عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

فقالوا : أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا حتى لا يبقى لأحدنا غير غيّ صاحبه ، ولذلك ترى الأصدقاء لا يحبون أن يتخالفوا قولا ولا فعلا هدى كان أو ضلالا ، غيا أو رشدا. قوله حكاية عن إبليس : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)(١) أي لأحملنّهم عليه ولأجعلنّهم غاوين عليه ظنا منه بذلك لما رأى وعرف من طباع الادميين الانقياد إليه ، وعليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية (٢). قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(٣) أي هلاكا. وقيل : عذابا. والمعنى سبب ذلك لأنّ الغيّ جهل من اعتقاد فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا. وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد. فقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي أثر (٤) غيّ ومسبّبه. وقال طرفة بن العبد (٥) : [من الرمل]

سادرا أحسب غيّي رشدا

وفي مقتل عثمان : «فتغاووا عليه حتى قتلوه» (٦) ، أي تعاونوا وغالوا ، وأصله تجاهلوا وتعاونوا بغيّهم ، والغواية : شدة الجهل. قال امرؤ القيس (٧) : [من الطويل]

وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

وفى حديث عمر رضي الله عنه : «إنّ قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله» (٨) أي مهلكات. قال أبو عبيد : كذا روي ، والذي تكلمت به العرب مغوّيات ، والمغوّيات بفتح الواو وتشديدها ، واحدتها (٩) مغوّاة : وهو حفرة كالزّبية ؛ تحفر ويجعل فيها جدي ونحوه ،

__________________

(١) ٣٩ / الحجر : ١٥.

(٢) ٢٠ / سبأ : ٣٤.

(٣) ٥٩ / مريم : ١٩.

(٤) انفردت النسخة م بها.

(٥) صدر آخر قصيدته المشهورة «أصحوت اليوم ...» ، وعجزه كما في الديوان : ٨٣.

فتناهيت ، وقد صابت بقر

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩٨.

(٧) الديوان : ٣٣ ، وصدره :

فقالت يمين الله مالك حيلة

(٨) النهاية : ٣ / ٣٩٨.

(٩) في الأصل : واحدها.

٢٢١

فيراه الذئب فيسقط ليأكله. ومنه قيل لكلّ مهلكة مغوّاة. قال : أراد أن تكون مهلكة كإهلاك تلك المغوّاة للذئب. ومثل للعرب : «من حفر مغوّاة أوشك أن يقع فيها».

فصل الغين والياء

غ ي ب :

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(١) الغيب : مصدر غاب يغيب ضدّ حضر يحضر. والمراد يؤمنون بأخبار الغيب ، كأخبار البعث والنشور والصّراط والميزان والحوض ، والجنة والنار وعذاب القبر وفتنة منكر ونكير ونحو ذلك ، مما ورد به الكتاب العزيز والسّنة الصحيحة. وقيل : الغيب : مصدر واقع موقع اسم الفاعل ، أي يؤمنون بالغائب مما أخبروا به من نحو ما تقدّم ذكره. وقيل : أصله غيّب بالتشديد فخفّف كميت في ميّت. ولنا فيه كلام مشبع في غير هذا الموضع. وكلّ ما استرعى العين فهو غائب وغيّب وغيب وغاب. وقيل : معناه : يؤمنون بما لا يدخل تحت الحواسّ ولا تقتضيه بداية العقول ، وإنما يعلم بأخبار الصادقين كالأنبياء والرسل والملائكة. وقيل : الغيب : القرآن. وقيل : القدر ، وهو تخصيص إشارة من قائله إلى بعض ما يقتضيه لفظ الغيب. وقيل : معنى (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) متلبّسين بالغيب ، فتتعلق الباء بغير الإيمان أي يؤمنون وهم غائبون عنكم وليسوا كالمنافقين الذين يؤمنون بحضرتكم تقيّة وإحرازا لغنائمكم ، ويكفرون في غيبتكم ، يشهد له : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا)(٢).

قوله : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ)(٣) أي لا يفعلن في غيبة بعولتهنّ ما يكرهونه في حضورهم. قوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(٤) هو أن تذكر أخاك بما يكرهه من عيب من غير حاجة شرعية ، فإن كان حاجة فلا بأس ، بل ربّما يجب كمشاورة الإنسان في خطبة

__________________

(١) ٣ / البقرة : ٢.

(٢) ١٤ / البقرة : ٢.

(٣) ٣٤ / النساء : ٤.

(٤) ١٢ / الحجرات : ٤٩.

