عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

قوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً)(١) نبّه بذلك على أنه يحصل لهم كمال العقوبة. وأكملت الشيء وكمّلته : جعلته كاملا ، وقد قرىء بالوجهين (٢) قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)(٣) من أكمل وكمّل ـ مشدّدا ـ. ويقال : كمل وكمل ـ بفتح العين وضمها ـ فهو كامل كمالا.

ك م م :

قوله تعالى : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ)(٤). الأكمام جمع كمّ وهو وعاء الثمرة ، وكلّ ما غطّى شيئا فهو كمّ له ، ومنه كمّ القميص لتغطيته اليد (٥) ، ويجمع على كمام أيضا ، نحو : رمح ورماح. والكمّة : ما يغطي الرأس كالقلنسوة ، وقيل : أكمام النخلة : ما غطّى جمّارها من الليف والسّعف (٦). وكمّ الطّلعة : قشرها. وتكمّم وتكمكم واحد. وفي الحديث : «رأى جارية متكمكمة» (٧) أي مغطاة الرأس. ويقال : تكمّوا والأصل تكمكموا ، وأنشد (٨) : [من الرجز]

بل لو رأيت الخيل إذ تكمّوا

بغمّة ، لو تفرّج غمّوا

وتكمكم : إذا تلفّف بثوبه ، وفي حديث النّعمان : «إلى أكمّة خيولهم» (٩) عنى بالأكمّة المخالي المعلّقة برؤوس الخيل تشبيها بالكمّة (١٠).

وكم : اسم عدد مبهم ، فمن ثمّ افتقرت إلى تمييز. وهي على ضربين : استفهامية

__________________

(١) ٢٥ / النحل : ١٦.

(٢) يريد الآية : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (٣ / المائدة : ٥).

(٣) ١٨٥ / البقرة : ٢.

(٤) ١١ / الرحمن : ٥٥.

(٥) جاء في القاموس والنهاية والمصباح كسر كاف «كم» للطلع والنور ، في حين أن ابن منظور ضبطها بالضم جميعا.

(٦) جمار النخل : شحمه واحدته جمّارة ، وهي تؤكل بالعسل (اللسان ـ مادة جمر).

(٧) النهاية : ٤ / ٢٠٠. تكمكم في ثوبه : التفّ به.

(٨) الرجز في اللسان ـ مادة كمم ، والتصويب منه.

(٩) النهاية : ٤ / ٢٠٠ ، وهو النعمان بن مقرّن.

(١٠) التي هي القلنسوة.

٥٠١

فيطلب بها كمية ذلك المعدود ، وخبرية فيراد بها التكثير كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(١) أي كثيرا من الأزواج أنبتنا فيها. وكلاهما له صدر الكلام ، ومميز الاستفهامية واحد منصوب ، ويجوز جرّه إذا جرّت هي بحرف نحو : بكم درهم اشتريته؟ ومميز الخبرية بواحد أو جمع مجرور ، وينصب إذا فصل بظرف ونحوه نحو : كم في الدار عبيدا ملكت! وقد يبقى جرّه كقول الشاعر (٢) : [من الرمل]

كم بجود مقرف نال العلى

وكريم بخله قد وضعه

فإن كان الفاصل جملة وجب النصب كقول الشاعر (٣) : [من البسيط]

كم نالني منهم فضلا على عدم

إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل

ولها أحكام قرّرناها في غير هذا الموضع.

ك م ه :

قوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ)(٤) قيل : الأكمه من ولد أعمى. ويقال : هو الذي يولد مطموس العين. وقيل : بل هو الذي طرأ عليه العمى أو ذهاب العين ، قال الشاعر : [من البسيط]

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد

إلا على أكمه لا يدرك القمرا

وقال رؤبة بن العجاج : [من الرجز]

فارتدّ عنها كارتداد الأكمه

ويقال : إنه لم يوجد في هذه الآفة أكمه بالتفسيرين الأوّلين إلا قتادة بن دعامة السّدوسي صاحب التفسير.

__________________

(١) ٧ / الشعراء : ٢٦.

(٢) البيت لأنس بن زنيم. وهو من شواهد : شرح المفصل : ٤ / ١٣٢ ، الكتاب : ٢ / ١٦٧.

(٣) البيت للقطامي كما في الكتاب : ٢ / ١٦٥ ، شرح المفصل : ٤ / ١٣١.

(٤) ١١٠ / المائدة : ٥.

٥٠٢

ويقال : كمه يكمه كمها ، وأنشد لسويد (١) : [من الرمل]

كمهت عيناه حتّى ابيضّتا

وهذا يؤيد القول بأن يقال للعمى الطارىء.

فصل الكاف والنون

ك ن د :

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)(٢) أي جحود ؛ يقال : كند يكند : إذا جحد ، وقيل لكفور نعمة ربّه ، وهو قريب من الأول. قيل : ومنه أرض كنود : إذا لم تنبت شيئا.

