عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

متقاربة ، والمادة تدلّ على الإخبات والطاعة والاستكانة. قوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ)(١) أي يطبع ويخضع.

قوله : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ)(٢) أي قائمات بحقوق الأزواج ، وقيل : مصلّيات. وفي الحديث : «كمثل الصائم القانت» (٣) أي المصلي. قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ)(٤) ولذلك قال : (ساجِداً وَقائِماً). وقال ابن الأنباريّ : القنوت في اللغة ينقسم إلى أربعة أقسام : الصلاة ، وطول القيام ، وإقامة الطاعة ، والسكوت. وفي الحديث : «أنه قنت شهرا» (٥) أي يدعو على أحياء من العرب.

ق ن ط :

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا)(٦) أي يئسوا. والقنوط : اليأس من الخير ؛ يقال : قنط ـ بالفتح ـ وقنط ـ بالكسر (٧) ولم يقرأ إلا بالأول. وقرىء المضارع بالوجهين في المتواتر.

ق ن ع :

قوله تعالى : (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ)(٨) أي رافعيها ينظرون من الذلّ. قال ابن عرفة : أقنع رأسه : إذا نصبه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ولا جعل طرفه موازيا لما بين يديه ، وكذلك الإقناع في الصلاة.

__________________

(١) ٣١ / الأحزاب : ٣٣.

(٢) ٣٤ / النساء : ٤.

(٣) ابن حنبل : ٤.

(٤) ٩ / الزمر : ٣٩.

(٥) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قنت شهرا في صلاة الصبح ، بعد الركوع ، يدعو على رعل وذكوان (اللسان ـ مادة قنت).

(٦) ٢٨ / الشورى : ٤٢.

(٧) قنط يقنط ، وقنط يقنط.

(٨) ٤٣ / إبراهيم : ١٤.

٤٠١

والقنع : الاجتزاء بالشيء اليسير ، ومنه قوله تعالى : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)(١) يقال : قنع ـ بالكسر ـ يقنع قنعا وقناعة : إذا رضي واجتزأ باليسير. وقنع ـ بالفتح ـ يقنع قنوعا : إذا سأل ، قال بعضهم : القانع هو السائل الذي لا يلحّ ، ويرضى بما يأتيه عفوا ، وأنشد (٢) : [من الوافر]

لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع

فصار قنع مشتركا بين الرضا والاجتزاء وبين السؤال ، ولكن وقع الفرق بينهما بالمصدر كما تقدّم. قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناع وهو ما يغطّى به الرأس ، فقنع : لبس القناع ساترا لفقره كقولهم : خفي : إذا لبس الخفاء. وقنع : إذا رفع قناعه كاشفا رأسه بالسؤال ، نحو : خفي إذا رفع الخفاء. ومن القناعة : رجل مقنع : يقنع به ، قال الشاعر (٣) : [من الطويل]

شهودي على ليلى رجال مقانع (٤)

وتقنّع بالمغفر على التشبيه بقناع المرأة ، وقنّعت رأسه على التّشبيه بذلك. وفي الحديث : «تقنع يديك في الدعاء» (٥) أي ترفعهما ، وفيه أيضا : «كان إذا ركع لا يصوّب رأسه ولا يقنعه» (٦) أي لا يرفعه حتى يكون أعلى من جسده.

قوله : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) القانع : الذي لا يسأل ، والمعترّ : الذي لا يعترض. يقال : قنع ـ بالفتح ـ يقنع قنوعا : إذا سأل ، وقنع ـ بالكسر ـ قناعة : إذا لم يسأل وعفّ عمّا في أيدي الناس ، وقد تقدّم ذلك. وفي الحديث : «لا تجوز شهادة القانع لأهل

__________________

(١) ٣٦ / الحج : ٢٢. المعترّ : الذي يتعرّض لكم دون سؤال.

(٢) البيت للشمّاخ كما في اللسان ـ مادة قنع ، والمفردات : ٤١٣.

(٣) عجز للبعيث كما في شرح المفصل : ٥ / ٥٥ ، واللسان ـ مادة قنع ، وجمهرة اللغة : ٣ / ١٢٣. وصدره :

وبايعت ليلى بالخلاء ولم يكن

(٤) وفي رواية : عدول مقانع.

(٥) النهاية : ٤ / ١١٤.

(٦) النهاية : ٤ / ١١٣.

٤٠٢

البيت لأنه لهم كالتابع» (١) القانع ـ هنا ـ كالسائل. وفي الحديث : «أنه اهتمّ للصلاة كيف يجمع [لها] الناس فذكر له القنع» (٢). قيل : هو الشّبّور (٣). ورواه بعضهم عن أبي عمر الزاهد بالثاء المثلثة بدل النون وهو البوق. قال الهرويّ : عرضته على الأزهريّ فقال : هذا باطل.

وفي الحديث : «أتيته بقناع من رطب» (٤) القناع والقنع والقنع : الطّبق الذي يؤكل عليه ، فقنع وقنع يجمعان على أقناع نحو حمل وأحمال ، وقفل وأقفال. قال الهروي : ويجوز جمع القنع على قناع كعسّ وعساس. وجمع القناع أقناع. قلت : فيستوي في القناع لفظ الواحد والجمع إلّا أن قوله : وجمع القناع أقناع لا يصحّ ، إذ فعال لا يجمع على أفعال.