٢٢٢

ومعاملة ونحو ذلك. والغيبة والغيابة : منهبط من الأرض ، ومنه الغابة للأجمة. وفي المثل : «وهم يشهدون أحيانا ويتغايبون أحيانا». قوله : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(١) أي من حيث لا يدركونهم ببصرهم وبصيرتهم. قال ابن الأعرابيّ : الغيب : ما غاب عن العيون وإن كان محصّلا في القلوب. وأنشد (٢) : [من البسيط]

وللفؤاد وجيب تحت أبهره

لدم الغلام وراء الغيب بالحجر

قال الهرويّ : أراد وراء الجدار. وفي عهدة الرّقيق : «ولا داء ولا خبثة ولا تغييب» (٣) قال ابن شميل : التغييب ألّا يبيعه ضالّة ولا لقطة ولا مرعرعا ، أي معيبا (٤). وفي الحديث أيضا : «حتى تمتشط الشّعثة وتستحدّ المغيبة» (٥) أي التي غاب عنها زوجها. وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه : «أن حسانا لما هجا قريشا قالت : «لشتم ما غاب عنه ابن أبي قحافة» (٦) يعنون أن أبا بكر كان عالما بالأنساب والأخبار ، وهو الذي علّمه ، وكان أبو بكر عالما بالأنساب يدلّ له ما روي عنه عليه‌السلام في قوله لحسان : «سله عن معايب القوم» (٧).

غ ي ث :

قوله تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ)(٨) أي مطر. وقيل : تقديره كمثل نبات ينبت عن غيث ولا حاجة إليه لقوله : (نَباتُهُ). والغيث يقال في المطر ، والغوث في النّصرة. قال ذو الرمة (٩) : [من الوافر]

__________________

(١) ٥٣ / سبأ : ٣٤.

(٢) أنشده الأصمعي لابن مقبل كما في اللسان ـ مادة بهر.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٩٩. وفي اللسان : « ... ولا خبنة» ورواه ابن الأثير (٢ / ٥): «إنه كتب للعدّاء بن خالد. اشترى منه عبدا أو أمة. لا داء ، ولا خبثة ، ولا غائلة».

(٤) الأخيرة لم تذكرها المظانّ.

(٥) النهاية : ٣ / ٣٩٩.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩٩.

(٧) النهاية : ٣ / ٣٩٩.

(٨) ٢٠ / الحديد : ٥٧.

(٩) الديوان : ٣ / ١٥٣٥.

٢٢٣

سمعت الناس ينتجعون غيثا

فقلت لصيدح : انتجعي بلالا

واستغثته : طلبت الغيث (١) منه أو الغوث ؛ فغاثني من الغيث ، وأغاثني من الغوث. قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ)(٢) من الغيث ليس إلا. قوله : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ)(٣) هو من الغوث ليس إلا.

غ ي ر :

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(٤) غير تكون صفة بمعنى مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة (٥). وقال بعضهم : إلا إذا حضرت المغايرة بين ضدّين ونحوهما ، نحو الآية الكريمة ، والوصفية أصلها. وقد تكون بمعنى لا النافية ، ومن ثم عطف عليها. قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) ، فأعيدت لا لما كانت بمعناها. ولذلك يقدم معمول ما بعدها عليها كقول الشاعر (٦) : [من البسيط]

إنّ امرأ خصّني يوما مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور

ولهذا يقول النحويّ : يجوز أنا زيدا غير ضارب ، ويمتنع أنا زيدا مثل ضارب لما بينّاه في غير هذا الموضوع ، وأو مأنا إليه هنا. وتكون غير بمعنى إلّا فيستثنى بها وتعطى حكم ما بعد إلا في النصب وغيره كما هو مبين في علم العربية ، وكما حملت غير على إلّا في الاستثناء حملت إلا عليها في الوصفية بشروط معروفة عند النحاة (٧) كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٨). وقد قسم بعضهم غير تقسيما آخر فقال : غير تقال على

__________________

(١) وفي الأصل : الغوث.

(٢) ٤٩ / يوسف : ١٢.

(٣) ١٥ / القصص : ٢٨.

(٤) ٧ / الفاتحة : ١.

(٥) لا تتعرف بالإضافة لشدة إبهامها.

(٦) قاله أبو زبيد شاهدا على أنه أراد : خصّني بمودته ، فحذف الحرف وأوصل الفعل. (اللسان ـ مادة خصص) ، وفيه : عمدا مودته.

(٧) أهم هذه الشروط : أن تكون صفة لنكرة أو لمعرفة قريبة منها (مغني اللبيب : ١٥٨).

(٨) ٢٢ / الأنبياء : ٢١.

٢٢٤

أوجه : الأول أن تكون للنّفي (١) المجرّد من غير إثبات معنى [به](٢) ، نحو : مررت برجل غير قائم ، أي لا قائم ؛ قال تعالى : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(٣). الثاني بمعنى (٤) إلا فيستثنى بها وتوصف بها النكرة قال تعالى : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)(٥). الثالث لنفي صورة من غير مادّتها (٦) نحو : الماء حارا (٧) غيره إذا كان باردا ؛ قال تعالى : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)(٨). الرابع (٩) أن يكون ذلك متناولا لذات ، نحو : (تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ)(١٠) أي الباطل. (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا)(١١) قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١٢) التغيير : التحوّل من صفة إلى صفة ، ومن حال إلى حال. ويكون (١٣) على وجهين أحدهما تغيير صورة الشيء دون ذاته نحو غيّرت داري ، أي بنيتها بناء غير الذي كان. والثاني لتبديله بغيره نحو : غيّرت غلامي ودابّتي ، أي أبدلتهما بغيرهما (١٤). وقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)(١٥) محتمل للأمرين ، وقد قيل : بكلّ منهما. وفي الحديث : «ومن يكفر الله يلق الغير» (١٦) أي تغيّر الحال من صلاح إلى فساد. والغير أيضا الدية ، وجمعها أغيار. وسميت الدية غيرا لأنها غيّرت القود إلى غيره. وقد فرّق بعضهم بين الغيرين والمختلفين بأنّ الغيرين أعمّ ، فإنّهما قد يكونان مختلفين وقد يكونان متّفقين.

