عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

يحتملهما. وجمع الفتاة فتيات كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ)(١).

ويعبّر بالفتى والفتاة عن العبد والأمة ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ). قيل : مماليكه وخدمه ، وقيل : فتياتكم أي إمائكم. وفي الحديث : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن فتاي وفتاتي» (٢).

قوله تعالى : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ)(٣). سمّوه بذلك لزعمهم أنّها مالكته ، ويحتمل أن يكون الأمر كذلك بتمليك زوجها إياه لها.

قوله تعالى : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ)(٤) الإفتاء : جواب السائل عمّا يشكل عليه ، ومنه المفتي لأنه يزيل إشكال المسائل ويوضح الأحكام. وقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ)(٥) أي اسألهم سؤال مستفت ، يريد بذلك الزيادة في توبيخهم.

والفتيا والفتوى بمعنى الإفتاء. وجمع الفتيا فتى بزنة فعى على وزن جمع عليا ودنيا. وجمع الفتوى الفتاوى بفتح الواو ، والواو عن ياء ؛ لأنّ لام فعلى الاسم إذا كانت صفة ياء قلبت واوا ، ولام فعلى الصفة تسلم نحو : صديا وحريا وطغيا. وفعلى ـ بالضم ـ الصفة ممّا لا واو تقلب ياء ، يقال : دنيا وعليا ، والأصل : دنوا وعلوا من الدنوّ والعلوّ. ولتحقيق هذا مقام آخر.

والمفتي : مكيال بعينه ؛ يقال : إنّه مكيال هشام بن هبيرة العمريّ. وفي الحديث أنّ امرأة سألت أمّ سلمة أن تريها الإناء الذي كان يتوضأ منه عليه الصلاة والسّلام فأخرجته ، قالت : فقلت : هذا مكّوك المفتي (٦). روى شمر عن أبي حاتم ، عن الأصمعيّ قال

__________________

(١) ٣٣ / النور : ٢٤.

(٢) النهاية : ٣ / ٤١١ ، كأنه كره ذكر العبودية لغير الله تعالى. وفي رواية : «لا يقولنّ ...».

(٣) ٣٠ / يوسف : ١٢.

(٤) ٤٦ / يوسف : ١٢.

(٥) ١١ / الصافات : ٣٧. وغيرها.

(٦) النهاية : ٣ / ٤١١ ، والحديث طويل.

٢٤١

المفتي : مكيال هشام ابن هبيرة العمريّ مكيال اللبن (١). وقال ابن الأعرابيّ : المفتي : قدح الشّطّار. وقد أفتى الرجل : إذا شرب به فهو مفت.

وتفاتوا : تخاصموا ، ومنه الحديث : «أنّ قوما تفاتوا إليه» (٢). وقال الطرمّاح (٣) : [من الوافر]

أنخ بفناء أشدق من عديّ

ومن جرم وهم أهل التفاتي

التّفاتي : مصدر تفاتى يتفاتى ، نحو : توانى يتوانى توانيا. والأصل تفاتيا بضمّ التاء ، وإنما كسرت لتصحّ اللام ، يدلّ على ذلك أنه مصدر تفاعل على تفاعل نحو : تقاتل تقاتلا.

فصل الفاء والجيم

ف ج ج :

قوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٤). الفجاج : جمع فجّ وهو الطريق الواسع. وقيل : الفجّ كلّ شقّة يكتنفها جبلان. وقوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٥) أي من كلّ طريق ومن كلّ واد غامض ، وهو أبلغ أي لم تخف دعوتك على أحد من أهل السهل والجبل ، والمادة دالة على السعة ، ومنه الحديث : «فتفاجّت عليه» (٦) يعني الناقة ـ فرّجت رجليها للحالب. وفي حديث آخر يصف جملا : «أزهر متفاجّ» (٧) يريد : يفتح ما بين رجليه ليبول ، وكنّى بذلك عن كونه في رعي وشرب ، وذلك أنّه إذا كان يرعى ويشرب

__________________

(١) والمدّ : الهشامي.

(٢) النهاية : ٣ / ٤١١ ، وفيه : «أن أربعة ...».

(٣) البيت من شواهد اللسان ـ مادة فتا. أهل التفاتي : أهل التحاكم وأهل الإفتاء.

(٤) ٢٠ / نوح : ٧١.

(٥) ٢٧ / الحج : ٢٢.

(٦) النهاية : ٣ / ٤١٢ ، وهو حديث أم معبد.

(٧) النهاية : ٣ / ٤١٣.

٢٤٢

كثر منه البول ، وفي حديث آخر : «فركبت الفحل فتفاجّ» (١). وفي حديث آخر : «كان إذا بال تفاجّ» (٢) أي بالغ في تباعد ما بين رجليه تحرّزا من البول واستبراء منه. وقد أفجّ بين رجليه أي باعد بينهما وجعل بينهما فجاجا على الاستعارة.

قيل : والفجج : تباعد الركبتين ، وهو أفجّ من الفحج ـ بالحاء المهملة قبل الجيم ـ (٣) وجرح فجّ : لم ينضج بعد ، وفي الحديث : «إنّ هذا الفجفاج لا يدري ما الله» (٤) قيل : هو المهذار ، وروي البجباج بالموحدة ، وهو بمعنى الأول.

