عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ)(١) قرىء : وكتبه (٢) و (كِتابَهُ). وقيل : وحّد لأنّه في الأصل مصدر فتوحّد ، نحو رجل عدل. وقيل : عنى بذلك كتابا واحدا ونبّه أنّهم ليسوا كمن قيل فيهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)(٣).

قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ)(٤) كتابة العبد ، يجوز أن تكون من الكتب بمعنى الإيجاب أو بمعنى النّظم أي نظم الحروف ، لأنّ العادة جارية بكتب ذلك في صكّ والإشهاد فيه حفظا لحقّ العبد فإنّها جائزة من جهته لازمة من جهة سيده.

قوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا)(٥) أي سنحفظ قولهم ، وقيل : سنكتبه في صحف الحفظة بأن تكتبه الحفظة ، كقوله : (كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(٦) وهو المشار إليه بقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً)(٧) والله تعالى عالم بالأشياء لا يحتاج إلى كتب ، وإنما أراد إقامة الحجّة عليهم. وفي الحديث : «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (٨) أي بحكمه وقضائه.

ك ت م :

قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٩) جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما : «إنّ المشركين [إذا رأوا] أهل القيامة لا يدخل الجنة إلا من لم يكن مشركا ، قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(١٠) فتشهد عليهم جوارحهم فحينئذ يودّون ألّا يكتموا الله

__________________

(١) ٢٨٥ / البقرة : ٢.

(٢) قرأها أبو عمرو بإسكان التاء ، وقرأها الحسن «ورسله». ولم ترد قراءة «وكتابه» في المظان (مختصر الشواذ : ١٨).

(٣) ١٥٠ / النساء : ٤.

(٤) ٣٣ / النور : ٢٤.

(٥) ١٨١ / آل عمران : ٣.

(٦) ١١ و ١٢ / الإنفطار : ٨٢.

(٧) ١٣ / الإسراء : ١٧.

(٨) النهاية : ٤ / ١٤٧.

(٩) ٤٢ / النساء : ٤.

(١٠) ٢٣ / الأنعام : ٦.

٤٤١

حديثا» (١). وعن الحسن : «الآخرة مواقف ففي بعضها يكتمون وفي بعضها لا يكتمون» (٢). وقال غيره : (لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) تنطق جوارحهم. قلت : هذان القولان كالجواب عن سؤال مقدّر يذكره الناس ، وهو أنه تعالى قال في موضع آخر : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٣). ونظير ذلك قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(٤) مع قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٥).

وحقيقة الكتم ستر الشيء وتغطيته ، وغلب في الحديث ؛ يقال : كتمته كتمانا وكتما. وقال بعضهم : الكتم والختم أخوان ، أي متقاربان أو بمعنى واحد. وفي الحديث : «وكان يدّهن بالمكتومة» (٦). في «المكتومة» تفسيران أحدهما : أنه دهن من أدهان العرب يجعل فيها الزّعفران. والثاني : أنها ما جعل فيها الكتم المعروف. وفي الحديث : «بالحنّاء والكتم» (٧). والكتم يقال له الوسمة ، والوسمة بسكون السين وكسرها.

فصل الكاف والثاء

ك ث ب :

قوله تعالى : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(٨) ما اجتمع من الرمل ، وجمعه كثبان وكثب وأكثبة. وأصل المادة الدلالة على الجمع ، ومنه : كثبة اللبن لما اجتمع منه ، والجمع كثب ، نحو : غرفة وغرف.

__________________

(١) المفردات : ٤٢٦ ، والإضافة منه ، وموقعها في المخطوطة بياض.

(٢) المصدر السابق.

(٣) ٣٥ و ٣٦ / المرسلات : ٧٧.

(٤) ٩٢ / الحجر : ١٥.

(٥) ٣٩ / الرحمن : ٥٥.

(٦) الكتم بالتحريك نبات يخلط مع الوسمة للخضاب الأسود (اللسان ـ مادة كتم). والحديث في النهاية : ٤ / ١٥٠ : «أن أبا بكر كان يصبغ بالحنّاء والكتم». وانظر الحديث بعد.

(٧) النهاية : ٤ / ١٥٠.

(٨) ١٤ / المزمل : ٧٣.

٤٤٢

والكثبة ـ أيضا ـ قطعة التّمر لاجتماعها. وكثب الشيء : جمعه ، وأكثب الصّيد : إذا أمكن من نفسه. وفي المثل : «أكثبك الصّيد فارمه» أي أمكنك من نفسه وقرب منك. وحقيقته : جمع نفسه عليك. فالكتب ـ بالمثنّاة والمثلّثة ـ متقاربان لفظا ومعنى كما تقدّم تقرير ذلك. وفي حديث يوم بدر : «إن أكثبكم القوم فانبلوهم» (١) أي [إن] قاربوكم فارموهم. وفي آخر : «إذا كثبوكم فارموهم بالنّبل» (٢). وفي حديث عائشة تصف أباها الصديق رضي الله عنهما : «ظنّ رجال أن قد أكثبت أطماعهم» (٣) أي قاربت. وكثبت الشيء أكثبه : جمعته. والكثيب ـ أيضا ـ : القريب.

ك ث ر :

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)(٤) التكاثر : المغالبة في الكثرة من الأشياء الدّنيوية كما تتغالب الجاهلية بكثرة أموالها وأثاثها ، وقراها الضّيفان ، وفكّها العناة ، وإطعامها في النّوء المجاويع وغيره ، على ما شهدت بذلك أشعارهم وخطبهم ، والمعنى أنه شغلهم تكاثرهم بذلك حتى ماتوا فزاروا المقابر. وقيل : إنّهم تفاخروا بآبائهم حتى يعزّ الأحياء فذكروا.

