عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

والغفيرة بمعنى الغفران ، وهي أيضا شعر الأذن. ويكون (١) زئبر الثوب. والغفر ـ بالسكون ـ شعر الأذن ونجم معروف. قال بعضهم : فمعنى مغفرة الله هو صونه للعبد أن يمسّه العذاب. وقد يستعمل الغفران في التجاوز ظاهرا دون التجاوز باطنا. ومنه قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ)(٢). قوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)(٣) أي اطلبوا غفرانه قولا وفعلا. ولم يؤمروا بأن يستغفروه بالمقال دون الأفعال كاستغفار الكذابين.

والغفور : مثال مبالغة ووصف الباري تعالى بكلّ من الغافر والغفور. والغفران مصدر كالكفران أو اسم مصدر كسبحان. قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(٤) قال الهرويّ : أخبرنا الأزهريّ عن المنذريّ عن أبي حاتم قال : المعنى : ليغفرنّ الله. فلما حذف النون كسر اللام وأعملها إعمال لام كي (٥). وليس المعنى لكي يغفر لك الله ، ولم يكن الفتح سببا للغفران. وأنكره ثعلب وقال : المعنى ليجمع لك المغفرة وتمام النعمة بالفتح. فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن فيه معنى كي. وقد تكلّمنا على ذلك مشبعا في غير هذا.

غ ف ل :

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(٦). الغفلة : سهو يعتري الإنسان من قلّة التحفّظ والتيقّظ. قوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا)(٧) أي كنت في الدنيا تاركا للنظر والاعتبار لما غطي على عينيك من حبّ الشهوات ومن شبيهه. وهذا خطاب للإنسان المتقدم. يقال : غفل يغفل غفلة فهو غافل. وأرض غفل : لا نبات بها. ورجل غفل : لم تحنّكه التجارب. وإغفال الكتاب : تركه غير معجم. قوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا

__________________

(١) يعني الغفر.

(٢) ١٤ / الجاثية : ٤٥.

(٣) ٣ / هود : ١١ ، وغيرها.

(٤) ٢ / الفتح : ٤٨.

(٥) كي ، من النسخة م ..

(٦) ٤٢ / إبراهيم : ١٤ ، وفي الأصل خلط بين آيتين.

(٧) ٢٢ / ق : ٥٠.

٢٠١

قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا)(١) أي صرفناه صرف الغافل ، يعني أنه غير ملتفت إليه. وقيل : تركناه غير مكتوب فيه الإيمان. وقيل : جعلناه غافلا عن الحقائق. وقيل : سمّيناه غافلا. وقيل : وجدناه غافلا ، وفيه نظر لقوله : (عَنْ ذِكْرِنا).

قوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)(٢). قيل : نصف النهار. والأغفال : الإبل لا سمات عليها والتي لا ألبان لها. وفي الحديث : «يا رسول الله إني رجل مغفل» (٣) أي صاحب إبل أغفال. وفي حديث بعضهم في الوضوء : «عليك بالمغفلة والمنشلة» (٤) المغفلة : العنفقة. والمنشلة : موضع الخاتم ؛ يقول : يتوقّ في غسلهما.

فصل الغين واللام

غ ل ب :

قوله تعالى : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ)(٥) أي قويّ قادر ، أي غالب بالحق على أمر يوسف ، والغلبة : القهر. قوله : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(٦) أي بعد أن غلبهم غيرهم ، فأضيف المصدر لمفعوله بدليل قوله أولا : «غلبت» مبنيا للمفعول. وقد قرىء : «غلبت» مبنيا للفاعل (٧) فعلى هذا مضاف للفاعل. ويقال : غلبه يغلبه غلبا وغلبة ، نحو الجلب والجلبة وغلبا وغلبة. قوله : (وَحَدائِقَ غُلْباً)(٨) أي غلاظا ممتلئة ، وأصله من قولهم : رجل أغلب وامرأة غلباء ، أي غليظة الرقبة ، والجمع

__________________

(١) ٢٨ / الكهف : ١٨.

(٢) ١٥ / القصص : ٢٨.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٧٥.

(٤) النهاية : ٣ / ٣٧٦.

(٥) ٢١ / يوسف : ١٢.

(٦) ١ ـ ٣ / الروم : ٣٠.

(٧) قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي (كرم الله وجهه) وابن عمر (مختصر الشواذ : ١١٦).

(٨) ٣٠ / عبس : ٨٠.

٢٠٢

غلب. وغلب عليه كذا : استولى عليه ، ومنه : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ)(١) يعني رؤساءهم المستولين على أمورهم.

غ ل ظ :

قوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(٢) أي عاملهم بالغلظة والشدة عكس معاملتك للمؤمنين بما أمرناك به من قولنا : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٣). وقوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(٤) أي شدة وجلادة وصبرا عند لقائهم. والغلظة والغلظة ـ بالكسر والضم ـ لغتان. قوله : (فَاسْتَغْلَظَ)(٥) أي صار غليظا. وقيل : معناه تهيّأ لذلك. والغلظة ضدّ الرقة ، وأصلهما أن يستعملا في الأعيان دون المعاني ، وقد يستعملان فيهما مجازا كالكبير والكثير.

غ ل ف :

قوله تعالى : (قُلُوبُنا غُلْفٌ)(٦) قيل : هو جمع غلاف ، والأصل غلف ـ بضمتين ـ فخفّف. ويدلّ له قراءة بعضهم إياه بضمتين (٧) ، ومعناه على ذلك أنّ قلوبنا أوعية للعلم منبهة منهم على أننا لا نحتاج إلى التعلم منك فإنّ لنا غنية عنك ، وهو كقوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(٨) ويحكى أنّ جالينوس أو غيره من الفلاسفة / لما قيل له : لو أتيت هذا الرجل ـ يعنون موسى عليه‌السلام ـ فتعلمت منه ، فقال : نحن قوم مهذبون لا نحتاج إلى علم. وقيل : هو جمع أغلف نحو سيف وأسيف ، أي هي في غلاف مغطاة به ، كقوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ)(٩). وقيل : بل معناه أن قلوبنا أوعية للعلم ، كما مرّ تفسيره.