وكندة : قبيلة معروفة ، قال الشاعر : [من الطويل]

كنود لنعماء الرجال يبعّد

أي : لكفور نعماء الرجال. وعن ابن عباس : هو بلسان كندة وحضرموت العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر الكفور ، وبلسان كنانة البخيل ، وأنشد أبو زيد : [من الخفيف]

إنّ نفسي إن لم أطب عنك نفسا

غير أنّي أمنى بدين كنود

ك ن ز :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)(٣) الكنز تخبئة النقدين وادّخارهما. وقيل : هو جعل الذهب والفضة بعضها فوق بعض. وأصله من كنزت التّمر في الوعاء : إذا كسبت فيه. وزمن الكناز : وقت كنز التمر.

وناقة كناز : مكتنزة اللحم أي مجتمعته منضّمته ، وهو أقوى لها. والجمع كنز. والكنز

__________________

(١) وعجزه كما في اللسان ـ مادة كمه :

فهو يلحى نفسه لمّا نزع

(٢) ٦ / العاديات : ١٠٠.

(٣) ٣٤ / التوبة : ٩.

٥٠٣

ـ أيضا ـ نفس المكنوز تسمية له بالمصدر. وفي الحديث : «ما أدّيت زكاته فليس بكنز» (١) أي لا يعذّب به صاحبه ، عكس من منع الزكاة فإنه يعذّب كما أخبر بذلك في الحديث : «يمثل له كنزه شجاعا أقرع» (٢) الحديث ، والجمع كنوز.

قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما)(٣). قيل : لم يكن ذهبا ولا فضة بل ألواح فيها حكم ومواعظ. قيل : هي «عجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، ولمن يوقن بالرزق كيف يحزن ، لا إله إلا الله محمد رسول الله» إلى غير ذلك.

قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(٤) وكنوز هي الأموال التي ادّخروها في الجبال وتحت الأرض.

ك ن س :

قوله تعالى : (الْجَوارِ الْكُنَّسِ)(٥) جمع كانس ، والكانس من الوحش ما دخل كناسه كالظبي وبقر الوحش ، والمراد هنا النجوم ؛ شبّهها في استتارها ببروجها بالوحش الداخل كناسه ، وقد كنست كنوسا ؛ قيل : هي من الكواكب خمس : زحل والمرّيخ (٦) والمشتري وعطارد والزّهرة. وقيل : كلّ كوكب. وقد تقدّم تفسير ذلك في قوله : (بِالْخُنَّسِ)(٧). وقيل : أراد البقر الوحشية والظبي ، ولله أن يقسم بما شاء.

ك ن ن :

قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً)(٨) هي جمع كنّ. والكنّ : ما يكنّك أي

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢٠٣.

(٢) النهاية : ٤ / ٤٤ ، وروايته فيه : «يجيء كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع». ويقصد حية كثيرة السم.

(٣) ٨٢ / الكهف : ١٨.

(٤) ٢٥ / الدخان : ٤٤.

(٥) ١٦ / التكوير : ٨١ ، والمعنى : الكواكب السيارة التي تغيب.

(٦) ويسميه ابن منظور : بهرام.

(٧) ١٥ / التكوير : ٨١.

(٨) ٨١ / النحل : ١٦.

٥٠٤

يسترك ويصونك عمّا يؤذيك. وكننت الشيء : جعلته في كنّ ، قيل : وخصّ كننت بما يستر بثوب أو بيت ونحوه من الأجسام ؛ قال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(١) يريد بيض النعام لأنها تصونه بدفنه في الرمل.

وقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ)(٢) أي محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأكننت : خصّ بما يستر في الضمير ، وعليه قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)(٣) ، (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ)(٤).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(٥) جمع كنان وهي الأغطية وهو كقوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)(٦)(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٧).

والكتاب المكنون قيل : القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ ، وقيل : قلب المؤمن ، وقيل : إشارة إلى أنّه محفوظ عند الله تعالى ، إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٨).

وسميت المرأة المتزوجة كنّة لحمايتها من حيث إنّها تصان وتحفظ في بيت زوجها. والكنانة : جعبة غير مثقوبة تجمع فيها السهام ، وبها سميت هذه القبيلة المشهورة. ومن كلام الخبيث الحجّاج : «إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته فعجمها فوجدني أصلبها عودا فبعثني إليكم» وكان متلثما فكشف لثامه عن وجه قبيح ، فقال بعض الحاضرين : ما رأيت كاليوم أقبح من أميرنا. فأنشد (٩) : [من الوافر]

__________________

(١) ٤٩ / الصافات : ٣٧.

(٢) ٧٧ و ٧٨ / الواقعة : ٥٦.

(٣) ٢٣٥ / البقرة : ٢.

(٤) ٦٩ / القصص : ٢٨ ، وغيرها.

(٥) ٢٥ / الأنعام : ٦.

(٦) ١٥٥ / النساء : ٤.

(٧) ٧ / البقرة : ٢.

(٨) ١٢ / يوسف : ١٢ ، وغيرها.

(٩) البيت لسحيم بن وثيل كما في الشعر والشعراء : ٥٣٨ ، الكتاب : ٣ / ٢٠٧ ، مغني اللبيب : ١٦٠).

٥٠٥

أنا ابن جلا وطلاع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

قاتله الله ما أفضحه!

فصل الكاف والهاء

ك ه ف :

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ)(١) الكهف : الغار في الجبل ، والجمع كهوف. وأصحاب الكهف قد قصّ الله خبرهم أحسن القصص فلا حاجة إلى ذكره ، وأسماؤهم وكيفية ذهابهم مذكور في التفسير (٢).