يقال : تكاثروا فكثرهم فلان فهو كاثر وغيرهم مكثور. والكاثر ـ أيضا ـ : الكثير المال. وأنشد (٥) : [من السريع]

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

وفي مقتل الحسين : «ما رأينا مكثورا أجرأ مقدما منه» (٦). فأمّا المكثور عليه فهو الذي كثرت عليه الحقوق. والمكاثر : متعارف في الكثير المال.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١٥١.

(٢) هذه رواية الهروي ، ورواية ابن الأثير : «إذا أكثبوكم ..».

(٣) المصدر السابق.

(٤) ١ / التكاثر : ١٠٢.

(٥) ديوان الأعشى : ١٤٣ ، وذكره ابن عقيل في شرحه ، الشاهد رقم ٢٨٠.

(٦) النهاية : ٤ / ١٥٢. ويقول : المكثور : المغلوب.

٤٤٣

قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)(١) قيل : هو نهر عظيم ، وفي الحديث : «آنيته عدد نجوم السماء» (٢) ، وقيل هو نهر في الجنة يتفرّع عنه سائر أنهارها ، وقيل : الكوثر هو كلّ خير كثير ؛ فالكوثر مبالغة في الكثير زيدت الواو دلالة على ذلك كزيادتها في الجوهر للدلالة على جهره في الرّؤية.

والكوثر ـ أيضا ـ : الرجل الكثير الخير. وتكوثر الشيء : كثر كثرة متناهية ، قال الشاعر (٣) : [من الطويل]

وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا

وقيل : الكوثر هو القرآن والنبوّة ، وهذا هو القول بكونه الكثير ، إذ لا خير أكثر من خير القرآن بل هو أصل كلّ خير.

والكثر ـ بالضم ـ يقابل القلّ ، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : «نسأل الله الكثر ونعوذ به من القلّ».

والكثر : الجمّار (٤) ، كذا يطلقونه ، وقيّده الراغب بالكثير ، وفيه مناسبة. ويروى في الحديث : «لا قطع في ثمر ولا كثر» (٥) بسكون الثاء وفتحها وهو المشهور ، وفي حديث قيس بن عاصم : «نعم المال أربعون والكثر ستّون» (٦) وقد تقدّم في باب القاف أن القلّة والكثرة يستعملان في الكمية المنفصلة كالأعداد. وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)(٧) وصفها

__________________

(١) ١ / الكوثر : ١٠٨.

(٢) صحيح مسلم ، الفضائل ٣٧ ، وفيه : « .. أكثر من عدد نجوم ...».

(٣) عجز لحسان بن نشبة ، مذكور في المفردات : ٤٢٦. وصدره في اللسان ـ مادة كثر :

أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوّهم

(٤) الكثر : جمّار النخل ، وهو شحمه الذي وسط النخلة.

(٥) النهاية : ٤ / ١٥٢.

(٦) المصدر السابق.

(٧) ٣٢ / الواقعة : ٥٦.

٤٤٤

بذلك اعتبارا بمطاعم الدنيا. وليس الكثرة إشارة إلى العدد فقط بل إلى الفضل ، ويقال : عدد كثير وكثار (١) ؛ فالكثار أبلغ من الكثير.

فصل الكاف والدال

ك د ب :

قرأ الحسن البصريّ ، ويروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)(٢) بالدال المهملة. قيل : هو المتغير ، وقيل : الناصع اللون.

ك د ح :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً)(٣) أي ساع ، والكدح : السّعي الشديد ، وأنشد (٤) : [من الطويل]

وما الدّهر إلا تارتان : فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

قال أبو بكر في تفسير الآية : كدح إذا سعى وعمل وحرص وعني. وقال غيره : تعب فكأنّه سعي خاصّ.

والكدح : السعي في العمل دنيويا كان أو أخرويا. وقد يستعمل الكدح في غير هذا بمعنى الكدم بالأسنان. قال الخليل بن أحمد : الكدح دون الكدم. قلت : هذا يشبه باب القبض والقبص والقصم والفصم.

__________________

(١) وأضاف الراغب : وكاثر (المفردات : ٤٢٦).

(٢) ١٨ / يوسف : ١٢. وقراءة الحسن وابن عباس بالدال المهملة (مختصر الشواذ : ٦٢).

(٣) ٦ / الانشقاق : ٨٤.

(٤) البيت لابن مقبل كما في اللسان ـ مادة كدح.

٤٤٥

ك د ر :

قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)(١) أي انتثرت ، وأصله من الكدر وهو ضدّ الصّفاء ، والمعنى : تغيّرت بالتناثر ، وذلك أنها إذا تناثرت تغيّر شكلها وهيئتها التي كانت بها زينة.

يقال : عيش أكدر. والكدرة في اللون خاصّة ، والكدورة في الماء وفي العيش. وانكدر القوم على كذا أي قصدوا متناثرين عليه. ويقال لكلّ ما انتثر ومرّ مرّا سريعا : قد انكدر ، وأنشد لذي الرمّة (٢) : [من البسيط]

فانصاع جانبه الوحشيّ وانكدرت

يلحبن لا يأتلي المطلوب والطّلب

ك د ي :

قوله تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى)(٣) أي قطع عطاءه. وأصله أنّ الحافر يحفر الأرض فيبلغ الكدية وهي الأرض الصّلبة. وفي حديث الخندق : «فعرضت [فيه] كدية لا يعمل فيها المعول» (٤) والجمع كدى ، نحو : دمية ودمى ؛ فشبّه قاطع العطاء بقاطع الجفر (٥) حتى يبلغ الكدية. ولما ذكرت عائشة رضي الله عنها أباها قالت : «سبق إذ ونيتم ونجح إذ أكديتم» (٦). ولما عزّت فاطمة رضي الله عنها بعض جيرانها قال (٧) : «لعلك بلغت معهنّ الكدى» أراد المقابر لأنّ مقابرهم كانت في مواضع صلبة. قال الهرويّ : قلت للأزهريّ : رواه بعضهم «الكرى» بالراء فأنكره.

