الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]
المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥
يحتملهما. وجمع الفتاة فتيات كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ)(١).
ويعبّر بالفتى والفتاة عن العبد والأمة ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ). قيل : مماليكه وخدمه ، وقيل : فتياتكم أي إمائكم. وفي الحديث : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن فتاي وفتاتي» (٢).
قوله تعالى : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ)(٣). سمّوه بذلك لزعمهم أنّها مالكته ، ويحتمل أن يكون الأمر كذلك بتمليك زوجها إياه لها.
قوله تعالى : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ)(٤) الإفتاء : جواب السائل عمّا يشكل عليه ، ومنه المفتي لأنه يزيل إشكال المسائل ويوضح الأحكام. وقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ)(٥) أي اسألهم سؤال مستفت ، يريد بذلك الزيادة في توبيخهم.
والفتيا والفتوى بمعنى الإفتاء. وجمع الفتيا فتى بزنة فعى على وزن جمع عليا ودنيا. وجمع الفتوى الفتاوى بفتح الواو ، والواو عن ياء ؛ لأنّ لام فعلى الاسم إذا كانت صفة ياء قلبت واوا ، ولام فعلى الصفة تسلم نحو : صديا وحريا وطغيا. وفعلى ـ بالضم ـ الصفة ممّا لا واو تقلب ياء ، يقال : دنيا وعليا ، والأصل : دنوا وعلوا من الدنوّ والعلوّ. ولتحقيق هذا مقام آخر.
والمفتي : مكيال بعينه ؛ يقال : إنّه مكيال هشام بن هبيرة العمريّ. وفي الحديث أنّ امرأة سألت أمّ سلمة أن تريها الإناء الذي كان يتوضأ منه عليه الصلاة والسّلام فأخرجته ، قالت : فقلت : هذا مكّوك المفتي (٦). روى شمر عن أبي حاتم ، عن الأصمعيّ قال
__________________
(١) ٣٣ / النور : ٢٤.
(٢) النهاية : ٣ / ٤١١ ، كأنه كره ذكر العبودية لغير الله تعالى. وفي رواية : «لا يقولنّ ...».
(٣) ٣٠ / يوسف : ١٢.
(٤) ٤٦ / يوسف : ١٢.
(٥) ١١ / الصافات : ٣٧. وغيرها.
(٦) النهاية : ٣ / ٤١١ ، والحديث طويل.
المفتي : مكيال هشام ابن هبيرة العمريّ مكيال اللبن (١). وقال ابن الأعرابيّ : المفتي : قدح الشّطّار. وقد أفتى الرجل : إذا شرب به فهو مفت.
وتفاتوا : تخاصموا ، ومنه الحديث : «أنّ قوما تفاتوا إليه» (٢). وقال الطرمّاح (٣) : [من الوافر]
أنخ بفناء أشدق من عديّ |
|
ومن جرم وهم أهل التفاتي |
التّفاتي : مصدر تفاتى يتفاتى ، نحو : توانى يتوانى توانيا. والأصل تفاتيا بضمّ التاء ، وإنما كسرت لتصحّ اللام ، يدلّ على ذلك أنه مصدر تفاعل على تفاعل نحو : تقاتل تقاتلا.
فصل الفاء والجيم
ف ج ج :
قوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٤). الفجاج : جمع فجّ وهو الطريق الواسع. وقيل : الفجّ كلّ شقّة يكتنفها جبلان. وقوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٥) أي من كلّ طريق ومن كلّ واد غامض ، وهو أبلغ أي لم تخف دعوتك على أحد من أهل السهل والجبل ، والمادة دالة على السعة ، ومنه الحديث : «فتفاجّت عليه» (٦) يعني الناقة ـ فرّجت رجليها للحالب. وفي حديث آخر يصف جملا : «أزهر متفاجّ» (٧) يريد : يفتح ما بين رجليه ليبول ، وكنّى بذلك عن كونه في رعي وشرب ، وذلك أنّه إذا كان يرعى ويشرب
__________________
(١) والمدّ : الهشامي.
(٢) النهاية : ٣ / ٤١١ ، وفيه : «أن أربعة ...».
(٣) البيت من شواهد اللسان ـ مادة فتا. أهل التفاتي : أهل التحاكم وأهل الإفتاء.
(٤) ٢٠ / نوح : ٧١.
(٥) ٢٧ / الحج : ٢٢.
(٦) النهاية : ٣ / ٤١٢ ، وهو حديث أم معبد.
(٧) النهاية : ٣ / ٤١٣.
كثر منه البول ، وفي حديث آخر : «فركبت الفحل فتفاجّ» (١). وفي حديث آخر : «كان إذا بال تفاجّ» (٢) أي بالغ في تباعد ما بين رجليه تحرّزا من البول واستبراء منه. وقد أفجّ بين رجليه أي باعد بينهما وجعل بينهما فجاجا على الاستعارة.
قيل : والفجج : تباعد الركبتين ، وهو أفجّ من الفحج ـ بالحاء المهملة قبل الجيم ـ (٣) وجرح فجّ : لم ينضج بعد ، وفي الحديث : «إنّ هذا الفجفاج لا يدري ما الله» (٤) قيل : هو المهذار ، وروي البجباج بالموحدة ، وهو بمعنى الأول.