ف ج ر :

قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ)(٥) أي أنه يسوّف بالتوبة ، والمعنى : يريد الحياة ليتعاطى الفجور فيها. وقيل : معناه يذنب ويقول : غدا أتوب ، ثم لا يفعل ؛ لبذله عهدا لا يفي به ، ومنه سمي الكاذب فاجرا لأنه (٦) بعض الفجور. وأصل الفجور شقّ ستر الديانة والحياء ، وذلك أنّ المادة تدلّ على شقّ الشيء وتوسعته ، ومنه الفجر لأنه يشقّ الليل شقا واسعا. والفجر فجران : كاذب وصادق ؛ فالأول كذنب السّرحان يظهر ثم يخبو. والثاني هو الذي يعترض في الأفق ثم يمضي متزايدا ضوؤه ، وهو الذي تناط به أحكام الصوم والصلاة وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً)(٧) أي شققناها شقوقا واسعة تنبع منها المياه ، ومنه قوله تعالى : (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً)(٨). ويقال : فجرت الشيء مخففا ومثقلا ، وبهما قرىء قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٩).

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤١٣. وهو لعبادة المزني.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الفجج والفحج (بالجيم والحاء) واحد ، وانظر تفصيلهما في اللسان ـ مادة فجج وفحج.

(٤) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، والحديث لعثمان. ويروى «أين الله».

(٥) ٥ / القيامة : ٧٥.

(٦) يعود الضمير على الكذب.

(٧) ١٢ / القمر : ٥٤.

(٨) ٩١ / الإسراء : ١٧.

(٩) ٩٠ / الإسراء : ١٧.

٢٤٣

وفجر الرجل يفجر فجورا فهو فاجر ، والجمع فجّار وفجرة. وقال تعالى : في موضع : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(١) وفي آخر : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٢) وذلك لما فيه من شقّ ستر الديانة ـ كما قدمت تحقيقه ـ. وقيل : أصل الفجور الميل عن القصد. وقال بعضهم في قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي يكّذب بيوم القيامة الذي سيأتي ، فهو أمامه ، والكاذب فاجر. فالمعنى يكذب بما أمامه من الحساب وغير ذلك ، وأنشد بعضهم قول بعض الأعراب (٣) : [من الوافر]

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسّها من نقب ولا دبر

فاغفر اللهمّ إن كان فجر

أي مال عن الحقّ. وسمّي تفجّر الأنهار بذلك لأنّ فيه ميلا عن أحد الجانبين إلى (٤) الآخر.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ)(٥) قرىء مخففا ومثقلا (٦). وقيل : فجّر بعضها إلى بعض حتى تذهب مياهها ، وقيل : تفجّر العذب في الملح فتختلطان ، وذلك هو خراب الدنيا وهلاك ما عليها من حيوان ونبات وشجر لعدم قوامهم لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٧) وفي دعاء القنوت : «ونخلع ونترك من يفجرك» (٨) أي من يعصيك ويكذب بوعدك ووعيدك ، وقيل ؛ من يتباعد عنك. وقيل ؛ من يخالفك. وهي معان متقاربة.

وأيام الفجار : وقائع اشتدّت بين العرب ، وفي الحديث : «كنت يوم الفجار أنبّل على

__________________

(١) ٧ / المطففين : ٨٣.

(٢) ٤٢ / عبس : ٨٠.

(٣) اللسان ـ مادة فجر ، والنهاية : ٣ / ٤١٣.

(٤) في النسختين : عن ، والتصويب من النسخة د.

(٥) ٣ / الانفطار : ٨٢.

(٦) بالتخفيف قراءة الربيع بن خثيم الثوري ، وبتخفيف الفتح قراءة مجاهد (مختصر الشواذ : ١٧٠).

(٧) ٣٠ / الأنبياء :

(٨) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، وفيه دعاء الوتر. القنوت : الخشوع والإقرار بالعبودية. والقنوت : الإمساك عن الكلام في الصلاة ، والدعاء (اللسان ـ قنت).

٢٤٤

عمومتي» (١) أي أناولهم النبل ، وهي ثلاثة أفجرة كانت بين قريش وقيس (٢) ، وسمي ذلك فجارا لأنهم تحاربوا في الأشهر الحرم ، فهذا من أشدّ الفجور.

قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)(٣) أي تنبّعت وتشقّقت مجاريها ، وهذه معجزة ظاهرة في انفجار هذه الأعين من حجر يحمل في مخلاة على عاتق صاحبه كقدر رأس الإنسان ، يشرب منه اثنا عشر سبطا لا يعلم عددهم إلا خالقهم أو من قدّره على ذلك. وكان ذلك بحسب إرادتهم. قال بعضهم : هذا برّه بمن عصاه فكيف بمن أطاعه؟

ف ج و :

قوله تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)(٤) أي ناحية متسعة من الكهف. والفجوة : المتّسع من الأرض بين جبلين أو تلّين أو نحوهما ، ومنه : قوس فجاء وفجواء : بان وترها عن كبدها. ورجل أفجى : بيّن الفجاء ، أي متباعد ما بين العرقوبين لأنّ بينهما فجوة ـ كما تقدّم في الفجج ـ وجمعها فجوات. قال الراغب : والفجاء ، وهذا غير مقيس. وفي الحديث : «فإذا رأى فجوة نصّ ـ أي سعة من الأرض ـ أسرع في سيره بعد العنق» (٥) وهما ضربان من السّير. وفي حديث عبد الله : «لا يصلّينّ أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة» (٦) يريد [ليصل](٧) ملتصقا بما أمامه ، ومنه الحديث : «إذا صلّى أحدكم إلى شيء فليرهقه» (٨) أي ليغشه ، كلّ ذلك حذرا من المرور بين يديه.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤١٤.

