عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

فصل الفاء والواو

ف وت :

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)(١) أي لا يفوتون ما فزعوا منه. وأصل الفوت : البعد عن الشيء بحيث يتعذّر إدراكه ، وهو من فوت الريح أي بحيث لا تدركه الريح. وجعل الله فوت فمه : أي بحيث يراه ولا يصل إلى فمه. والافتيات : افتعال منه ، وهو أن يفعل الإنسان الشيء من دون أمر من حقّه أن يؤتمر.

قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(٢) [التفاوت : الاختلاف والتّباين في الأوصاف كأنه يفوّت](٣) وصف أحدهما الآخر أو وصف كلّ واحد منهما الآخر. وقرىء «تفوّت» بمعنى الأول (٤). ويقال : تفاوت تفاوتا ، وتفوّت تفوّتا : إذا اختلف. وفي الحديث : «إني أكره موت الفوات» (٥) أي موت الفجأة. وفيه : «أنّ رجلا تفوّت على أبيه في ماله» (٦) ومعناه أنه فات أباه على مال نفسه فبدره ورهنه دون إذنه.

ف وج :

قوله تعالى : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)(٧) الفوج : الجماعة من الناس وغيرهم ؛ فهو اسم جمع كقوم ورهط يجمع على أفواج ، قال تعالى : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)(٨) وقال الراغب (٩) : الفوج : الجماعة المارّة المسرعة.

__________________

(١) ٥١ / سبأ : ٣٤.

(٢) ٣ / الملك : ٦٧.

(٣) إضافة من النسخة : د.

(٤) قراءة ابن مسعود (معاني القرآن للفراء : ٣ / ١٧٠).

(٥) النهاية : ٣ / ٤٧٧ ، وفيه : «إِنِّي أَخافُ ..».

(٦) المصدر السابق.

(٧) ٥٩ / ص : ٣٨.

(٨) ٢ / النصر : ١١٠.

(٩) المفردات : ٣٨٦.

٣٠١

ف ور :

قوله تعالى : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا)(١) أي من وقتهم وساعتهم ، وحقيقته أن الفور مصدر فار يفور فورا : اشتدّ غليانه ، ويطلق على النار نفسها ، وفارت القدر وفار الغضب على التشبيه. وفلان يفور من الحمّى ، فإذا قيل : فعله من فوره فالمعنى في حال غليان الدم واشتداده. وقيل : من فورهم أي من ابتداء أمرهم ، وحقيقته ما ذكرته ، ومنه قول المتكلمين والفقهاء : الأمر يقتضي الفور والخيار في العيب والشّفعة على الفور ، كلّ ذلك يريدون به عدم التأخير.

وقوله : (وَهِيَ تَفُورُ)(٢) أي تغلي. والفوّارة ما ترمي به القدر عند فورانها ، وفوارة الماء على التشبيه بذلك.

ف وز :

قوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)(٣) ؛ النّجاة والتقصّي من الشيء. وقيل : الظفر بالخير مع حصول السلامة. والمفازة : الفلاة المهلكة. وإنّما سميت بذلك على سبيل التفاؤل. وقيل : سميت بذلك لأن سالكها إذا قطعها وصل إلى الفوز وهو النجاة ؛ فإنّ القفر كما يكون للهلاك فقد يكون سببا للفوز.

وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(٤) أي بمنجاة. وقيل : ببعد وهذا من طريق اللازم لأنهم إذا نجوا منه بعدوا عنه.

وفاز يفوز ، وفوّز يفوّز : إذا مات. قال بعضهم : سمّيت مفازة لأنّها مهلكة من قولهم : فوّز الرجل : إذا مات ؛ قال الراغب : فإن يكن فوّز بمعنى هلك صحيحا فذلك راجع إلى الفوز ، وتصوّر أنّ [من] مات فقد فاز ونجا من حبالة الدّنيا ؛ فالموت وإن كان من وجه هلكا

__________________

(١) ١٢٥ / آل عمران : ٣.

(٢) ٧ / الملك : ٦٧.

(٣) ٣٠ / الجاثية : ٤٥.

(٤) ١٨٨ / آل عمران : ٣.

٣٠٢

فمن وجه فوز ، ولذلك قيل : ما من أحد إلا والموت خير له ، هذا إذا اعتبر بحال الدنيا. فأمّا إذا اعتبر بحال الآخرة فما يصل إليه من النّعيم فهو الفوز الكبير. وقد أشار إلى ذلك بقوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ)(١).

وقوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً)(٢) يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون مكانا أي موضع فوز. وقوله : (حَدائِقَ وَأَعْناباً)(٣) تفسير لذلك الفوز أو مكان الفوز على المبالغة والمجاز. وقوله : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ)(٤) إلى قوله : (فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي يحرصون على أعراض الدنيا ويعدّون ما ينالونه من الغنيمة فوزا وليس كما زعموا ، وفي شعر صاحب سطيح (٥) : [من الرجز]

أم فاز فازلمّ به شأو العنن

وقيل : فاز بمعنى مات ، وقد تقدّم وجه مجازه. ويروى «فاد» وهو بمعنى مات أيضا ؛ يقال : فاد يفود أي مات ، وفاد يفيد أي تبختر.

ف وض :

قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ)(٦) أي أردّه إليه ؛ يقال : فوّض فلان أمره إلى فلان ، وأصله من قولهم : ما لهم فوضى بينهم أي غير متعيّن لواحد بعينه ، ومنه شركة المفاوضة ، وهي أن يتّفقا على أن يكون كسبهما بينهما ، وما يعرض من غرامة تكون عليهما.