__________________

(١) ٢ / التكوير : ٨١.

(٢) من طويلة له في ديوانه : ١ / ١٠١.

(٣) ٣٤ / النجم : ٥٣.

(٤) النهاية : ٤ / ١٥٦ ، والإضافة منه.

(٥) الجفر : البئر الواسعة التي لم تطو.

(٦) النهاية : ٤ / ١٥٦.

(٧) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والحديث في النهاية ؛ ٤ / ١٥٦.

٤٤٦

فصل الكاف والذال

ك ذ ب :

قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) أي لكاذبون في شهادتهم. وقيل : كذبهم في اعتقادهم. وتقدّم القول في الصاد أن الكذب غير الصدق.

قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٢) قرىء بالتثقيل والتّخفيف مع فتح الياء وسكون الكاف ، وهما واضحان لأنّ المنافقين ، لعنهم الله ، قد فعلوا النّوعين : كذّبوا الرسول وكذبوا في قولهم : آمنا وليسوا بمؤمنين.

وقوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)(٣) قرىء ـ أيضا ـ بالتّثقيل والتّخفيف ؛ فمن قرأه مثقّلا فمعناه أنّهم لا يقولون لك : كذبت ؛ يقال : كذّبته إذا قلت له كذبت. ومن قرأه مخفّفا فمعناه أنهم لا يرون ما أتيت به كذبا. والمعنى أنك صادق عندهم ، ولكنّهم يجحدونه بألسنتهم (٤).

وأكذبته ـ أيضا ـ : إذا وجدته كاذبا. وقيل : كذّبته : نسبته إلى الكذب ، نحو : فسّقته : نسبته إلى الفسق ، صادقا كان أو كاذبا. وقيل : معناه لا يجدونك كاذبا ولا يستطيعون أن يبيّنوا كذبك لأنه أمر محال.

قوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ)(٥) الكاذبة ـ قيل ـ هي مصدر ، كالعاقبة والعافية ، أي

__________________

(١) ١ / المنافقون : ٦٣.

(٢) ١٠ / البقرة : ٢.

(٣) ٣٣ / الأنعام : ٦.

(٤) قرأه العامة بالتشديد. وروى الفراء أن عليا قرأها «يكذبونك» مخففة ، وهي كذلك قراءة نافع والكسائي (معاني القرآن : ١ / ٣٣١).

(٥) ٢ / الواقعة : ٥٦.

٤٤٧

ليس لوقوعها كذب أي هي كائنة لا بدّ منها ولا التفات إلى من كذّب بها ، وقيل : المعنى نفس كاذبة. وقيل : نسب الكذب إلى نفس الفعل كقولهم : فعلة صادقة وفعلة كاذبة.

قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)(١) قرىء بالتّثقيل والتّخفيف أيضا (٢). والمعنى أنّهم قد كذبوا من جهة قومهم وأنّ قومهم كذّبوهم أي نسبوهم إلى التكذيب هذا في من ثقّل ، فأمّا قراءة التخفيف فاستشكلها جماعة ، وتكلّم بعض الناس فيها بما لا يليق ، والحقّ فيها أنّ معناها كذّبوا من جهة قومهم. وغلب على ظنّهم أنّ قومهم كذبوهم فيما وعدوا الرسل أنهم يؤمنون بهم. وعن عائشة رضي الله عنها : ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ)(٣) ممنّ كذّبهم من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنّت الرسل أنّ من آمن منهم من قومهم قد كذّبوهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) عند ذلك) (٤). وروى ابن جرير عن ابن عباس أنّ الضمير في «ظنوا» للكفرة وفي أنهم «كذبوا» للرسل ؛ أي ظنّ قوم الرسل أنّ الرسل كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم عليهم بإمهال الله تعالى إياهم ، وقيل : الضمائر كلّها للقوم ، أي أنّ الرسل وعدتهم العذاب إن لم يؤمنوا. فلما طال الأمر عليهم بالإمهال لا بالإهمال ظنّوا أنهم قد كذبوا فيما وعدتهم به الرسل من العذاب ، ولذلك كانوا يستعجلون به كما قال تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(٥) أي بالعذاب ، وهذا شأن المتمرّدين المغترّين بحلم الله عليهم. فنسأل الله تعالى ألّا يجعلنا ممّن يملى لهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون. وقد تكلمت في هذه الآية كلاما مشبعا في «الدرّ» و «العقد» و «التفسير الكبير» بما يليق بكلّ منها ، وهذا القدر هنا كاف.

قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً)(٦) قرىء بالتشديد بمعنى التكذيب ، والمعنى : لا يكذبون فيكذّب بعضهم بعضا ، ونفي التكذيب عن الجنة يقتضي نفي الكذب

__________________

(١) ١١٠ / يوسف : ١٢.

(٢) قرأها أهل المدينة بالتثقيل وقرأها ابن عباس بالتخفيف (معاني القرآن : ٢ / ٥٦).

(٣) ١١٠ / يوسف : ١٢ ، والآية والحديث والتعليق من اللسان ـ مادة كذب. ويقول : وكانت تقرؤه بالتشديد ، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو .. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كذبوا» بالتخفيف.

(٤) ساقط من ح ما بين قوسين.

(٥) ٣٧ / الأنبياء : ٢١.

(٦) ٣٥ / النبأ : ٧٨.

٤٤٨

عنها ، قاله الراغب (١) ، وهو صحيح في هذه المادة التي نحن فيها ، وأما في غيرها فلو قيل : لا تكذيب في الدار ، لا يلزم منه نفي الكذب من أصله. وقال الهرويّ في قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)(٢) ، وقرىء مخففا (٣). قال : وفعّال في مصدر فعّل أكثر من فعل (يعني أنّ مصدر فعّل مشدّدا على فعّال مشدّدا أكثر منه على فعال) (٤) مخففا ، وفيه نظر من وجهين : أحدهما أنه لم يقرأ بذلك إلا في قوله «ولا كذّابا». والثاني أن فعلا مخففا ليس مصدر الفعل المشدّد.