__________________

(١) في الأصل : للشيء.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) ١٨ / الزخرف : ٤٣.

(٤) في الأصل : معنى.

(٥) ٣٨ / القصص : ٢٨.

(٦) في الأصل : مادته والتصويب من المفردات : ٣٦٨.

(٧) يعني : الماء إذا كان حارا ..

(٨) ٥٦ / النساء : ٤.

(٩) لم يذكره الأصل ، وذكرته م.

(١٠) ٩٣ / الأنعام : ٦.

(١١) ١٦٤ / الأنعام : ٦.

(١٢) ١١ / الرعد : ١٣.

(١٣) يعني التغيير.

(١٤) المعروف أن الباء تدخل على المتروك.

(١٥) ٤٨ / إبراهيم : ١٤.

(١٦) من حديث الاستسقاء (النهاية : ٣ / ٤٠١).

٢٢٥

فالجوهران المتحيّزان هما غيران وليسا مختلفين. قال : وكلّ خلافين غيران وليس كلّ غيرين خلافين.

غ ي ض :

قوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ)(١) الغيض : النقص ، ولذلك قوبل بقوله : (وَما تَزْدادُ)(٢) والمعنى : وما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض. والغيضة : الموضع الذي يقف فيه الماء فيبتلعه. وليلة غائضة ، أي مظلمة ، كأنها نقصت بعدم الضوء. وقيل : معنى (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) وما تنقص عن التسعة أشهر التي هي وقت الوضع وما تزداد على التسعة المذكورة. وقيل : معناه ما ينقص الولد عن تمامه. ويقال لذلك السقط الغيض. قوله : (وَغِيضَ الْماءُ)(٣) أي نقص.

يقال : غاض الماء يغيض غيضا ، وغاضه الله يغيضه غيضا ، أي نقصه فيكون لازما ومتعديا نحو نقص وزاد فإنهما يكونان لازمين ومتعدّيين. وفي الحديث : «وغاضت بحيرة ساوة» (٤) أي نضب ماؤها. وفي المثل : «أعطى غيضا من فيض» أي قليلا من كثير. وفي الحديث : «إذا كان الشتاء قيظا وغاضت الكرام غيضا» (٥) أي فنوا وبادوا من أجل القيظ. وقولهم : «غاضت الدّرّة» (٦) أي نقص اللبن.

غ ي ظ :

قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)(٧). الغيظ : أشدّ الغضب ؛ وهو الحرارة التي

__________________

(١) ٨ / الرعد : ١٣.

(٢) تتمة الآية السابقة.

(٣) ٤٤ / هود : ١١.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٠١.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٠١.

(٦) من حديث خزيمة في ذكر السنة ، النهاية : ٣ / ٤٠١.

(٧) ١٣٤ / آل عمران : ٣.

٢٢٦

يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه ، فهو أخصّ من الغضب ؛ فكلّ غيظ غضب وليس كلّ غضب غيظا. قوله تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(١) أي سمعوا لجهنم غليانا وأزيزا كما يسمع ذلك من غليان القدر. والمعنى سمعوا غليان تغيّظ. وقوله تعالى : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)(٢). قال ابن عرفة : أي من شدة الحرّ. والمعنى : تكاد ينفصل بعضها من بعض من شدّة حرّها غيظا على الكافرين.

يقال : تغيظت الهاجرة : إذا اشتدّ حرّها. وأنشد للأخطل : [من الطويل]

لدن غدوة حتى إذا ما تغيظت

هواجر من سفيان حام أصيلها

وقيل : التغيّظ : إظهار الغيظ ، ثم إنّه قد يكون مع ذلك صوت كقوله تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) ، وقد لا يكون ذلك. قوله : (إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ)(٣) أي حاملون لنا على الغيظ. وقيل : معناه أنهم داعون بفعلهم إلى أن ينتقم منهم انتقام المغيظ. وإذا وصف به الباري تعالى فالمراد به الانتقام على حدّ وصفه بالغضب كما قدمته. وقد غظته فهو مغيظ. قالت قتيلة بنت الحارث (٤) : [من الطويل]

ما كان ضرّك لو مننت وربّما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

في قصيدة تخاطب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) ١٢ / الفرقان : ٢٥.

(٢) ٨ / الملك : ٦٧.

(٣) ٥٥ / الشعراء : ٢٦.

(٤) البيت من شواهد اللسان ـ مادة حنق ، والنهاية : ١ / ٤٥١. وفيه قتيلة بنت النضر بن الحارث أو أخته. وفي الأصل : الأحمق ، وهو وهم.

٢٢٧

باب الفاء

ف :

الفاء حرف عطف يقتضي الترتيب والمهل عكس الواو وثمّ ؛ فإنّ الواو لا تقتضي ترتيبا و «ثم» تقتضي التّراخي. فأمّا قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)(١) فقيل : تعقيب كلّ شيء بجنسه ، وقيل : لأنّ أرض المخاطبين بهذه الصفة.