__________________

(١) ٢١ / الكهف : ١٨.

(٢) ٧٣ / التوبة : ٩ ، وغيرها.

(٣) ٨٨ / الحجر : ١٥.

(٤) ١٢٣ / التوبة : ٩.

(٥) ٢٩ / الفتح : ٤٨.

(٦) ٨٨ / البقرة : ٢.

(٧) قرأها اللؤلؤي عن أبي عمرو (مختصر الشواذ : ٨).

(٨) ٨٣ / غافر : ٤٠.

(٩) ٥ / فصلت : ٤١.

٢٠٣

وقيل : معناه قلوبنا مغطاة ومستترة عن قبول الحقّ ، وكلّ ذلك على سبيل التهكّم لأنهم كانوا يعتقدون أنهم أعقل خلق الله وأهداهم.

وغلام أغلف ، أي أقلق لم يختتن. والغلفة والقلفة واحد. وغلّفت لحيته بالحنّاء : خضبتها بها وجعلتها كالغلاف لها. وتغلّفت نحو تخضّبت.

غ ل ق :

قوله تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ)(١) أي أقفلتها ، والتشديد للتكثير ؛ لمّا ذكر الأبواب ناسب تضعيف الفعل ، وقد يكون التضعيف لتكرير الفعل وإن كان المحلّ واحدا نحو : غلّقت : إذا غلّقته مرارا. وقد يكون ذلك للمبالغة ، فيقال : ذبّحت الكبش ، بالمعنى الثالث دون الأوّلين. والمغلق والمغلاق والغلق : لما يغلق به. وقيل : لما يفتح به ، لكن إذا اعتبر بالإغلاق يقال له مغلق ومغلاق. وإذا اعتبر بالفتح يقال له مفتح ومفتاح. وغلق الرّهن غلوقا ، أي لم يوجد له مخلص. وأنشد لزهير : (٢) [من البسيط]

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع وأمسى الرّهن قد غلقا

وفي الحديث : «لا يغلق الرّهن» (٣) اختلف في تفسيره ؛ فقيل : لا يستحقّه مرتهنه إذا لم يردّ الراهن ما رهنه فيه ، وكان هذا فعل الجاهلية. وفي المثل : «أهون من قعيس على عمّته» (٤) ، وذلك أنه رهنته عمته على جرزة بقل ، فطولبت فقالت : قد غلق الرّهن. وهذا هو تفسير المعظم. وقال عمرو عن أبيه : الغلق : الهلاك. وفي كتاب عمر إلى أبي موسى : «إياك والغلق» (٥) ؛ قال المبرد : الغلق : ضيق الصدر وقلة الصبر. وفي الحديث :» رجل ارتبط فرسا ليغالق عليها» (٦) أي ليراهن. والمغالق : سهام الميسر ، واحدها مغلق. وفيه :

__________________

(١) ٢٣ / يوسف : ١٢.

(٢) شعر زهير : ٦٣.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٧٩.

(٤) هو ابن مقاعس بن عمرو التميمي رهنته عمته بعد موت أبيه على صاع من بر فغلق الرهن في يد الخياط حتى استعبده (المستقصى : ١ / ٤٤٨). وقيل غير ذلك وغير ما في الأصل.

(٥) النهاية : ٣ / ٣٨٠.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٧٩.

٢٠٤

«لا طلاق في إغلاق» (١) اختلف في تفسيره ؛ فقيل : أي في إكراه. وكانوا يغلقون الباب على الرجل ويضيّقون عليه حتى يطلق. وقيل : معناه لا تغلق التطليقات في دفعة واحدة حتى لا يبقى منها شيء. وفيه أيضا شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن واثق نفسه وأغلق ظهره. وغلق ظهر البعير : إذا دبر. وأغلقه صاحبه : إذا أثقل حمله حتى يدبر.

غ ل ل (٢) :

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)(٣) قرىء «يغلّ» (٤) مبنيا للفاعل ، أي يخون ؛ يقال : غلّ الجازر من اللحم : إذا خان وسرق منه. وفي الحديث : «لا إغلال ولا إسلال» أي لا خيانة ولا سرقة. وأغلّ السّلخ (٥) في الإهاب ، أي ترك فيه بعض اللحم. وقرىء «يغلّ» مبنيا للمفعول ، أي لا ينسب إلى الغلول. وقرىء «يغلّ» (٦) بضمّ الياء وكسر الغين ، أي لا يوجد ولا يصير. يقال : أغلّ فلان فلانا : نسبه إلى ذلك. وأغلّ فلان وجد غالّا أو صار. والغلّة والغليل : ما يتدرّعه الإنسان في داخله من العطش ومن شدّة الغيظ والوجد. وشفى فلان غليله ، أي غيظه.

والغلّة : ما يتناوله الإنسان من دخل أرضه. وأغلّت ضيعته : صارت ذات غلّة. وأصل الغلل : تدرّع الشيء وتوسّطه. ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر ، ويقال له : الغيل. والغلّ : مختصّ بما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه. والجمع أغلال ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً)(٧). وغلّت يد فلان ، وفلان مغلول اليد كناية عن البخل.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٧٩.

(٢) ذكر المؤلف هذه المادة (غ ل ل) قبل (غ ل ق).

(٣) ١٦١ / آل عمران : ٣.