قوله : (بِدَمٍ كَذِبٍ)(٥) أي ذي كذب ، أي مكذوب فيه ، أو جعل نفس الدم كذبا مبالغة ، نحو : رجل عدل وصوم ، وتقدّم أنه قرىء بالدال المهملة.

قوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ)(٦) أي كاذب صاحبها خاطىء ، فنسب الكذب إليها مبالغة نحو : نهاره صائم. وقيل : عبّر بالبعض عن الكلّ وأتى بأشرف ما فيه وأعلى ، فوصفه بأقبح الصفات وهو الكذب والخطأ ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسّلام : «كذب عليك الحجّ» (٧) قال بعضهم : معناه وجب عليك فعليك به ، قال : وحقيقته أنه في حكم الفائت لبطء وقته كقولك : قد فات الحجّ فبادر أي كاد يفوت. و «كذب عليك العسل» (٨) أي عليك العسل ، فهو إغراء ، واختلف الناس فيما بعد عليك من هذا الكلام ؛ فبعضهم يرويه بالرفع على أنه فاعل «كذب» ويقول : هو بمعنى وجب ونقل عن معناه الأصلي إلى هذا المعنى ، ووجه النقل ما قدّمته من البطء ؛ قال الهرويّ : وفي حديث عمر «كذب عليكم الحجّ ، كذب عليكم الجهاد» قال أبو عبيد : قال الأصمعيّ : معناه الإغراء ، قال : وكان وجهه النّصب ولكنه

__________________

(١) المفردات : ٤٢٧.

(٢) ٢٨ / النبأ : ٧٨.

(٣) خففها علي «كذابا» ، وثقلها عاصم والأعمش والحسن البصري وأهل المدينة (معاني القرآن للفراء : ٣ / ٢٢٩). وضم الكاف مع التشديد عمر بن عبد العزيز والماجشون (مختصر الشواذ : ١٦٨).

(٤) ما بين قوسين من النسخة د ، ولعل ناسخها أضاف من عنده للشرح.

(٥) ١٨ / يوسف : ١٢.

(٦) ١٦ / العلق : ٩٦.

(٧) النهاية : ٤ / ١٥٨.

(٨) المصدر السابق ، يريد مشي الذئب.

٤٤٩

جاء شاذا مرفوعا (١) ومثله حديثه الآخر (٢) : «شكا إليه رجل النّقرس فقال : كذب عليك الظّهائر» أي عليك بالمشي فيها. ومنه الحديث في من احتجم يوم الخميس والأحد : «كذباك» (٣) أي عليك بهما. وفي حديث عليّ كرم الله وجهه : «كذبتك الحارقة» (٤) أي عليك بمثلها. وقال الفراء : معنى كذب عليك : وجب عليك ، وهو الكذب في الأصل في معنى قوله : «كذب عليكم الحجّ» أن قيل : لا حجّ فهو كذب ، وقال أبو سعيد : معناه الحضّ ؛ يقول : إنّ الحجّ ظنّ بكم حرصا عليه ورغبة فيه فكذب ظنّه. قلت : ورواه الراغب بالنصب (٥) لكنّه في العسل فقال «وكذب عليك العسل» بالنصب أي عليك بالعسل ، وذلك إغراء ، وقيل : العسل ها هنا العسلان ؛ وهو ضرب من السّير ، ولم يذكر في لفظ الحجّ شيئا من رفع ولا نصب. والظاهر أنه لا فرق بين لفظ ولفظ مع إيجاد المعنى ، ويؤخذ من كلام الفرّاء أنّ «كذب» ردّ لكلام متكلّم مراد كأنّ قائلا قال : لا حجّ ، فقيل في جوابه : كذب. ويكون عليكم الحجّ جملة برأسها ، إمّا (٦) إسمية من مبتدأ وخبر إذا رفعنا الحجّ ويفيد فائدة الإغراء ، لأنّ معنى عليكم الحجّ ، أي واجب عليكم الحجّ ، ومعنى الزموا الحجّ واحد ولهذا خرّج بعضهم قوله عليه الصلاة والسّلام : «وإلا فعليه بالصّوم» (٧) أنّ الباء مزيدة في المبتدأ. وقد مرّ إغراء الغائب ، والمعنى مع ذلك موجود وهو وجوب الصوم عليه إن خاف العنت. ومن جعله إغراء فهم الإغراء من لفظ «الكذب». والظاهر أنه مفهوم من لفظ «عليك». وجيء ب «كذب» لما ذكرته أولا عن فهم كلام الفراء ؛ فقد تلخّص من كلامهم أنه ينطق بما بعد «عليك» من هذا التركيب بالرفع والنصّب ؛ فالرفع على الفاعلية ب «كذب» أو بالابتداء ، و «عليك» خبره كما مرّ تفسيره. وإمّا النصب فعلى الإغراء ، والعامل فيه «عليك» ، و «كذب» ردّ لكلام متقدم ، والله أعلم.

__________________

(١) المصدر السابق ، وفي اللسان ـ مادة كذب.

(٢) أي حديث عمر ، والمصدر السابق. والرجل هو عمرو بن معد يكرب. وفيه : « .. كذبتك الظهائر».

(٣) النهاية : ٤ / ١٥٧.

(٤) النهاية : ٤ / ١٥٧. والحارقة : المرأة التي تغلبها شهوتها ، أو الضيقة الفرج.

(٥) وكذا ابن منظور (مادة ـ كذب) يقول : وكذب عليكم الحجّ ، والحجّ ؛ من رفع جعل كذب بمعنى وجب ، ومن نصب فعلى الإغراء. وانظر المفردات : ٤٢٨.