(٢) كانت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان في الجاهلية.

(٣) ٦٠ / البقرة : ٢.

(٤) ١٧ / الكهف : ١٨.

(٥) النهاية : ٣ / ٤١٤ ، وفيه تقديم وتأخير.

(٦) المصدر السابق ، يعني عبد الله بن مسعود.

(٧) إضافة من النسخة د.

(٨) النهاية : ٢ / ٢٨٣.

٢٤٥

فصل الفاء والحاء

ف ح ش :

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)(١) الفحشاء : ما تزايد فحشه واشتدّ نكره ، والفاحشة كذلك ، قال ابن عرفة في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ)(٢) هي كلّ ما نهى الله عنه. والفواحش عند العرب كلّ ما قبح ، ومنه مكان فاحش ، وقد تفحّش وتفاحش ، ومنه قول الأنصاريّ للأحوص : [من الكامل]

هل عيشنا بك في زمانك راجع

فلقد تفحّش بعدك المتعلّل

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ)(٣) قيل : الزّنا ، وقيل : اللواطة والبذاءة على الزوج أو على أحمائها.

والفاحش : البخيل ، والفاحشة : البخل ، وأنشد لطرفة (٤) : [من الطويل]

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

وذلك أنّ البخل من أفحش الفحش كقوله عليه الصلاة والسّلام : «وأيّ داء أدوى من البخل» (٥). والفحش والتفحّش من ذلك.

والمتفحّش : الآتي بالفحشاء. وسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة تقول لليهود : «وعليكم السّأم واللّعنة والإفن والذأم. فقال لها : لا تقولي ذلك ، فإنّ الله لا يحبّ الفحش والمتفاحش» (٦). قال الهرويّ : أراد بالفحش عدوان الجواب لا الفحش الذي هو من قذع

__________________

(١) ٢٨ / الأعراف : ٧.

(٢) ٣٣ / الأعراف : ٧.

(٣) ١٩ / النساء : ٤.

(٤) من معلقته ، الديوان : ٤٥.

(٥) النهاية : ٢ / ١٤٢ ، أي أيّ عيب أقبح منه.

(٦) النهاية : ٢ / ٣٢٨ ، وروي مخففا : ٢ / ٤٢٦.

٢٤٦

الكلام لأنه لم يكن منها إليهم فحش ، وقال غيره : إنه نهاها عن ردّ الجواب وإن كان مثلما (١) قالوا تكرّما. فأمّا إذا قالته فلا يردّ عليه.

والفحش ـ أيضا ـ الزيادة على ما يتعارفه الناس حتى يخرج إلى حدّ الإنكار كطول القامة وكبر الوجه المفرطين ، ومنه قول امرىء القيس (٢) : [من الطويل]

وجيد كجيد الرّثم ليس بفاحش

إذا هي نضّته ولا بمعطّل

أي ليس بطويل طولا زائدا عن عادة الاستحسان في نظائره ، والحاصل أنّ كلّ ما تزايد قبحه فهو فاحش وإن خصّه العرف بأخصّ من ذلك.

فصل الفاء والخاء

ف خ ر :

قوله تعالى : (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ)(٣) التفاخر : المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ، ولذلك قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٤) أي كثير الخيلاء والفخر ، ففخور مثال مبالغة كفخير. وفخرت فلانا على فلان أفخره فخرا ، أي حكمت (٥) عليه بفضل.

والفاخر : الشيء النفيس الذي يضنّ به ، يقال : ثوب فاخر ، وناقة فخور : إذا عظم ضرعها وكثر درّها. ونخلة فاخرة : طيبة البسر والتّمر.

قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ)(٦). الفخار ما شوي من الطين بالنار.

__________________

(١) في الأصل : مثل قالوا.

(٢) من معلقته : ٣٤. الرئم : الأبيض من الظباء. نصته : رفعته.

(٣) ٢٠ / الحديد : ٥٧.

(٤) ١٨ / لقمان : ٣١.

(٥) في الأصل : أفخرت ، ولعلها كما ذكرنا.

(٦) ١٤ / الرحمن : ٥٥.

٢٤٧

وقيل : كلّ مصوّت من ذلك كأنه (صوّر) (١) بصورة من يكثر التفاخر.

فصل الفاء والدال

ف د ي :

قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ)(٢). الفداء والفدى ـ بالمدّ والقصر ـ بذل شيء في مقابلة نفس الإنسان من مال أو أسير آخر ، وقرىء : «تفدوهم» و «تفادوهم» في المتواتر فقيل : هما بمعنى ؛ يقال : فداه وفاداه. وقيل : فداه إذا بذل في مقابلته مالا ، وفاداه : إذا بذل في مقابلته أسيرا آخر كأنّهم راعوا المفاعلة ؛ فمن المدّ قول حسان رضي الله عنه (٣) : [من الوافر]

أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخيركما الفداء

ومن القصر قول الآخر (٤) : [من الوافر]

فدى لك من أخي ثقة إزاري

والحقّ أنّ فدى ـ بالقصر ـ مصدر فدى الثلاثي ، وبالمدّ مصدر فادى ، نحو قاتل قتالا.

قوله : (لَافْتَدَوْا بِهِ)(٥) أي افتعلوا الفداء عن أنفسهم. وتفادى فلان من فلان : إذا تحامى منه بشيء يبذله. وفديته بنفسي : أي جعلتها دونه ، قال الشاعر (٦) : [من الوافر]

__________________

(١) إضافة من د.