ق ن و :

قوله تعالى : (قِنْوانٌ دانِيَةٌ)(٥) القنوان جمع قنو وهو العذق الذي فيه الشّماريخ وتثنيته قنوان وجمعه قنوان ، ففي الوقف يستوي لفظ تثنيته وجمعه ، حالة رفع تثنيته. وفي الوصل يظهر الفرق بكسر نون التثنية وتنوين لام الكلمة وحلول الحركات عليها. ومثله في ذلك صنو وصنوان للجذوع التي أصلها واحد.

والقناة تشبه القنو في كونهما غصنين. وأمّا القناة التي يجري فيها الماء فقيل لها ذلك تشبيها بالقناة في الخطّ والامتداد. وقيل : أصله من قنيت الشيء إذا ادّخرته.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١١٤. القانع هنا : الخادم.

(٢) النهاية : ٤ / ١١٥ ، والإضافة منه.

(٣) الشبور : البوق ، والكلمة معرّبة.

(٤) النهاية : ٤ / ١١٥.

(٥) ٩٩ / الأنعام : ٦.

٤٠٣

ق ن ي :

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى)(١) أي أعطى ما فيه القنية : أي المال المدّخر. وقيل : أقنى : أرضى ، وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرّضا والطاعة ، وذلك أعظم الغناءين. وقنيت كذا ، واقتنيته بمعنى. قال الشاعر (٢) : [من الطويل]

قنيت حيائي عفّة وتكرّما

والقنية والقنيان : المال الثابت الأصل. وقنيت الشيء أقناه : لزمته ، لأنّ القناة مدّخرة للماء. وقيل : بل من قولهم قاناه : أي خالطه ، وأنشد امرؤ القيس (٣) : [من الطويل]

كبكر مقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير المحلّل

وأمّا القنا (٤) فيقال منه : رجل أقنى ، وامرأة قنواء الأنف.

فصل القاف والهاء

ق ه ر :

قوله تعالى : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٥) ، القهر : الغلبة والتّذليل معا ، ويستعمل كلّ منهما منفردا. قوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(٦) أي لا تذلّه وتكسر خاطره ، وغلب ازدواج هاتين الصفتين وهما الوحدانية والقهر ، وذلك لمعنى بديع وهو أن الغلبة والإذلال من ملوك الدنيا ، إنما يكون بأعوانهم وجندهم وعددهم وعددهم. والله تعالى يقهر كلّ الخلق وهو واحد أحد

__________________

(١) ٤٨ / النجم : ٥٣.

(٢) ذكر ابن منظور البيت في مادة (قنا) ، وعزاه لحاتم. غير أن البيت غير مذكور في ديوانه. وصدره :

إذا قلّ مالي أو نكبت بنكبة

(٣) البيت لامرىء القيس من معلقته ، الديوان : ٣٤.

(٤) : القنا : احديداب في الأنف.

(٥) ٣٩ / يوسف : ١٢ ، وغيرها.

(٦) ٩ / الضحى : ٩٣.

٤٠٤

فرد صمد مستغن عن ظهير سبحانه. وهذا من الفتوحات الإلهية ، فنشكر الله تعالى على ذلك. وفي الحديث : «فأقول : يا ربّ أمّتي. فيقال : إنّهم كانوا يمشون بعدك القهقرى (١). قال أبو عبيد : هو الرجوع إلى الخلف ، وذلك كناية عن مشيهم على غير طريقه الواضح ونهجه القويم. كما جاء في حديث آخر : «فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا» (٢).

فصل القاف والواو

ق وب :

قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ)(٣) أي قدر قوسين. يقال : بيني وبينه قاب رمح وقاد وقيد وقدى رمح. والقوس : الرمح بلغة أزد شنوءة وسيأتي. وقال الراغب (٤) : القاب : ما بين المقبض والسّية من القوس. قلت : السّية موضع الوتر. وهذا أقلّ من الأول. وفي الحديث أن عمر نهى عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فقال : «إنكم إن اعتمرتم في أشهر الحجّ رأيتموها مجزئة عن حجّكم فكانت قائبة قوب عامها» (٥) ضرب عمر هذا مثلا لخلاء مكة من المعتمرين سائر السّنة. قال شمر : يقال : قيبت البيضة فهي مقوبة : إذا خرج فرخها. وقال الفراء : القابية : البيضة ، والقوب : الفرخ. وتقوّبت البيضة : تقلّقت عن فرخها ، ويقال : انقضى قوبيّ من قاوبة ، يعني أنّ الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها.

ق وت :

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٦) قيل : معناه مقتدرا ، وقيل : حافظا ، وقيل : شاهدا ؛ وحقيقته : قائما عليه يحفظه ، وأنشد : [من الخفيف]

__________________

(١) النهاية : ٤ / ١٢٩.

(٢) النهاية : ٢ / ٣٤٧. وسحقا سحقا : بعدا بعدا.

(٣) ٩ / النجم : ٥٣.

(٤) المفردات : ٤١٤.

(٥) النهاية : ٤ / ١١٨.

(٦) ٨٥ / النساء : ٤.

٤٠٥

ليت شعري وأشعرنّ إذا ما

قرّبوها منشورة ودعيت

ألي الفضل أم عليّ ، إذا حو

سبت؟ إني على الحساب مقيت

والقوت : ما يمسك به الرمق ، والجمع أقوات لقوله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها)(١) يعني أرزاقها المقدّرة لخلقه لا يعدو أحد رزقه.

وقاته يقوته قوتا : أطعمه القوت. وأقاته يقيته إقاتة : جعل له ما يقيته ، كما قيل في سقيته وأسقيته وقبرته وأقبرته. وفي الحديث : «إنّ أكبر الكبائر أن يضيّع الرجل من يقوت» ، ويروى «من يقيت» (٢) من قاته وأقاته. وقيل : فعل وأفعل فيه بمعنى كنظائره. وقيل : من قوله : «مقيتا» أي مقتدرا على أن يعطي كلّ واحد قوته.