ف وق :

قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(٧) أي ليس من عالم إلا وفوقه من هو أعلم

__________________

(١) ١٨٥ / آل عمران : ٣.

(٢) ٣١ / النبأ : ٧٨.

(٣) الآية بعدها.

(٤) ٧٣ / النساء : ٤.

(٥) كذا في اللسان ـ مادة فوز. وفي النهاية (٣ / ٤٧٨): «أم فاد ..».

(٦) ٤٤ / غافر : ٤٠.

(٧) ٧٦ / يوسف : ١٢.

٣٠٣

منه ، وهذه الصفة ليست لأحد إلا للباري تعالى ، وأمّا البشر فيتفاوتون فلا تجد أحدا يتقن شيئا إلا وفوقه في ذلك العلم من يفوقه فيه إلى أن ينتهي ذلك العلم إلى واحد مخصوص ، ففوق ذلك الواحد الباري تعالى.

وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)(١) فالفوقيّة هنا ليست حقيقتها مرادة ـ تعالى الله عن الجهة ـ وإنّما المراد أنّ قهره وسلطنه [وقدرته استعلت على عباده ؛ فهم تحت قهره وسلطنه](٢) لا يخرجون عن إرادته ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ولا خيرا ولا شرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

واعلم أنّ فوق من ظروف الأمكنة المقابل لتحت وتصرفه قليل جدا ، ويضاف فيعرّف ، ويقطع فيبنى كقبل ، ويكون ظرفا حقيقة ومجازا نحو : ثوبك فوقك ، ونعمته فوقك ، ولما ذكرته من المجاز قال بعضهم : فوق تستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة ، وذلك أضرب ؛ الأول : باعتبار العلوّ ، ويقابله تحت نحو قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)(٣) ولذلك قابله بقوله : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)(٤) والثاني : باعتبار الصّعود والحدور كقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)(٥). قلت : ولذلك قوبل هنا بأسفل دون تحت. الثالث : أن يقال في العدد ، أي باعتبار الزيادة ، كقوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ)(٦) أي زائدة على اثنتين. ولما رأى بعضهم أنّ حكم الثّنتين حكم حكم ما فوقهما في ذلك زعم أنّ فوق زائدة ، وجعل مثله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ)(٧). وقال : تقديره فاضربوا الأعناق ، وهذا وهم ، وتحقيقه في غير هذا /. الرابع : يقال في الكبير والصّغير كقوله تعالى : (بَعُوضَةً فَما

__________________

(١) ١٨ / الأنعام : ٦.

(٢) إضافة من النسخة د.

(٣) ٦٥ / الأنعام : ٦.

(٤) تابع الآية السابقة.

(٥) ١٠ / الأحزاب : ٣٣.

(٦) ١١ / النساء : ٤.

(٧) ١٢ / الأنفال : ٨.

٣٠٤

فَوْقَها)(١) قيل : معناه هو الظاهر فما فوقها في الكبر ، وذلك كضر به تعالى الأمثال بالعنكبوت والذّباب وغيرها مما هو أكبر جرما من البعوضة وبما هو دونها ، وأصغر جرما منها فما فوقها في الصّغر بهذا الاعتبار. وهذا المعنى هو الذي قصده بعضهم بتفسيره فوق بمعنى دون فقال : أراد فما دونها لكنه لم يلخص عبارته ولم يخلصها. قال بعض أهل اللغة : تصوّر بعض أهل اللغة أنه بمعنى أنّ فوق تستعمل بمعنى دون فأخرج ذلك من جملة ما صنّفه من الأضداد ، وهذا توهّم منه. الخامس : يقال باعتبار زيادة الفضيلة ، ثم هذه الفضيلة تكون دنيوية كقوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ)(٢) وأخروية كقوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣). السادس : باعتبار القهر والغلبة كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ). ومن فوق ، المراد الزيادة في الفضل ، اشتقّوا قولهم : فاق فلان فلانا : إذا زاد عليه فيما يشاركه فيه وعلاه من لفظ فوق اشتقّ فوق السّهم. وسهم أفوق : انكسر فوقه.

قوله تعالى : (ما لَها مِنْ فَواقٍ)(٤) قرىء بفتح الفاء وضمّها ؛ فقيل : لغتان ، ومعناه : ما لها من رجوع. وقيل : بينهما فرق. قال الفراء : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) يعني ـ بالفتح ـ ما لها من راحة (٥). والإفاقة ـ بالضم ـ ما بين حلبتي الناقة مشتقّ من الرجوع لرجوع اللبن إلى الضّرع بين الحلبتين. ومنه : أفاق المريض من مرضه والمجنون من جنونه ، وذلك إمّا لرجوع الصحة والعقل إليهما أو رجوعهما إلى الصحّة والعقل. وقال الأشتر لعليّ رضي الله عنه يوم صفين : «أنظرني فواق ناقة» (٦) أي قدر ما بين حلبتين. وقد ردّ بعضهم المعنيين إلى معنى واحد ؛ فقال : المعنى : ما لها من رجوع إلى راحة. وقال أبو عبيدة (٧) : من قرأ بالضمّ فهو من فواق الناقة. وقال غيره : هما واحد نحو : جمام وجمام. وقيل :

__________________

(١) ٢٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٣٢ / الزخرف : ٤٣.

(٣) ٢١٢ / البقرة : ٢.

(٤) ١٥ / ص : ٣٨.

(٥) معاني القرآن : ٢ / ٤٠٠. وقد قرأها بالفتح عاصم والحسن وأهل المدينة. وبالضم حمزة ويحيى والأعمش والكسائي.