وتفيد السببيّة ، ولذلك جاز أن يعطف بها ما ليس صلة على ما هو صلة نحو قوله : الذي يطير فيغضب زيد الذباب. وتعطف ما هو خبر على ما ليس بخبر كقول الشاعر : [من الطويل]

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يحمّ فيعرق

وتحذف بعدها «ربّ» كقول امرىء القيس» (٢) : [من الطويل]

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

وتقع جوابا للشرط فتضمر بعدها «ربّ» أيضا كقول الشاعر (٣) : [من الوافر]

فإما تعرضنّ أميم عنّي

وينزغك الوشاة أولو النّباط

فحور قد لهوت بهنّ عين

نواعم في المروط وفي الرّباط

تقديره : فربّ حور ، فأضمرت بعدها ربّ مع كونها جوابا ، وهي وما بعدها في محلّ

__________________

(١) ٦٣ / الحج : ٢٢.

(٢) من معلقته ، الديوان : ٣١.

(٣) البيتان للمتنخل مالك بن عويمر ، وهما من شواهد ابن يعيش (المفصل : ٨ / ٥٣).

٢٢٨

جزم ؛ بدليل عطف المجزوم عليها وعلى ما بعدها ، ولذلك قرىء : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ)(١) برفع يذر وجزمه ، ولها أحكام.

فصل الفاء والألف

ف أد :

قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ)(٢) هي جمع فؤاد ، قيل : هو القلب الذي يراد به العقل لا العضو المعروف ، وقال بعضهم الفؤاد كالقلب ، لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفاؤد (٣) أي التوقّد ، يقال : فأدت اللحم : إذا شويته ، ولحم فئيد بمعنى مفؤود (٤). وقوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(٥) أي واطأ قلبه بصره ، والمعنى : الذي رآه حقّ يقين لا تخييل. يقال : كذبني قلبي وظنّي وصدقني.

قوله : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)(٦) إنّما خصّها لأنها أرقّ شيء في البدن وأخفاه. فإذا وصل إليها الشيء فقد تناهى إفراطه وتأثيره ، أعاذنا الله بكرمه من لفحاتها بمحمد وآله.

ف أي :

قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا)(٧) أي طائفتين وجماعتين. والفئة : الجماعة من الناس ، وقيّدها بعضهم بالمتظاهرة ، وبعضهم بالمتعاضدة وهما متقاربتان ، وجعلها بعضهم من فاء يفيء أي رجع ، قال الراغب : والفئة الجماعة المتظاهرة التي يرجع

__________________

(١) ١٨٦ / الأعراف : ٧.

(٢) ٧٨ / النحل : ١٦.

(٣) وفي المفردات : ٣٨٦ : التفؤد.

(٤) يريد : مشويّ.

(٥) ١١ / النجم : ٥٣.

(٦) ٧ / الهمزة : ١٠٤.

(٧) ١٣ / آل عمران : ٣.

٢٢٩

بعضها إلى بعض في التّعاضد (١). وهذا لا يصحّ لأنّ «فئة» عينها همزة ولامها ياء حذفت ، فهي كمئة ، والأصل : فئية (٢) بدليل قولهم : أمأت الدراهم : أي صيّرتها مئة ، فإن ادّعوا فيها قلبا أو حذف عين فلا يسمع لمخالفته الأصول. ونقل الهرويّ وغيره في لامها وجهين : أحدهما أنها ياء ، والثاني أنها واو ، وقال : هو من قولهم : فأيت رأسه وفأوته : إذا شققته فانفأى. قلت : وبهذا الاشتقاق يعلم فساد قول من جعلها من فاء يفيء إذا رجع كما قدمت. ويجمع جمعي التّصحيح فيقال : فآت (٣) ، وهو القياس ، وفئون. ولا نبالي بتاء التأنيث لأنها عوض من لام كما يقال مئون ومئين. قال الشاعر (٤) : [من الطويل]

ثلاث مئين للملوك وفى بها

ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم

قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ)(٥) أي فرقتين. فانتصابها على الحال ، وذلك أنّ المسلمين افترقوا في شأنهم فرقتين : فرقة تكفّرهم وأخرى لم تكفّرهم. وقوله تعالى : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ)(٦) أي إلى فرقة وطائفة ، وفي الحديث يمهّد عذر أصحابه : «أنا فئتكم» (٧) يشير إلى الآية.

__________________

(١) المفردات : ٣٨٩.

(٢) وفي التهذيب (اللسان ـ مادة فأي) : الفئة بوزن فعة ... وكانت في الأصل : فئوة بوزن فعلة. ومئة أصلها مئى مثل معى. بينما الشاطبي يؤيد ما جاء في المتن.

(٣) وفي الأصل : فيأت ، وهو وهم.

(٤) البيت لمجهول ، وهو من شواهد ابن يعيش (شرح المفصل : ٦ / ٢١).

(٥) ٨٨ / النساء : ٤.

(٦) ١٦ / الأنفال : ٨.

(٧) النهاية : ٣ / ٤٠٦.