ويقال : ما عنده قوت ليلة وقيت ليلة وقيتة ليلة ، نحو : الطّعم والطّعم والطّعمة. وأنشد الشاعر يصف نارا (٣) : [من الطويل]

فقلت له : ارفعها إليك فأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

ق وس :

قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)(٤) القوسان معروفان ، وهما ما يرمى عنهما ، قيل : أراد بهما القريبين وكأنّهما أقصر شيء من غيرهما ، من قسيّ الناس. وقيل : هما الذّراعان.

والقوس : الذراع بلغة أزد شنوءة ، قال مجاهد : قاب قوسين أي قدر ذراعين. وفي الحديث : «لقاب قوس أحدكم أو موضع قدّه من الجنّة» (٥). وفي الحديث : «أطعمنا من بقية القوس الذي في نوطك» (٦) القوس هنا : البقية تبقى في أسفل الجلّة ، وتصوّر من

__________________

(١) ١٠ / فصلت : ٤١.

(٢) النهاية : ٤ / ١١٩ ، ومطلعه فيه : «كفى بالمرء إثما ...». وما في النص مطابق للمفردات : ٤١٤.

(٣) البيت لذي الرمة ، ديوانه : ٣ / ١٤٢٩. وفي ديوانه اللسان والصحاح : خذها إليك.

(٤) ٩ / النجم : ٥٣.

(٥) النهاية : ٤ / ١١٨. والقاب : القدر.

(٦) النهاية : ٤ / ١٢١ ، والحديث لوفد عبد القيس وقد قالوه لواحد منهم.

٤٠٦

القوس هيئتها فقيل للانحناء : تقوّس ، ومنه تقوّس ظهر الشيخ وقوّس (١) ، قال امرؤ القيس (٢) : [من الطويل]

أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله

ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا

وقوّست الخطّ ، والمقوّس : مكان يجري منه القوس ، وأصله الحبل الذي يمدّ على هيئة قوس فترسل الخيل من خلفه.

ويجمع القوس على قسيّ ـ بضمّ القاف وكسرها ـ وأصله قووس ، نحو : فلس وفلوس فقلبت الكلمة بتقديم لامها وتأخير عينها فصيّرها التصريف إلى ما ترى ، ووزنه الآن فلوع ، وقد حقّقنا هذا في غير هذا الموضع.

ق وع :

قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً)(٣) القاع : المستوي من الأرض ، قاله الراغب (٤). وقال الفراء : القاع مستنقع الماء. وقال الهرويّ : هو المكان المستوي الواسع من وطاء الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه فيستوي ماؤه ، وجمعه : قيعة وقيعان. يقال : قاع وقيعة ، مثل جار وجيرة. وقال الراغب : والقيع والقاع : المستوي من الأرض ، فلم يفرّق بينهما. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسّلام قال لأصيل : «كيف تركت مكة؟ قال : تركتها قد ابيضّ قاعها» (٥) ، أي غسله المطر فابيضّ.

قوله تعالى : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ)(٦) أي مكان مستو ، فهو أظهر للمعان السراب والإحاطة به بخلاف المحدودب من الأرض.

والقاع من ذوات الواو ، ولذلك قال الراغب : وتصغيره قويع ، واستعير منه قاع الفحل

__________________

(١) أي قوّس الشيخ إذا انحنى.

(٢) الديوان : ٨٨.

(٣) ١٠٦ / طه : ٢٠.

(٤) المفردات : ٤١٥.

(٥) النهاية : ٤ / ١٣٢.

(٦) ٣٩ / النور : ٢٤.

٤٠٧

الناقة : أي ضربها. لكنّ الهرويّ ذكره في مادّة (ق ي ع) ، والراغب أيضا ذكره في مادة (ق ي ع) لكن نصّ على تصغيره بالواو ، فهو كباب وبويب ، وإنّما انقلبت الواو في قيعة لانكسار ما قبلها / وهي ساكنة نحو ديمة وقيمة من : دام يدوم ، وقام يقوم.

ق ول :

قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ)(١) لما كان القول يكون حقّا وغيره خصّص بالإضافة ، وهذا خلاف ما يقوله الكوفيّ من أنّه أضاف الموصوف لصفته ، وأصله القول الحقّ كقوله : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ)(٢) أي الحقّ اليقين. ولنا فيه كلام متقن في غير هذا.

والقول والقال والقيل بمعنى واحد ، ومنه قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِ)(٣). والقول يستعمل على أنحاء ؛ أحدها : أن يقصد به حكاية الجمل المفيدة ، وهذا غالب أحواله لقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)(٤) خلافا لمن قال : الأصل استعماله في المفرد ، وهذا لا تتغير الجمل بعده عمّا تستحقّه من الإعراب ، ويكون في محلّ نصب به ، وتكسر بعده إنّ. والثاني : أن يقصد به الظنّ فيعمل عمله مطلقا عند قوم وهم سليم كقوله (٥) : [من الرجز]

قالت ، وكنت رجلا فطينا :

هذا لعمر الله إسرائينا

وغيرهم لا يعمله إلا بأربعة شروط : أن يكون مضارعا بمخاطب بعد استفهام غير مفصول إلا بالظرف أو عديله أو أحد معموليه ، كقوله (٦) : [من الرجز]

__________________

(١) ٧٣ / الأنعام : ٦.

(٢) ٥١ / الحاقة : ٦٩.

(٣) ٨٨ / الزخرف : ٤٣.