ف ج ر :
قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ)(٥) أي أنه يسوّف بالتوبة ، والمعنى : يريد الحياة ليتعاطى الفجور فيها. وقيل : معناه يذنب ويقول : غدا أتوب ، ثم لا يفعل ؛ لبذله عهدا لا يفي به ، ومنه سمي الكاذب فاجرا لأنه (٦) بعض الفجور. وأصل الفجور شقّ ستر الديانة والحياء ، وذلك أنّ المادة تدلّ على شقّ الشيء وتوسعته ، ومنه الفجر لأنه يشقّ الليل شقا واسعا. والفجر فجران : كاذب وصادق ؛ فالأول كذنب السّرحان يظهر ثم يخبو. والثاني هو الذي يعترض في الأفق ثم يمضي متزايدا ضوؤه ، وهو الذي تناط به أحكام الصوم والصلاة وغير ذلك.
قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً)(٧) أي شققناها شقوقا واسعة تنبع منها المياه ، ومنه قوله تعالى : (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً)(٨). ويقال : فجرت الشيء مخففا ومثقلا ، وبهما قرىء قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٩).
__________________
(١) النهاية : ٣ / ٤١٣. وهو لعبادة المزني.
(٢) المصدر السابق.
(٣) الفجج والفحج (بالجيم والحاء) واحد ، وانظر تفصيلهما في اللسان ـ مادة فجج وفحج.
(٤) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، والحديث لعثمان. ويروى «أين الله».
(٥) ٥ / القيامة : ٧٥.
(٦) يعود الضمير على الكذب.
(٧) ١٢ / القمر : ٥٤.
(٨) ٩١ / الإسراء : ١٧.
(٩) ٩٠ / الإسراء : ١٧.
وفجر الرجل يفجر فجورا فهو فاجر ، والجمع فجّار وفجرة. وقال تعالى : في موضع : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(١) وفي آخر : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٢) وذلك لما فيه من شقّ ستر الديانة ـ كما قدمت تحقيقه ـ. وقيل : أصل الفجور الميل عن القصد. وقال بعضهم في قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي يكّذب بيوم القيامة الذي سيأتي ، فهو أمامه ، والكاذب فاجر. فالمعنى يكذب بما أمامه من الحساب وغير ذلك ، وأنشد بعضهم قول بعض الأعراب (٣) : [من الوافر]
أقسم بالله أبو حفص عمر |
|
ما مسّها من نقب ولا دبر |
فاغفر اللهمّ إن كان فجر |
أي مال عن الحقّ. وسمّي تفجّر الأنهار بذلك لأنّ فيه ميلا عن أحد الجانبين إلى (٤) الآخر.
قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ)(٥) قرىء مخففا ومثقلا (٦). وقيل : فجّر بعضها إلى بعض حتى تذهب مياهها ، وقيل : تفجّر العذب في الملح فتختلطان ، وذلك هو خراب الدنيا وهلاك ما عليها من حيوان ونبات وشجر لعدم قوامهم لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٧) وفي دعاء القنوت : «ونخلع ونترك من يفجرك» (٨) أي من يعصيك ويكذب بوعدك ووعيدك ، وقيل ؛ من يتباعد عنك. وقيل ؛ من يخالفك. وهي معان متقاربة.
وأيام الفجار : وقائع اشتدّت بين العرب ، وفي الحديث : «كنت يوم الفجار أنبّل على
__________________
(١) ٧ / المطففين : ٨٣.
(٢) ٤٢ / عبس : ٨٠.
(٣) اللسان ـ مادة فجر ، والنهاية : ٣ / ٤١٣.
(٤) في النسختين : عن ، والتصويب من النسخة د.
(٥) ٣ / الانفطار : ٨٢.
(٦) بالتخفيف قراءة الربيع بن خثيم الثوري ، وبتخفيف الفتح قراءة مجاهد (مختصر الشواذ : ١٧٠).
(٧) ٣٠ / الأنبياء :
(٨) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، وفيه دعاء الوتر. القنوت : الخشوع والإقرار بالعبودية. والقنوت : الإمساك عن الكلام في الصلاة ، والدعاء (اللسان ـ قنت).
عمومتي» (١) أي أناولهم النبل ، وهي ثلاثة أفجرة كانت بين قريش وقيس (٢) ، وسمي ذلك فجارا لأنهم تحاربوا في الأشهر الحرم ، فهذا من أشدّ الفجور.
قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)(٣) أي تنبّعت وتشقّقت مجاريها ، وهذه معجزة ظاهرة في انفجار هذه الأعين من حجر يحمل في مخلاة على عاتق صاحبه كقدر رأس الإنسان ، يشرب منه اثنا عشر سبطا لا يعلم عددهم إلا خالقهم أو من قدّره على ذلك. وكان ذلك بحسب إرادتهم. قال بعضهم : هذا برّه بمن عصاه فكيف بمن أطاعه؟
ف ج و :
قوله تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)(٤) أي ناحية متسعة من الكهف. والفجوة : المتّسع من الأرض بين جبلين أو تلّين أو نحوهما ، ومنه : قوس فجاء وفجواء : بان وترها عن كبدها. ورجل أفجى : بيّن الفجاء ، أي متباعد ما بين العرقوبين لأنّ بينهما فجوة ـ كما تقدّم في الفجج ـ وجمعها فجوات. قال الراغب : والفجاء ، وهذا غير مقيس. وفي الحديث : «فإذا رأى فجوة نصّ ـ أي سعة من الأرض ـ أسرع في سيره بعد العنق» (٥) وهما ضربان من السّير. وفي حديث عبد الله : «لا يصلّينّ أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة» (٦) يريد [ليصل](٧) ملتصقا بما أمامه ، ومنه الحديث : «إذا صلّى أحدكم إلى شيء فليرهقه» (٨) أي ليغشه ، كلّ ذلك حذرا من المرور بين يديه.
__________________
(١) النهاية : ٣ / ٤١٤.
(٢) كانت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان في الجاهلية.