(٦) لم يأت بجوابها. وربما اعتبر جملة «ومن جعل» بعد أسطر جوابها ، ولا يستقيم من جهة النحو.

(٧) النهاية : ٥ / ١٥٢.

٤٥٠

وكذب يتعدّى لاثنين ، لأحدهما بنفسه ، وللثاني بحرف الجرّ ، فيقال : كذبته الحديث وفي الحديث ، نحو : صدقته الحديث وفي الحديث.

ويقال : رجل كذّاب وكذوب وكذبذب وكذيذب وكيذبان ، كلّ ذلك للمبالغة في كذبه. ويقال : حمل فلان على قرنه فكذب ، كما يقال في ضدّه : صدق. ويقال : كذبته نفسه : إذا خاب ظنّه ، ومنه قول الشاعر : [من الوافر]

وقد كذبتك نفسك فأكذبتها

فإن جزعا وإن إجمال صبر

وكذب لبن الناقة : إذا ظنّ أنه يدوم مدة فلم يدم.

فصل الكاف والراء

ك ر ب :

قوله تعالى : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)(١) الكرب : الغمّ الشديد. والكربة : الغمّة الشديدة. قيل : وأصل ذلك من كرب الأرض : أي حفرها وقلبها بالحفر ، فكأنّ الغمّ يثير النفس إثارة ذلك. وقيل : أصله من قلب الأرض بالكراب ، أي الآلة التي تحرث بها الأرض. وقيل : أصله من أكربت الدلو ، أي شددته بالكرب (٢) ، فكأنّ الكرب يضيق النفس ويوثقها وثاق الكرب للدّلو ، وأنشد (٣) : [من البسيط]

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا

ويصحّ أن يكون من كربت الشمس : أي دنت للمغيب.

وكرب فعل مقاربة من أخوات عسى ، يعمل عمل كان ، وفي دخول أن في خبرها اختيارا خلاف ، وقد سمع بالوجهين ، فمن ذلك قول الشاعر (٤) : [من الخفيف]

__________________

(١) ٧٦ / الأنبياء : ٢١.

(٢) الكرب : الحبل الأول في رشاء الدّلو.

(٣) البيت للحطيئة ، كما في الديوان : ١٢٨ ، وفي اللسان ـ مادة كرب والجمهرة : ١ / ٢٧٥.

(٤) قيل إن هذا البيت لرجل من طيىء ، وقال الأخفش إنه للكلحبة اليربوعي أحد فرسان بني تميم وشعرائها. وهو من شواهد ابن هشام (أوضح المسالك : ١ / ٢٢٦).

٤٥١

كرب القلب من جواه يذوب

حين قال الوشاة : هند غضوب

ومن الإتيان بأن قول الآخر (١) : [من الطويل]

وقد كربت أعناقها أن تقطّعا

ولها أحكام ذكرتها في غير هذا ، وفي الحديث : «استعفّ أو كرب» (٢) أي : قارب. وكلّ دان فهو كارب.

والكروبيون : طائفة من الملائكة ، قال أبو العالية : هم سادة الملائكة ؛ سمّوا بذلك لقرب منزلتهم من الله. ومثله حديث آخر : «أيفع أو كرب» (٣) أي قارب الإيفاع ، وأنشد (٤) : [من الكامل]

أبنيّ إنّ أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

أي قرب من يوم أجله. وقال الليث : يقال لكلّ حيوان وثيق المفاصل : إنه لمكرب المفاصل ولمكرب الخلق. قلت : أصله من شددت الدلو بالكرب ، كما تقدم. وفي الحديث : «من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدّنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (٥). قد تقدّم أنّ الكربة شدّة الغمّ ، وهي الغمة الشديدة.

ك ر ر :

قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(٦) وليس المراد بالتثنية هنا شفع الواحد إنّما

__________________

(١) عجز لأبي هشام بن زيد الأسلمي من كلمة له يهجو فيها إبراهيم بن إسماعيل والي المدينة من قبل هشام بن عبد الملك. وهو من شواهد ابن هشام (أوضح المسالك : ١ / ٢٢٨). وصدره :

سقاها ذوو الأحلام سجلا على الظّما

(٢) النهاية : ٤ / ١٦١ ، وفيه : «فإذا استغنى أو كرب استعفّ».

(٣) المصدر السابق ، والكلام عن غلام ، والحديث لرقيقة.

(٤) البيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي كما في الجمهرة (١ / ٢٧٥) واللسان (مادة ـ كرب) وذكره مطلعا لقصيدة. وفي المحكم : قاله خفاف بن عبد القيس. وفي الجمهرة : أجبيل إنّ ... قال أبو بكر : يخاطب رجلا اسمه جبيل أو امرأة اسمها جبيلة.

(٥) صحيح البخاري ، المظالم ٣.

(٦) ٤ / الملك : ٦٧.

٤٥٢

المعنى على كرّات بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ، أي مزدجرا وهو كليل. ومعلوم أنّ ذلك لا يكون بين نظرتين فقط ، وإنّما المعنى كرّة بعد كرّة. فهذا ممّا لفظه تثنية ومعناه جمع ، وله أخوات : لبّيك وسعديك وهداديك ودواليك وحنانيك.

وأصل الكرّ العطف على الشيء والعود إليه بالذات أو بالفعل ، ومنه : كرّ في الحرب أي رجع إليها ، قال : [من الوافر]

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواكا

وقال امرؤ القيس (١) : [من الطويل]

مكرّ مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

قوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)(٢) أي الغلبة والظفر ، وفي الحديث : «وتكركر حبات من شعير» (٣) أي تطحن ؛ سميت كركرة لترديدها الرّحى على الطحن ، فمعنى العود موجود فيها ، وأنشد لأبي دؤاد (٤) : [من المتقارب]

إذا كركرته رياح الجنو

ب ألقح منها عجافا حيالا

وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسّلام وأبا بكر وعمر تضّيّفوا أبا الهيثم بن التّيهان ، فقال لامرأته : ما عندك؟ فقالت : شعير ، قال : فكركري» (٥) أي اطحني ، والمصدر : الكركرة.