(٤) ٥١ / النحل : ١٦.

(٥) قاله راجز كما في التاج ـ مادة سري ، والأمالي : ٢ / ٤٣ ، وفيه :

هذا وربّ البيت إسرائينا

(٦) رجز لهدبة بن الخشرم. وهو رواية اللسان والتاج وشذور الذهب. أما رواية الديوان (شعر هدبة : ١٣٠) :

متى تظنّ القلص الرواسما

يبلغن أم قاسم وقاسما

وتقول هنا بمعنى تظن.

٤٠٨

متى تقول القلّص الرّواسما

يدنين أمّ قاسم وقاسما؟

وقول الآخر (١) : [من البسيط]

أبعد بعد تقول الدار جامعة

شملي بهم أم دوام البين محتوم؟

وقول الآخر (٢) : [من الوافر]

أجهّالا تقول بني لؤيّ

لعمر أبيك أم متجاهلينا؟

ويجوز في أنّ بعده الوجهان من الفتح والكسر ، وكان ينبغي وجوب الفتح. وأنشدوا : [من الطويل]

إذا قلت إني آيب أهل بلدة

بالوجهين. واختلف النحاة في القول المعمل على الظنّ هل يكون بمعناه أم في اللفظ فقط؟ فإن ورد ما ظاهره أنّ القول حكى به مفرد لا يؤدّي مؤدّى قول قدّر له خبر تتمّ به الجملة كقوله تعالى : (قالُوا مَعْذِرَةً)(٣) رفعا ونصبا ، وقال امرؤ القيس (٤) : [من الطويل]

إذا ذقت فاها قلت : طعم مدامة

معتّقة مما تجيء به التّجر

فإن كان المفرد يؤدي مؤدّى الجملة أو قصد به حكاية ذلك المفرد يعمل فيه القول عمله في المفعول به ، كقولك : قلت : خطيئة وقلت : زيرا.

أي قلت هذه اللفظة. ومنه : (فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)(٥) على أحسن الوجوه كما بينّاه في غير هذا. الثالث : أنه يستعمل في المتصّور في النفس قبل الإبراز في اللفظ ،

__________________

(١) البيت لمجهول ، ورد ذكره في أوضح المسالك : ١ / ٣٣٠ ، وفيه :

أم تقول البعد محتوما

(٢) البيت للكميت بن زيد وليس في ديوانه. وكذا في أوضح المسالك : ١ / ٣٣١.

(٣) ١٦٤ / الأعراف : ٧. ويقول الفراء : وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة. وقد آثرت القراء رفعها ونصبها جائز. وبالنصب قرأ حفص عن عاصم وزيد بن علي ... (معاني القرآن : ١ / ٣٩٨).

(٤) الديوان : ٩٠. التجر : التجار ، وهو جمع الجمع.

(٥) ٦٠ / الأنبياء : ٢١.

٤٠٩

ومنه : في نفس فلان قول لم يبرزه ، وعليه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ)(١). الرابع : الاعتقاد ، نقول بقول الشافعيّ. الخامس : الدلالة بما يفهم من حال الشيء ، كقول الشاعر (٢) : [من الرجز]

امتلأ الحوض وقال قطني

سلّا رويدا ، قد ملأت بطني

السادس : يقال للعناية الصادقة بالشيء نحو : هو يقول بكذا ، أي يعنى به. السابع : الإلهام كقوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ)(٣) قاله الراغب (٤) وفيه نظر لإمكان جريانه على حقيقته ، لكنه قال في توجيه ذلك : فإن ذلك لم [يكن] بخطاب ورد عليه فيما روي وذكر ، بل كان ذلك إلهاما ، فسمّاه قولا. الثامن : كثيرا ما يستعمله المنطقيون في معنى الحدّ ، فيقولون : قول الجوهر كذا وقول العرض كذا أي حدّهما. التاسع : يستعمل بمعنى القتل ، قال ابن الأعرابي : يقال : قالوا يريد أي قيلوه ، وأنشد الأزهريّ (٥) : [من الرجز]

نحن ضربناه على نطابه

قلنا به قلنا به قلنا به

أي قتلناه.

قوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٦). قيل : ذلك قول حقيقيّ خلق الله فيهما قوة النطق فنطقتا بذلك. وقيل : ذلك بالقول المجازيّ ، وهو عبارة عن عدم التأبّي عما يريده.

قوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(٧). فائدة : قوله (بِأَفْواهِهِمْ) وإن كان القول لا حقيقة له إلا بالفم ، إنّ ذلك صادر عن غير اعتقاد ، لأنّ القول قد يطابق اعتقاد قائله. وقيل : هو توكيد كقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ)(٨)(وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٩).

__________________

(١) ٨ / المجادلة : ٥٨.

(٢) من شواهد اللسان ـ مادة قطن ، وصدره مذكور في المفردات : ٤١٥. وفي الأصل : مهلا.

(٣) ٨٦ / الكهف : ١٨.

(٤) المفردات : ٤١٥ ، والإضافة منه.

(٥) البيت نسبه تاج العروس (مادة قول) إلى زنباع المرادي ، ومذكور في اللسان. والنطاب : حبل العاتق.

(٦) ١١ / فصلت : ٤١.

(٧) ١٦٧ / آل عمران : ٣.

(٨) ٧٩ / البقرة : ٢.

(٩) ٣٨ / الأنعام : ٦.