(٣) ٦٠ / البقرة : ٢.
(٤) ١٧ / الكهف : ١٨.
(٥) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، وفيه تقديم وتأخير.
(٦) المصدر السابق ، يعني عبد الله بن مسعود.
(٧) إضافة من النسخة د.
(٨) النهاية : ٢ / ٢٨٣.
فصل الفاء والحاء
ف ح ش :
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)(١) الفحشاء : ما تزايد فحشه واشتدّ نكره ، والفاحشة كذلك ، قال ابن عرفة في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ)(٢) هي كلّ ما نهى الله عنه. والفواحش عند العرب كلّ ما قبح ، ومنه مكان فاحش ، وقد تفحّش وتفاحش ، ومنه قول الأنصاريّ للأحوص : [من الكامل]
هل عيشنا بك في زمانك راجع |
|
فلقد تفحّش بعدك المتعلّل |
قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ)(٣) قيل : الزّنا ، وقيل : اللواطة والبذاءة على الزوج أو على أحمائها.
والفاحش : البخيل ، والفاحشة : البخل ، وأنشد لطرفة (٤) : [من الطويل]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي |
|
عقيلة مال الفاحش المتشدّد |
وذلك أنّ البخل من أفحش الفحش كقوله عليه الصلاة والسّلام : «وأيّ داء أدوى من البخل» (٥). والفحش والتفحّش من ذلك.
والمتفحّش : الآتي بالفحشاء. وسمع النبيّ صلىاللهعليهوسلم عائشة تقول لليهود : «وعليكم السّأم واللّعنة والإفن والذأم. فقال لها : لا تقولي ذلك ، فإنّ الله لا يحبّ الفحش والمتفاحش» (٦). قال الهرويّ : أراد بالفحش عدوان الجواب لا الفحش الذي هو من قذع
__________________
(١) ٢٨ / الأعراف : ٧.
(٢) ٣٣ / الأعراف : ٧.
(٣) ١٩ / النساء : ٤.
(٤) من معلقته ، الديوان : ٤٥.
(٥) النهاية : ٢ / ١٤٢ ، أي أيّ عيب أقبح منه.
(٦) النهاية : ٢ / ٣٢٨ ، وروي مخففا : ٢ / ٤٢٦.
الكلام لأنه لم يكن منها إليهم فحش ، وقال غيره : إنه نهاها عن ردّ الجواب وإن كان مثلما (١) قالوا تكرّما. فأمّا إذا قالته فلا يردّ عليه.
والفحش ـ أيضا ـ الزيادة على ما يتعارفه الناس حتى يخرج إلى حدّ الإنكار كطول القامة وكبر الوجه المفرطين ، ومنه قول امرىء القيس (٢) : [من الطويل]
وجيد كجيد الرّثم ليس بفاحش |
|
إذا هي نضّته ولا بمعطّل |
أي ليس بطويل طولا زائدا عن عادة الاستحسان في نظائره ، والحاصل أنّ كلّ ما تزايد قبحه فهو فاحش وإن خصّه العرف بأخصّ من ذلك.
فصل الفاء والخاء
ف خ ر :
قوله تعالى : (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ)(٣) التفاخر : المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ، ولذلك قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).
قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٤) أي كثير الخيلاء والفخر ، ففخور مثال مبالغة كفخير. وفخرت فلانا على فلان أفخره فخرا ، أي حكمت (٥) عليه بفضل.
والفاخر : الشيء النفيس الذي يضنّ به ، يقال : ثوب فاخر ، وناقة فخور : إذا عظم ضرعها وكثر درّها. ونخلة فاخرة : طيبة البسر والتّمر.
قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ)(٦). الفخار ما شوي من الطين بالنار.
__________________
(١) في الأصل : مثل قالوا.
(٢) من معلقته : ٣٤. الرئم : الأبيض من الظباء. نصته : رفعته.
(٣) ٢٠ / الحديد : ٥٧.
(٤) ١٨ / لقمان : ٣١.
(٥) في الأصل : أفخرت ، ولعلها كما ذكرنا.
(٦) ١٤ / الرحمن : ٥٥.
وقيل : كلّ مصوّت من ذلك كأنه (صوّر) (١) بصورة من يكثر التفاخر.
فصل الفاء والدال
ف د ي :
قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ)(٢). الفداء والفدى ـ بالمدّ والقصر ـ بذل شيء في مقابلة نفس الإنسان من مال أو أسير آخر ، وقرىء : «تفدوهم» و «تفادوهم» في المتواتر فقيل : هما بمعنى ؛ يقال : فداه وفاداه. وقيل : فداه إذا بذل في مقابلته مالا ، وفاداه : إذا بذل في مقابلته أسيرا آخر كأنّهم راعوا المفاعلة ؛ فمن المدّ قول حسان رضي الله عنه (٣) : [من الوافر]
أتهجوه ولست له بكفء |
|
فشرّكما لخيركما الفداء |
ومن القصر قول الآخر (٤) : [من الوافر]
فدى لك من أخي ثقة إزاري
والحقّ أنّ فدى ـ بالقصر ـ مصدر فدى الثلاثي ، وبالمدّ مصدر فادى ، نحو قاتل قتالا.
قوله : (لَافْتَدَوْا بِهِ)(٥) أي افتعلوا الفداء عن أنفسهم. وتفادى فلان من فلان : إذا تحامى منه بشيء يبذله. وفديته بنفسي : أي جعلتها دونه ، قال الشاعر (٦) : [من الوافر]
__________________
(١) إضافة من د.
(٢) ٨٥ / البقرة : ٢.