والكركرة ـ أيضا ـ رحى زور البعير. والكركرة ـ أيضا ـ الجماعة المجتمعة ، وهي ـ أيضا ـ تصريف الرياح السحاب ، وذلك مكرّر من كرّ ، ومنه البيت المتقدّم لأبي دؤاد : إذا كركرته الرياح.

__________________

(١) من معلقته ، الديوان : ٣٦.

(٢) ٦ / الإسراء : ١٧.

(٣) النهاية : ٤ / ١٦٥.

(٤) وفي اللسان : لأبي ذؤيب ولم نجده في شعر الهذليين.

(٥) النهاية : ٤ / ١٦٥.

٤٥٣

والكركرة ـ أيضا ـ صوت يردّده الإنسان في جوفه ، وقال شمر : الكركرة من الإدارة والتّرديد ، وهو من كرّ.

والكرّ ـ بالفتح ـ : الحبل المفتول لأنه كرّر مثله ، وهو في الأصل مصدر سمّي به الحبل ، وجمعه كرور.

والكرّ مقدار معلوم ، وقال النّضر : الكرّ بالبصرة ستة أوقار ، قال الأزهريّ : الكرّ : ستون قفيزا. والقفيز ستة مكاكيك ، والمكّوك : صاع ونصف ، وهو ثلاث كيلجات ؛ فالكرّ على هذا الحساب اثنا عشر وسقا ، وكلّ وسق ستون صاعا.

ك ر س :

قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١). الكرسيّ في العرف العامّ : اسم لما يقعد عليه ، واشتقاقه من الكرس وهو المتلبّد ، وقال الراغب (٢) : وهو في الأصل منسوب إلى الكرس أي المتلبّد. قلت : وفيه نظر لأنّ النّحويين نصّوا على أنّ ياءه وياء يحيى ونحوهما ليسا للنّسب. واستدلّوا بأنهما جمعا على فعالي ، وفعالي لا يكون جمعا لما ياؤه للنسب ، ولذلك خطّؤوا من قال : إنّ أناسيّ من قوله تعالى : (وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٣) جمع أنسي لأنّ ياءه تدلّ على النسب ، بل هو جمع لإنسان على ما قررته في غير هذا الموضع ، فإن عنى أنّ ياءه في الأصل للنسب فيه أن معنى النسب مهجور فيه ، وهو الظاهر من عبارته ، فصحيح. والمادة تدلّ على الانضمام والاجتماع ، ومنه الكرّاسة للمجتمع من الأوراق.

وكرّست البناء فتكرّس. وقيل الكرس : أصل الشيء ، ومنه قول العرب : هو عظيم الكرس. وأنشد قول العجاج (٤) :

يا صاح هل تعرف رسما مكرّسا

قال : نعم أعرفه ، وأبلسا

__________________

(١) ٢٥٥ / البقرة : ٢.

(٢) المفردات : ٤٢٨.

(٣) ٤٩ / الفرقان : ٢٥.

(٤) من مطلع رجز للحجاج (الديوان : ١ / ١٨٥).

٤٥٤

والكرّوس : المتركّب بعض أجزاء رأسه إلى بعض لكبره. وأمّا الكرسيّ في الآية الكريمة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه هو علم الله ، وقال غيره : كرسيّه أصل ملكه. وقال آخرون (١) : / الكرسيّ الفلك المحيط بالأفلاك ، قال : ويشهد لذلك ما روي عنه عليه‌السلام : «ما السموات السّبع في الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة» (٢).

وفي الحديث : «ما أدري ما أصنع بهذه الكراييس» (٣) يعني الكنف ، الواحد كرياس ، وهو ما كان مشرفا على سطح بقناة إلى الأرض ، فإن كان أسفل فليس بكرياس (٤). قيل : وسمي بذلك لما يعلق به من الأقذار فيتكرّس ، ومنه : الكرس كرس الدّمن ونحوها فهو فعيال من ذلك.

ك ر م :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)(٥). عن ابن عباس : جعلناهم يأكلون بأيديهم ويتناولون غذاءهم بها. وحكي أنّ أبا يوسف الحنفيّ رضي الله عنه أكل مع الرشيد يوما فأحضر ملاعق ، فقال : يا أمير المؤمنين بلغنا أنّ جدّك عبد الله قال في تفسيره : «جعلنا لهم أيديا يأكلون بها». فترك الملاعق وأخذ بيده. وقيل : جعلناهم منتصبي القامة وغيرهم منحنيا ، وجعلنا لهم نطقا وتمييزا خلاف سائر الحيوانات.

وأصل الكرم سماحة النفس ببذل المال. وقيل : حسن الخلق. ثمّ الكرم إذا وصف به الباري تعالى فهو اسم لإحسانه وأنعامه المتظاهرة. وإذا وصف به البشر فهو اسم للأخلاق الحميدة والأفعال الجميلة الظاهرة ؛ فلا يقال : كريم إلا إذا اشتهر بذلك وظهر منه ظهور متعارف. قال بعض أهل العلم : الكرم كالحرية ، إلا أنّ الحرية تقال في المحاسن القليلة

__________________

(١) يعني به الراغب (المفردات : ٤٢٨) ، والحديث مذكور فيه.

(٢) أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر (روح المعاني : ٣ / ٩).

(٣) الحديث لأبي أيوب كما في النهاية : ٤ / ١٦٣.

(٤) قال الزمخشري : وفي كتاب «العين» الكرناس ، بالنون.

(٥) ٧٠ / الإسراء : ١٧.