(٦) النهاية : ٣ / ٤٧٩. وفي اللسان : الأسير ، وهو وهم.

(٧) قوله مذكور في المفردات : ٣٨٨.

٣٠٥

الإفاقة هي الرجوع ، فقولك : أفاق المريض والمجنون والسكران أي ثاب إليهم عقلهم وقوتهم بعد المرض والسكر والجنون.

والإفاقة ـ في الحلب : رجوع الدّرّ ، وكلّ درّة رجعت بعد الحلب تسمّى الفيقة ، ومنه حديث أمّ زرع : «وترويه الفيقة» (١) وقد اشتقّوا من ذلك : تفوّقت الشيء أي شربته. وفي حديث أبي موسى ، وقد ذكر القرآن العزيز : «وأمّا أنا فأتفوّقه تفوّق اللّقوح» (٢). يقول : أتدبّره وأتفهّمه شيئا فشيئا ولا أهدّه هدّا من غير تفهّم لمعناه ، وهذا شأن العلماء. ولذلك ذمّ الله اليهود حيث قال تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(٣). وقد ذكرنا في مقدمة التّفسير الكبير من ذلك جملة صالحة.

وقالوا : استفق ناقتك : أي اتركها ساعة بعد الحلب ، والمعنى حتى يفوق لبنها. وفوّق فصيلك : أي اسقه ساعة بعد أخرى. وظلّ فلان يتفوّق المحض : أي يشرب اللبن الخالص ، يقال ذلك لمن يتخيّر الأشياء ويصطفيها. وفي الحديث : «قسم غنائم بدر عن فواق» (٤) قيل : بقدر ما بين الحلبتين. وقيل : أراد التّفضيل كأنه جعل بعضهم أفوق من بعض. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : «فأمّرنا عثمان ولم نأل عن خيرنا ذا فوق» (٥) ولم يقل خيرنا سهما لأنه قد يقال له سهم ، وإن لم يصلح فوقه فهو سهم ، فإن لم يكن تاما فكأنه قال : خيرنا سهما تاما في الإسلام والسابقة والفضل.

ف وم :

قوله تعالى : (وَفُومِها)(٦) اختلف الناس في ذلك اختلافا كثيرا ؛ فقيل : هو الثّوم

__________________

(١) ذكره ابن الأثير بالياء وليس بالواو (النهاية : ٣ / ٤٨٦) وفيه : «وترويه فيقة اليعرة». ويرى أن الفيقة : اسم اللبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٨٠ ، يعني قراءة القرآن.

(٣) ٧٨ / البقرة : ٢.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٧٩. و «عن» ها هنا بمنزلتها في قولك : أعطيته عن رغبة وطيب نفس.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٨٠ ، أي ولّينا أعلانا سهما ذا فوق.

(٦) ٦١ / البقرة : ٢.

٣٠٦

المعهود بدلالة ذكره مع ما يناسبه من العدس والبصل. والفاء والثاء يتعاقبان في كثير نحو : جدث وجدف. وقيل : هو الحنطة ومنه : فوّموا لنا ، أي اختبزوا لنا الحنطة (١).

ف وه :

قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(٢) الأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل الأفواه والفويه ، وإنّما حذفت لامه وأبدلت واوه ميما حال قطعه عن الإضافة ، ولا تثبت ميمه إضافة إلا ضرورة عند بعضهم كقوله : [من الرجز]

يصبح ظمآن وفي البحر فمه

والاختيار جوازه لما ثبت في الصحيح ك «لخلوف فم الصائم» (٣) ولذا لا يجود عدم البدل ميما حال قطعه عن الإضافة إلا ضرورة كقوله (٤) : [من الرجز]

خالط من سلمى خياشيم وفا

يريد : وفاها. والذي حسّن ذلك كون الإضافة في قوة المنطوق بها. وقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(٥) كقوله : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ)(٦). والقول لا يكون إلا بالضم تنبيها على أنه قول صادر عن غير عقد ولا ربط بينه ، وإنما هو شيء يمرّ باللسان من غير عقد بالجنان ، وهذا أحسن من قول من قال : إنه تأكيد لقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٧).

__________________

(١) ويضيف اللسان : «قال بعضهم : الفوم : الحمص ، لغة شامية».

(٢) ١٦٧ / آل عمران : ٣.

(٣) النهاية : ٢ / ٦٧.

(٤) الرجز للعجاج ـ اللسان مادة فوه ، وبعده :

صهباء خرطوما عقارا قرقفا

(٥) ١٦٧ / آل عمران : ٣.

(٦) ٤ / الأحزاب : ٣٣.

(٧) ٣٨ / الأنعام : ٦.

٣٠٧

والفم إذا أضيف إلى غير ياء المتكلم كان من الأسماء المعروفة عند النحاة ، وفيه لغات كثيرة إذا كانت معه الميم ، وقد حقّقنا هذا في موضع أليق به من هذا.

وفوّهة البئر والزقاق بضمّ الفاء وتشديد الواو ومفتوحة الهاء ، والعامّة تقول : فوهة بفتح الفاء وسكون الواو وهو لحن ، وأمّا الفوهة بالضم والسكون فهي الكلمة. ومنه قولهم : إنّ ردّ الفوّهة لشديد (١).

فصل الفاء والياء

ف ي أ :

قوله تعالى : (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٢) أي ترجع ؛ يقال : فاء يفيء فيئا وفيوءا وفيئة أي رجع ، ومنه الفيء وهو الظلّ بعد الزوال خاصة ، والناس يطلقونه على مطلق الظلّ (٣) ، وخطّأهم يعقوب ذاهبا إلى أنه من الرجوع ولا رجوع إلا بعد زوال الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب (٤).