ك ه ل :

قوله تعالى : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)(٣) الكهل من الرجال من وخطه الشيب ، ومنه : اكتهل النبات إذا قارب اليبوسة ، على الاستعارة. ويقال : شاب الزرع ، على الاستعارة أيضا ، ويقال : الكهل هو الذي تمّ شبابه ، ومنه : اكتهل النبات : تمّ طوله ، ويقابل به الشباب ، وأنشد (٤) : [من البسيط]

يبكيك ناء عن الديار مغترب

يا للكهول وللشّبّان للعجب

فإن قيل : كلام الصبيّ في المهد أعجوبة ففي الإخبار به فائدة عظيمة ، وأما كلام الكهل فمعتاد فما فائدة الإخبار به؟ قيل : البشارة بأنه يعيش إلى حدّ الكهولة لأنه لم يتكلم صبيّ في مهده ثم عاش غير عيسى. فلو اقتصر على الإخبار بالأول لسآها (٥) ذلك للعادة فأخبرها بطريق البشارة أنّه يكتهل.

__________________

(١) ٩ / الكهف : ١٨.

(٢) وانظر كتابنا «معجم أعلام القرآن».

(٣) ١١٠ / المائدة : ٥.

(٤) من شواهد النحو المجهولة القائل (أوضح المسالك : ٣ / ٩٦). وفي الأصل : الدار.

(٥) السأو : بعد الهم والنزاع. وسأوت بين القوم : أفسدت. وسآه الأمر : كساءه ، مقلوب عن ساءه.

٥٠٦

واكتهلت الدّوحة : إذا عمّها النّور ، ومنه قول الأعشى يصف دوحة (١) : [من البسيط]

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزّر بعميم النّبت مكتهل

وقد تقدّم في باب السين ذكر تنقّل الإنسان من لدن كونه في بطن أمّه إلى أن يصير شيخا وفوق ذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

ك ه ن :

قوله تعالى : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ)(٢) الكاهن : الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفيّة بضرب من الظّنّ ، وهو عكس العرّاف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة بنحو ذلك ، ولكون هاتين (٣) الصناعتين مبنيتين على الظنّ الذي يجوز أن يخطىء ويصيب قال عليه الصلاة والسّلام : «من أتى كاهنا أو عرّافا فصدّقه فقد كفر بما أنزل على محمد» (٤).

والكهانة : مصدر كهن يكهن إذا تعاطى ذلك. وكهن ـ بالضم ـ تخصّص بها. وتكهّن : تفعّل ذلك. وقد فسّر الكاهن بنحو ما فسّر به العرّاف ، وهو المشهور في الحديث. وقد كانت الكهنة في زمنه عليه الصلاة والسّلام بهذه الصفة وذلك لما يسمع شياطينهم فيلقون إليهم الكلمة فيكذبون عليها مئة كذبة إلى أن رجمت الشياطين فانقطع السمع وانقطع التكهّن. وفي الحديث : «يخرج من الكاهنين رجل يقرأ القرآن لا يقرأ أحد مثله» (٥) الكاهنان هنا : بنو (٦) النّضير وقريظة ؛ قبيلتان من اليهود مشهورتان. يقال : المعنيّ بهذا الرجل هو محمد بن كعب القرظيّ رضي الله عنه.

__________________

(١) الديوان : ٥٧ ، وفي الأصل : يضاحك النبت ، والتصويب منه.

(٢) ٤٢ / الحاقة : ٦٩.

(٣) في الأصل : هذه.

(٤) سنن الدارمي ، طب : ٢١. وفي رواية الراغب : « .. بما أنزل على أبي القاسم».

(٥) النهاية : ٤ / ٢١٥ ، وفيه : « .. أحد قراءته».

(٦) في الأصل : بني. والصواب أن يقال : الكاهنان قريظة والنضير.

٥٠٧

فصل الكاف والواو

ك وب :

قوله تعالى : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ)(١) الأكواب : جمع كوب ، وهو إناء مستدير لا عروة له ولا خرطوم ؛ فإن كان له عروة فهو إبريق. وقال الأزهريّ : الكوب ما لا خرطوم له فإن كان فهو إبريق. وقيل : هو القدح الذي لا عروة له. وفي الحديث : «إنّ الله حرّم الخمر والكوبة» (٢) قال ابن الأعرابيّ : هي النّرد ، وقيل : الطبل تشبيها بهيئة الكوب. ويجمع الكوب على أكواب وأكاويب ، وتحقيقه أنّ أكاويب جمع أكواب.

ك ور :

قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(٣) تكويرها : لفّها وضمّ بعضها إلى بعض كما تكوّر العمامة وتلفّ. وفي التفسير أنها تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق. فسبحان القادر على كلّ شيء.

والتكوير : إدارة الشيء وضمّ بعضه إلى بعض نحو تكوير العمامة. وعن الرّبيع بن خثعم : كوّرت : رمي بها. ومنه : طعنه فكوّره.

قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ)(٤). قال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا وهذا على هذا. وتحقيقه : الإشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما ، وذلك بأن يدخل أحدهما في الآخر ثم يفصله منه كما

__________________

(١) ١٨ / الواقعة : ٥٦.

(٢) النهاية : ٤ / ٢٠٧.