(٣) ديوان حسان : ١ / ١٨ ، من قصيدة قالها يوم فتح مكة.
(٤) الشطر لجعدة بن عبد الله السلمي كما في اللسان ـ مادة أزر.
(٥) ١٨ / الرعد : ١٣ ، وغيرها.
(٦) قال المبرد : قائله مجهول ، يخاطب به النبي صلىاللهعليهوسلم كما في شرح شواهد المغني : ٢ / ٥٩٧ ، وأمالي ابن الشجري : ١ / ٣٣٨ ، والخزانة : ٣ / ٦٢٩.
محمد تفد نفسك كلّ نفس |
|
إذا ما خفت من شيء تبالا |
قوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ)(١). الفدية ما يفدي الإنسان به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها ، وهي الكفّارة بعينها.
فصل الفاء والراء
ف ر ت :
قوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً)(٢) أي حلوا بليغا في العذوبة ، من فرت الشيء أي شقّه ، فكأنه فرت العطش ، والتاء فيه أصلية يوقف عليها تاء ، وفيه لغية أنها يوقف عليها بالهاء ، وهو شاذّ. والفرات يقع على الواحد والجمع ، يقال : ماء فرات ، ومياه فرات. وقالوا : كلّ ماء عذب فهو فرات ، وكلّ ماء ملح فهو بحر ، وأنشدني بعضهم وقد رثى بعض الفضلاء من قصيدة لغيره : [من الوافر]
فلا والله ما أنفكّ أبكي |
|
إلى أن نلتقي شعثا عراتا |
أألحى أن نزحت أجاج عيني |
|
على جدث حوى الماء الفراتا؟ |
وهو حسن بديع ، وفي البيت الأول شذوذ غريب وهو إبدال تاء التأنيث ألفا ، والمشهور قلبها هاء بذهاب التنوين ، وهذا لغة لبعضهم سمع منهم : أكلت تمرتا ، يريد تمرة.
ف ر ث :
قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)(٣). الفرث : السّرجين وهو ما في الكرش ، وأصله من فرثت كبده أي فتّتّها. وقالت أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين رضي الله عنها ، لأهل الكوفة : «أتدرون أيّ كبد فرثتم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم» (٤) والفرث (٥) ـ أيضا ـ فتّ الصبر (وهي
__________________
(١) ١٩٦ / البقرة : ٢.
(٢) ٢٧ / المرسلات : ٧٧.
(٣) ٦٦ / النحل : ١٦.
(٤) النهاية : ٣ / ٤٢٢.
(٥) في الأصل : والرفيث.
القدر من) (١) التمر. والفراثة : ما أخرج من الكرش أيضا ، والمفارث : مواضع يسلخ فيها الغنم.
ف ر ج :
قوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ)(٢) كقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٣). والفرج : الشقّ ، ومنه فرج الحيوان. والفرج : الخروج من الضيق والشدّة. قوله تعالى : (ما لَها مِنْ فُرُوجٍ)(٤) أي شقوق ، بل هي ملتئمة الأجزاء ليس فيها صدوع كقوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)(٥). وسمّي الخروج من الضيق فرجا لانفتاح الضيق وانشقاقه.
ويطلق على الدّبر فرج ، وأنشد لامرىء القيس يصف جملا (٦) : [من الطويل]
وأنت إذا استدبرته سدّ فرجه |
|
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل |
يعني سدّ بذنبه ما بين وركيه ؛ يصفه بكثرة شعر ذنبه ، وهو محمود في الإبل وغيرها.
والفرجة : الشقّ بين شيئين ـ بفتح الفاء وضمّها ـ وحكي أنّ الحجاج طالب أبا عمرو (٧) وغيره بشاهد على جواز فرجه ـ بفتح الفاء ـ فخرج ينتقل في أحياء العرب يبتغي سماع ذلك ، فبينا هو سائر إذا لقيه راكب ينشد (٨) : [من الخفيف]
ربّما تجزع النفوس من الأم |
|
ر له فرجة كحلّ العقال |
قال : فسألته ، فقال : مات الحجاج ، قال : فلم أدر بأيّهما أفرح؟
__________________
(١) إضافة من النسخة. د.
(٢) ٩ / المرسلات : ٧٧.
(٣) ١ / الإنشقاق : ٨٤.
(٤) ٦ / ق : ٥٠.
(٥) ٣ / الملك : ٦٧.
(٦) البيت غير مذكور في الديوان ، وهو غير معزو في اللسان ـ مادة فرج.
(٧) يعني أبا عمرو بن العلاء.
(٨) البيت لأمية بن أبي الصلت ، وهو من شواهد شرح المفصل : ٤ / ٣ ، والحكاية فيه.
واستعير الفرج للثّغر ، وكلّ موضع مخافة. وقيل : الفرجان في الإسلام : الترك والسّودان. وفي كلام الحجاج ـ قبّحه الله تعالى ـ : «استعملتك على الفرجين والمصرين» ؛ فالفرجان : خراسان وسجستان ، والمصران : البصرة والكوفة. وفي الحديث : «صلّى وعليه فرّوج من حرير» (١) ؛ قال أبو عبيد : هو القباء الذي فيه شقّ من خلفه.