٤١٠

قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ)(١) أي علمه بهم وحكمه عليهم. قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ)(٢) أطلق على عيسى عليه‌السلام قول الحقّ تنبيها أنه كلمة الله كما سمّاه في موضع آخر (بِكَلِمَةٍ)(٣). وعلى ما قال : يقال (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)(٤). وهذا على قراءة رفع «قول» (٥) وجعله بدلا من عيسى أو عطف بيان أو خبرا ثانيا لذلك. قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)(٦) أي في أمر من (٧) البعث فسمّاه قولا ؛ فإنّ المقول فيه يسمّى قولا كما أنّ المذكور يسمى ذكرا.

قوله : (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(٨) فنسب القول إلى الرسول ، والمراد به القرآن لأنّ القول الصادر إليك عن الرسول يبلّغه إليك عن مرسل له فيصحّ أن تنسبه تارة إلى رسوله وأخرى إلى مرسله ، قال الراغب (٩) : وعلى هذا فإن قيل : فهل يصحّ أن ينسب الشعر والخطبة إلى راويهما كما تنسبهما إلى صانعهما؟ قيل : يصحّ (١٠) أن يقول : هو قول الراوي ولا يصحّ أن يقال هو شعره وخطبته ، لأنّ الشعر يقع على القول إذا كان على صورة مخصوصة ، وتلك الصورة ليس للراوي فيها شيء ، والقول قول الراوي كما هو قول المرويّ عنه.

__________________

(١) ٧ / يس : ٣٦.

(٢) ٣٤ / مريم : ١٩.

(٣) ٤٥ / آل عمران : ٣ ، في قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ..).

(٤) ٥٩ و ٦٠ / آل عمران : ٣.

(٥) قرأت القراء بالنصب ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب .. وقرأ الآخرون بالرفع. أما عبد الله فقرأها : قال الله الحق والقول والقال في معنى واحد. والحق في هذا الموضع يراد به الله (معاني القرآن للفراء : ٢ / ١٦٨).

(٦) ٨ / الذاريات : ٥١.

(٧) في الأصل : في أمة البعث ، ولعلها كما ذكرنا.

(٨) ٤٠ / الحاقة : ٦٩.

(٩) المفردات : ٤١٦.

(١٠) كلمة (شاعر) هنا مقحمة في ح.

٤١١

قوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(١) لم يرد (به القول النّطقيّ فقط بل ما معه اعتقاد وعمل. قوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ) : يريد) بذلك الكذب والاختلاق : والمتقوّل الكذاب. وقوّلني فلان حتى قلت ، أي : علّمني حتى علمت. وفي الحديث : «نهى عن قيل وقال» (٢) يروى بفتح اللامين على أنهما فعلان ماضيان ، وحكيا بالجر والتنوين على الإعراب على أنهما مصدران أو نقلا إلى الاسمية (٣).

ورجل تقوالة وقوّال وقوّالة : أي منطيق. والمقول : اللسان لأنه آلة القول.

والقيل : الملك من ملوك حمير ؛ سمي بذلك للاعتماد على قوله أو لأنه متقيّل لأبيه ؛ يقال : تقيّل فلان أباه ، فإن قيل : فكان ينبغي أن يقال فيه قول فالجواب أنّ أصله قيول فأدغم ، كهيب وأصله هيوب ، ولذلك جمعوه على أقوال كقولهم أموات ثم خفف فصار قيلا كما يقال ميت في ميّت. ويجوز أن يجمع على أقيال ، قال الراغب (٤) : وإذا قيل أقيال فذلك نحو أعياد. قلت : إنما قالوا : أعياد في جمع عيد ، وإن كان الأصل يقتضي أعوادا لأنه قد يلبس بجمع عود الحطب ، فكذلك هنا ؛ فلو قيل : أقوال لألبس بجمع القول ، ولكن العرب لم تلتفت إلى ذلك هنا.

واقتال فلان : قال ما يجترّ به إلى نفسه خيرا أو شرا. والقال والقالة : ما انتشر من القول. والقال يكون بمعنى القائل. يقال : أنا قال كذا ، أي قائله ؛ قاله الخليل.

ق وم :

قوله تعالى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)(٥) أي ثابتا على طلبه. والقيام : مصدر قام يقوم ، وأصله قوام ولكنه أعلّ لإعلال فعله بخلاف لواذ مصدر لاوذ ، لصحة فعله ، وهذا متقن في غير هذا من كتبنا في التصريف ، ثم القيام أنواع : قيام بالشخص إمّا بالتّسخير

__________________

(١) ١٥٦ / البقرة : ٢. والإضافة بعده من النسخة د ، والآية فيه : ٤٤ / الحاقة : ٦٩.

(٢) النهاية : ٤ / ١٢٢.

(٣) وقيل : القال : الابتداء ، والقيل : الجواب.

(٤) المفردات : ٤١٦.

(٥) ٧٥ / آل عمران : ٣.

٤١٢

كقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ)(١) ، وإمّا باختيار كقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً)(٢). وقيام هو مراعاة الشيء والحفظ له كقوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)(٣)(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)(٤) أي مراعون لأحوالهنّ وحافظوهنّ.

وقيام : هو عزم على الشيء ، كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)(٥) و (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)(٦) أي يداومون على فعلها ويحافظون عليها. وقيل : هو من قام سوق كذا أي نفق فيه المتاع. وأقمته : أي جعلته كذلك : وأنشد (٧) : [من المتقارب]

أقامت غزالة سوق الضّراب

لأهل العراقين حولا قميطا

وقيل : معناه يؤدّونها مقوّمة الأركان والسّنن غير مخلّين بشيء منها ، من : أقام الأمر إذا أتى به على أكمل هيئاته.

قوله : (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)(٨) أي جعله ممّا يمسككم ويردّ قواكم لأنه سبب رزقكم.