٢٣٠

فصل الفاء والتاء

ف ت أ :

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(١) أي لا تزال ولا تبرح ، وهو مضارع فتىء الملازمة للنفي العاملة عمل كان ، وهي ستة أفعال : ما فتىء ، وما زال ، وما انفكّ ، وما برح ، وهذه الأربعة مشهورة ، وونى بمعنى فتر ، ورام بمعنى طلب (٢) ، ولا تعمل إلا منفية لفظا كقوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(٣) أو تقديرا كقوله : (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفتأ. وهذا الإضمار لا بدّ منه لما تقرّر من أن لا يطّرد حذفها من المضارع الواقع جواب قسم. وزعم بعضهم أنها تعمل عمل نفي لفظا و «لا» تقديرا ، مستدلا بقول الشاعر : [من الوافر]

وأبرح ما أدام الله قومي

بحمد الله منتطقا مجيدا

وليس كما زعم لصحة تقدير ألا أبرح (٤).

والبارحة : الليلة الماضية ، لا يقال لها ذلك إلا بعد الزوال ، وإلا فهي ليلة ؛ قال طرفة بن العبد : [من الرجز]

ما أشبه الليلة بالبارحة (٥)

وبرح (٦) الخفاء : أي ظهر.

__________________

(١) ٨٥ / يوسف : ١٢.

(٢) أما «ما دام» فما مصدرية ، وتقدير مصدرها «مدة دوامي» ويعرب ظرفا.

(٣) ١١٨ / هود : ١١.

(٤) قيل ؛ لا حذف ، والمعنى : أزول عن أن أكون منتطقا مجيدا ، أي صاحب نطاق وجواد ما أدام الله قومي فإنهم يكفونني ذلك. وذهب ابن عصفور إلى أن الحذف هنا من قبيل الضرورة وانظر حاشية شرح المفصل : ٧ / ١١١.

(٥) قول قالته العرب وليس طرفة وحده. وقالوا في معناه : أي ما أشبه الليلة التي نحن فيها بالليلة الأولى التي برحت وزالت.

(٦) وعلى رواية ابن الأعرابي بفتح الراء (اللسان ـ برح).

٢٣١

ف ت ح :

قوله تعالى : (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)(١) أي يحكم ويقضي ، وعن ابن عباس : «ما كنت أدري ما معنى الفتّاح حتى اختصم إليّ أعرابيان فقال أحدهما : افتح بيننا» (٢) وهي الفتاحة : أي الحكومة ؛ وعليه قول الشاعر (٣) : [من الوافر]

وإني عن فتاحتكم غنيّ

الفتاحة بالضم (٤).

قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ)(٥) أي احكم ، وإنّما قيل للقاضي : فتّاح لأنه ينصر المظلوم (٦).

والفتح : النصر ، كقوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ)(٧) وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)(٨). وقيل لأنه يفتح ما أغلق على غيره من الأحكام.

قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(٩) أي قضينا قضاء محكما. وعنى به صلح الحديبية. وقيل : فتح مكة ، والمعنى : فتحا ظاهرا بركته ، فإنّه من حينئذ كثر الإسلام واتسع نطاقه.

__________________

(١) ٢٦ / سبأ : ٣٤.

(٢) وفي النهاية (٣ / ٤٠٧) رواية أخرى للحديث.

(٣) عجز للأشعر الجعفي كما في اللسان (مادة ـ فتح). وصدره :

ألا من مبلغ عمرا رسولا

(٤) ويذكر الراغب : وبالفتح.

(٥) ٨٩ / الأعراف : ٧.

(٦) ولأنه يفتح مواضع الحق.

(٧) ١٩ / الأنفال : ٨.

(٨) ٨٩ / البقرة : ٢.

(٩) ١ / الفتح : ٤٨.

٢٣٢

والفتح في الأصل إزالة الإغلاق والإشكال ، وهو نوعان : أحدهما مدرك بالبصر نحو : فتحك الباب والقفل والمتاع ، كقوله تعالى : (فُتِحَتْ أَبْوابُها)(١)(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ)(٢). والثاني مدرك بالبصيرة كفتح الهمّ وهو إزالة الغمّ ، وذلك ضربان : أحدهما في الأمور الدنيوية كغم يفرج وفقر يزال بمنح المال. والثاني فتح ما استغلق من العلم نحو : الشافعيّ فتح بابا مغلقا [من العلم](٣) ، وهذا مقول في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(٤) عنى تعالى ما فتحه عليه الصلاة والسّلام من العلوم الإلهيّة والهدايات الدينية التي هي ذرائع إلى نيل أعلى المقامات المحمودة وإصابة الثواب الجزيل وسبب في غفران الذنوب. ولذلك عقّبه بقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

ويعبّر بالفتح عن توسعة الرزق كقوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)(٥) وقوله تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ)(٦) المعنى : لوسّعنا عليهم الرزق ولأقبلنا عليهم بالخيرات من كلّ وجه.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ)(٧) قيل : معناه إزالة الشّبهة والشكّ الذي كانوا فيه من قيام القيامة ومشاهدة الساعة وأهوالها ، وقيل : ما كانوا يستفتحون من العذاب ويطلبونه ، لأنّ الاستفتاح طلب الفتح.