وفي الحديث : «لا يترك في الإسلام مفرج» (٢) يروى بالجيم والحاء المهملة (٣) ؛ فمن رواه بالجيم فاختلف فيه ؛ فقيل : هو القتيل يوجد في أرض فلاة ليس بقرب قرية فيودى من بيت المال. وقيل : هو من لا جرة (٤) له ولا أهل ، فإذا قتل بين قوم وجهل [قاتله](٥) وداه أولئك القوم. ومن رواه بالحاء فقال : هو الذي أثقله الدّين ، وقد أفرحه يفرحه : إذا أثقله ، وكأن الهمزة عندي للسّلب لأنه بذلك يسلب فرحه ويزول. وهذا كان خطر لي ، ثم رأيت الراغب (٦) قاله ولكن بزيادة فقال : وكأنّ الإفراح يستعمل في جلب الأفراح وهو إزالة الفرح ، كما أنّ الإشكاء يستعمل في جلب الشكوى وفي إزالتها.
وحقيقة المفرج : هو الذي ينفرج عنه القوم ولا يدرى قاتله. ورجل فرج : لا ينكتم سرّه. وفرج لا يزال ينكشف فرجه ، وقوس فرج : انفرج سيتاها.
وفراريج الدجاج من ذلك لانفراج البيض عنها. ودجاجة مفرج : ذات فراريج ، قال الشاعر (٧) : [من البسيط]
كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا |
|
أواخر الميس أصوات الفراريج |
والفرج : انفراج الغمّ وانكشافه ؛ قال الشاعر (٨) : [من الوافر]
__________________
(١) النهاية : ٣ / ٤٢٣.
(٢) النهاية : ٣ / ٤٢٣.
(٣) هو رواية الأصمعي كما في اللسان ـ مادة خرج.
(٤) كذا في د ، وفي الأصل : جرأة. ولعلها : لا جيرة ، وفي اللسان : من لا عشيرة له.
(٥) الإضافة من د.
(٦) المفردات : ٣٧٥.
(٧) البيت لذي الرمة (الديوان : ٩٩٦) ، وفيه : أنقاض الفراريج. ورواية النص وردت في شرح المفصل والحيوان والبيان والتبيين ، والعمدة .. يريد : كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج.
(٨) البيتان لهدبة بن الخشرم من قصيدة (شعر هدبة : ٥٤).
عسى الكرب الذي أمسيت فيه |
|
يكون وراءه فرج قريب |
فيأمن خائف ويفكّ عان |
|
ويأتي أهله الرجل الغريب (١) |
ف ر ح :
الفرح : انشراح الصدر ، وأكثر ما يكون بلذة دنيوية عاجلة ، ومن ثمّ نهي عنه في قوله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(٢). وقال تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٣).
والمفراح : الكثير الفرح لأنه مثال مبالغة ، وأنشد (٤) : [من الطويل]
ولست بمفراح إذا الخير مسّني |
|
ولا جازع من صرفه المتقارب |
وقد أذن فيه تعالى بقوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٥) لأنه أمر أخرويّ ، ومثله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ)(٦) لأنه نصرة لدين الله ، وذلك أن الروم غلبت الفرس ، والروم أهل كتاب في الجملة ، والفرس عبدة نار لا كتاب لهم ؛ فهم أبعد من المؤمنين.
ويقال : رجل فارح : إذا حدث فرحه ، وفرح : إذا كان ذلك دائما أو غالبا ، وفي الحديث : «لا يترك في الإسلام مفرح» (٧) وقد تقدّم تحقيقه.
ف ر د :
قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٨) أي منفردا من أهله وخلّانه وماله ، وقد
__________________
(١) ورواية الديوان : النائي الغريب. وما أثبتناه رواية النص يؤيده شرح شواهد المغني والحماسة البصرية.
(٢) ٧٦ / القصص : ٢٨.
(٣) ٢٣ / الحديد : ٥٧.
(٤) من شواهد المفردات : ٣٧٥.
(٥) ٥٨ / يونس : ١٠.
(٦) ٤ و ٥ / الروم : ٣٠.
(٧) أنظر مادة «فرج».
(٨) ٩٥ / مريم : ١٩.
كان يتعزّز بذلك كله. ومثله قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)(١) الآية. وقيل : الفرد الذي لا يخلط به غيره ، فهو أعمّ من الوتر ، ويقال له تعالى : فرد بمعنى أنه تعالى يخالف الأشياء كلّها في الازدواج المنبّه عليه بقوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٢) وقيل : الفرد هو المستغني عن كلّ شيء ، وقد نبّه عليه بقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٣). وإذا قيل : هو منفرد بوحدانيته فمعناه أنه مستغن عن كلّ تركيب وازدواج ، تنبيها أنه بخلاف كلّ موجود.
قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)(٤). وقد فسّر انفرادهم بقوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)(٥). وذلك أنّ الرجل في دنياه إنما يتعزّز بماله ورجاله ، وهؤلاء قد أتوا منكشفين من جميع ذلك ، واعترض بين المفسّر والمفسّر بالتشبيه في قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ)(٦) أي عزلا ، فليتهم كما كانوا ، كذا جاء في الحديث.
وفرادى جمع فريد ؛ قالوا : نحو أسارى وأسير. وقال الفراء : قوم فرادى وفراد. لا يجرونها أي لا يصرفونها ، قال : تشبيها بثلاث ورباع ، قال : وواحدها فرد وفرد وفردان (٧). قال : ولا يجوز فرد في هذا المعنى.
قوله تعالى : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً)(٨) أي وحيدا من ولد يرثني. وفي الحديث : «طوبى للمفرّدين» (٩) قال أبو العباس عن ابن الأعرابي : فرّد الرجل : إذا تفقّه واعتزل الناس وخلا بمراقبة أوامر الله ونواهيه. القتيبيّ : هم الذين هلك لداتهم من الناس ومضى القرن
__________________
(١) ٩٤ / الأنعام : ٦.
(٢) ٤٩ / الذاريات : ٥١.
(٣) ٩٧ / آل عمران : ٣.