(٤) قال الفراء : يقرأ بعض أهل المدينة «أن يغلّ» ؛ يريدون أن يخان. وقرأه أصحاب عبد الله كذلك : «أن يغلّ» (وهو مجهول من أغلّه أي نسبه إلى الغلول وهو الخيانة أو السرقة ، أو يخوّن أي ينسب إلى الخيانة). وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السّلميّ «أن يغلّ» ، وذلك أنهم ظنوا يوم أحد أن لن تقسم لهم الغنائم كما فعل يوم بدر ، ومعناه : أن يتّهم ويقال قد غلّ (معاني القرآن : ١ / ٢٤٦).

(٥) السلخ ، من النسخة م.

(٦) المفردات : ٢٦٣.

(٧) ٨ / يس : ٣٦.

٢٠٥

ومنه قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)(١) عاقبهم الله بما أقرّوه فلا يرى أبخل منهم في عالم الله ، كما لا يرى أكرم من العرب في عالم الله. وقيل : إنهم سمعوا أنّ الله قد قضى كلّ شيء قالوا إذا يد الله مغلولة ، أي في حكم المقيد لكونه فارغا.

وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً)(٢) قيل : هي الدّنيا. وقيل ذلك كناية عن منعهم فعل الخير كقوله : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٣)(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٤) ونحو ذلك من الآي. وقيل : بل معناه : نفعل ذلك بهم في الآخرة ، وأتى به ماضيا لتحقّق وقوعه لقوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٥)(أَتى أَمْرُ اللهِ)(٦)(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ)(٧). والغلالة : ما بين الثوبين ، والشّعار : لما يلبس تحت الثوب ، والدّثار : ما يلبس فوقه. قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ)(٨). الغلّ والغلول : تدرّع الخيانة والعداوة وهو الحقد.

غ ل م :

قوله تعالى : (غُلاماً زَكِيًّا)(٩) الغلام : من طرّ شاربه وبقل عذاره ، وقد تقدّم في مادة الضاد. رتب الإنسان من حين يولد إلى أن يهرم. يقال : غلام بيّن الغلومة والغلومية ، والجمع غلمان وغلمة. وقيل : هو اسم جمع نحو صبية وفتية. واحتلم الغلام : بلغ حدّ الغلومة. ولما كان من بلغ هذا الحدّ يغلب عليه الشّبق ، قيل : للشبق نفسه غلمة ، ومنه اغتلم الفحل. وأصل ذلك من الاغتلام الذي هو الشدّة والحدّة وتجاوز الحدّ. ومنه الحديث : «تجهّزوا لقتال المارقين المغتلمين» (١٠) قال الكسائي : الاغتلام : أن يتجاوز

__________________

(١) ١٦ / محمد : ٤٧ ، وغيره.

(٢) ٨ / يس : ٣٦.

(٣) ١٠٨ / النحل : ١٦.

(٤) ٧ / البقرة : ٢.

(٥) ٢ / الحجر : ١٥.

(٦) ١ / النحل : ١٦.

(٧) ٤٤ / الأعراف : ٧.

(٨) ٤٣ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٩) ١٩ / مريم : ١٩.

(١٠) النهاية : ٣ / ٣٨٢.

٢٠٦

الإنسان حدّ ما أمر به من الخير والمباح. قال : ومنه قول عمر رضي الله عنه : «إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاكسروها بالماء» (١). وقال أبو العباس : إذا جاوزت حدّها الذي يسكر. ومن كلام عليّ رضي الله عنه : «تجهّزوا لقتال المارقين المغتلمين» (٢) أي الذين تجاوزوا حدّ ما أمروا.

غ ل و :

قوله تعالى : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(٣) قيل : معناه لا تجاوزوا فيه القدر الذي حدّ لكم. وأصل الغلوّ المجاوزة للشيء والزيادة. وقيل معناه [لا](٤) تشدّدوا على الناس فتنفّروهم. وقيل : غلا السّعر ، وغلا في الأمر وغلا السهم يغلو باتفاق الفعل في كلّ ذلك. وأوقعوا الفرق بين المعاني في المصادر ؛ فقالوا : في السعر غلاء ، وفي الأمر. غلواّ ، وفي السهم غلوا. والغلواء : تجاوز الحدّ في الجماع ، وبه شبّه غلواء الشباب.

غ ل ي :

قوله تعالى : (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ)(٥) أي يفور ويطفح من شدّة الإيقاد. يقال : غلت القدر تغلي غليانا : فارت وطفحت بما فيها. فاستعير ذلك لما يجدونه من العذاب بالحميم الذي في أجوافهم. ومنه استعير غليان الغضب نحو تحرّق عليه وتميّز من الغيظ. وقرىء / «يغلي» بالياء من تحت على المهل ، وبالتاء من فوق عودا على الشجرة (٦).

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٨٢.

(٢) النهاية : ٣ / ٣٨٢.

(٣) ١٧١ / النساء : ٤.

(٤) إضافة يقتضيها السياق.

(٥) ٤٥ / الدخان : ٤٤.

(٦) الفراء : قرأها كثير من أصحاب عبد الله «تغلي» ، وقد ذكرت عن عبد الله وقرأها أهل المدينة كذلك. وقرأها الحسن «يغلي» جعلها للطعام أو للمهل ، ومن أنثّها ذهب إلى تأنيث الشجرة (معاني القرآن : ٣ / ٤٣). وجاء في الإتحاف (٣٨٨) : واختلف في «تغلي» ؛ فابن كثير وحفص ورويس بالياء على التذكير وفاعله يعود على الطعام ، والباقون بالتأنيث والضمير للشجرة.