(٢) ٨٥ / البقرة : ٢.

(٣) ديوان حسان : ١ / ١٨ ، من قصيدة قالها يوم فتح مكة.

(٤) الشطر لجعدة بن عبد الله السلمي كما في اللسان ـ مادة أزر.

(٥) ١٨ / الرعد : ١٣ ، وغيرها.

(٦) قال المبرد : قائله مجهول ، يخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في شرح شواهد المغني : ٢ / ٥٩٧ ، وأمالي ابن الشجري : ١ / ٣٣٨ ، والخزانة : ٣ / ٦٢٩.

٢٤٨

محمد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

قوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ)(١). الفدية ما يفدي الإنسان به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها ، وهي الكفّارة بعينها.

فصل الفاء والراء

ف ر ت :

قوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً)(٢) أي حلوا بليغا في العذوبة ، من فرت الشيء أي شقّه ، فكأنه فرت العطش ، والتاء فيه أصلية يوقف عليها تاء ، وفيه لغية أنها يوقف عليها بالهاء ، وهو شاذّ. والفرات يقع على الواحد والجمع ، يقال : ماء فرات ، ومياه فرات. وقالوا : كلّ ماء عذب فهو فرات ، وكلّ ماء ملح فهو بحر ، وأنشدني بعضهم وقد رثى بعض الفضلاء من قصيدة لغيره : [من الوافر]

فلا والله ما أنفكّ أبكي

إلى أن نلتقي شعثا عراتا

أألحى أن نزحت أجاج عيني

على جدث حوى الماء الفراتا؟

وهو حسن بديع ، وفي البيت الأول شذوذ غريب وهو إبدال تاء التأنيث ألفا ، والمشهور قلبها هاء بذهاب التنوين ، وهذا لغة لبعضهم سمع منهم : أكلت تمرتا ، يريد تمرة.

ف ر ث :

قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)(٣). الفرث : السّرجين وهو ما في الكرش ، وأصله من فرثت كبده أي فتّتّها. وقالت أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين رضي الله عنها ، لأهل الكوفة : «أتدرون أيّ كبد فرثتم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤) والفرث (٥) ـ أيضا ـ فتّ الصبر (وهي

__________________

(١) ١٩٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٢٧ / المرسلات : ٧٧.

(٣) ٦٦ / النحل : ١٦.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٢٢.

(٥) في الأصل : والرفيث.

٢٤٩

القدر من) (١) التمر. والفراثة : ما أخرج من الكرش أيضا ، والمفارث : مواضع يسلخ فيها الغنم.

ف ر ج :

قوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ)(٢) كقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٣). والفرج : الشقّ ، ومنه فرج الحيوان. والفرج : الخروج من الضيق والشدّة. قوله تعالى : (ما لَها مِنْ فُرُوجٍ)(٤) أي شقوق ، بل هي ملتئمة الأجزاء ليس فيها صدوع كقوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)(٥). وسمّي الخروج من الضيق فرجا لانفتاح الضيق وانشقاقه.

ويطلق على الدّبر فرج ، وأنشد لامرىء القيس يصف جملا (٦) : [من الطويل]

وأنت إذا استدبرته سدّ فرجه

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

يعني سدّ بذنبه ما بين وركيه ؛ يصفه بكثرة شعر ذنبه ، وهو محمود في الإبل وغيرها.

والفرجة : الشقّ بين شيئين ـ بفتح الفاء وضمّها ـ وحكي أنّ الحجاج طالب أبا عمرو (٧) وغيره بشاهد على جواز فرجه ـ بفتح الفاء ـ فخرج ينتقل في أحياء العرب يبتغي سماع ذلك ، فبينا هو سائر إذا لقيه راكب ينشد (٨) : [من الخفيف]

ربّما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال

قال : فسألته ، فقال : مات الحجاج ، قال : فلم أدر بأيّهما أفرح؟

__________________

(١) إضافة من النسخة. د.

(٢) ٩ / المرسلات : ٧٧.

(٣) ١ / الإنشقاق : ٨٤.

(٤) ٦ / ق : ٥٠.

(٥) ٣ / الملك : ٦٧.

(٦) البيت غير مذكور في الديوان ، وهو غير معزو في اللسان ـ مادة فرج.

(٧) يعني أبا عمرو بن العلاء.

(٨) البيت لأمية بن أبي الصلت ، وهو من شواهد شرح المفصل : ٤ / ٣ ، والحكاية فيه.

٢٥٠

واستعير الفرج للثّغر ، وكلّ موضع مخافة. وقيل : الفرجان في الإسلام : الترك والسّودان. وفي كلام الحجاج ـ قبّحه الله تعالى ـ : «استعملتك على الفرجين والمصرين» ؛ فالفرجان : خراسان وسجستان ، والمصران : البصرة والكوفة. وفي الحديث : «صلّى وعليه فرّوج من حرير» (١) ؛ قال أبو عبيد : هو القباء الذي فيه شقّ من خلفه.

وفي الحديث : «لا يترك في الإسلام مفرج» (٢) يروى بالجيم والحاء المهملة (٣) ؛ فمن رواه بالجيم فاختلف فيه ؛ فقيل : هو القتيل يوجد في أرض فلاة ليس بقرب قرية فيودى من بيت المال. وقيل : هو من لا جرة (٤) له ولا أهل ، فإذا قتل بين قوم وجهل [قاتله](٥) وداه أولئك القوم. ومن رواه بالحاء فقال : هو الذي أثقله الدّين ، وقد أفرحه يفرحه : إذا أثقله ، وكأن الهمزة عندي للسّلب لأنه بذلك يسلب فرحه ويزول. وهذا كان خطر لي ، ثم رأيت الراغب (٦) قاله ولكن بزيادة فقال : وكأنّ الإفراح يستعمل في جلب الأفراح وهو إزالة الفرح ، كما أنّ الإشكاء يستعمل في جلب الشكوى وفي إزالتها.