ويعبّر بالفتح عن الابتداء بالشيء ؛ يقال افتتحت كذا بكذا ، ومنه سميت فاتحة الكتاب للابتداء بها فيه. وفاتحة كلّ شيء مبدؤه الذي يفتح به ما بعده.

__________________

(١) ٧١ / الزمر : ٣٩.

(٢) ٦٥ / يوسف : ١٢.

(٣) إضافة من النسخة د.

(٤) ١ / الفتح : ٤٨.

(٥) ٤ / الأنعام : ٦.

(٦) ٩٦ / الأعراف : ٧.

(٧) ٢٨ / السجدة : ٣٢.

٢٣٣

وقوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١) يحتمل الظّفر مع النصر والحكم ، وما يفتح الله به من المعارف ، ومثله قوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(٢).

قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (٣) قيل : هو جمع مفتح ـ بفتح الميم ـ والمراد بها الخزائن نفسها ، والمراد أنّ أحدا لا يتوصّل إلى علم غيبه كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية (٤). وقيل : هو جمع مفتح ـ بكسر الميم ـ وهو ما يفتح به ، ومثله المفتاح وجمعه مفاتيح. والمراد أنّ الأشياء المتوصّل (٥) بها إلى علم غيبه ... (٦) خاطبهم بما يعرفون. فإن تعذّر عليه فتح باب عجز عن معرفة ما في داخله ، والمعنيان متلازمان.

وقوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(٧) أراد الآلة التي يفتح بها ، وقيل : الخزائن أنفسها ، والأول أبلغ لأنه إذا كثرت المفاتيح. فتكثير المفتوح أبلغ. يقال : إنها كانت من جلود ، طول كلّ واحد إصبع حمل ثمانين بغلا ، فهذه المفاتيح ، فناهيك بالأموال.

وقولهم : باب فتح وغلق أي مفتوح لكلّ أحد ومغلق عن كلّ أحد. وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجد بابا غلقا وجد إلى جانبه بابا فتحا» (٨) قال الهرويّ : قال الأصمعيّ : لم يذهب به إلى المفتوح ولكن السعة. قال أبو عبيد : يعني بالباب الفتح الطلب إلى الله عزوجل والمسألة. وكمّ فتح : أي واسع.

__________________

(١) ١ / النصر : ١١٠.

(٢) ١٣ / الصف : ٦١.

(٣) ٥٩ / الأنعام : ٦.

(٤) ٢٦ و ٢٧ / الجن : ٧٢.

(٥) كذا في النسخة د ، وفي الأخريين : لا يتوصل.

(٦) بياض في النسختين ، وفي د كلمة غير واضحة ورسمها (اسار) ، ولعلها أستار.

(٧) ٧٦ / القصص : ٢٨.

(٨) وفي النهاية (٣ / ٤٠٨) عن أبي الدرداء ، وفيه خلاف.

٢٣٤

قوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ)(١) عبارة عن إرسال المطر الخارج عن المعتاد ، وقيل : عبّر بذلك عن إجابة دعائه الكلّي.

والفتح : ماء النهر الجاري ، وفي الحديث : «ما سقي بالفتح ففيه العشر» (٢).

ف ت ر :

قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٣) أي لا يسكتون ولا يقطعون عبادتهم ولا ينفكّ نشاطهم عن ذلك. وأصل الفتر والفتور : السكون بعد الشدّة ، وفي الحديث : «لكل عمل شرّة ، ولكلّ شرّة فترة ، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا وإلا فقد هلك» (٤) ؛ قوله عليه الصلاة والسّلام «لكلّ شرّة فترة» إشارة إلى ما قيل : للباطل جولة ثم يضمحل وللحقّ دولة لا تذلّ ولا تقلّ. وقوله : «من فتر إلى سنتي» أي سكن إليها. والطرف الفاتر : الساكن ضعفا ، وهو مستحسن.

وقوله تعالى : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)(٥) أي سكون خال من مجيء الرسول. والمعنى : قد أتى للرسل مدة قبله. وفي الحديث : «نهى عن كلّ مسكر ومفتر» ، فالمسكر : ما زال به العقل ، والمفتر : ما يفتر الجسد بشر به ؛ يقال : أفتر الرجل إذا ضعفت جفونه وانكسرت.

والفتر : ما بين طرف الإبهام والسبّابة. يقال : فترته بفتري وشبرته بشبري.

ف ت ق :

قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)(٦) الفتق : الفصل بين

__________________

(١) ١١ / القمر : ٥٤.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٠٧. وروي : «ما سقي فتحا».

(٣) ٢٠ / الأنبياء : ٢١.

(٤) وفي رواية النهاية : «لكل عابد ..» (٢ / ٤٥٨) وكذا في المفردات (ص ٣٧١). الشرّة : النشاط والرغبة.

(٥) ١٩ / المائدة : ٥. والحديث بعده في النهاية : ٣ / ٤٠٨.

(٦) ٣٠ / الأنبياء : ٢١.

٢٣٥

متّصلين ، ضدّ الرّتق. والمعنى : كانا متلاصقين ففتقهما الله بالهواء. وقيل : فتق السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، وقد كانتا خلاف ذلك.