٢٠٧

فصل الغين والميم

غ م ر :

قوله تعالى : (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ)(١) أي في شدائده وكربه. وأصل الغمر : إزالة أثر الشيء وبه سمي الماء الكثير لإزالته أثر سيله. وقد غمره الماء : إذا غطاه وستره. قال الشاعر : [من الطويل]

ترى غمرات الموت ثم تزورها

وسميت الشدة غمرة لأنها تغمر القلب ، أي تركبه فتغطّيه. ومنه «اشتدّ مرضه حتى غمر عليه» (٢). وقد غمره الماء فهو غامر. قال الشاعر (٣) : [من الكامل]

نصف النّهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري

وبه يشبه الرجل السخيّ ؛ قال الشاعر (٤) : [من الكامل]

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

والغمرة : معظم الماء ، ثم استعيرت للجهل. ومنه قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ)(٥) أي جهلهم. وقيل : في حيرتهم. وقيل : في عمايتهم ، وكلّها متقاربة. قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ)(٦) أي في غطاء وغفلة. ورجل غمر ، أي جاهل ، كأنّ عقله غمر بالجهل ، والجمع أغمار. والغمر : الحقد المكنون ، والجمع غمور. والغمر بالفتح : ما يغمر من رائحة الدسم سائر الروائح. وقد غمرت يده وغمر عرضه : دنس. ودخلت في

__________________

(١) ٩٣ / الأنعام : ٦.

(٢) النهاية : ٣ / ٣٨٤.

(٣) البيت للمسيب بن علس ، كما في الخزانة : ١ / ٥٤٢ وشواهد المغنى : ٢ / ٨٧٨ ، وفيهما : ما يدري.

(٤) صدر لكثّير وعجزه كما في اللسان والتاج ـ مادة غمر :

غلقت لضحكته رقاب المال

(٥) ٥٤ / المؤمنون : ٢٣.

(٦) ٦٣ / المؤمنون : ٢٣.

٢٠٨

غمار الناس وخمارهم ، أي فغمروني. والغمرة : ما يطلى به الجسد من الزعفران. وتغمّرت بالطيب : تضمّخت. وباعتبار الماء قيل للقدح الذي يتناول به الماء غمر. ومنه اشتقّ تغمّرت أي شربت ماء قليلا.

وفلان مغامر : إذا رمى بنفسه في الحرب ، إما لتوغّله وخوضه فيه كقولهم : هو يخوض الحرب ، وإمّا لتصوّر الغمارة منه ، ويكون وصفه بذلك كوصفه بالهودج ونحوه. وفي الحديث : «أطلقوا لي غمري» (١) قال أبو عبيد : هو القعب الصغير. وفيه أيضا : «ولا ذي غمر على أخيه» (٢) أي حقد. وفي حديث عمر : «جعل على كلّ جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا» (٣). والغامر : ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة ، فعل ذلك لئلا يقصّروا في الزراعة. وسمي غامرا لأنّ الماء يغمره ؛ فاعل بمعنى مفعول ، نحو : سرّ كاتم. وغمرت القوم : علوتهم شرفا.

غ م ز :

قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ)(٤). أصل الغمز : الإشارة بالجفن أو اليد طلبا إلى ما فيه معاب. والمعنى أنهم كانوا يستهزئون بالمؤمنين ، ويشيرون إليهم بعيونهم وأيديهم سخرية بهم. وما في فلان غميزة ، أي نقيصة يشار بها إليه. والجمع غمائز. وأصل ذلك من غمزت الكبش : إذا لمسته هل به طرق؟ نحو : عبطته.

غ م ض :

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)(٥) أي تساهلوا أو تسامحوا. وأصله من غمض عينه وأغمضها : وضع أحد جفنيه على الآخر ، فاستعير للتغافل والتساهل ، لأنّ من تغافل

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٨٥ ، أي أئتوني به.

(٢) النهاية : ٣ / ٣٨٤.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٨٣.

(٤) ٣٠ / المطففين : ٨٣.

(٥) ٢٦٧ / البقرة : ٢.

٢٠٩

عن الشيء غضّ طرفه عنه. والغمض : النوم العارض. ومنه : ما ذقت غمضا ولا غماضا. ومنه قيل : أرض غامضة وغمضة ودار غامضة ، أي منخفضة. ومنه : في المسألة غموض ، أي خفاء.

غ م م :

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها)(١). الغمّ : الحزن الذي يغمّ القلب ، أي يستره ويغشّيه. والغمّ في الأصل : ستر كلّ شيء. ومنه الغمام لأنه يستر الضوء والشمس. قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)(٢) أي كربة يحصل منها. يقال : غمّ وغمّة (٣) نحو كرب وكربة. وليلة غمّة. والغمامة كالعمامة : خرقة تشدّ على أنف الناقة وعينها. والأغمّ : من سال شعره على جبهته ضدّ الأصلع. وناصية غماء : تستر الوجه. قال بعضهم : الغمام هو الغيم الأبيض ، وسمي غماما من قبل لقاحه بالماء في جوفه. وماء مغمّم : علا غيره من المياه. وقال شمر : سمي غماما من غمغمته وهي صوته. وفيه نظر لأنّ الصوت فيه من الرعد لا منه. ويكون الغمام واحدا وجمعا. وأنشد للحطيئة (٤) : [من الطويل]

إذا غبت عنّا غاب عنا ربيعنا

ونسقى الغمام الغرّ حين تؤوب

وقد يقال في الواحد غمامة ؛ قال الشاعر : [من الطويل]

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما أتوها أقشعت وتجلّت

وغامت السماء وأغامت وأغيمت ـ وهو شاذّ ـ وغيّمت. والمصدر الغيمومة كالدّيمومة. وغمّت وأغمت. ويقال : يوم مغيوه. قال علقمة بن عبدة (٥) : [من البسيط]

__________________

(١) ٢٢ / الحج : ٢٢.

(٢) ٧١ / يونس : ١٠.

(٣) انفردت بها النسخة م.