وحقيقة المفرج : هو الذي ينفرج عنه القوم ولا يدرى قاتله. ورجل فرج : لا ينكتم سرّه. وفرج لا يزال ينكشف فرجه ، وقوس فرج : انفرج سيتاها.

وفراريج الدجاج من ذلك لانفراج البيض عنها. ودجاجة مفرج : ذات فراريج ، قال الشاعر (٧) : [من البسيط]

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج

والفرج : انفراج الغمّ وانكشافه ؛ قال الشاعر (٨) : [من الوافر]

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٢٣.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٢٣.

(٣) هو رواية الأصمعي كما في اللسان ـ مادة خرج.

(٤) كذا في د ، وفي الأصل : جرأة. ولعلها : لا جيرة ، وفي اللسان : من لا عشيرة له.

(٥) الإضافة من د.

(٦) المفردات : ٣٧٥.

(٧) البيت لذي الرمة (الديوان : ٩٩٦) ، وفيه : أنقاض الفراريج. ورواية النص وردت في شرح المفصل والحيوان والبيان والتبيين ، والعمدة .. يريد : كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج.

(٨) البيتان لهدبة بن الخشرم من قصيدة (شعر هدبة : ٥٤).

٢٥١

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفكّ عان

ويأتي أهله الرجل الغريب (١)

ف ر ح :

الفرح : انشراح الصدر ، وأكثر ما يكون بلذة دنيوية عاجلة ، ومن ثمّ نهي عنه في قوله : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(٢). وقال تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٣).

والمفراح : الكثير الفرح لأنه مثال مبالغة ، وأنشد (٤) : [من الطويل]

ولست بمفراح إذا الخير مسّني

ولا جازع من صرفه المتقارب

وقد أذن فيه تعالى بقوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٥) لأنه أمر أخرويّ ، ومثله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ)(٦) لأنه نصرة لدين الله ، وذلك أن الروم غلبت الفرس ، والروم أهل كتاب في الجملة ، والفرس عبدة نار لا كتاب لهم ؛ فهم أبعد من المؤمنين.

ويقال : رجل فارح : إذا حدث فرحه ، وفرح : إذا كان ذلك دائما أو غالبا ، وفي الحديث : «لا يترك في الإسلام مفرح» (٧) وقد تقدّم تحقيقه.

ف ر د :

قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٨) أي منفردا من أهله وخلّانه وماله ، وقد

__________________

(١) ورواية الديوان : النائي الغريب. وما أثبتناه رواية النص يؤيده شرح شواهد المغني والحماسة البصرية.

(٢) ٧٦ / القصص : ٢٨.

(٣) ٢٣ / الحديد : ٥٧.

(٤) من شواهد المفردات : ٣٧٥.

(٥) ٥٨ / يونس : ١٠.

(٦) ٤ و ٥ / الروم : ٣٠.

(٧) أنظر مادة «فرج».

(٨) ٩٥ / مريم : ١٩.

٢٥٢

كان يتعزّز بذلك كله. ومثله قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)(١) الآية. وقيل : الفرد الذي لا يخلط به غيره ، فهو أعمّ من الوتر ، ويقال له تعالى : فرد بمعنى أنه تعالى يخالف الأشياء كلّها في الازدواج المنبّه عليه بقوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٢) وقيل : الفرد هو المستغني عن كلّ شيء ، وقد نبّه عليه بقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٣). وإذا قيل : هو منفرد بوحدانيته فمعناه أنه مستغن عن كلّ تركيب وازدواج ، تنبيها أنه بخلاف كلّ موجود.

قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى)(٤). وقد فسّر انفرادهم بقوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)(٥). وذلك أنّ الرجل في دنياه إنما يتعزّز بماله ورجاله ، وهؤلاء قد أتوا منكشفين من جميع ذلك ، واعترض بين المفسّر والمفسّر بالتشبيه في قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ)(٦) أي عزلا ، فليتهم كما كانوا ، كذا جاء في الحديث.

وفرادى جمع فريد ؛ قالوا : نحو أسارى وأسير. وقال الفراء : قوم فرادى وفراد. لا يجرونها أي لا يصرفونها ، قال : تشبيها بثلاث ورباع ، قال : وواحدها فرد وفرد وفردان (٧). قال : ولا يجوز فرد في هذا المعنى.

قوله تعالى : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً)(٨) أي وحيدا من ولد يرثني. وفي الحديث : «طوبى للمفرّدين» (٩) قال أبو العباس عن ابن الأعرابي : فرّد الرجل : إذا تفقّه واعتزل الناس وخلا بمراقبة أوامر الله ونواهيه. القتيبيّ : هم الذين هلك لداتهم من الناس ومضى القرن

__________________

(١) ٩٤ / الأنعام : ٦.

(٢) ٤٩ / الذاريات : ٥١.

(٣) ٩٧ / آل عمران : ٣.

(٤) ٩٤ / الأنعام : ٦.

(٥) تتمة الآية السابقة.

(٦) من الآية السابقة. وانظر الحديث المراد مادة (غ ر ل) في النهاية : ٣ / ٣٦٢.