وقوله تعالى في المولين : (فَإِنْ فاؤُ)(٥) أي رجعوا إلى ما امتنعوا منه من الوطء. والفيء من الكفار ما أخذ منهم من غير إيجاف خيل ولا ركاب. والغنيمة عكسه.

قوله : (ما أَفاءَ اللهُ)(٦) أي ما ردّ الله. ونقل الراغب / عن بعضهم (٧) : وإنما سمي الفيء فيئا تشبيها بالفيء الذي هو الظلّ تنبيها أنّ أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظلّ زائل. وقد قيّد بعضهم الفيء بالرجوع إلى حالة محمودة ؛ فكلّ فيء رجوع ، وليس كلّ

__________________

(١) أي القالة.

(٢) ٩ / الحجرات : ٤٩.

(٣) ساقطة من ح وس.

(٤) بينما أحسن ابن السكيت تعريفه فقال : «الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس» (اللسان ـ مادة فيأ).

(٥) ٢٢٦ / البقرة : ٢.

(٦) ٧ / الحشر : ٥٩.

(٧) المفردات : ٣٨٩.

٣٠٨

رجوع فيئا. ويقال : يا زيد فىء ، نحو بع ، ويا هند فيئي ، نحو بيعي ، قال الشاعر : [من الطويل]

فقلت لها : فيئي لما يستفزّني

ذوات العيون والبنان المخضّب

وقد تقدّم أنّ بعضهم جعل الفئة بمعنى الجماعة من هذه المادة ، وذكرنا ذلك عند مادة ف أي فالتفت إليه.

وقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ)(١) أي تنتقل وترجع ، وذلك أنّ الظلّ يرجع على كلّ شيء من جوانبه.

ف ي ض :

قوله تعالى : (بِما تُفِيضُونَ فِيهِ)(٢) أي تتحدثون وتجولون ، وهو استعارة بديعة وذلك أنه مأخوذ من فاض الماء : إذا سال ، وأفضته أنا : أسلته فيضا. وأفاضوا في الحديث : أي خاضوا فيه ودخلوه دخولهم في الماء ، فهو كاستعارة الخوض سواء.

وحديث مستفاض على المجاز. وأفاض القداح أي أجالها. وقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)(٣) وقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)(٤) أي جئتم منها تشبيها لها بالفائض من مقرّه.

والفيض : الماء الكثير ، وفي المثل : أعطاه غيضا (٥) من فيض أي قليلا من كثير. وقولهم : رجل فيّاض أي سخيّ. والفيض : العطاء. ودرع مفاضة ، أي أفيضت على لابسها كقولهم : درع مسنونة أي سنّت عليه ، كقوله تعالى : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٦) أي مصبوب ، في أحد تأويلاته ، وقد تقدّم ذلك.

__________________

(١) ٤٨ / النحل : ١٦.

(٢) ٨ / الأحقاف : ٤٦.

(٣) ١٩٨ / البقرة : ٢.

(٤) الآية بعدها.

(٥) في الأصل : غيض.

(٦) ٢٦ / الحجر : ١٥ ، وغيرها.

٣٠٩

ف ي ل :

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)(١) هو هذا الحيوان المعروف ، وجمعه فيلة وفيول ، وله فهم عجيب يقرب من فهم الآدميّ ، وقصته مشهورة ، وقد ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس أربعين من قصة الفيل ؛ قيل : اسمه محمود وصاحبه أبرهة الأشرم. قالت عائشة رضي الله عنها : «رأيت سائس الفيل وقائده أعميين يشحذان بمكة» وقد ذكرنا قصة بطولها في التفسير.

ويقال : رجل فيل الرأي : أي ضعيفه (٢). والمفايلة : لعبة للعرب يخبئون الشيء في التراب ثم يجعلونه غرما ؛ فمن ظفر به فهو له (٣).

__________________

(١) ١ / الفيل : ١٠٥.

(٢) ويقول الراغب (ص ٣٨٩) : وفال الرأي.

(٣) جاء في خاتمة الفاء في النسخة المصوّرة د : «ويتلو هذا كتاب القاف إن شاء الله تعالى كان الفراغ من نقل هذا الجزء الثاني من العمدة ، من خط مؤلفها ـ تغمده الله برحمته ـ نهار الخميس أوائل شهر ذي العقدة من شهور سنة أربع وتسعين وتسع مئة على يد الفقير الحقير إبراهيم بن أحمد بن محمد الشهير بابن الملا الخالفي العباسي البكري الصديقي ... عفا الله تعالى عنهم آمين» وذلك في الورقة ١٦٨ / ٢.

٣١٠

باب القاف (١)

فصل القاف والباء

ق ب ح :

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٢) قيل : المبعدين. يقال : قبّحه الله أي أبعده. والقبح : الإبعاد ، قاله الهرويّ. وقبّح الله وجه فلان : أي أبعده من الخير. وفي الحديث : «لا تقبّحوا الوجه» (٣) أي لا تنسبوه إلى القبح لأنّ الله صوّره وقد أحسن كلّ شيء خلقه ، والظاهر أنه بمعنى لا تعيبوه. وفي حديث أمّ زرع : «وعنده أقول فلا أقبّح» (٤) أي لا يعاب قولي ولا يردّ لمعزّتي عنده. وقيل : لا يقال لي : قبّحك الله.

يقال : قبّحت فلانا بالتشديد أي قلت له : قبّحك الله. قال الهرويّ : تقول : جزيته الجزاء أي قلت له : جزاك الله خيرا. وقيل : القبح : التّنحية والإزالة ؛ يقال : قبحه الله عن الخير : أي نحّاه وأزاله ، وهذا عندي يرجع إلى معنى الإبعاد.