(٤) قاله يمدح سعيد بن العاص كما في اللسان ـ مادة غمم (والديوان : ٢٤٨).

(٥) الديوان : ٥٩ ، وهو من شواهد اللغويين ، فالأصل أن يقال «مغيم» وخرجت عن أصلها.

٢١٠

حتى تذكّر بيضات وهيّجه

يوم رذاذ عليه الريح مغيوم

وغمت الشيء أغومه : سترته. وغمّ الهلاك : ستر. ومنه : «إذا غمّ عليكم فأكملوا العدّة» (١). ومنه : «صمنا للغمّى وللغمّى» (٢) أي لغير رؤية. وفي الحديث في صفة قريش : «ليس فيهم غمغمة قضاعة» (٣). والتّغمغم : كلام غير بيّن. وفي بعض الروايات : «فإن أغمي عليكم فاقدروا له قدره» (٤) وفي بعضها : «فإن غمّي عليكم». ويقال : غما البيت يغموه ويغميه : غطّاه. وليلة غمّاء وغمى وغمة. ومنه : صمنا الغمّى والغمية والغمة ، أي صمنا لغير رؤية.

فصل الغين والنون

غ ن م :

قوله تعالى (٥) : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي)(٦). الغنم : جنس معروف وحيوان مألوف ، واحده غنمة ، وقد يثنّى كقوله عليه‌السلام : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين» (٧). والغنم أصله من الغنم لأنه هو الظفر به وإصابته ، ثم جعل اسما لكلّ ما ظفر به غنما كان أو غيره. ومنه الغنيمة وهو ما أخذ من العدوّ قهرا. وأمّا في الشرع فهو ما أخذ من الكفار بإيجاف خيل أو ركاب. وفي الحديث : «له غنمه وعليه غرمه» (٨) أي فائدته وما يحصل منه. والنّفل ما يحصل من غير إيجاف خيل ولا ركاب.

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٨٨.

(٢) في الأصل من غير حرفي جر ، والتصويب من اللسان ـ مادة غمم.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٨٨.

(٤) النهاية : ٣ / ٣٨٩ ، وصواب الحديث أن يكون في غ م ي.

(٥) قوله تعالى : غير مذكور في الأصل.

(٦) ١٨ / طه : ٢٠.

(٧) صحيح مسلم ، المنافقين : ١٦ ، أي المترددة بين القطعتين.

(٨) النهاية : ٣ / ٣٦٣ ، أي أداء ما يفكّه به.

٢١١

قوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً)(١) جمع مغنم ، وهو اسم مصدر كالمقتل. يقال : غنم غنيمة. وفلان يغتنم الأمر الفلانيّ ، أي يحرص عليه حرص المقاتل على الغنيمة. وفي حديث عمر رضي الله عنه : «أعطوا من الصّدقة من أبقت له غنما ولا تعطوها من أبقت له غنمين» (٢) أي من أبقى له الغلاء قطعة واحدة (٣) لا تحتاج أن تجعل قطعتين لكثرتها ، بل لقلّتها تكون قطعة واحدة فأعطوه من الصّدقة فإنه مستحقّ ، ولا تعطوها من كثر فيه حتى صار لا يسعه مراح واحد فجعل قطعتين على مكانين ، فمن ثمّ حسنت تثنية اسم الجنس ، وقد تقدّم مثله في قوله عليه‌السلام «بين الغنمين». والذي يسهّل تثنية اسم الجنس اختلاف أنواعه نحو : عندي قمحان : جيد ورديء.

غ ن ي :

قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(٤) أي كأن لم تكن ولم تقم. يقال : غني بالمكان يغنى به ، أي أقام. ومنه قوله / تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)(٥) أي كأن لم يقيموا. وأصله من غني بالمكان : إذا أقام به إقامة مستغن به راض بمحلّه فيه. وقال بعضهم : يقال : غني في مكان كذا : إذا طال مقامه مستغنيا به عن غيره ، يغنى. والمغنى : المكان المقام به ، ويكون مصدرا وزمانا أيضا. والجمع المغاني. وفي حديث عليّ رضي الله عنه : «رجل سمّاه الناس عالما ولم يغن في العلم يوما سالما» (٦) يريد رضي الله عنه أنّ من الناس من يعتقد كونه عالما ولم يلبث في العلم يوما تاما ، ولله درّه ما أفصحه! قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(٧) هو جمع غنيّ. والغنيّ : من حصل له الغنى ضدّ

__________________

(١) ٢٠ / الفتح : ٤٨.

(٢) النهاية : ٣ / ٣٩٠ ، « .. من أبقت السنة له غنما ..» وبه يتضح المعنى.

(٣) أي قطيعا من الغنم لا قطيعين.

(٤) ٢٤ / يونس : ١٠.

(٥) ٩٢ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩٢.

(٧) ٢٧٣ / البقرة : ٢.

٢١٢

الفقر. وهو مقصور ، وقد مدّه بعضهم ضرورة في قوله (١) : [من الوافر]

سيغنيني الذي أغناك عني

فلا فقر يدوم ولا غناء

والبصريون لا يجيزون نحوه. وأما الغناء ، وهو الصوت بالنّغم المعروف ، فممدود. وأما الغناء بالفتح والمدّ فمعناه الكفاية. ثم الغنى يكون على أضرب : أحدها ارتفاع الحاجات وامتناعها على ذلك المستغني ، وليس ذلك إلا لله تعالى دون خلقه. والثاني قلّة الحاجات ، وهذا موجود في الخلق. ومن الأول قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢) أي لا يستحقّ الغنى المطلق إلا من له الحمد. ومن الثاني قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)(٣) وإليه أشار بقوله عليه‌السلام : «إنما الغنى غنى النفس» (٤) لأنه قد قال قبله : «ليس الغنى بكثرة العرض» (٥). والثالث كثرة القنيّات وزيادة الأعراض الدّنيوية ، وهذا هو الذي يقع فيه كثير من الناس في ضروب من الفتن. وإليه أشار بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(٦).

قوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ)(٧) أي ومن كان عنده مال يكتفي به عن أكل مال اليتيم فليطلب العفّة والقنع من نفسه عن مال اليتيم. قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي من رآهم من الجهلة بأحوالهم يحسبهم أغنياء بكثرة القنيّات لما يظهرون من التعفّف عمّا في أيدي الناس والزهد فيه فيظنّون أغنياء. وهذا هو غنى النفس الذي أشار إليه سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : لقد كفر (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(٨) يروى أنهم لما سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(٩) قالوا ذلك

__________________

(١) من شواهد اللسان والتاج ـ مادة غنا. ويروى بالفتح والكسر ؛ فمن رواه بالكسر أراد مصدر غانيت ومن رواه بالفتح أراد الغنى نفسه.

(٢) ٢٦ / لقمان : ٣١.

(٣) ٨ / الضحى : ٩٣.

(٤) صحيح البخاري ، رقاق : ١٥.

(٥) تتمة الحديث السابق ، وفي البخاري : عن كثرة.

(٦) ٦ و ٧ / العلق : ٩٦.

(٧) ٦ / النساء : ٤.

(٨) ١٨١ / آل عمران : ٣.

(٩) ٢٤٥ / البقرة : ٢.

٢١٣

جهلا بقول الباري تعالى وإبراز طلبه الصدقة في صورة القرض لنكتة جهلوا معناها ، وهو أنّ المقترض يردّ ما أخذ فلا يأخذ شيئا لا سيما إذا كان أكرم الأكرمين. يقال : غني يغنى وتغنّى وتغانى. قوله : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ)(١) أي ما كفاه مؤونة ما يحذره. غني بكذا بمعنى ابتلي به. قال الشاعر (٢) : [من الطويل]

غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى

وكلّا سقاناه بكأسيهما الدّهر

والغانية : المرأة ، وأصله من استغنت بزوجها. وقيل : إنما قيل لها غانية لاستغنائها بحسنها. قال الشاعر (٣) : [من الطويل]

فلا تحسبن هندا لها العذر وحدها

سجية نفس كلّ غانية هند

وقيل : سميت بذلك لاستغنائها بجمالها عن التزيّن حيث تتزين النساء. وقيل : لأنها تقيم بالبيت ، ولذلك قيل للنساء ربات الخدور لملازمتهنّ إياه. وفي الحديث : «خير الصدقة ما أبقت غنى» (٤) قال القتيبيّ : فيه قولان أحدهما : خير ما تصدقت به الفضل من قوت عيالك وكفايتهم ، فإذا خرجت منك إلى من أعطيته خرجت على استغناء منك ، ومنهم عنها. ومثله الحديث الآخر : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (٥). والثاني أنّ معناه خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة ... (٦). وفي الحديث : «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» (٧) ، فيه تأويلات أحدها من لم يحسّن صوته به ، أي يقرؤه بحقوقه من تقويم لفظه ، وإكمال مخارج حروفه ، وعدم تمطيطها كما تفعله الجهلة من عوامّ الناس. ويحملون نفس هذا الحديث على ما يصنعونه من القراءة بالألحان وصناعات الأنغام ، ويزعمون أنّ هذا هو التغنّي المراد بالحديث ، حاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر بذلك. وقيل : معنى «من لم يتغنّ»

__________________

(١) ٢٨ / الحاقة : ٦٩.

(٢) البيت لحاتم الطائي (الديوان : ٥١) غير أن العجز فيه لبيت بعده. ورواية الأصل مناسبة لما في اللسان ـ مادة غنا. بينما رواية الديوان : عنينا.

(٣) العجز مضطرب في ح وس. والتصويب من م.

(٤) النهاية : ٣ / ٣٩٠.

(٥) يذكر ابن الأثير أن هذا الحديث رواية أخرى للحديث السابق.

(٦) بياض في الأصل ، وكلمة غير واضحة في م. ولا نرى نقصا في المعنى.

(٧) النهاية : ٣ / ٣٩١.

٢١٤

من لم يستغن كقوله : «من لم يغنه القرآن لا أغناه الله» وقد جاء يفعل بمعنى استفعل نحو تعجب واستعجب وتعظّم واستعظم. وهذا تأويل سفيان (١) ، وقد ردّه بعضهم بأنّ تمام الحديث يقتضي تحسين الصوت ، فلا ملاءمة بينه وبين الاستغناء. وقيل : معناه تحسين الصوت وتزيينه. وفي الحديث : «لحبّرته لك تحبيرا» (٢) أي حسّنته وزينته. ولا شك أن تحسين الصوت مطلوب ما لم يخرج عن حدّ الشّرع. وقيل : معناه جهر الصوت به. وكلّ من جهر صوته ووالى به فصوته عند العرب غناء ، قاله أبو عبيد الهرويّ. وقال الشافعيّ رضي الله عنه : معناه تحزين القراءة وترقيقها.

قلت : ويشهد له الحديث الآخر : «إنّ هذا القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فتحازنوا» (٣). وفي حديث آخر : «زيّنوا القرآن بأصواتكم» (٤). ومثل الحديث الأول في هذا التأويل قوله عليه‌السلام أيضا : «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن» (٥) وقيل : معناه التطريب الذي لا يخرج القرآن عن نظمه ولا وضعه ، وقليل من يتقن ذلك. وفي حديث الجمعة : «من استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه» (٦) ، أي تركه وطرده ورمى به عن عينه ، لأنّ المستغني عن الشيء تارك له. فهو من باب المقابلة كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(٧).

__________________

(١) يقصد : «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» (النهاية : ٣ / ٣٩١).