(٤) ٩٤ / الأنعام : ٦.
(٥) تتمة الآية السابقة.
(٦) من الآية السابقة. وانظر الحديث المراد مادة (غ ر ل) في النهاية : ٣ / ٣٦٢.
(٧) لم يذكرها الفراء (معاني القرآن : ١ / ٣٤٥) ، في حين أنها ذكرت في اللسان.
(٨) ٨٩ / الأنبياء : ٢١.
(٩) النهاية : ٣ / ٤٢٥.
الذي كانوا فيه ، فهم يذكرون الله تعالى : وقال الأزهريّ : المتخلّون عن الناس بذكر الله تعالى. وقال بعض الأعراب لسيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١) : [من الرجز]
يا خير من يمشي بنعل فرد
يريد بنعل لم تخصف طراقا ، أي طريقة فوق أخرى ، وهم يمدحون بمثل ذلك ؛ يقولون : رقيق النّعل ، وفرد النعل : أي لم تطارق (٢) طبقة فوق أخرى ، وعلى ذلك قال النابغة (٣) : [من الطويل]
رقاق النّعال طيّب حجزاتهم |
|
يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب |
قال الهرويّ : أراد بآخر العرب لأنّ لبس النعال لهم دون العجم. «لا تعدّ فاردتكم» (٤) أي الزائدة على الفريضة (٥).
ف ر د وس :
قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)(٦)(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٧). قيل : هو كلّ بستان ، وقيل : إذا كان فيه نخل وكرم وماء جار وإلا فهو بستان ، وهل هو عربيّ أم فارسيّ معرب فيه قولان (٨). وقيل : هو مكان مخصوص في الجنة ، يقال : إنّه أعلاها ، ووزنه فعللّ نحو : قرطعب. والتحقيق أن لا وزن له لعجمته. وقال الفراء : الفردوس هو البستان الذي فيه الكرم بلغة العرب ، فظاهر هذا أنه عربيّ الأصل لا معرب.
__________________
(١) قاله رجل يشكو رجلا شجه. وتتمته كما في النهاية : ٣ / ٤٢٦ :
أو هبه لنهدة ونهد |
|
لا تسبينّ سلبي وجلدي |
(٢) وفي الأصل : لم يتطاير ، والتصويب من النهاية.
(٣) الديوان : ٦٣ ، والبيت كناية عن أنهم ملوك. السباسب : عيد كان لهم في الجاهلية.
(٤) النهاية : ٣ / ٤٢٦ ، وفيه رواية : «لا تعدوا ...».
(٥) أي لا تضم إلى غيرها فتعدّ معها وتحسب.
(٦) ١٠٧ / الكهف : ١٨.
(٧) ١١ / المؤمنون : ٢٣.
(٨) الكلمة رومية وليست فارسية.
ف ر ر :
قوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)(١) أي المهرب ، من : فرّ الرجل يفرّ ، إذا هرب. وهو في الآية الكريمة يحتمل أن يراد به مكان الفرار وزمانه ونفس الفرار ، نحو : المقتل والمضرب. والأصل : مفرر ، وإنّما أدغم.
وأصل الفرّ الكشف ؛ يقال : فررت عن الدابة فرارا : إذا كشفت عن سنّها لتعرف كم عمرها. والافترار : ظهور السنّ من الضّحك. وفرّ عن الحرب فرارا ، وبه سمي الشاعر المشهور فقيل له الفرّار (٢). وقال امرؤ القيس يصف جوادا (٣) : [من الطويل]
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا |
|
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل |
وأفررته : جعلته فارا. ورجل فارّ وفرّ. وقوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ)(٤) تنبيه منه صلىاللهعليهوسلم على فرط تعدّيهم ، وأنه بالغ في الهرب منهم ، فالفرار أخصّ من الهرب. وكذا قوله. (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ)(٥) أي امتثال أوامره واجتناب نواهيه. وقد يستوي فيه الواحد المذكر والمثنّى وضدّاهما على قاعدة الوصف بالمصدر ؛ يقال : هذا فرّ ، وهذان فرّ ، وهؤلاء فرّ. وفي حديث سراقة : «هذان فرّ قريش» (٦) يعني النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر. وفي حديث عون (٧) : «ما رأيت أحدا يفرفر الدّنيا فرفرة هذا الأعرج» (٨) يعني أبا حازم ، أي : يمزّقها ويشنّعها بالذمّ لها كما يفرفر الذئب الشاة. وقال ابن عمر لابن عباس رضي الله عنهم : «كان يبلغني عنك أشياء كرهت أن أفرّك عليها» (٩) أي أظاهرك وأكشفها لك ، من فررت الدابة. وفي الحديث : «كان
__________________
(١) ١٠ / القيامة : ٧٥.
(٢) الفرار السّلمي شاعر مخضرم ، واسمه حبان (حيان) بن الحكم ، أعطاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم راية سليم يوم الفتح. شهد حنينا. ورد ذكره في الحماسة : ١٩١ ، والإصابة : ١٥٥١.
(٣) البيت مشهور من معلقته.
(٤) ٢١ / الشعراء : ٢٦.
(٥) ٥٠ / الذاريات : ٥١.
(٦) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، لما خرجا مهاجرين ، يعني : هذان الفرّان.
(٧) هو عون بن عبد الله.
(٨) النهاية : ٣ / ٤٣٧.
(٩) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، وفيه الحديث لعمر.
يفتّر عن مثل حبّ الغمام» (١) يريد تبدو أسنانه من غير قهقهة. وحبّ الغمام هو البرد.