(٧) لم يذكرها الفراء (معاني القرآن : ١ / ٣٤٥) ، في حين أنها ذكرت في اللسان.

(٨) ٨٩ / الأنبياء : ٢١.

(٩) النهاية : ٣ / ٤٢٥.

٢٥٣

الذي كانوا فيه ، فهم يذكرون الله تعالى : وقال الأزهريّ : المتخلّون عن الناس بذكر الله تعالى. وقال بعض الأعراب لسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : [من الرجز]

يا خير من يمشي بنعل فرد

يريد بنعل لم تخصف طراقا ، أي طريقة فوق أخرى ، وهم يمدحون بمثل ذلك ؛ يقولون : رقيق النّعل ، وفرد النعل : أي لم تطارق (٢) طبقة فوق أخرى ، وعلى ذلك قال النابغة (٣) : [من الطويل]

رقاق النّعال طيّب حجزاتهم

يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب

قال الهرويّ : أراد بآخر العرب لأنّ لبس النعال لهم دون العجم. «لا تعدّ فاردتكم» (٤) أي الزائدة على الفريضة (٥).

ف ر د وس :

قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)(٦)(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٧). قيل : هو كلّ بستان ، وقيل : إذا كان فيه نخل وكرم وماء جار وإلا فهو بستان ، وهل هو عربيّ أم فارسيّ معرب فيه قولان (٨). وقيل : هو مكان مخصوص في الجنة ، يقال : إنّه أعلاها ، ووزنه فعللّ نحو : قرطعب. والتحقيق أن لا وزن له لعجمته. وقال الفراء : الفردوس هو البستان الذي فيه الكرم بلغة العرب ، فظاهر هذا أنه عربيّ الأصل لا معرب.

__________________

(١) قاله رجل يشكو رجلا شجه. وتتمته كما في النهاية : ٣ / ٤٢٦ :

أو هبه لنهدة ونهد

لا تسبينّ سلبي وجلدي

(٢) وفي الأصل : لم يتطاير ، والتصويب من النهاية.

(٣) الديوان : ٦٣ ، والبيت كناية عن أنهم ملوك. السباسب : عيد كان لهم في الجاهلية.

(٤) النهاية : ٣ / ٤٢٦ ، وفيه رواية : «لا تعدوا ...».

(٥) أي لا تضم إلى غيرها فتعدّ معها وتحسب.

(٦) ١٠٧ / الكهف : ١٨.

(٧) ١١ / المؤمنون : ٢٣.

(٨) الكلمة رومية وليست فارسية.

٢٥٤

ف ر ر :

قوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)(١) أي المهرب ، من : فرّ الرجل يفرّ ، إذا هرب. وهو في الآية الكريمة يحتمل أن يراد به مكان الفرار وزمانه ونفس الفرار ، نحو : المقتل والمضرب. والأصل : مفرر ، وإنّما أدغم.

وأصل الفرّ الكشف ؛ يقال : فررت عن الدابة فرارا : إذا كشفت عن سنّها لتعرف كم عمرها. والافترار : ظهور السنّ من الضّحك. وفرّ عن الحرب فرارا ، وبه سمي الشاعر المشهور فقيل له الفرّار (٢). وقال امرؤ القيس يصف جوادا (٣) : [من الطويل]

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

وأفررته : جعلته فارا. ورجل فارّ وفرّ. وقوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ)(٤) تنبيه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فرط تعدّيهم ، وأنه بالغ في الهرب منهم ، فالفرار أخصّ من الهرب. وكذا قوله. (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ)(٥) أي امتثال أوامره واجتناب نواهيه. وقد يستوي فيه الواحد المذكر والمثنّى وضدّاهما على قاعدة الوصف بالمصدر ؛ يقال : هذا فرّ ، وهذان فرّ ، وهؤلاء فرّ. وفي حديث سراقة : «هذان فرّ قريش» (٦) يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر. وفي حديث عون (٧) : «ما رأيت أحدا يفرفر الدّنيا فرفرة هذا الأعرج» (٨) يعني أبا حازم ، أي : يمزّقها ويشنّعها بالذمّ لها كما يفرفر الذئب الشاة. وقال ابن عمر لابن عباس رضي الله عنهم : «كان يبلغني عنك أشياء كرهت أن أفرّك عليها» (٩) أي أظاهرك وأكشفها لك ، من فررت الدابة. وفي الحديث : «كان

__________________

(١) ١٠ / القيامة : ٧٥.

(٢) الفرار السّلمي شاعر مخضرم ، واسمه حبان (حيان) بن الحكم ، أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راية سليم يوم الفتح. شهد حنينا. ورد ذكره في الحماسة : ١٩١ ، والإصابة : ١٥٥١.

(٣) البيت مشهور من معلقته.

(٤) ٢١ / الشعراء : ٢٦.

(٥) ٥٠ / الذاريات : ٥١.

(٦) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، لما خرجا مهاجرين ، يعني : هذان الفرّان.

(٧) هو عون بن عبد الله.

(٨) النهاية : ٣ / ٤٣٧.

(٩) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، وفيه الحديث لعمر.

٢٥٥

يفتّر عن مثل حبّ الغمام» (١) يريد تبدو أسنانه من غير قهقهة. وحبّ الغمام هو البرد.