وقيل : القبيح : ما ينبو عنه البصر من الأعيان ، والنفس من الأعمال والأحوال. وقد قبح قباحة فهو قبيح. فقوله : (هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي الموسومين بحال منكرة ، وذلك إشارة إلى ما وصف الله تعالى به الكفار من الرّجاسة والنّجاسة إلى غير ذلك من الصفات الذّميمة ، وما وصفهم به من اسوداد الوجوه وزرقة العيون وسحبهم بالأغلال والسلاسل.

__________________

(١) دون إبراهيم بن أحمد الشهير بابن الملّا على الورقة الأولى من هذا الجزء : « ... تحريرا في أوائل ربيع الأول سنة سبع عشرة وألف. أثاب الله مؤلفه ثوابا جزيلا وأظله من رحمته وإيانا ظلا ظليلا» (النسخة د).

(٢) ٤٢ / القصص : ٢٨.

(٣) النهاية : ٤ / ٣.

(٤) المصدر السبابق.

٣١١

والقبيح ـ أيضا ـ : اسم للعظم الذي هو في الساعد ممّا يلي النّصف منه إلى المرفق ، يقال : قبح يقبح قبحا فهو قبيح. قال الشاعر (١) : [من الرجز]

قبّحت من سالفة ومن صدغ

ق ب ر :

قوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ)(٢) أي جعل له مكانا يقبر فيه ، نحو أسقيته : أي جعلت له ما يسقى منه. وقيل : معناه ألهمه كيف يدفن ، وذلك نحو بعثه الغراب باحثا ودافنا لآخر مثله ليعلّم بني آدم ذلك ، وسائر الحيوان غير الآدميّ يلقى على وجه الأرض.

يقال : قبرته أي دفنته في اللحد ، وأقبرته : أي جعلت له قبرا. والقبر : مستقرّ الميّت ومصدر قبرته أيضا. والمقبرة والمقبرة والمقبرة ، مثلثة العين : موضع القبور وجمعها مقابر ، كقوله تعالى : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ)(٣) ومعناه حتى أدرككم الموت وأنتم على حالة الغفلة.

وقيل : تفاخروا حتى ذكروا أسلافهم وصنائعهم وما كانوا عليه من فعل الميسر وإطعام المحتاج وفكّ العناة وغير ذلك.

قوله : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ)(٤) إشارة إلى البعث والنّشور ، وذلك بأن يقوم الناس من قبورهم فتبعثر قبورهم التي كانوا فيها ، كلّ منهم ينفض التراب عن رأسه. وقيل : ذلك كناية عن كشفه السرائر ، وذلك أنّ أحوال الناس ما داموا في الدنيا مستورة عليهم كأنها مقبورة ، فإذا بعثوا ظهرت المخبّآت وبانت الفضائح. نسأل الله الباعث الوارث أن يستر علينا في الآخرة ما ستر في الدنيا. وقيل : ذلك كناية عن إزالة الجهالة بالموت ، وكأنّ الكافر والجاهل ما داما في الدنيا مقبورين فإذا ماتا تيقّنا الحقّ وظهر لهما ما كان مستورا

__________________

(١) اللسان ـ مادة صدغ ، وعجزه :

كأنها كشية ضبّ في صقع

يريد : قبحت يا سالفة من سالفة وقبحت يا صدغ من صدغ.

(٢) ٢١ / عبس : ٨٠.

(٣) ٢ / التكاثر : ١٠٢.

(٤) ٩ / العاديات : ١٠٠.

٣١٢

عنهما. فجعل القبور كناية عن ذلك ، وذلك بحسب ما روي : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (١). وإلى هذا المعنى أشار تعالى بقوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٢) أي الذين هم في حكم الأموات. وفي حديث ابن عباس «أنّ الدجال ولد مقبورا» (٣) قال ثعلب : المعنى أنها وضعته وعليه جلدة مصمتة ليس فيها نقب. فقالت قابلته : هذه سلعة وليست ولدا. فقالت أمّه : بل فيها ولد ، فشقّوها ، فاستهلّ صارخا.

ق ب س :

قوله تعالى : (بِشِهابٍ قَبَسٍ)(٤) القبس : ما اقتبس من النار ، وهو أن يأخذ نارا في طرف عود أو خشبة أو نحوهما. يقال : اقتبس نارا يقتبسها اقتباسا. وتلك النار هي القبس وهي الجذوة أيضا. ويقال : قبسته نارا وأقبسته علما (٥) ففرّقوا بفعل وأفعل بين هذين المفعولين ؛ هذا نقل الهرويّ. ونقل الراغب أنه يقال أقبسته نارا وعلما أي أعطيته ، فسوّى بينهما.

والاقتباس : طلب ذلك ، وقد يستعار لطلب العلم والهداية ، قال تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)(٦). والقبيس : فحل سريع الإلقاح ، تشبيها بالنار لسرعته. وقرىء قوله تعالى : (بِشِهابٍ قَبَسٍ)(٧) بالتنوين والإضافة ؛ فعلى الأولى يكون القبس بدلا ، وعلى الثانية يكون إضافة بيان ، أو الشهاب قبس ، وغيره.

__________________

(١) المفردات : ٣٩٠. وهو من كلام الإمام علي ، وعزاه الشعراني في طبقاته لسهل التّستري (كشف الخفاء (٢ / ٣١٢) ، بينما أكده الترمذي للإمام.

(٢) ٢٢ / فاطر : ٣٥.