والقيام والقوام : ما تقوم به بنية الإنسان ، وما يقوم به الشيء كالسّناد. والعماد اسم لما يسند به ويعمد به.

والقوام ـ بالفتح ـ ما هو متوسط بين رتبتين ، كقوله تعالى : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ

__________________

(١) ١٠٠ / هود : ١١.

(٢) ٩ / الزمر : ٣٩.

(٣) ٣٤ / النساء : ٤.

(٤) ٣٣ / الرعد : ١٣.

(٥) ٦ / المائدة : ٥.

(٦) ٣ / البقرة : ٢.

(٧) البيت لأيمن بن خريم يذكر غزالة الحرورية ، كما في اللسان ـ مادة قمط. ويروى : شهرا قميطا.

(٨) ٥ / النساء : ٤.

٤١٣

قَواماً)(١). قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ)(٢) بمعنى قواما لهم في أمور دنياهم ودينهم ، فهي تقوم بأمورهم في معاشهم ومعادهم. وقال الأصمّ : قائما لا ينسخ. قرىء قيما بمعنى قائما ، وقيل : هو جمع قيمة ، قاله الراغب (٣). وليس قول من قال : هو جمع قيمة بشيء. قلت : وهذا صحيح هنا لكنه قد قرىء في قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)(٤) وهذا صحيح في الأموال.

قوله : (دِيناً قِيَماً)(٥) قيل : معناه ثابتا مقوّما لأمور معائشهم ومعادهم. وقرىء «قيما» وفيه وجهان ؛ أحدهما : أنه مقصور من قياما ، والثاني : أنه وصف على فعل نحو : لحم زيم (٦) وقوم عدى ومكان سوى وماء روى. وأصل قيم قيّوم كميت.

قوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(٧) قال ابن عرفة : فجعلها مصدرا كالصّغر والكبر ، وأنشد لكعب بن زهير (٨) : [من الطويل]

فهم ضربوكم حين جرتم عن الهدى

بأسيافهم حتى استقمتم على القيم

أي على الاستقامة.

قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الأمّة القيمة ، أي القائمة بالقسط والعدل ، وهم المشار إليهم بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٩) الآية.

قوله : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)(١٠) إشارة إلى القرآن ، وذلك لما فيه من ثمرة كتب الله

__________________

(١) ٦٧ / الفرقان : ٢٥.

(٢) ٩٧ / المائدة : ٥.

(٣) المفردات : ٤١٧.

(٤) ١٦١ / الأنعام : ٦.

(٥) هذه قراءة نافع المدني. ويقول الفراء : والمعنى ـ والله أعلم ـ واحد (معاني القرآن : ١ / ٢٥٦). والآية هي : ١٥ النساء : ٤.

(٦) لحم زيم : متفرق متعضّل.

(٧) ٥ / البينة : ٩٨.

(٨) الديوان : ٦٧ ، وفيه : هم ...

(٩) ١١٠ / آل عمران : ٣.

(١٠) ٣ / البينة : ٩٨.

٤١٤

المنزلة ، فإنّ القرآن مجمع معاني كتبه القديمة. وإليه أشار بقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) أي من كتب الأوّلين وغيرها.

قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً)(٢) من صفة الكتاب ، وقيل : عوجا حال من الهاء في «له». ولنا فيه كلام أتقنّاه في غير هذا.

قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(٣) بناء مبالغة وزنه فيعول ، وأصله قيوم فقلبت الواو الأولى ياء لأجل الياء قبلها وأدغمت الياء الأولى فيها ، ومعناه القائم الحافظ لكلّ شيء والمعطى له ما به قوامه ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٤). وقرىء القيّام والقيّوم (٥) ، وذلك نحو ديّون وديّان ، وقال أبو عبيدة : القيّوم : القائم وهو الدائم الذي لا يزول ، وقيل : هو القائم بأمور الخلق ، يقال : فلان قائم بالأمر : أي حافظ له. وعندي أنه لا يجوز إطلاق هذه اللفظة على غير الباري تعالى لما فيها من المبالغة ، ولما ذكروا ذلك في الرحمن ونحوه.

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا)(٦) أي ثبتوا ووقفوا متحيّرين. وليس المراد القيام من قعود.

قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ)(٧) اسم غلب على يوم يبعث الله عباده لحسابهم لأنّ فيه يقومون لذلك ، وذلك إشارة إلى قوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨). وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ)(٩) نسب القيام للزمان والمراد أهلها. والساعة ـ أيضا ـ اسم ليوم

__________________

(١) ٣٨ / الأنعام : ٦.

(٢) ١ و ٢ / الكهف : ١٨.

(٣) ٢ / آل عمران : ٣.

(٤) ٥٠ / طه : ٢٠.

(٥) وفي الأصل : القيام والقيم.

(٦) ٢٠ / البقرة : ٢.

(٧) ١ / القيامة : ٧٥.

(٨) ٦ / المطففين : ٨٣.

(٩) ١٤ / الروم : ٣٠.

٤١٥

القيامة ؛ قال الراغب (١) : القيامة أصلها ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة ، أدخل فيها الهاء تنبيها على وقوعها دفعة.

قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٢) أي مكان قيامه ؛ يريد به المكان الذي كان يقوم عليه حين بنى الكعبة الشريفة ، منّ الله علينا برؤياها ثانيا وأكثر من ذلك بحجّة من شرّع حجّها. والمقام يكون اسم مكان القيام وزمانه ومصدره ، وأصله مقوم ، فأعل بالنقل والقلب.