ف ر ش :
قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)(٢). الفرش : البقر والغنم. قال الأزهريّ : وممّا يدلّ على هذا التفسير قوله تعالى إثره : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)(٣) الآية. قال : ونصب ثمانية لأنه بدل من قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً). فقوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) هي الحمولة والفرش ، قال : وإلى هذا أذهب. قلت : ويجوز نصبه بإضمار فعل ، وقال الراغب (٤) : والفرش : ما يفرش من الأنعام أي يركب ، يعني كنّي بالافتراش عن الركوب ، يعني أنّ منها ما يحمل عليه ومنها ما يركب ، يعني أنه جامع بين هذين الأمرين.
قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)(٥) قيل : كنّي بذلك عن النساء في الجنة ، والعرب تفعل ذلك. يقولون : هو كريم المفارش والفرش ، ومعنى مرفوعة أي عالية في جنسها رفيع محلّها ، وقيل مصونة غير مبتذلة. وقيل : الفرش ما يفترش من متاع البيت ، وهو أظهر. وقيل : معنى رفعها مراد بها النساء أنها فاقت نساء أهل الدنيا.
والفراش : ما يجلس عليه ، ومنه قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)(٦) أي مفرشه مستقرا عليها ، ولم يجعلها ناتئة غير ممكن الاستقرار عليها.
وافترش الرجل صاحبه : اغتابه وأساء قوله فيه. وأفرش عنه : أقلع.
قوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ)(٧). الفراش : صغار البقّ ونحوه ، وهو ما
__________________
(١) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، أي يبتسم.
(٢) ١٤٢ / الأنعام : ٦.
(٣) ١٤٣ / الأنعام : ٦.
(٤) المفردات : ٣٧٦.
(٥) ٣٤ / الواقعة : ٥٦.
(٦) ٢٢ / البقرة : ٢.
(٧) ٤ / القارعة : ١٠١.
يتهافت وقوعا في النار ؛ سمي بذلك تصورا منه أنه يفرش الجوّ. وبه يضرب المثل في الطّيش وخفة الحلم. وأنشد : [من الرمل]
وفراش الحلم فرعون العذاب
وإن شبه الناس يوم القيامة من فزعهم وظهور جزعهم وذهاب عقولهم بفراش انتشر وتفرّق ، ولا يرى أبلغ من هذا التشبيه وما فيه من التنبيه على هول ذلك اليوم ، ومثله : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)(١). رزقنا الله بمنّه في ذلك اليوم أمنه بمن أنزل عليه أشرف كتبه.
والفراشة : الماء القليل في الإناء. وهي ـ أيضا ـ فراشة القفل على التشبيه في الهيئة ، وفي الحديث : «نهى عن افتراش السّبع في الصلاة» (٢) وهو أن يبسط ذراعيه على الأرض ولا يرفعهما (٣) في سجوده. وأنشد لعمرو بن معدي كرب (٤) : [من الوافر]
ترى السّرحان مفترشا يديه |
|
كأنّ بياض لبّته الصّديع |
وفي آخر : «إلّا أن يكون مفترشا» (٥) أي لا مغصوبا قد انبسطت فيه الأيدي بغير حقّ.
قوله عليهالسلام : «الولد للفراش» (٦) أي لصاحب الفراش وهو الزوج أو المالك ، وهذا معدود من مختصر الكلام. وفي الحديث : «لكم العارض والفريش» (٧) قيل : الفريش هي التي قرب وضعها أو وضعت قريبا كالنّفساء. وقيل : هو كلّ نبات لا ساق له كأنّه فرش على الأرض ؛ فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : هو الموضع الذي يكثر به النبات.
__________________
(١) ٢ / الحج : ٢٢.
(٢) النهاية : ٣ / ٤٢٩.
(٣) في الأصل : ولا يقلهما ، والتصويب من النهاية.
(٤) الديوان : ١٣٣ ، وفيه : به السرحان. ورواية النص مثبتة في اللسان والتاج.
(٥) النهاية : ٣ / ٤٣٠ ، والحديث لابن عبد العزيز ، وفيه : « .. مالا مفترشا».
(٦) المصدر السابق.
(٧) المصدر السابق. والفريش هنا الناقة الحديثة الوضع.
ف ر ض :
قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ)(١). الفارض من البقر التي طعنت في السنّ كأنّها فرضت سنّها أي قطعته. وقيل : سمي فارضا لأنه فارض الأرض أي قاطع لها أو قاطع لما يحمّل من الأعمال الشاقّة. وقيل : بل لأنّ فريضة البقر اثنان : تبيع ومسنّة ؛ فالتّبيع يجوز في حال دون حال ، والمسنّة يجوز بذلها في كلّ حال ، فسميت المسنّة فارضا لذلك. قال الراغب (٢) : فعلى هذا يكون الفارض اسما إسلاميا ، وإنّما سمّي الفارض فارضا لقدمه ، وكلّ قديم يقال له فارض. وأنشد يقول (٣) : [من الرجز]
يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض |
|
له قروء كقروء الحائض |
وأصل الفرض : قطع الشيء الصلب والتأثير فيه كقطع الحديد ، وفرض الزّند والقوس. والمفرض والمفراض : ما يقطع به الحديد. فرضة الماء : مقسمه.
والفرض والواجب عند بعضهم مترادفان ، وعند آخرين متغايران ؛ فالفرض ما ثبت بدليل قطعي ، كفرض الظهر وغيره من الخمس. والواجب ما ثبت بدليل كالوتر. قال الراغب : والفرض كالإيجاب لكنّ الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثبوته ، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها)(٤) أي أوجبنا العمل بها ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٥) أي أوجب عليك العمل به ، ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة : فرض. وقرىء «وفرضناها» مخففا ومشددا (٦) ؛ فالمخفّف بمعنى : جعلنا فيها فرائض الأحكام ، والتشديد : جعلنا فيها فريضة بعد فريضة. وقال الأزهريّ : في التخفيف : ألزمناكم العمل بها ؛ وبالتشديد فصّلناها وبيّنا ما فيها.