(٣) ١ / التكوير : ٨١.

(٤) ٥ / الزمر : ٣٩.

٥٠٨

أشار إليه في الآيتين وهما : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(١) ، وقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٢). فقد تحقّق معنى التكوير وهو معنى الإيلاج ، ثم بعده يكون الانسلاخ فيحدث من ذلك الزيادة والنقصان.

وطعنه وكوّره : إذا ألقاه مجتمعا.

والكور ـ بالضم ـ رحل الجمل ، وبالفتح الزيادة ، ومنه الحديث : «أعوذ بك من الجور بعد الكور» (٣) قيل : من النقصان بعد الزيادة. وكوّارة النّخل معروفة لإدخال بعضها في بعض والتصاقه. وكلّ مصر كورة ، وهو الموضع الذي به قرى ومحال ، وذلك لحصول الاجتماع.

ك ون :

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٤) كان هنا بمعنى لم يزل ، وأصلها للدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي نحو : كان زيد عالما ، معناه أنه اتصف بالعلم فيما مضى دلالة لها على الانقطاع ؛ فإذا قلت : كان زيد قائما ليس فيه دلالة على أنه الآن قائم ، وهو أحد الجوابين عن قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ونحوه. وترد بمعنى صار ، وأنشد (٥) : [من الطويل]

بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

أي صارت ، ومثله قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(٦) أي صرتم ، وترد زائدة باطراد ، وهو إذا كانت بلفظ المضيّ حشوا كقولهم ما ـ كان ـ أعلمه ، وشذّ قوله (٧) : [من الرجز]

__________________

(١) ٦١ / الحج : ٢٢.

(٢) ٣٧ / يس : ٣٦.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٠٨.

(٤) ٩٦ / النساء : ٤ ، وغيرها.

(٥) البيت لابن أحمر الباهلي (شعره : ١١٩).

(٦) ١١٠ / آل عمران : ٣.

(٧) رجز مشطور ينسب إلى أم عقيل بنت أبي طالب (أوضح المسالك : ١ / ١٨٠).

٥٠٩

أنت تكون ماجد نبيل

إذا تهبّ شمأل بليل

لكونها بلفظ المضارع. وقد تزاد بين صفة وموصوف كقوله (١) : [من الوافر]

فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا كانوا كرام؟

وبين جارّ ومجرور كقوله (٢) : [من الوافر]

جياد بني أبي بكر تسامى

على كان المسوّمة العراب

واختلف فيها ؛ هل لها مصدر أم لا ، واختار سيبويه الأول ، واستدلّ بعضهم بقول الشاعر (٣) : [من الطويل]

ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إياه عليك يسير

وتكون ناقصة ، وهي ما قدّمنا ذكره ، وتامة بمعنى حضر كقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)(٤). وبمعنى عزل ، نحو : كنت الصوت. وبمعنى كفل ، نحو كنت الصبيّ. وتحذف لامها من مضارعها المجزوم إن لم يلقه ساكن غالبا ولم يتّصل بها ضمير. ولذلك ورد الاستعمالان في القرآن قال في موضع : «ولاتك» (٥) وفي آخر :. (وَلا تَكُنْ)(٦) ويضمير منهما ضمير الشأن فيرتفع الاسمان بعدها على أنّهما في محلّ الجرّ ، وأنشد (٧) : [من الطويل]

إذا متّ كان الناس نصفان : شامت

بموتي ومثن بالذي كنت أصنع

__________________

(١) الشاهد في اللسان من غير عزو ـ مادة كون.

(٢) من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل : ٧ / ٩٨. وفي الأصل : رأيت بني ، وفي التاج واللسان (مادة كون) : سراة. والتصويب من ابن يعيش.

(٣) من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك : ١ / ١٦٧.

(٤) ٢٨٠ / البقرة : ٢.

(٥) ١٢٧ / النحل : ١٦.

(٦) ١٠٥ / النساء : ٤ ، وغيرها.

(٧) البيت للعجير السلولي ، وهو من شواهد الكتاب : ١ / ٧١ ، شرح المفصل : ٧ / ١٠٠. وفي الأصل : صنفان ، والتصويب منهما.

٥١٠

وتضمر هي كثيرا وإن بعد لو ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التمس ولو خاتما من حديد» (١) وقول الآخر (٢) : [من الكامل]

حدبت عليّ بطون ضبّة كلّها

إن ظالما فيهم وإن مظلوما

ويجب ذلك إن عوّض عنها ما بعد أن ، كقول الشاعر (٣) : [من البسيط]

أبا خراشة إمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

ولها أحكام كثيرة لخّصناها فيما رأيت ، وفيه كفاية.

وقال الراغب (٤) : «كان» عبارة عمّا مضى من الزمان ، وفي كثير من وصف الله تعالى تنبىء عن [معنى] الأزلية ، انتهى : يريد نحو قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) وقال أيضا : وما استعمل [منه] في جنس الشيء متعلقا بوصف له وهو موجود فيه فتنبيه [على] أنّ ذلك الوصف لازم له ، قليل الانفكاك عنه ، نحو قوله تعالى في الإنسان : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)(٥) وقوله تعالى في الشيطان : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)(٦).