قوله تعالى : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي)(٣) يجوز أن يكون مصدرا أي قيامي فيكم ودعوتي إلى الله ، وأن يكون زمانا أي زمن قيامي لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعهّد نصيحتهم ليلا ونهارا كما أخبر عنه تعالى بقوله : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً)(٤) وذلك ممّا يضجر الأشقياء ، فقال لهم ذلك ، وأن يكون مكانا لأنه كان يبرز نفسه الشريفة ويظهرها على مكان لا يخفى. فصلّ الله على سائر الأنبياء ما أقوى جأشهم وأرسخ قدمهم وأثبت صبرهم.

قوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ)(٥). قال الأخفش : إنّ المقام المقعد ، قال الراغب (٦) : فهذا إن / أراد أنّ المقام والمقعد شيء واحد بالذات ، فإنهما يختلفان بالنسبة إلى الفاعل كالحدور والصعود. وإن أراد أنّ معنى القيام معنى المقعد فذلك بعيد فإنه يسمّى المكان الواحد مرة مقاما إذا اعتبر بقيامه ، ومقعدا إذا اعتبر بقعوده.

وقيل : المقامة عبارة عن الجماعة الحاضرين عنده ، وأنشد (٧) : [من الطويل]

وفيهم مقامات حسان وجوههم

__________________

(١) المفردات : ٤١٧.

(٢) ١٢٥ / البقرة : ٢.

(٣) ٧١ / يونس : ١٠.

(٤) ٥ / نوح : ٧١.

(٥) ٣٩ / النمل : ٢٧.

(٦) المفردات : ٤١٨.

(٧) صدر لزهير وعجزه (الديوان : ٤٣) :

وأندية ينتابها القول والفعل

٤١٦

وهذا على سبيل المجاز أطلق للمحلّ على الحالّ ، ومثله قول مهلهل : [من الكامل]

نبئت أنّ النار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك يا كليب المجلس

وما أحسن قوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ)(١) فشتان ما بين النداءين والمناديين والمناديين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(٢) أي لزموا الطريق المستقيم ، وهو ما أمر الله به فامتثلوه وما نهى عنه فاجتنبوه ، وهو أمر شاقّ ، ولذلك يروى عن سيد الخلق أنه قال : «شيّبتني هود وأخواتها» (٣) قيل : أشار بذلك إلى قومه تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)(٤).

قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٥) يعني طريق الحقّ والدّين الحقّ ، وذلك على سبيل الاستعارة ؛ شبّه طريق الحقّ بدين مستقيم إذ لا عوج فيه ولا احديداب ولا حدوبة ، كذا دين الإسلام سهل مستقيم. وإليه أشار بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٦)(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)(٧). ووافق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السّمحاء» (٨). ولا يرى أشقّ من سلوك الطرق المعوجّة الجائرة عن القصد ، وكذلك الدين غير الحقّ لا يرى أثقل منه ولا أشقّ على النفس من اعتقاده ، وإنّما يتحمله من يتحمله لشقاوته.

قوله : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ)(٩) أي تحلّلوا ما حلّلت وتحرّموا ما حرّمت ، فذلك تقويمها وإقامتها ، فإنّ من ضيّع حدودها فقد أضاعها ولم يقم منآدها ، والمراد : توفّونها

__________________

(١) ١٧ و ١٨ / العلق : ٩٦.

(٢) ٣٠ / فصلت : ٤١.

(٣) الترمذي ، تفسير الواقعة.

(٤) ١١٢ / هود : ١١.

(٥) ٦ / الفاتحة : ١.

(٦) ٧٨ / الحج : ٢٢.

(٧) ١٨٥ / البقرة : ٢.

(٨) النهاية : ١ / ٤٥١ ، وفيه «السمحة».

(٩) ٦٨ / المائدة : ٥.

٤١٧

حقّها علما وعملا. قال بعضهم : لم يأمر الله تعالى بالصلاة حيثما أمر ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة ، تنبيها على أن المقصود بها توفية شروطها والإتيان بهيئاتها كاملة مستكملة الفرائض والسّنن لا الإتيان بهيئاتها. وكذلك سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)(١) أي وفّقني لتوفية شرائطها وآدابها كاملة. وقيل : قد يعبّر بالإقامة للصلاة عن الإقرار بوجودها كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) إلى قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ)(٢) أي أقرّوا بوجوبها. وقد يعبّر عن الإظهار لشعارها ، ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ)(٣) لأنّ المراد الأئمة.

قوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٤) المقام ـ بالضمّ ـ من أقام ، وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان والمفعول به ، والمراد به هنا مكان الإقامة ـ بالفتح من قام ـ وهو صالح لما تقدّم غير المفعول به. وقد قرىء : (لا مُقامَ لَكُمْ)(٥) بالوجهين ، وكذا (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ)(٦).

قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ)(٧) هي بمعنى الإقامة كقوله : (دارُ الْخُلْدِ)(٨) وقد يعبّر بالإقامة عن الدوام والاستقرار كقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٩) يعني دائم ولا ينقطع ، وإليه أشار بقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) أي مكان تدوم فيه إقامتهم.

قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(١٠) تقويم الشيء : تثقيفه ، وأشار

__________________

(١) ٤٠ / إبراهيم : ١٤.

(٢) ٥ / التوبة : ٩.

(٣) ٤١ / الحج : ٢٢.

(٤) ٦٦ / الفرقان : ٢٥.