(٣) النهاية : ٤ / ٤ ، وكلام ثعلب مذكور فيه.

(٤) ٧ / النمل : ٢٧.

(٥) يريد : أعطيته.

(٦) ١٣ / الحديد : ٥٧.

(٧) نوّن عاصم وحمزة والكسائي والأعمش .. في الشهاب والقبس ، وأضافه أهل المدينة ، وهو بمنزلة قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٢٨٦).

٣١٣

ق ب ض :

قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ)(١). هذا عبارة عن كونه تعالى مالك الملك في وقت ليس لأحد فيه ملك ، وأنّ الأرض في حوزته وتحت قهره وسلطانه. كما يقال : قبضت الدار وأرض البلد الفلانية ، يعني أنني حزتها وملكتها وهي تحت سلطتي ولا قبض حقيقيا ، ثم من كونه متناولا بجميع اليد ، وذلك أنّ أصل القبض التناول بجميع الكفّ ، وبالصاد المهملة : بأطراف الأصابع ، وقد قرىء «قبضة» بالمعجمة والمهملة ؛ فالقبض وبالصاد المهملة : بأطراف الأصابع ، وقد قرىء «قبضة» بالمعجمة والمهملة ؛ فالقبض والقبص هنا حقيقة لأنه تناول الجزء من الأرض إمّا بكفّه جميعه وإما ببعضه (٢).

واستعير القبض لمنع المال والعطاء كقوله تعالى : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)(٣) أي يمنعون من الإنفاق. وقد يستعار القبض لتحصيل الشيء وإن لم يكن تناول ، نحو : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)(٤) أي نسخنا الشمس بالظلّ وجعلناه مكانها.

ويستعار ـ أيضا ـ للعدو تشبيها للعادي بالمتناول شيئا من الأرض.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ)(٥) أي يعطي هذا ويمنع هذا (٦) ، ويعطي تارة ويسلب أخرى ، أو يجمع مرة ويفرّق أخرى. ويكنّى بالموت عن القبض ، نحو : قبضه الله. ومن هذا النحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «ما من آدميّ إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن» (٧) أي الله قادر على التصرّف في أشرف جزء منه ، فكيف بباقي بدنه؟

والانقباض ضدّ الانبساط ، ويعبّر به عن حصول غمّ يقبض على قلب الإنسان استعارة ومجازا. ويعبّر بالقبص المهملة عن القلّة. والقبيص هو الشيء المقبوص. والقبوص :

__________________

(١) ٦٧ / الزمر : ٣٩.

(٢) جعل الراغب مادة (ق ب ص) بناء على هذه القراءة ، ولم يذكرها الفراء ولا ابن خالوية.

(٣) ٦٧ / التوبة : ٩.

(٤) ٤٦ / الفرقان : ٢٥.

(٥) ٢٤٥ / البقرة : ٢.

(٦) ساقطة من ح وس.

(٧) النهاية : ٣ / ٩ ، وفيه : «ليس آدمي ..».

٣١٤

الفرس الذي لا يمسّ في عدوه الأرض إلا بأطراف سنابكه تشبيها للمتناول للشيء بأطراف أصابعه كاستعارة القبض له في العدو.

ق ب ل :

قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(١) قبل : ظرف زمان يقتضي التقدّم ، ويقابل بعد. وقد تقدّم حكمهما في مادة (ب ع د) بالنسبة إلى الإعراب والبناء. وقيل : قبل يستعمل في التقدّم المنفصل ، ويضادّه بعد. وقبل وقبل ويضادّهما دبر ودبر ، هذا في الأصل ، وإن كان قد يتجوّز في كلّ واحد منهما. قال بعضهم : قبل تستعمل على أوجه : أحدها في المكان بحسب الإضافة فيقول الخارج من أصبهان إلى مكة : بغداد قبل الكوفة ، والخارج من مكة إليها : الكوفة قبل بغداد. الثاني في الزمان نحو : عبد الملك قبل المنصور. الثالث في المنزلة نحو : عبد الملك قبل الحجاج. الرابع في الترتيب الصّناعيّ نحو : تعلّم الهجاء قبل تعلم الخطّ.

والقبل والدّبر يستعملان كناية عن السّوأتين باعتبار استقبال الوجه واستدباره. القفا والإقبال : التوجه. نحو القبل كالاستقبال. والقابل : الذي يستقبل الدلو من اليد. والقابلة : التي تستقبل الولد عند خروجه من بطن أمّه.

وقبل الله توبة عبده وعذره وتقبّله بمعنى أنه اعتدله (٢) بما أتى به وبما اعتذر به. والتقبّل : قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا كالهديّة.

وقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(٣) تنبيه على أنه ليس كلّ عبادة متقبّلة ، بل إنما تتقبّل إذا كانت على وجه مخصوص. وقيل للكفالة قبالة فإنّ الكفالة هي أوكد تقبّل ، وباعتبار معنى الكفالة سمي العهد المكتوب قبالة.

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ)(٤) أي قبلها. وقيل : معناه تكفّل بها ،

__________________

(١) ٤ / الروم : ٣٠.

(٢) انفردت النسخة د بذكر الجار والمجرور.

(٣) ٢٧ / المائدة : ٥.

(٤) ٣٧ / آل عمران : ٣.

٣١٥

وقيل : معناه رضيها ؛ تقول : قبلت الشيء أي رضيته. وإنما قال : «تقبّلها» بلفظ الماضي دون المضارع ، قال الراغب : للجمع بين الأمرين.

التقبّل : هو الترقّي في القبول ، والقبول الذي يقتضي الرّضا والإثابة. وقيل : هو من قولهم : فلان عليه قبول : إذا أحبّه من رآه.