ف ر ش :

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)(٢). الفرش : البقر والغنم. قال الأزهريّ : وممّا يدلّ على هذا التفسير قوله تعالى إثره : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)(٣) الآية. قال : ونصب ثمانية لأنه بدل من قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً). فقوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) هي الحمولة والفرش ، قال : وإلى هذا أذهب. قلت : ويجوز نصبه بإضمار فعل ، وقال الراغب (٤) : والفرش : ما يفرش من الأنعام أي يركب ، يعني كنّي بالافتراش عن الركوب ، يعني أنّ منها ما يحمل عليه ومنها ما يركب ، يعني أنه جامع بين هذين الأمرين.

قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)(٥) قيل : كنّي بذلك عن النساء في الجنة ، والعرب تفعل ذلك. يقولون : هو كريم المفارش والفرش ، ومعنى مرفوعة أي عالية في جنسها رفيع محلّها ، وقيل مصونة غير مبتذلة. وقيل : الفرش ما يفترش من متاع البيت ، وهو أظهر. وقيل : معنى رفعها مراد بها النساء أنها فاقت نساء أهل الدنيا.

والفراش : ما يجلس عليه ، ومنه قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)(٦) أي مفرشه مستقرا عليها ، ولم يجعلها ناتئة غير ممكن الاستقرار عليها.

وافترش الرجل صاحبه : اغتابه وأساء قوله فيه. وأفرش عنه : أقلع.

قوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ)(٧). الفراش : صغار البقّ ونحوه ، وهو ما

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٢٧ ، أي يبتسم.

(٢) ١٤٢ / الأنعام : ٦.

(٣) ١٤٣ / الأنعام : ٦.

(٤) المفردات : ٣٧٦.

(٥) ٣٤ / الواقعة : ٥٦.

(٦) ٢٢ / البقرة : ٢.

(٧) ٤ / القارعة : ١٠١.

٢٥٦

يتهافت وقوعا في النار ؛ سمي بذلك تصورا منه أنه يفرش الجوّ. وبه يضرب المثل في الطّيش وخفة الحلم. وأنشد : [من الرمل]

وفراش الحلم فرعون العذاب

وإن شبه الناس يوم القيامة من فزعهم وظهور جزعهم وذهاب عقولهم بفراش انتشر وتفرّق ، ولا يرى أبلغ من هذا التشبيه وما فيه من التنبيه على هول ذلك اليوم ، ومثله : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)(١). رزقنا الله بمنّه في ذلك اليوم أمنه بمن أنزل عليه أشرف كتبه.

والفراشة : الماء القليل في الإناء. وهي ـ أيضا ـ فراشة القفل على التشبيه في الهيئة ، وفي الحديث : «نهى عن افتراش السّبع في الصلاة» (٢) وهو أن يبسط ذراعيه على الأرض ولا يرفعهما (٣) في سجوده. وأنشد لعمرو بن معدي كرب (٤) : [من الوافر]

ترى السّرحان مفترشا يديه

كأنّ بياض لبّته الصّديع

وفي آخر : «إلّا أن يكون مفترشا» (٥) أي لا مغصوبا قد انبسطت فيه الأيدي بغير حقّ.

قوله عليه‌السلام : «الولد للفراش» (٦) أي لصاحب الفراش وهو الزوج أو المالك ، وهذا معدود من مختصر الكلام. وفي الحديث : «لكم العارض والفريش» (٧) قيل : الفريش هي التي قرب وضعها أو وضعت قريبا كالنّفساء. وقيل : هو كلّ نبات لا ساق له كأنّه فرش على الأرض ؛ فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : هو الموضع الذي يكثر به النبات.

__________________

(١) ٢ / الحج : ٢٢.

(٢) النهاية : ٣ / ٤٢٩.

(٣) في الأصل : ولا يقلهما ، والتصويب من النهاية.

(٤) الديوان : ١٣٣ ، وفيه : به السرحان. ورواية النص مثبتة في اللسان والتاج.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٣٠ ، والحديث لابن عبد العزيز ، وفيه : « .. مالا مفترشا».

(٦) المصدر السابق.

(٧) المصدر السابق. والفريش هنا الناقة الحديثة الوضع.

٢٥٧

ف ر ض :

قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ)(١). الفارض من البقر التي طعنت في السنّ كأنّها فرضت سنّها أي قطعته. وقيل : سمي فارضا لأنه فارض الأرض أي قاطع لها أو قاطع لما يحمّل من الأعمال الشاقّة. وقيل : بل لأنّ فريضة البقر اثنان : تبيع ومسنّة ؛ فالتّبيع يجوز في حال دون حال ، والمسنّة يجوز بذلها في كلّ حال ، فسميت المسنّة فارضا لذلك. قال الراغب (٢) : فعلى هذا يكون الفارض اسما إسلاميا ، وإنّما سمّي الفارض فارضا لقدمه ، وكلّ قديم يقال له فارض. وأنشد يقول (٣) : [من الرجز]

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

وأصل الفرض : قطع الشيء الصلب والتأثير فيه كقطع الحديد ، وفرض الزّند والقوس. والمفرض والمفراض : ما يقطع به الحديد. فرضة الماء : مقسمه.

والفرض والواجب عند بعضهم مترادفان ، وعند آخرين متغايران ؛ فالفرض ما ثبت بدليل قطعي ، كفرض الظهر وغيره من الخمس. والواجب ما ثبت بدليل كالوتر. قال الراغب : والفرض كالإيجاب لكنّ الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثبوته ، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها)(٤) أي أوجبنا العمل بها ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٥) أي أوجب عليك العمل به ، ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة : فرض. وقرىء «وفرضناها» مخففا ومشددا (٦) ؛ فالمخفّف بمعنى : جعلنا فيها فرائض الأحكام ، والتشديد : جعلنا فيها فريضة بعد فريضة. وقال الأزهريّ : في التخفيف : ألزمناكم العمل بها ؛ وبالتشديد فصّلناها وبيّنا ما فيها.