(٥) ١٣ / الأحزاب : ٣٣. قال الفراء : قراءة العوام بفتح الميم إلا عبد الرحمن (وكذا حفص) فإنه ضم الميم ، وقال : فمن قال : «لا مقام» فكأنه أراد : لا موضع قيام ، ومن قرأ : «لا مقام» كأنه أراد : لا إقامة لكم (معاني القرآن : ٢ / ٣٣٦).

(٦) ٥١ / الدخان : ٤٤.

(٧) ٣٥ / فاطر : ٣٥.

(٨) ٢٨ / فصلت : ٤١.

(٩) ٢٧ / المائدة : ٥ ، وغيرها.

(١٠) ٤ / التين : ٩٥.

٤١٨

تعالى بذلك إلى ما عليه الإنسان دون سائر الحيوان من العقل والفهم وانتصاب القامة وتناول المأكولات والمشروبات بيديه واستيلائه على كلّ ما في هذا العالم والتصرف فيه.

وتقويم السّلعة : جعل قيمتها معادلة لها.

والقوم سمّوا بذلك لقيامهم بمهمات الأمور ، والأصل إطلاقهم على الرجال دون النساء. ولذلك أشار تعالى بقوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، وذكر سببه فقال : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)(١) فإن الهمّ لمعصّب برؤوس الرجال ، ولذلك قابل بينهما زهير بن أبي سلمى (٢) : [من الوافر]

وما أدري وسوف إخال أدري :

أقوم آل حصن أم نساء؟

وكذلك قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)(٣) ثم قال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ)(٤) إلا أنّه أكثر ما ورد في القرآن ، والمراد به الرجال والنساء جميعا.

قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ)(٥) أي متمسّكة بدينها ، وهم قوم آمنوا بموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنه حديث حكيم بن حزام : «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا أخرّ إلّا قائما» (٦) أي متمسكا بديني ، قاله المبرد. وقال أبو عبيد : معناه إلا ثابتا على الإسلام ، وقال عليه الصلاة والسّلام : «ما أفلح قوم قيّمتهم امرأة» (٧) أي سائسة أمرهم القائمة به. وفي حديث ابن عباس : «إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس به ، وإذا استقمت فبعت بنسيئة فلا خير فيه» (٨). قال أبو عبيد : استقمت بمعنى قوّمت وهي لغة أهل مكة ؛ يقولون : استقمت المتاع ، أي قوّمته. قال : ومعنى الحديث أن يدفع الرجل الثوب فيقوّمه بثلاثين ثمّ

__________________

(١) ٣٤ / النساء : ٤.

(٢) الديوان : ١٣٦.

(٣) ١١ / الحجرات : ٤٩.

(٤) تابع الآية السابقة.

(٥) ١١٣ / آل عمران : ٣.

(٦) النهاية : ٤ / ١٢٥.

(٧) النهاية : ٤ / ١٣٥ ، وذكره ابن الأثير بالياء ، وفيه : «قيمهم» ، ورواية اللسان مناسبة للنص.

(٨) النهاية : ٤ / ١٢٥.

٤١٩

يقول : بعه فإن زاد عليها فلك. فإن باعه بأكثر من الثلاثين فانتقد فهو جائز ويأخذ ما زاد ، وإن باعه بالنّسيئة بأكثر مما يبيعه بالنقد فالبيع مردود غير جائز (١).

ق وو :

قوله تعالى : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ)(٢) قيل : هي ولد الولد. ويروى أنّ رجلا شكا إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما ـ قلّة الولد ، فقال له : أكثر الاستغفار. ففعل فرزقهم. فقيل للحسن بن علي : من أين لك ذلك؟ فقال : من قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) إلى قوله : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ). وقيل : إنّ الله قد ضمن أن يعطي كلّ واحد منهم من أنواع القوى قدر ما يستحقّه.

والقوة تستعمل تارة في معنى القدرة ، نحو : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ)(٣) وقيل : بعزيمة وجدّ. قوله : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ)(٤) قيل : يعني به جبريل ، وهو الصحيح. وبلغ من قوته أن حمل سبع مدائن على ريشة من ريشه ثم قلبها. وجعله قويا عند ذي العرش تنبيها أنه إذا اعتبر بالملأ الأعلى فقوته إلى حدّ ما ، ولذلك أفرد القوة ونكّرها. وهذا بخلاف وصفه في موضع آخر بقوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)(٥) يقول : إنّ جبريل علّم

__________________

(١) جاء في هامش هذه المادة في النسخة ح (ورقة ٣٢٥): «فائدة :

يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام

نبتغي فرق المقام والمقام

والفرق بين المقام بفتح الميم والمقام بضمها هو أنه إذا قيل : أقيم الفلان ، أو قام الفلان مقام الفلان مثلا : نظر إلى الفلان الثاني إن كان المقام له يقال بالفتح سواء قرىء «أقيم» أو «قام». وإن كان المقام لغير الفلان الثاني في نفس الأمر. يقال : مقام بالضم سواء قرىء «أقيم» أو «قام» كالباء في حروف القسم لأنها أصل في القسم والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو. فإذا قيل التاء أقيم مقام الواو. يقال : المقام بضم الميم لأن المقام ليس للواو بل للباء. وإذا قيل الواو أقيم مقام الباء يقال المقام بفتح الميم ، لأن المقام للباء في نفس الأمر لأنها أصل في القسم. وعلى هذا ظهر فساد ما قيل إن الفعل إذا قرىء من الثلاثي يكون المقام بفتح الميم وإذا قرىء من المزيدات يكون بضم الميم. أبو السعود».

(٢) ٥٢ / هود : ١١.

(٣) ٦٣ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٤) ٢٠ / التكوير : ٨١.

(٥) ٥ / النجم : ٥٣.

٤٢٠