قوله تعالى : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) قيل : هي زائدة ، وفيه نظر من حيث إنّ لها اسما وخبرا ، وحملهم على ذلك أنه «كان صبيا» حال هذا الكلام فلم يتحقّق مضيّ ، وجوابه أنّ كان تدلّ على زمن ماض طويلا كان أو قصيرا ؛ فيقال : كان زيد هنا. وإن كان بينكما أدنى زمان ، فقوله : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(٧) إشارة إلى عيسى وحالته التي شاهدوه عليها. قال الراغب (٨) : [وليس] قول من قال هذا إشارة إلى الحال بشيء لأنّ ذلك إشارة إلى بعد لكن إلى زمان مراده بالإشارة عود الضمير في «كان» لا الإشارة صناعة. وقوله

__________________

(١) صحيح البخاري ، النكاح : ٣٢.

(٢) البيت للنابغة الذبياني : ١٧٩.

(٣) البيت لعباس بن مرداس كما في الكتاب : ١ / ٢٩٣ ، وشرح المفصل : ٢ / ٩٩. وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة.

(٤) المفردات : ٤٤٤.

(٥) ١٠٠ / الإسراء : ١٧. قتورا : مبالغا في البخل.

(٦) ٢٧ / الإسراء : ١٧.

(٧) ٢٩ / مريم : ١٩.

(٨) تصرف المؤلف في كلام الراغب.

٥١١

إشارة إلى الحال ، هو معنى قول القائل : كان زائدة. في العبارة قلق وهذا مراده والله أعلم.

والكون ـ في اصطلاح بعض المتكلمين ـ عبارة عن استحالة جوهر ما إلى ما هو أشرف منه ، ويقابله بالفساد وهو استحالة جوهر ما إلى ما هو دونه ، فيقولون : الكون والفساد. وبعضهم يقول : الكون هو الإبداع. وكينونة مصدر لكان ، واختلفوا في أصلها ؛ فذهب سيبيويه إلى أنّ أصلها كيّنونة ـ بتشديد الياء ـ فخفّف بالحذف ، وأصله كيونونة (١) فأدغمت ، كميّت وأصله ميوت ثم ميّت بالقلب والإدغام ثم ميت بالتخفيف. قال الراغب : ولم يقولوا كيّنونة على الأصل كما قالوا ميّت لثقل لفظها. قلت : قوله : ولم يقولوا يعني في المشهور ، وإلّا فقيل في غيره ، وأنشد (٢) : [من الرجز]

حتى يعود البحر كيّنونه

وذهب غيره من النحاة إلى أن وزنها فعلولة ، والأصل كونونة ، فاستثقلوا واوين مكتنفين ضمة فأبدلوا الأولى ياء. ولترجيح القولين مقام في غير هذا.

قوله تعالى : (مَكاناً شَرْقِيًّا)(٣) قيل : هو من كان يكون ، والأصل مكون فأعلّ كمقام. وقولهم : تمكّن يتمكّن يدلّ على أصالة الميم ، قاله الراغب (٤). ونظيره قولهم : تمسكن من السّكن.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ)(٥) أي : ما ذلّوا وخضعوا. واختلفوا فيه هل هو من «سكن» لأنه ترك الحركة لذلّه وخضوعه ، ووزنه افتعل كاقتدر إلا أنه قد أشبعت الفتحة

__________________

(١) على وزن فيعلولة.

(٢) عجز للنهشلي ، وصدره كما في اللسان ـ مادة كون :

يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

(٣) ١٦ / مريم : ١٩.

(٤) المفردات : ٤٤٥.

(٥) ٧٦ / المؤمنون : ٢٣.

٥١٢

فتولّد منها ألف ، وهذا ليس من مادّتنا في شيء أو من كان فيكون وزنه استفعلوا ، والأصل استكونوا فأعلّ كاستقاموا أصله استقوموا ، فيكون مما نحن فيه من المادة.

وفي الحديث : «قلت : وما الكنتيّون؟ قال : الشيوخ» (١) يعني الذين يقولون : كنت وكنت ، وكان الشيء كذا. فنسبوا إلى ذلك اللفظ فيقال : فلان كانيّ ، وفلانة كانيّة وكنتيّ وكنتية ، قال الشاعر : [من الطويل]

وكلّ امرىء يوما إلى كان سائر

وقال آخر (٢) : [من الطويل]

ولست بكنتيّ وما أنا عاجن

وشرّ الرجال الكنتنيّ وعاجن

يروى «الكنتني» وهذا من تغيير النسب لزيادة النون الأخيرة. ويروى «عاجز» بالزاي أو النون وكلاهما له معنى حسن ؛ فالعاجز ظاهر ، وبالنون على التشبيه بعاجن العجين. كنّوا بذلك عن الكبر فإنّ الكبير إذا قام اعتمد على يديه كالعاجن للعجين. وكذا قال (٣) الفقهاء في القيام من السجود : قام كالعاجن أو العاجز ؛ بالزاي أو النون.

ك وي :

قوه تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ)(٤) يقال : كويته بالنار : إذا ألصقتها بجسده حتى تصل إليه حرارتها وتؤثر فيه. وإنّما خصّ هذه الأعضاء الظاهرة لأنّها أحسن شيء من الأعضاء ، وقدّم الجباه لأنها أشرفها وأرقّها. نسأل الله تعالى بعميم فضله الوقاية من لفحاتها ورؤيتها.