٤٥٥

والكثيرة. والكرم لا يقال إلا في الكثيرة ، كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة ، وكمن يتحمّل حمالة يحقن بها دم قوم.

قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١) إنّما كان كذلك لأنّ الكرم ـ كما تقدّم ـ الأفعال الحميدة ، وأكثرها ما قصد به أشرف الوجوه ، وأشرف الوجوه ما قصد به وجه الباري تعالى ، ولا يفعل ذلك إلا الأتقياء. فمن ثمّ كان أكرم الناس عند ربّهم أتقاهم له ، وكلّ شرف في بابه يوصف بالكرم ، وعليه قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٢). وقيل : معناه جمّ الفوائد وكلّ ذلك مراد. وقوله : (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(٣)(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(٤) أي جعلهم كراما.

قوله : (كِراماً كاتِبِينَ)(٥) وصفهم بذلك لشرفهم في أبناء جنسهم. ونخلة كريمة أي طيبة الحمل أو كثيرته ، وشاة غزيرة اللبن.

قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(٦) أي منزّهين أنفسهم عن سماعه وعن قوله. وقيل : معرضين عنه قد أكرموا أنفسهم بعدم الدخول فيه ، وقيل : غير مؤاخذين قائلين كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٧).

قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٨) كرمه أن خلص من متعبات الدنيا في تحصيله ، ومن الشّبه المقترنة بالمكاسب والأرزاق ، ومن الأسقام العارضة من تناوله عند الإفراط فيه ومن الحرص عليه والشحّ به على مستحقّيه. وقيل : أكرم عمّا في الدنيا من الانقطاع والتنغيص والفساد.

__________________

(١) ١٣ / الحجرات : ٤٩.

(٢) ٧٧ / الواقعة : ٥٦.

(٣) ٧ / الشعراء : ٢٦.

(٤) ٢٦ / الأنبياء : ٢١.

(٥) ١١ / الانفطار : ٨٢.

(٦) ٧٢ / الفرقان : ٢٥.

(٧) ٦٣ / الفرقان : ٢٥.

(٨) ٧٤ / الأنفال : ٨.

٤٥٦

قوله : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ)(١). قيل : مختوم ، وكرم الكتاب ختمه ، وقيل : كرمه كونه من عند كريم. وقيل : لبداءته فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكأنّ قولها : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢) تفسير لكرمه أو جواب لمن قال : وما وجه كرمه؟ أو تعليل لقولها المشير للدّعوى. والظاهر عندي أنّ قولها : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) إلى آخره تفسير لنفس «كتاب» لا لكرمه بدليل قولها : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٣). فهو أنّ لنا من كرمه بل من مقتضاه ومضمونه ، ويؤيّد ما قلته أنّ قوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) كان عنوانه ، ومن ثمّ عنونت الكتب. وقوله : («وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» إلى آخره مضمونه ، كذا جاء في التفسير.

وكرام الخيل والطير : عتاقهما. والكريم ـ أيضا ـ من كان أبواه شريفين ، والمعرّف بضدّه ، وأنشد (٤) : [من الرمل]

كم بجود مقرف نال العلى

وكريم بخله قد وضعه

يعني أنّ الكرم قد يرفع الدّنيء ويحطّ الشريف ؛ فالكرم هنا ليس هو المتعارف بين الناس ، وما أطبع ما جاء في قوله : وكريم بخله .. فإنه كالمتنافي في العرف العام.

وفي الحديث : «لا تسمّوا العنب كرما إنّما الكرم الرجل المسلم» (٥) قال أبو بكر محمد بن القاسم في تفسير ذلك : إنّما سمي الكرم كرما لأنّ الخمرة المتخذة منه تحثّ على السّخاء والكرم ، فاشتقّوا اسم الكرم من الكرم الذي يتولّد منه. قلت : ومن ذلك قول حسان (٦) : [من الوافر]

__________________

(١) ٢٩ / النمل : ٢٧.

(٢) ٣٠ / النمل : ٢٧.

(٣) ٣١ / النمل : ٢٧.

(٤) البيت لأنس بن زنيم أو عبد الله بن كريز أو أبي الأسود وانظر (الكتاب : ٢ / ١٦٧ ، شرح المفصل : ٤ / ١٣٢ ، الإنصاف : ٣٠٣ ..). المقرف : النذل اللئيم أبوه. واستشهد به النحويون على جواز رفع «مقرف» ونصبه وجره.

(٥) النهاية : ٤ / ١٦٧ ، وفيه : « .. العنب الكرم».

(٦) الديوان : ١ / ١٧.

٤٥٧

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

وقال آخر (١) : [من مجزوء الكامل]

فإذا سكرت فإنّني

ربّ الخورنق والسّدير

وإذا صحوت فإنّني

ربّ الشّويهة والبعير

قال : فكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تسمّى الخمر باسم مأخوذ من الكرم ، وجعل المؤمن أولى بهذا الاسم الحسن ؛ فأسقط الخمر عن هذه الرتبة تحقيرا لها وتأكيدا لحرمته ، يعني المؤمن.

يقال : رجل كرم أي كريم ، وصف بالمصدر ، وقال الأزهريّ : سمي العنب كرما لكرمه ، وفي المؤمن تكرمة ، وذلك أنه ذلّل لقاطفه وليس عليه سلّاء (٢) فيعقر جانيه ويحمل منه الأصل ما تحمل النخلة. وكلّ شيء كرم فهو كريم. وفي الحديث : «إذا أخذت من عبدي كريمتيه» (٣) وروي «كريمته» يعني عينيه وعينه ؛ سميت لعزّتها على صاحبها. وكلّ ما عزّ عندك فهو كريم ، ومنه : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٤) قيل له ذلك في معرض التهكّم أو على حكاية ما كان يقال له في الدنيا. قال شمر : كلّ شيء مكرّم عندك فهو كريمك. وفي الحديث : «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (٥) وروي «كريمة قوم» كأنّ التاء للمبالغة كرجل فروقة وراوية. وفي الحديث : «خير الناس يومئذ مؤمن بين كريمين» (٦) قال بعضهم : هما فرسان يغزو عليهما ، وقال آخرون : بين أبوين مؤمنين ، وقال آخرون : بين الحجّ والجهاد.