(٢) من حديث إبي موسى : «لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبرّتها ...» (النهاية : ١ / ٣١٧).

(٣) ابن ماجة ، الإقامة : ١٧٦.

(٤) صحيح البخاري ، التوحيد : ٥٢.

(٥) النهاية : ١ / ٣٣.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩١.

(٧) ٦٧ / التوبة : ٩.

٢١٥

فصل الغين والواو

غ ور :

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً)(١) أي ذاهبا غائضا. والغور في الأصل مصدر ، والتقدير : ذا غور. والغور أيضا : المنهبط من الأرض ضدّ النجد ، وهو ما ارتفع منها. ولكون الغور في الأصل مصدرا وصف به الواحد والجمع في قولهم : ماء غور ومياه غور (٢). قوله تعالى : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ)(٣) جمع مغارة وهي الكهف في الجبل وما يغار فيه من الأرض أي يدخل ويستتر به. وكلّ ما دخلته ليقيك (٤) فهو غار ومغار. والمعنى : لو تجدون جبّا أو ما تغورون فيه وتستترون به.

وغارت / عينه غؤورا : نزلت في الرأس (٥). وغار الرجل وأغار على القوم : إذا فاجأهم بالقتال ، والكثير أغار ؛ قال الشاعر (٦) : [من الرجز]

نحن اللذون صبّحوا الصّباحا

يوم اليسار غارة ملحاحا

قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً)(٧) جمع مغيرة وهي الخيل التي يغير عليها الغزاة من المسلمين وقت الصبح ، أقسم بها تعظيما لشأن الجهاد. وغارت الشمس غيارا : غابت ؛ قال الشاعر (٨) : [من الطويل]

هل الدّهر إلا ليلة ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها؟

__________________

(١) ٣٠ / الملك : ٦٧.

(٢) الكلمة انفردت بها م.

(٣) ٥٧ / التوبة : ٩.

(٤) الكلمة غير منقوطة ولعلها كما ذكرنا ، وفي س : نفسك.

(٥) غير واضحة في الأصل ، رسمناها عن اللسان.

(٦) البيت للعقيلي كما في مغني اللبيب : ٤١٠ ، وفيه : يوم النخيل.

(٧) ٣ / العاديات : ١٠٠.

(٨) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في ديوان الهذليين : ١ / ٢١ ، وهو مطلع رثائية.

٢١٦

وفي الحديث : «ما بتّ إلا تغويرا» (١). يقال : غوّر القوم تغويرا : قالوا (٢). وروي «تغريرا» (٣) من الغرار وهو القلّة. وغوّر الرجل : نزل غورا. وفي الحديث : «أنه سمع ناسا يذكرون القدر فقال : إنكم أخذتم في شعبين بعيدي الغور» (٤) قال الحريريّ : غور كلّ شيء بعده. يقول لن تدركوا حقيقتهما كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه. وقد حصلت فروق في المصادر مع اتحاد الفعل ، فيقال : غارت عينه غؤورا ، وغارت الشمس غيارا ، وغار الماء غورا.

غ وط :

قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ)(٥) أي من قضاء الحاجة. وأصل الغائط : المكان المطمئنّ من الأرض الذي يواري من يدخل فيه. وكلّ ما واراك فهو غائط. فكنّى به عن البراز لما كان الناس ينتابونه لقضاء الحاجة لأنه يواريهم ويغيّبهم. وبه سمي غوطة دمشق لاطمئنانها. وفي الحديث : «أنّ رجلا جاءه فقال : يا رسول الله قل لأهل الغائط يحسنوا مخالطتي» (٦). أراد بالغائط هنا حقيقته ، وهو الوادي المنخفض. وفي قصة نوح عليه‌السلام : «وانسدّت ينابيع الغوط الأكبر» (٧) [الغوط :](٨) عمق الأرض الأبعد ، يقال غاط يغوط ، أي دخل في شيء واراه.

غ وص :

قوله تعالى : (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ)(٩) الغوص : الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه. فيقال لكلّ من يهجم على شيء غامض فيخرجه : غائص ، عينا كان ذلك المخرج أو

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٩٣ ، من حديث السائب ، وكلمة (بت) إضافة ليست في الأصل ومكانها : تمت.

(٢) من القيلولة.

(٣) ومن رواه هكذا جعله من الغرار ، وهو النوم القليل.

(٤) كذا في م والنهاية : ٣ / ٣٩٣ ، وفي الأصل : « .. في متعمق بعيد من الغور».

(٥) ٤٣ / النساء : ٤.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩٦.

(٧) النهاية : ٣ / ٣٩٥.

(٨) إضافة يقتضيها السياق.

(٩) ٣٧ / ص : ٣٨.

٢١٧

معنى ، إلا أن حقيقته إخراج العين من الماء. وقوله تعالى : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ)(١) قيل : يستخرجون اللؤلؤ من البحر ، وهو أول من استخرجه. وقيل : معناه يستنبطون له الأعمال العجيبة والأفعال البديعة. وفي زمنه ظهرت الصنائع وتوارثها منهم الناس إلى اليوم. ويقال : فلان يغوص على المشكلات ، أي يستخرجها ويوضحها.