قوله : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً)(١) قرىء بضمّتين ، وهو جمع قبيل ، ولذلك قال مجاهد : معناه جماعة جماعة. وقال غيره : المعنى المقابلة ، أي لو حشرنا عليهم كلّ شيء فقابلهم مقابلة ، وقيل : هو جمع قبيل أيضا لكن بمعنى الكفيل ، والمعنى مقابل لحواسّهم. وقيل : قبلا بكسرة وفتحة ، ومعناه عيانا جهارا.

قوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)(٢) قال ابن عرفة : أي جميعا. وأنشد للسموءل ، وقيل لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي (٣) : [من الطويل]

معوّدة ألّا تسلّ نصالها

فتغمد حتى يستباح قبيل

وقال آخرون : معناه كفيلا ، أي يأتي بهم كفيلا بما يقول ويدّعي. وفعيل يستوي فيه الواحد والجمع حسبما قرّرناه في غير هذا الموضع.

قوله : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ)(٤). الشعوب في العجم كالقبائل في العرب وكالأسباط في بني إسرائيل ، وهو جمع قبيل ، والقبيلة : الجماعة المجتمعة التي يقبل بعضها على بعض ، وفي المثل : «فلان لا يعرف القبيل من الدّبير» (٥) أي ما أقبلت به المرأة من غزلها وما أدبرت به. والمقابلة والتقابل أن يقبل بعضهم على بعض إمّا بالذات وإما بالعناية

__________________

(١) ١١١ / الأنعام : ٦. وقرأها نافع وابن عامر وأبو جعفر بفتحتين كان معناها : معاينة (معاني القرآن للفراء : ١ / ٣٥١).

(٢) ٩٢ / الإسراء : ١٧.

(٣) البيت مذكور في ديوان السموءل من قصيدته «إن الكرام قليل» : ٩٢. قبيل : الجماعة من آباء شتى.

(٤) ١٣ / الحجرات : ٤٩.

(٥) لم نعثر على المثل في المظانّ ، وهو في اللسان ـ مادة دبر.

٣١٦

والتوفّر ، ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ)(١) ، في الحديث : «لا يرى أحد ظهر آخر».

قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ)(٢). قبل الرجل : مكانه وجهته حقيقة أو مجازا نحو عند ؛ فإنّ العنديّة تكون حقيقية ومجازية. ويقال : لي في قبل فلان حقّ ، أي عنده ، ويستعار ذلك للقوة / والقدرة والطاقة على المقابلة أي المجازاة كقوله تعالى : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها)(٣) أي لا طاقة لهم على استقبالها ودفاعها. وقوله تعالى : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ)(٤) أي ومن في جهته ، ولذلك قال المفسرون وأتباعه.

قوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ)(٥) أي جماعته وجنده ، وقال الأزهريّ : القبيل : الجماعة ليسوا من أب واحد ، وجمعه قبل ، فإذا كانوا من أب واحد فهم قبيلة. وقد سوّى ابن عرفة بينهما فقال : يقال : قبيلة وقبيل.

قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها)(٦) يريد الكعبة. وأصل القبلة الجهة ؛ سميت بذلك لأنّها تقابل المصلّى ويقابلها ، ومنه : أين قبلتك؟ أي جهتك. وقيل : القبلة في الأصل : اسم للحالة التي عليها المقابل نحو الجلسة والقعدة ، وفي التعارف صار اسما للمكان المقابل المتوجّه إليه للصلاة.

والقبول : ريح الصّبا ، وإنّما سميت بذلك لاستقبالها القبلة. وشاة مقابلة : قطع من قبل أذنها ؛ وفي الحديث : «نهى أن يضحّى بشرقاء أو خرقاء أو مقابلة» (٧). قال الأصمعيّ : هي أن يقطع طرف أذنها ويترك معلّقا من غير بينونة كأنه زنمة. وقبال النّعل : زمامها. وقد قابلتها : جعلت لها قبالا ، والقبال ـ أيضا ـ الناصية ، وفي حديث الدجّال : «أنه رأى دابّة

__________________

(١) ١٦ / الواقعة : ٥٦.

(٢) ٣٦ / المعارج : ٧٠. مهطعين : مسرعين.

(٣) ٣٧ / النمل : ٢٧.

(٤) ٩ / الحاقة : ٦٩.

(٥) ٢٧ / الأعراف : ٧.

(٦) ١٤٤ / البقرة : ٢.

(٧) النهاية : ٤ / ٨ ، مختصرا.

٣١٧

يواريها شعرها فقال : ما أنت؟ قالت : أنا الجسّاسة أهدب القبال» (١) تريد كثرة الشعر في ناصيتها. وقبال كلّ شيء وقبله : ما يستقبلك منه ، وفي الحديث : «من أشراط الساعة أن يرى الهلال قبلا» (٢) أي معاينة. والقبل ـ أيضا ـ : الفحج. والقبلة : خرزة يزعم الساحر أنّها تقبل بالإنسان على وجه الآخر. ومنه القبلة ، وجمعها قبل وفي الحديث : «من قبلة الرجل امرأته الوضوء» (٣) أي من تقبيله إياها. وتكلّم فلان قبلا ، أي لم يستعدّ له لأنه ... (٤) وارتجله. وفي الحديث : «رأيت عقيلا يقبل غرب زمزم» (٥) أي يستقبلها.

فصل القاف والتاء

ق ت ر :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا)(٦) أي لم يضيّقوا. والقتر : التضييق ؛ يقال : قترت الشيء وأقترته وقتّرته أي ضيّقت الإنفاق فيه. ورجل قتور ومقتر. وقتور صيغة مبالغة ؛ قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)(٧) وفيه تنبيه على ما جبل عليه الإنسان من البخل ، وعليه قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ)(٨).