__________________

(١) ٦٨ / البقرة : ٢.

(٢) المفردات : ٣٧٦.

(٣) أنشده ابن الأعرابي ، مع اختلاف في الرواية (اللسان ـ مادة فرض).

(٤) ١ / النور : ٢٤.

(٥) ٨٥ / القصص : ٢٨.

(٦) يقول الفراء : «والتشديد لهذين الوجهين حسن» (معاني القرآن : ٢ / ٢٤٤).

٢٥٨

والفرض يطلق على التمر لأنه يقطع للأكل ، وأنشد الهرويّ عن الأزهريّ (١) : [من الرجز]

إذا أكلت سمكا وفرضا

ذهبت طولا وذهبت عرضا

قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً)(٢) أي مقطوعا ، وقيل موفيا ، وقيل معلوما.

قوله : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً)(٣) أي سمّيتم لهنّ مهرا وأوجبتم على أنفسكم ذلك وقطعتموه لهن. وقيل : للدين فرائض لأنها أمور مقطوع بها ، وفرائض الميراث لأنها قطعت وفصلت.

قوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ)(٤) أي ما حدّده وبيّنه وفصّله. يقال لما أخذ في الصدقة فريضة ، ومنه كتاب أبي بكر لبعض عماله : «هذا كتاب فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين» (٥).

قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ)(٦) أي أوجب على نفسه. وقال ابن عرفة : الفرض : التوقيت ، وكلّ فرض مؤقت فهو مفروض. والفرض : العلامة ـ أيضا ـ وقيل : معناه من عيّن على نفسه إقامة الحجّ ، فإضافة فرض الحجّ على الإنسان دلالة على أنّه هو معيّن الوقت ، كذا قال الراغب (٧). يعني أنه في هذه الأشهر مخيّر فأيّ وقت عيّنه فيها جاز. وخطب ابن الزبير خطبة قال فيها : «واجعلوا السيوف للمنايا فرضا» (٨) يريد : اجعلوا السيوف طرقا للموت ، يريد : تعرّضوا للشهادة بأن تقاتلوا.

والفرض : جمع فرضة وهي مشارع الماء ، وهذه استعارة بليغة.

__________________

(١) ذكره ابن منظور في مادة فرض. والفرض ضرب من التمر صغار لأهل عمان.

(٢) ٧ / النساء : ٤.

(٣) ٢٣٧ / البقرة : ٢.

(٤) ٣٨ / الأحزاب : ٣٣.

(٥) النهاية : ٣ / ٤٣٢.

(٦) ١٩٧ / البقرة : ٢.

(٧) المفردات : ٣٧٦ ، وفي الأصل : غير معين الوقت ، وصوّبناه منه.

(٨) النهاية : ٣ / ٤٣٣.

٢٥٩

ف ر ط :

قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) أي ما تركنا وقصّرنا ولم نعجز عن إيداع جميع الأشياء فيه. والمعنى : ما ضيّعنا شيئا من ذلك. يقال : فرط يفرط : إذا تقدّم ، وفرّط يفرّط : إذا ضيّع وعجز ، وأفرط يفرط الماء : تجاوز الحدّ واشتطّ. وقيل : فرط يفرط : إذا تقدّم تقدّما بالقصد ، ومنه الفارط إلى الماء : المتقدم لإصلاح الدّلو.

قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(٢) أي لا يقصّرون ولا يغفلون. قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ)(٣) أي من قبل تفريطكم أي تقديمكم الذنب. وقال ابن عرفة : معنى التفريط أن تترك الشيء حتى يمضي وقت إمكانه ، ثم يخرج إلى وقت يمتنع فيه ، ومنه التفريط في الصلاة وهو تركها حتى يتقدّم وقتها.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(٤). قال مجاهد : منسيون ، وقيل : متروكون في النار. وقال الأزهري : الأصل فيه أنّهم مقدّمون إلى النار معجّلون إليها. يقال : أفرطته أي أقدمته ، وقرىء بكسر الراء وهي شاذة (٥).

قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٦) أي مضيّعا متهاونا به. قال أبو عبيدة : أي ندما ، وقيل : سرفا ، وكأنه المتجاوز فيه.

قوله تعالى : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا)(٧) أي يتجاوز ، وقيل : يعاجلنا ويقدم لنا العقوبة. يقال : فرط من فلان أمر : أي بدر ، وقال ابن عرفة : معناه يعجل فيقدّم لنا منه مكروه ، وهو قريب ممّا تقدّم. وفي الدعاء للطفل الميت (٨) : «واجعله فرطا» أي أجرا

__________________

(١) ٣٨ / الأنعام : ٦.

(٢) ٦١ / الأنعام : ٦.

(٣) ٨٠ / يوسف : ١٢.

(٤) ٦٢ / النحل : ١٦.

(٥) بكسر الراء قراءة أبي العالية. كما قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الراء (مختصر الشواذ : ٧٣).

(٦) ٢٨ / الكهف : ١٨.

(٧) ٤٥ / طه : ٢٠.

(٨) في الأصل : وفي دعاء الطفل الميت ، ولعله كما أتبننا. وتمام الدعاء : «اللهم اجعله لنا فرطا» (النهاية : ٣ / ٤٣٤).

٢٦٠