غ ول :

قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ)(٢) الغول هنا : غيبوبة العقل. وأصله إهلاك الشيء من حيث لا يحسّ به. ومنه : اغتاله ، وقتله غيلة : إذا قتله من حيث لا يشعر به. قال السّدّيّ : أي [لا] تغتال عقولهم ، أي لا تذهب بها عكس ما عليه جمهور العلماء من كونها تذهب بالعقل. وقيل : الغول : الصّداع والتّدويم في الرأس ، ولذلك وصف علقمة بن عبدة الخمر بذلك فقال (٣) : [من البسيط]

تشفي الصّداع ولا يؤذيك صالبها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

وقال أبو الهيثم : يقال : غالت الخمر فلانا : إذا شربها فذهبت بعقله أو بصحّة بدنه. قال : والغول : الخيانة ، وكذا الغائلة. وقال ابن عرفة : يقال : غاله واغتاله ، أي ذهب به. وفي عهدة المماليك : «لا داء ولا غائلة» (٤) قال ابن شميل : الغائلة : أن يكون مسروقا ، فإذا استحقّ غال مال مشتريه ، أي أنقده في ثمنه. وإنّما نفى الله تعالى عنها الغول لما نبّه عليه من وصف خمر الدنيا في قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)(٥) وبقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(٦) فبيّن انتفاء ذلك عن خمر الآخرة المذكورة في قوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)(٧) وأمّا خمور الدنيا

__________________

(١) ٨٢ / الأنبياء : ٢١.

(٢) ٤٧ / الصافات : ٣٧.

(٣) الديوان : ٦٩. تدويم : دوار.

(٤) يريد : حديث عهدة المماليك كما في النهاية : ٣ / ٣٩٧.

(٥) ٢١٩ / البقرة : ٢.

(٦) ٩٠ / المائدة : ٥.

(٧) ١٥ / محمد : ٤٧.

٢١٨

فليست بلذيذة الطعم ، وإنما يتلذّذون بها لما تنفي من الهمّ ولما تغيّب من العقول المقتضية للنظر في العواقب. وكلّما قلّ العقل قلّ الهمّ. ومنه قول بعض الدّعّار : [من الرجز]

لو لم يكن في شربها فرح

إلا الخلاص من دواهي الهموم

وقال في معنى أن كلّما قلّ العقل قلّ الهمّ (١) : [من الكامل]

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

والغول : شيء يزعم العرب أنه يهلك الإنسان في البريّة ، وأنه يتراءى له ويتلوّن حتى يتبعه فيهلكه ، وذكروا ذلك في أشعارهم وأكثروا منه ؛ قال كعب رضي الله عنه (٢) : [من البسيط]

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلوّن في أثوابها الغول

وقد بالغ بعض الشعراء فقال في نفيها (٣) : [من البسيط]

الجود والغول والعنقا ثلاثتها

أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن

وقد كذب في نفي الجود فإنه خلق وكان ، ولكثرة ما ذكرت العرب الغول نفاها الحديث النبويّ في قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا غول» (٤) كقوله : «لا هامة ولا عدوى ولا صفر» (٥). وتغولت عليّ البلاد ، أي تلوّنت واختلفت. وقال بعضهم : الغول هي السّعلاة ، والجمع سعالى. ويقولون : إنّ السّعلاة ساحرة الجن. فإن صحّ ذلك فتكون الغول موجودة لأن مذهب أهل الحقّ أنّ الجنّ موجودون. وفي الحديث : «بأرض غائلة النّطاء» (٦) أي تغول ببعدها سالكيها ، أي تهلكهم. ومنه المثل : «العطب غول الحلم» (٧) أي يهلك

__________________

(١) البيت للمعري مشهور.

(٢) الديوان : ٨.

(٣) مرّ في مادة (ع ن ق).

(٤) الحديث في النهاية (٣ / ٣٩٦): «لا غول ولا صفر».

(٥) الحديث في النهاية (٥ / ٢٨٣): «لا عدوى ولا هامة». وتغولت وردت في الأصل : تغول.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٩٧ ، من حديث طهفة.

(٧) لم نجده في المظان.

٢١٩

الحليم. والغول يداني البعد ، والبعد يداني الإهلاك. فالغول والغول يقعان على معنيين متقاربين ؛ أحدهما البعد والآخر الإهلاك ، وتحقيقه أنّ الغول مصدر والغول اسم كالغسل والغسل. وفي حديث عمار : «أنه أوجز الصلاة فقال : كنت أغاول حاجة لي» (١) قال أبو عبيد : المغاولة : المبادرة في السير. وأصله من الغول ، وهو البعد. ومنه قولهم في الدعاء : «هوّن الله عليك غول هذا الطريق» أي بعده. والبعد عندهم يعبّر عن الهلاك ؛ قال الشاعر : [من الطويل]

يقولون : لا تبعد وهم يدفنونه

فلا بعد إلا ما تواري الصفائح

وقد تقدّم ذلك في مكانه والله أعلم.

غ وي :

قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)(٢) هو جمع غاو ، وهو الضالّ المنهمك في ضلاله لا يردّه شيء. يقال : غوى يغوي غيّا والأصل غويا فأدغم ، كطيّا مصدر طوى. وقد يعبّر بغوي عن جهل لأنه سببه ، وعليه قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(٣). وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)(٤) إذ معناه جهل ، وقيل : خاب ، وقيل : فسد عيشه. وقال آخرون : بشم ، من قولهم : عصى الفصيل : إذا بشم. وقد قيل : إنه يقال : غوى الفصيل وغوي ، بالفتح والكسر. وقد قرىء : «غوي» بالكسر نحو هوى قيل : إنه يقال : غوى الفصيل وغوي ، بالفتح والكسر. وقد قرىء : «غوي» بالكسر نحو هوى وهوي. قوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ)(٥) أي حملناكم على الغيّ (إِنَّا كُنَّا) في أنفسنا (غاوِينَ).

قوله : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا)(٦) إعلام منهم بأنّا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد لنفسه ،

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٩٧.

(٢) ٢٢٤ / الشعراء : ٢٦.

(٣) ٢ / النجم : ٥٣.

(٤) ١٢١ / طه : ٢٠.

(٥) ٣٢ / الصافات : ٣٧ ، مع ما بعدها.

(٦) ٦٣ / القصص : ٢٨.

٢٢٠