وكويت الدابّة أكويها كيّا ، والأصل كويا فأدغم ، كطويت طيّا. والكيّ : الاستدفاء من

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢١٢ ، مع تفصيل.

(٢) التاج واللسان ـ مادة كون ، مع اختلاف في الرواية بين المصادر الثلاثة.

(٣) في الأصل : قالوا.

(٤) ٣٥ / التوبة : ٩.

٥١٣

البرد على التشبيه بذلك ، وفي كلام بعضهم : «إني لأغتسل من الجنابة ثم أتكوّى بمباشرتها» (١) أي أستدفىء بها.

فصل الكاف والياء

ك ي د :

قوله تعالى : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً)(٢) الكيد : الاحتيال والاجتهاد فيما يقصده الإنسان ، وغلب [في المكر](٣) ، ومنه سميت الحرب كيداء ، كما سميت خدعة. وقال بعضهم : أن يكون محمودا ، قال تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ)(٤). ويقال : أراد بالكيد العذاب ، قيل والصحيح أنّه الإمهال المؤدّي إلى العذاب ، يعني من إطلاق المسبّب وإرادة السّبب. وقيل : علّمناه الكيد على إخوته لأنّ هذا كان شرعا لهم ، فأخذهم بما يعتقدونه لا بقوة سلطانه لأنه ألزم في الحجّة عليهم.

وقيل : الكيد : المضارّة ، وأنشد لعمر بن لجأ : [من الوافر]

تراءت كي تكيد به بشرّ

وكيد بالتبرّح ما يكيد

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(٥) فيه تنبيه على أنّه قد يهدي من لم يقصد بكيده خيانة ، نحو كيد يوسف لإخوته ما قصّه الله علينا ، بخلاف كيد امرأة العزيز به.

قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)(٦) أي لأريدنّ بهم سوءا ، وأنّهم لو أطبقوا على كيده لم يقدروا على ذلك. ثم لم يكتف بذلك حتى طلب منهم مفاجأة ذلك ومعاجلته ،

__________________

(١) الحديث لابن عمر ، وفي الأصل كلمة غامضة صوّبناها من النهاية : ٤ / ٢١٢ ، اللسان ـ مادة كوي.

(٢) ٥ / يوسف : ١٢.

(٣) بياض في الأصل ، والسياق يؤكد ما أضفناه.

(٤) ٧٦ / يوسف : ١٢.

(٥) ٥٢ / يوسف : ١٢.

(٦) ٥٧ / الأنبياء : ٢١.

٥١٤

وهذا من صدق العزم وقوة الجاه ، وكيف لا يكون أنبياء الله ، صلوات الله وسلامه عليهم ، كذلك؟ رزقنا الله الذي أرسلهم ونبّأهم بركتهم في الدنيا والآخرة.

وكاد زيد بنفسه ، قيل : معناه جاد بها ، ومنه الحديث : «دخل عليه الصلاة والسّلام على سعد وهو يكيد بنفسه» (١)

والكيد : الحيض ، ومنه أنّ ابن عباس «مرّ بجوار وقد كدن فأمر أن ينحّين عن الطريق» (٢). والكيد ـ أيضا ـ : القيء ، ومنه حديث الحسن : «إذا بلع الصائم الكيد أفطر» (٣). والكيد : الحرب ، وفي حديث عمر : «فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يلق كيدا» (٤) أي حربا. والأحسن أنّه على العموم. وفي الحديث : «عقول كادها باريها» (٥) أي أضلّها.

و «كاد» من أفعال المقاربة تعمل عمل كان إلا أنّ خبرها لا يكون إلا مضارعا ، واقترانه بأن ضرورة. كقوله (٦) : [من الرجز]

قد كاد من طول البلى أن يمحصا

أو نادر كقول عمر رضي الله عنه : «ما كدت أن أصلي العصر». ويستعمل منها المضارع دون الأمر ؛ قال تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ)(٧). وندر كون خبرها اسما مفردا ، وأنشد لتأبّط شرا (٨) : [من الطويل]

فأبت إلى فهم وما كدت آيبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

وزعم بعضهم أنها إذا نفيت كان الكلام إثباتا ، وإذا لم تنف كان نفيا ، حتى ألغزوا ذلك في بيتين وهما : [من الطويل]

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢١٦ ، يريد النزع.

(٢) النهاية : ٤ / ٢١٧.

(٣) المصدر السابق وفيه : « .. بلغ».

(٤) المصدر السابق ، وفيه الحديث لابن عمر.

(٥) المصدر السابق ، وفيه رواية أخرى. والحديث لعمرو بن العاص.

(٦) الرجز لرؤبة ، وهو من شواهد التاج ـ مادة كاد.

(٧) ٤٣ / النور : ٢٤.

(٨) اللسان ـ مادة كيد. وفي الأصل : وما كنت.