__________________

(١) البيتان للمنخّل اليشكري كما في الشعر والشعراء : ٣١٨. الخورنق : اسم نهر وأطلق على القصر الصيفي للملك وهي فارسية. السدير : اسم نهر ، وأطلق كذلك على قصر الملك وكان ذا ثلاث قباب (سه : ثلاث+ دل : قلب أو يشبهه).

(٢) السّلّاءة : شوكة النخل ، جمعها سلاء على وزن قرّاء.

(٣) النهاية : ٤ / ١٦٧ ، وهو حديث قدسي ، والرواية الأخرى مذكورة.

(٤) ٤٩ / الدخان : ٤٤.

(٥) النهاية : ٤ / ١٦٧ ، والرواية الأخرى مذكورة.

(٦) النهاية : ٤ / ١٦٨ ، وفي الأصل : كريمتين.

٤٥٨

ك ر ه :

قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً)(١) قرىء في المتواتر بالفتح والضمّ (٢) ؛ فقيل : هما بمعنى الضّعف والضّعف ، وقيل : المفتوح ما ينال الإنسان من المشقّة من خارج مما يحمل عليه بإكراه. والكره ما ينال من ذاته وهو ما يعافه ، وذلك على نوعين : أحدهما ما يعافه من حيث الطبع ، والثاني ما يعافه من حيث الشرع والعقل. ولذلك يصحّ أن يقال : إني أكره الشيء وأريده من حيث الشرع والعقل ، أو أكرهه من حيث الشرع وأريده من حيث الطبع. وعلى الأول قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)(٣) أي من حيث الطبع ، وقوله تعالى بعد ذلك : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ). فنبّه أنّه يجب على الإنسان أن لا يكره شيئا ولا يحبّه حتى يعرف كنهه وما يؤول إليه ، وهذا كالدواء ؛ فإنّ النفوس تكرهه وفيه صلاحها ، وعكسه الأغذية الغليظة الثقيلة ؛ فإنّ النفوس تريدها وفيها فسادها وسقامها. فالطاعات كالأدوية والمعاصي كالأغذية المؤذية.

قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ)(٤) أي لا تكرهوهنّ على الزّنا. وحقيقة الإكراه حمل الإنسان على ما يكرهه.

وقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(٥) قيل : منسوخ بآيات القتال ، وكان في ابتداء الإسلام يعرض على الرجل الإسلام فإن أجاب وإلا خلّي سبيله ولا يقاتل على ذلك. وقيل : ليست منسوخة والمراد أهل الكتاب فإنهم إذا أرادوا الجزية تركوا وأقرّوا من غير إكراه على الإسلام ، بخلاف المحاربين منهم وغيرهم من المشركين. وقيل : معناه لا حكم لمن

__________________

(١) ١٩ / النساء : ٤.

(٢) ذكرها الراغب (المفردات : ٤٢٩) ولم يذكرها الفراء ولا الأخفش. ويقول ابن منظور : وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة (الكاف في الكره في الآيات) والذي في النساء .. ثم قرؤوا كل شيء سواها بالفتح.

(٣) ٢١٦ / البقرة : ٢.

(٤) ٣٣ / النور : ٢٤.

(٥) ٢٥٦ / البقرة : ٢.

٤٥٩

أكره على دين باطل فاعترف به ودخل فيه ، كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١). وقيل : لا اعتداد في الآخرة بما يفعله الإنسان في الدنيا من الطاعات كرها ، فإنّ الله مطّلع على السرائر فلا يرضى إلا الإخلاص ، ولهذا قال عليه الصلاة والسّلام : «الأعمال بالنيات» (٢) ، وقال عليه الصلاة والسّلام : «أخلص يكفك القليل من العمل» (٣). وقال آخرون : معناه لا يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة ممّا يكلّفهم الله بل يحملون على نعيم الأبد ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجب ربّك من قوم يقادون إلى الجنّة بالسّلاسل» (٤) وقيل : معناه أن «الدّين» هنا جزاء ، وأنّ الله تعالى ليس بمكره على الجزاء بل يفعل ما يشاء بمن يشاء ، فهذه ستة أقوال.

قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(٥) فيه تنبيه على أنّ لحم الأخ شيء جبلت الأنفس على كراهته وإن تعاطته. والإكراه ضدّ الاختيار والطّواعية.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لم يكتف باشتراط الإكراه في ذلك حتى ضمّ إليه اتصافه بكون قلبه غير مشكّك ولا متلجلج في ذلك.

قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٦) قيل : معناه أسلم من في السموات طوعا ومن في الأرض كرها ، أي الحجة القاطعة بصحة الإسلام ألجأتهم وأكرهتهم على ذلك ، كقولك : دليل هذه المسألة ألجأني إلى القول بها ، تريد أنه ظاهر بيّن ، وهذا ليس مذموما. وقال آخرون : أسلم المؤمنون طوعا والكافرون كرها. ومعناه أنهم لم يقدروا أن يمتنعوا عليه مما يريدهم به ، وأبين من هذا قول قتادة حيث قال : أسلم المؤمنون له طوعا والكافرون كرها عند الموت ، كأنه يريد قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا

__________________

(١) ١٠٦ / النحل : ١٦.

(٢) ذكره البخاري عن عمر بن الخطاب.

(٣) كنوز الحقائق ، ورقة : ٤.

(٤) النهاية : ٣ / ١٨٤.

(٥) ١٢ / الحجرات : ٤٩.

(٦) ٨٣ / آل عمران : ٣.

٤٦٠