين» (٣) جمع أفنان ، وأفنان جمع فنن وهو الخصلة من الشّعر تشبيها بالغصن.

فصل الفاء والهاء

ف ه م :

قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ)(٤) أي عرّفناه حقيقة الحكم. والفهم : هيئة للنفس بها تتحقّق معاني ما يحسن. وقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) يحتمل أن يريد : جعلنا له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك ، أو ألقينا ذلك في روعه ، أو أوحينا إليه وخصصناه به. كذا قاله الراغب (٥) / وعندي أن هذا كلّه بمعنى واحد.

وأفهمته : أي قلت له قولا تصوّر به ذلك. والاستفهام : طلب الفهم عما جهله.

__________________

(١) ٤٨ / الرحمن : ٥٥.

(٢) المفردات : ٣٨٦.

(٣) النهاية : ٣ / ٤٧٦ ، أي ذو شعور وجمم.

(٤) ٧٩ / الأنبياء : ٢١.

(٥) المفردات : ٣٨٦.

٣٠٠