٥١٥

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني : جرهم وثمود؟

إذا نفيت والله أعلم أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود؟

وعنوا بذلك ما ذكرته كأنّهم قد توهّموا من قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(١). هذا الحكم ليس بصحيح لأنّ نفي المقاربة أبلغ من نفي الفعل ؛ ألا ترى إلى قوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها)(٢) أبلغ من : لم يرها ، ولذلك ردّ الحذّاق على ذي الرمة قوله ، وقد اعترض عليه ، في قوله (٣) : [من الطويل]

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ مية يبرح

فإنّه لما اعترض عليه بهذا وقيل له : فقد برح ، فغيّره إلى قوله : لم يكد (٤) قال الحذّاق : إنّ قوله الأول أصوب لما ذكرته لك. وأما الجواب عن قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) فمن وجهين ؛ أحدهما أنّه على وقتين ، أي ذبحوها في وقت ولم يذبحوها في آخر. والثاني أنه منبهة على عسر ذبحهم.

وزعم الأخفش أنها تزاد مستدلا بقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها)(٥) وليس كما زعم.

ويقال : كدت وكدت ؛ بكسر الكاف على أنها من ذوات الياء ، وبضمّها على أنها من ذوات الواو ، ولا تنقل حركتها إلى فائها إلا إذا أسندت لضمير متكلم ونحوه ، كنظائرها من الأفعال ، نحو : بعت ، إلا في ضرورة شعر ، وأنشد (٦) : / [من الطويل]

__________________

(١) ٧١ / البقرة : ٢.

(٢) ٤٠ / النور : ٢٤.

(٣) الديوان : ٢ / ١١٩٢ ، وفيه : لم أجد .. ذكر ميه.

(٤) في الأصل : لم يزل.

(٥) ١٥ / طه : ٢٠.

(٦) البيت لأبي خراش كما في اللسان ـ مادة كيد ، والعجز مذكور في ديوان الهذليين : ٢ / ١٤٨ ، بصدر آخر هو :

فتقعد أو ترضى مكاني خليفة

٥١٦

وكيد ضباع القفّ يأكلن جثّتي

وكيد خراش بعد ذلك ييتم

وأحكامها كثيرة استغنينا عن استيعابها هنا.

ك ي س :

قوله تعالى : (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)(١) قد أدخل الراغب (٢) الكأس في هذا الموضع ومادته من كاف وهمزة وسين. وقد تكلّمنا عليه مشبعا في بابه ، ثم استطرد الراغب مادة (ك ي س) فقال : الكيس : جودة القريحة. وأكأس الرجل وأكيس : إذا ولد أولادا أكياسا. قلت : قال أبو العباس : الكيس العقل ، وفي الحديث : «أيّ المؤمنين أكيس؟» (٣) قال أبو بكر : أعقل. وأنشد لنفيلة الأكبر : [من البسيط]

وإنّما الشّعر لبّ المرء يعرضه

على المجالس إن كيسا وإن حمقا

وفي الحديث : «إذا قدمتم فالكيس الكيس» (٤) قال ابن الأعرابيّ : الكيس : الجماع ، قلت : قال بعضهم : هو العقل ، وكأنه جعل طلب الولد عقلا (٥) ، وإنّما فسّره بالجماع لأنّه سبب الولد.

وفي حديث آخر : «المؤمن كيّس فطن» (٦). وفي الحديث : «أتراني إنّما كستك لآخذ جملك» (٧) أي غلبتك بالكيس. كايسني فكسته أي كنت أكيس منه. والرواية المشهورة : «ما كستك» من المماكسة.

__________________

(١) ١٨ / الواقعة : ٥٦.

(٢) المفردات : ٤٤٣.

(٣) النهاية : ٤ / ٢١٧.

(٤) المصدر السابق.

(٥) هي عبارة الهروي.

(٦) كنوز الحقائق ، ورقة : ٨١ ، وأضاف : « .. حذر».

(٧) النهاية : ٤ / ٢١٧.

٥١٧

وأورد الراغب هنا : كأست الزرافة تكؤسر (١) إذا مشت على ثلاث قوائم. وليس مما نحن فيه من شيء ، ولكنه زيادة فائدة.

ك ي ف :

قوله تعالى ؛ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ)(٢) الآية. كيف : استفهام يسأل به عن الحال ، نحو : كيف زيد؟ أي حاله ، واستدلّ على اسميّتها بدخول حرف الجرّ عليها في قولهم : على كيف تبيع الأحمرين؟ ولها صدر الكلام ، وهي هنا للتعجب بالنسبة إلى الباري تعالى ، كأنه قال : تعجبوا من حال هؤلاء المنافين للكفر. وعند سيبويه : تسمى منصوبة على التشبيه بالظّرف أي في حال يكفرون. وعند الأخفش تسمى منصوبة على التشبيه وقدّرها : على أيّ حال تكفرون. والاستفهام الوارد من الله تعالى لا على حقيقته لأنه عالم بالأمور كلّها خفيّها وجليّها ، وإنما يرد منه تعالى على سبيل التّوبيخ أو الإنكار أو التعجب على ما قرّرناه.

واعلم أنّ «كيف» إمّا أن يقع بعدها فعل مصرّح أو مقدّر أو غير فعل ، فإن وقع بعدها فعل مصرح أو مقدر كانت منصوبة على التشبيه ، إما بالظرف وإما بالحال ـ كما مرّ تقريره ـ نحو : «كيف تكفرون». ومثال الفعل المقدّر قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)(٣) الآية ، (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)(٤) تقديره : كيف يكون حالهم ، ومثله قول الحطيئة (٥) : [من الطويل]

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على مفظع ولا أديمكم قدّوا؟

أي : كيف تكون موتتي على مدح قوم هذه حالهم؟

__________________

(١) في المفردات (٤٤٤) : الناقة.