والفتق والفتيق للصبح تصوّرا منه أن الظلام قد انفتق عنه. وأفتق القمر : إذا صادف فتقا يطلع منه ، ونصل فتيق الشّفرتين : إذا كان له شعبتان كأنّ إحداهما فتقت من الأخرى.

ويقال : جمل فتيق : تفتّق سمنا ، كأنّهم تصوّروا منه تفتّق جلده لامتلائه بالشحم. وتفتّقت البهائم : أي انتفخت خواصرها من كثرة الرّعي ، وفي الحديث : «كان في خاصرتيه انفتاق» (١) أي انتفاخ ، وفي الحديث : «في الفتق الدّية» (٢) قال [الهرويّ : أقرأنيه](٣) الأزهريّ : بفتح التاء قال : وهو قطع الشحم المشتمل على الأنثيين ، الحري هو انفتاق المثانة. وقال غيرهما : انفتاق الصّفاق إلى داخل يصيب الإنسان في مراقّ بطنه. وفي الحديث : «حتى أفتق بين الصّدمتين» (٤) أي خرج من مضيق الوادي إلى متّسعه ، ومنه : أفتق السحاب : إذا انفرج.

ف ت ل :

قوله تعالى : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٥). قيل : هو ما في شقّ النّواة مما يشبه الخطّ الرقيق. وقيل : ما يخرج من الوسخ عند فتلك أصابعك ، والمعنى : قدر فتيل ، وهو فعيل بمعنى مفعول يضرب به المثل في القلّة والنّزارة.

وفتلت الحبل : أحكمته ، وفتلت الأمر : استعارة من ذلك. والفتيل : التي توقد في السراج ، قال الأعشى (٦) : [من البسيط]

هل تنتهون ولا ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٠٩ ، وهو في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى فيه : اتساع.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٠٩ ، والحديث لزيد بن ثابت.

(٣) إضافة من د.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٠٩.

(٥) ٧٧ / النساء : ٤.

(٦) في الأصل : النابغة ، وهو وهم. والبيت في ديوان الأعشى : ٦٣ ، من قصيدته «ودع هريرة ...».

٢٣٦

وناقة فتلاء الذراعين أي قويّتهما محكمتهما ، من فتلت الحبل : إذا قويته بفتل طاقاته وقواه بعضها إلى بعض. قال كعب بن زهير (١) : [من البسيط]

عيرانة قذفت بالنّحض عن عرض

مرفقها عن بنات الزّور مفتول

ويقال إنه اجتمع في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلّة والحقارة ، وقد ذكرت منها ثلاثة في القرآن العزيز : الفتيل ، والنقير وهو النقرة في ظهرها ، والقطمير وهو اللفافة التي على ظهرها ، والتفروق وهو العرق الذي بين القمع والنواة. وفي حديث النجاشيّ : «ولو سألوني تفروقا ما أعطيتهم».

ف ت ن :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)(٢). قيل : معناه حرّقوهم بالنار ، وذلك أنهم لما خدّوا أخاديد في الأرض ملؤوها نارا ، وكانت على أفواه السكك فمن أبى دينهم ألقوه في تلك الحفرة. وأصله من فتنت الفضة : إذا أدخلتها النار ليتمّيز جيدها من رديئها ، ثم أطلق ذلك على الابتلاء والامتحان.

وقوله : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)(٣) أي ابتليناك بضروب من الاختبارات. وسأل ابن جبير ابن عباس رضي الله عنهم عن ذلك فقال (٤) : ابتلى الأبناء بالذبح فنجا ، فهذه فتنة يا ابن جبير وقتل القبطيّ ونجا ، فهذه فتنة يا ابن جبير والفتون ـ على هذا ـ جمع ، وقيل : بل هو مصدر ، ومثله المفتون في أحد القولين من ذلك.

قوله تعالى : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)(٥) أي الفتون ، كالمعقول والمجلود والميسور في قولهم : «ليس له معقول ولا مجلود» أي لا عقل ولا جلد. «وانظر إلى ميسوره» أي إلى

__________________

(١) الديوان : ١٢. عيرانة : تشبه العير لصلابتها. بنات الزور : العضلتان ، والزور : عظام الصدر. وفي رواية : «قذفت في اللحم».

(٢) ١٠ / البروج : ٨٥.

(٣) ٤٠ / طه : ٢٠.

(٤) الحديث بكامله أخرجه النسائي في السنن (مختصر تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٥).

(٥) ٦ / القلم : ٦٨.

٢٣٧

يسره ، وقيل : التاء مزيدة. والمفتون اسم مفعول على بابه ، أي أيّكم الشخص المفتون؟

قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(١) أي لم يظهروا الاختبار منهم إلا هذا القول.

قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(٢) أي الشرك والحمل عليه ، وذلك أنّهم كانوا يعذّبون ضعفة المسلمين ليرجعوا إلى الكفر كفعل بني جمح ببلال وغيره حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.

وفتنه عن كذا : صرفه عنه ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)(٣) يقال : فتنت الرجل عن رأيه : صرفته عما كان يريده. وقيل : معناه ليوقعونك في البلايا والشدائد بصرفهم إياك عن اتباع القرآن ، وحاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)(٤) أي أثرها وما تسبّب عنها. فأطلق السبب وأراد مسبّبه.