قوله تعالى : (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)(٩) أي وعلى الفقير الذي ضيّق عليه رزقه كقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)(١٠) قيل : وأصل ذلك من القتار ، وهو الدّخان من الشّواء والعود ، فكأنّ المقتر والمقتّر هو المتناول من الشيء قتاره.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٨ و ١ / ٢٧٢ ، والحديث لتميم الداري.

(٢) النهاية : ٤ / ٨.

(٣) الموطأ ، الطهارة : ٦٥.

(٤) بياض في الأصل ، وكلمة غير واضحة في د ، ولعلها ـ كما يبدو من الرسم ـ استأنفه.

(٥) النهاية : ٤ / ٩.

(٦) ٦٧ / الفرقان : ٢٥.

(٧) ١٠٠ / الإسراء : ١٧.

(٨) ١٢٨ / النساء : ٤.

(٩) ٢٣٦ / البقرة : ٢.

(١٠) ٧ / الطلاق : ٦٥.

٣١٨

قوله تعالى : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ)(١) أي دخان يغشى وجوههم ، وذلك إشارة إلى ما يرسله الله تعالى عليهم من اسوداد الوجوه وزرقة العيون ، كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ)(٢) ليعرفوا من الموفّق ، نسأل الله العظيم مالك أمر ذلك اليوم أن يبيّض وجوهنا وصحائفنا.

والقترة : ناموس الصائد الحافظ لقتار الإنسان أي الريح ، لأنّ الصائد يجتهد في إخفاء ريحه عن الّصيد لئلّا ينفر ويندّ. ورجل قاتر : ضعيف ، كأنه لخفّته من ضعفه صار بمنزلة القتار كقولك هو هباء.

وابن قترة : نوع من الحيّات ، سمي بذلك لخفته وسرعة وثوبه. والقتير : رؤوس مسامير الدرع. ويقال : قتر يقتر ويقتر بالكسر والضم وقرىء بهما (٣). وكان بنو عبد الملك يحسدون عمر بن عبد العزيز على كلامه ، فجاء يوما وبنو عبد الملك عنده فسأله عن حاله ، فقال : كالحسنة بين السيئتين ، يشير إلى قوله : (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً). وفي الحديث : «أنّ أبا طلحة كان يرمي والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتّر بين يديه النصال» (٤) أي يسوّيها.

والإقتار : سهام صغار ، والقتر : نصال الأهداف. وقيل : يجمّع له الحصى والتراب يجعله قترا (٥). وفي الحديث : «تعوّذوا بالله من قترة وما ولد» (٦) يعني من إبليس ، وقترة لقب له كأنه لقّب باسم الحية الخبيثة.

والقتير : الشّيب ، وفي الحديث : «قال : قد رأت القتير. قال : دعها» (٧) قال الشاعر : [من الكامل]

__________________

(١) ٤١ / عبس : ٨٠.

(٢) ١٠٦ / آل عمران : ٣. وأهل الموقف : الحشر.

(٣) قرأ أبو عبد الرحمن وعاصم «يقتروا» وقرأ الحسن «يقتروا» ومثله ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٢٧٢ وانظر الإتحاف فيه).

(٤) النهاية : ٤ / ١١. من التقتير وهو المقاربة بين الشيئين وإدناء أحدهما من الآخر :

(٥) هو كلام الهروي.

(٦) النهاية : ٤ / ١٢.

(٧) المصدر السابق.

٣١٩

شاب المفارق واكتسين قتيرا

وذلك على التشبيه بالاشتعال من الدخان ونحوه ، وقد ذكر ذلك في لسانهم.

ق ت ل :

قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١) أصل القتل إزالة الروح كالموت. قال الراغب (٢) : لكن اعتبر بفعل المتولّي لذلك يقال له قتل. وإذا اعتبر بفوات الحياة يقال له موت. ومعنى قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ليقتل بعضكم بعضا ؛ ولذلك روي في القصة أنّه أمر من لم يعص أن يقتل من عصى فبقي القاتل يرى أباه وأخاه فلا يقدم عليه. فأرسل الله عليهم ضبابا منعهم من رؤية بعضهم بعضا حتى كادوا يفنون. وقيل : بل كلّ واحد أمر بقتل نفسه بيده ، والظاهر الأول كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٣). والثاني أبلغ في المعنى. وقيل : المعنى فاقتلوها بإماطة الشهوات ، وهذا يشبه تفسير بعض أهل التصوّف وليس بظاهر ، إذ تردّه القصص والآثار.

قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)(٤). قيل : معناه ما علموا صلبه علما يقينا على الاستعارة من قولهم : قتلته علما وخبرة. وقتلت فلانا (٥) ، وقتّلته أي ذلّلته أي صيّرته بمنزلة القتيل. وقيل : المعنى وما قتلوا عيسى قتل يقين ، بل هو ظنّ وشبهة لقوله : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(٦). وقوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)(٧) ، (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)(٨) لفظه خبر ومعناه

__________________

(١) ٥٤ / البقرة : ٢.

(٢) المفردات : ٣٩٣.

(٣) ٦١ / النور : ٢٤.

(٤) ١٥٧ / النساء : ٤.

(٥) بياض في ح وس ، ومذكورة في د.

(٦) من الآية السابقة.

(٧) ١٠ / الذاريات : ٥١. والمعنى : لعن وقبّح الكذابون.

(٨) ١٧ / عبس : ٨٠.

٣٢٠