(٢) ٢٨ / البقرة : ٢.

(٣) ٤١ / النساء : ٤.

(٤) ٨ / التوبة : ٩.

(٥) مختارات ابن الشجري : ١٣ (القسم الثالث).

٥١٨

وتزاد بعدها «ما» فلا تجزم بها خلافا للكوفيين. وزعم بعضهم أنها ترد نفيا ، وجعل منه قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)(١). وأنشد لعبد الله بن قيس الرّقيات (٢) : [من الخفيف]

كيف نومي على الفراش ولمّا

تشمل الشام غارة شعواء؟

أي لم يهد الله ، ولم أنم ، وفيه نظر لأنّ الاستفهام الوارد بمعنى النّفي إنما هو هل ، أو من ، دون أخواتها ، نحو قوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣) و (مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)(٤) أي ما يهلك ولم يغفر الذنوب إلا الله. وأما الآية والبيتان المتقدمان فالتعجب فيهما ظاهر. وقال الراغب (٥) : لفظ يسأل به عمّا يصحّ أن يقال فيه شبيه وغير شبيه كالأبيض والأسود والصحيح والسقيم. ولذلك لا يصحّ أن يقال في الله عزوجل «كيف». قال : وقد يعبّر عن المسؤول عنه بكيف كالأبيض والأسود فإنّا نسمّيه كيف. وقد ينسب إلى هذه اللفظة ، فيقال «كيفيّة» ، كما قالوا الكميّة والآنيّة ، وهي إحدى المقولات العشر عند المتكلمين.

ك ي ل :

قوله تعالى : (نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)(٦) أي مقدار حمل بعير ، فعبّر عنه بذلك. والكيل معلوم (٧) وهو ما يكال به ، وكأنه سمي بالمصدر في الأصل ؛ يقال : كلته أكيله كيلا.

وكلت يتعدّى لاثنين أولهما بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى ، ومثله في ذلك نحو : كلت زيدا الطعام ، وكلت له طعامه ، ووزنت له ماله ، ووزنته دراهمه. واختلف النحاة هل

__________________

(١) ٨٦ / آل عمران : ٣.

(٢) اللسان ـ مادة شمل.

(٣) ٣٥ / الأحقاف : ٤٦.

(٤) ١٣٥ / آل عمران : ٣.

(٥) المفردات : ٤٤٤.

(٦) ٦٥ / يوسف : ١٢.

(٧) المدّ والصّاع والمكّوك والقفيز .. من أنواع الكيل. وكل ما لزمه اسم الارطال والامناء والأواقيّ فهو وزن.

٥١٩

أحدهما للآخر أصل أو مستقل بنفسه! ثلاثة مذاهب أظهرها ثالثها. وقد فرّق الراغب بينهما فقال : يقال : كلت له الطعام : إذا توليت ذلك له ، وكلته الطعام إذا أعطيته كيلا.

واكتلت عليه : أخذت منه كيلا ، ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(١).

ووزن مكيل بالنظر إلى لفظه فعيل وبالنظر إلى أصله مفعل (٢). وقد جرّت هذه المسألة بين يعقوب وابن السكّيت وأبي عثمان المازنّي بين يدي عبد الملك بن الزيات ؛ فغلط يعقوب ، فانتبه ابن الزيات ، والحكاية وشرحها مذكورة في «الدرّ» وغيره من كتبنا.

وفي الحديث أنّ رجلا سأله سيفا فقال عليه الصلاة والسّلام : «لعلّي إن أعطيتكه أن تقوم في الكيّول» (٣) قال أبو عبيدة : الكيّول : مؤخّر الصفوف. وقال الأزهريّ : ما يخرج من حرّ الزّند مسودّا لآثار فيه ، قال الكسائيّ : يقال : كال يكيل كيلا : إذا كبا. فشبّه مؤخّر الصفوف به لأنه لا يقاتل من كان فيه.

والمكايلة : المساواة ؛ يقال : كيل فلان بفلان إذا كيل به ، لأنه ساواه وكافأه ، وهو مأخوذ من التّساوي ، فإن الكيل لا يفاوت إذا كان المكيال واحدا بعينه.

ك ي :

قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)(٤) أي لئلّا يكون دولة ، أي لئلا يكون متداولا. و «كي» للتعليل كاللام وهي على ثلاثة أقسام : الأول قسم يتعيّن فيه أن يكون حرفا وذلك كما صرّح بعدها بأن الناصبة نحو : كي أن أتعلّم ، وأنشد (٥) : [من الطويل]

فقالت : أكلّ الناس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا؟

__________________

(١) ٢ و ٣ / المطففين : ٨٣.

(٢) وفي الأصل : تفعيل. وأصلها مكيل.

(٣) النهاية : ٤ / ٢١٩. وهذه رواية الهروي. ورواية ابن الأثير : « .. أعطيتك ..».

(٤) ٧ / الحشر : ٥٩.

(٥) البيت لجميل كما في الديوان : ٤١ ، وهو من شواهد شرح المفصل : ٩ / ١٦ و ١٤ ، ومغني اللبيب : ١٨٣.

٥٢٠