__________________
(١) ٦٨ / البقرة : ٢.
(٢) المفردات : ٣٧٦.
(٣) أنشده ابن الأعرابي ، مع اختلاف في الرواية (اللسان ـ مادة فرض).
(٤) ١ / النور : ٢٤.
(٥) ٨٥ / القصص : ٢٨.
(٦) يقول الفراء : «والتشديد لهذين الوجهين حسن» (معاني القرآن : ٢ / ٢٤٤).
والفرض يطلق على التمر لأنه يقطع للأكل ، وأنشد الهرويّ عن الأزهريّ (١) : [من الرجز]
إذا أكلت سمكا وفرضا |
|
ذهبت طولا وذهبت عرضا |
قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً)(٢) أي مقطوعا ، وقيل موفيا ، وقيل معلوما.
قوله : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً)(٣) أي سمّيتم لهنّ مهرا وأوجبتم على أنفسكم ذلك وقطعتموه لهن. وقيل : للدين فرائض لأنها أمور مقطوع بها ، وفرائض الميراث لأنها قطعت وفصلت.
قوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ)(٤) أي ما حدّده وبيّنه وفصّله. يقال لما أخذ في الصدقة فريضة ، ومنه كتاب أبي بكر لبعض عماله : «هذا كتاب فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلىاللهعليهوسلم على المسلمين» (٥).
قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ)(٦) أي أوجب على نفسه. وقال ابن عرفة : الفرض : التوقيت ، وكلّ فرض مؤقت فهو مفروض. والفرض : العلامة ـ أيضا ـ وقيل : معناه من عيّن على نفسه إقامة الحجّ ، فإضافة فرض الحجّ على الإنسان دلالة على أنّه هو معيّن الوقت ، كذا قال الراغب (٧). يعني أنه في هذه الأشهر مخيّر فأيّ وقت عيّنه فيها جاز. وخطب ابن الزبير خطبة قال فيها : «واجعلوا السيوف للمنايا فرضا» (٨) يريد : اجعلوا السيوف طرقا للموت ، يريد : تعرّضوا للشهادة بأن تقاتلوا.
والفرض : جمع فرضة وهي مشارع الماء ، وهذه استعارة بليغة.
__________________
(١) ذكره ابن منظور في مادة فرض. والفرض ضرب من التمر صغار لأهل عمان.
(٢) ٧ / النساء : ٤.
(٣) ٢٣٧ / البقرة : ٢.
(٤) ٣٨ / الأحزاب : ٣٣.
(٥) النهاية : ٣ / ٤٣٢.
(٦) ١٩٧ / البقرة : ٢.
(٧) المفردات : ٣٧٦ ، وفي الأصل : غير معين الوقت ، وصوّبناه منه.
(٨) النهاية : ٣ / ٤٣٣.
ف ر ط :
قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) أي ما تركنا وقصّرنا ولم نعجز عن إيداع جميع الأشياء فيه. والمعنى : ما ضيّعنا شيئا من ذلك. يقال : فرط يفرط : إذا تقدّم ، وفرّط يفرّط : إذا ضيّع وعجز ، وأفرط يفرط الماء : تجاوز الحدّ واشتطّ. وقيل : فرط يفرط : إذا تقدّم تقدّما بالقصد ، ومنه الفارط إلى الماء : المتقدم لإصلاح الدّلو.
قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(٢) أي لا يقصّرون ولا يغفلون. قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ)(٣) أي من قبل تفريطكم أي تقديمكم الذنب. وقال ابن عرفة : معنى التفريط أن تترك الشيء حتى يمضي وقت إمكانه ، ثم يخرج إلى وقت يمتنع فيه ، ومنه التفريط في الصلاة وهو تركها حتى يتقدّم وقتها.
قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(٤). قال مجاهد : منسيون ، وقيل : متروكون في النار. وقال الأزهري : الأصل فيه أنّهم مقدّمون إلى النار معجّلون إليها. يقال : أفرطته أي أقدمته ، وقرىء بكسر الراء وهي شاذة (٥).
قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٦) أي مضيّعا متهاونا به. قال أبو عبيدة : أي ندما ، وقيل : سرفا ، وكأنه المتجاوز فيه.
قوله تعالى : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا)(٧) أي يتجاوز ، وقيل : يعاجلنا ويقدم لنا العقوبة. يقال : فرط من فلان أمر : أي بدر ، وقال ابن عرفة : معناه يعجل فيقدّم لنا منه مكروه ، وهو قريب ممّا تقدّم. وفي الدعاء للطفل الميت (٨) : «واجعله فرطا» أي أجرا
__________________
(١) ٣٨ / الأنعام : ٦.
(٢) ٦١ / الأنعام : ٦.
(٣) ٨٠ / يوسف : ١٢.
(٤) ٦٢ / النحل : ١٦.
(٥) بكسر الراء قراءة أبي العالية. كما قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الراء (مختصر الشواذ : ٧٣).
(٦) ٢٨ / الكهف : ١٨.
(٧) ٤٥ / طه : ٢٠.
(٨) في الأصل : وفي دعاء الطفل الميت ، ولعله كما أتبننا. وتمام الدعاء : «اللهم اجعله لنا فرطا» (النهاية : ٣ / ٤٣٤).