قوله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(٥) يعني في النار التي هي مسببة عن الفتنة ، وذلك حيث طلبوا الخلاص من الفتنة بقولهم : (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)(٦) ، في قصة قالوها له عليه الصلاة والسّلام بعبارة فظيعة. وأكثر استعمال الفتنة في الشدة كالابتلاء. قال الراغب (٧) : وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة ورخاء ، وهما أظهر معنى وأكثر استعمالا ، وقد قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(٨) ، وقوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)(٩) أي يبتليهم ويعذبهم.

__________________

(١) ٢٣ / الأنعام : ٦.

(٢) ٢١٧ / البقرة : ٢.

(٣) ٧٣ / الإسراء : ١٧.

(٤) ١٤ / الذاريات : ٥١.

(٥) ٤٩ / التوبة : ٩.

(٦) من الآية السابقة.

(٧) المفردات : ٣٧٢.

(٨) ٣٥ / الأنبياء : ٢١.

(٩) ٨٣ / يونس : ١٠.

٢٣٨

قوله تعالى : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ)(١) أي أوقعتموها في الفتنة والعذاب. قوله (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(٢) سمّاهم فتنة اعتبارا بما ينال الإنسان من الاختبار بهم ، وذلك لأنهم يحملونه على الاكتساب من كلّ وجه والاقتحام في كلّ هلكة ، كما سمّاهم عدوّا في قوله : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)(٣) باعتبار ما يتولّد منهم ، وقد سمّاهم زينة في مواضع اعتبارا بعادة الناس في تكاثرهم بالأولاد (٤).

قوله : (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(٥) أي يختبرون ، فيتميّز خبيثهم من طيّبهم وطائعهم من عاصيهم. وفي وزنه : («أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا)(٦). وقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)(٧) أي يبتلون ويختبرون فينظر من يثبت على دينه في الصحّة والمرض والسرّاء والضرّاء ، ولا يكونوا كما قال فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ)(٨) وقيل : هو إشارة إلى قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ)(٩) ، ولذلك عقّبه بقوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي الحابسين أنفسهم على دينهم مع ما يصيبهم من هذه البلايا. ولم يقتصر على وصفهم بالصبر حتى حكي عن قولهم ما حكي في هذا المقام المدحض الذي تذهب فيه العقول وتطيش الحلوم ، لا سيما عند من فسّر الثمرات الفؤاد وهي الأولاد كما أوضحنا في غير هذا الكتاب.

وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ)(١٠) أي ابتلاؤك واختبارك عبادك ، لأنّ لك التصرف

__________________

(١) ١٤ / الحديد : ٥٧.

(٢) ٢٨ / الأنفال : ٨.

(٣) ١٤ / التغابن : ٦٤.

(٤) كما في قوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤٦ / الكهف : ١٨).

(٥) ٢ / العنكبوت : ٢٩.

(٦) ٢١٣ / البقرة : ٢.

(٧) ١٢٦ / التوبة : ٩.

(٨) ١١ / الحج : ٢٢.

(٩) ١٥٥ / البقرة : ٢.

(١٠) ١٥٥ / الأعراف : ٧.

٢٣٩

المطلق والتسلّط التامّ والقهر الغالب فلا اعتراض. وما أضلّ المعتزلة حيث نكثوا عمّا فهم موسى!

والفتنة تكون من الله تعالى بمعنى أنه يبتلي عباده ليشكروا أو يكفروا. ومن العباد أيضا يمتحنون بها أحوال بعضهم بعضا.

قوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)(١) قيل : معناه يصرفوك كما تقدّم في نظيره ، وقيل : ضمن معنى يخدعوك.

وقوله تعالى : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ)(٢) أي بمضلّين. يقال : فتنه أي أضلّه ، ومنه الحديث : «المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفتّان» (٣) يروى بضمّ الفاء على أنه جمع فاتن أي يتعاونان على قتل المضلين ، وبفتحها على أنه مثال مبالغة كضرّاب ، والمراد به الشيطان.

ف ت ي :

قوله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ)(٤). الفتى : الطريّ من الشبّان ، والأنثى فتاة. يقال : هي بيّن الفتاء ، وأنشد لابن ضبع الفزاريّ (٥) : [من الوافر]

إذا جاء الشتاء فأدفئوني

فإنّ الشيخ يهرمه الشتاء

إذا عاش الفتى مئتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء

وجمع الفتى فتية وفتيان ، وعليهما قرىء : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ)(٦) ولفتيانه والرسم

__________________

(١) ٤٩ / المائدة : ٥.

(٢) ١٦٢ / الصافات : ٣٧.

(٣) النهاية ؛ ٣ / ٤١٠.

(٤) ٣٦ / يوسف : ١٢.

(٥) البيت الثاني من شواهد شرح المفصل : ٦ / ٢١ من غير عزو والجمهرة : ٣ / ٢١٥ بعزو. والشاعر صحابي هو الربيع بن ضبع الفزاري (الإصابة : ١ / ٥٢٦).

(٦) ٦٢ / يوسف : ١٢. والقراءتان مستفيضتان : فالأولى لحفص وحمزة والكسائي وخلف ، والثانية لغيرهم (معاني القرآن : ٢ / ٤٨ ، وحاشيته).

٢٤٠