عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

يُشْرِكُونَ)(١). قيل : وتخصيص لفظ المتعال لمبالغة ذلك منه لا على سبيل التكلّف (٢) ، والأعلى الأشرف ، ومنه قوله تعالى : (رَبِّكَ الْأَعْلَى)(٣).

والاستعلاء قد يكون طلب العلوّ المذموم ، وقد يكون طلب العلاء وهي الرفعة. فقوله : (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)(٤) يحتمل الأمرين جميعا. وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي أعلى من أن يقاس به أو يعتبر بغيره. قوله : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى)(٥) جمع عليا تأنيث أعلى أفعل تفضيل. والمعنى هنّ الأشرف والأفضل بالنسبة إلى هذا العالم.

قوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ)(٦). يجوز أن يكون ظرفا وأن يكون وصفا ، ونصبه على الحال وما بعده مرفوع به ، ولذلك موضع حقّقناه فيه. وقرىء عليهم (٧) جار ومجرور ، وكلا المعنيين متقارب. قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)(٨) قيل : هو موضع في أعلى الجنة وهو اسم علم لذلك المكان كمكة ، وجمع جمع العقلاء ، وهو اسم أشرف الجنان كما أنّ سجّينها اسم شرّ النيران. وقيل : بل ذلك في الحقيقة اسم سكّانها. قال الراغب (٩) : وهذا أقرب في العربية ؛ إذا كان هذا الجمع يختصّ بالناطقين. قال : والواحد علّيّ نحو بطّيخ. ومعناه أنّ الأبرار في جملة هؤلاء فيكون ذلك كقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ)(١٠). وباعتبار العلوّ قيل للمكان الشّرف والمشرف العلياء. وقال مجاهد :

__________________

(١) ٦٣ / النمل : ٢٧.

(٢) في الأصل : التكليف. يقصد التكلف الذي يكون من البشر.

(٣) ١ / الأعلى : ٨٧.

(٤) ٦٤ / طه : ٢٠.

(٥) ٤ / طه : ٢٠.

(٦) ٢١ / الإنسان : ٧٦.

(٧) عاليهم : فوقهم (القرطبي : ١٩ / ١٤٦) ، وتكون بهذه الحال منصوبة على الظرف. ويقول الفراء : قرأها أهل الحجاز «عاليهم» (معاني القرآن : ٣ / ٢١٨ ، وفيه تفصيل حسن). ويذكر ابن خالويه قراءة «عليهم» ـ بضم الهاء ـ وهي قراءة مجاهد وابن سيرين ، و «عاليتهن» قراءة ابن مسعود (مختصر الشواذ : ١٦٦).

(٨) ١٨ / المطففين : ٨٣.

(٩) المفردات : ٣٤٦.

(١٠) ٦٩ / النساء : ٤.

١٤١

علّيّون : السماء الرابعة. وقال الزجّاج : أعلى الأمكنة. وقال قتادة : هو تحت قائمة العرش اليمنى. وقال الفراء : هو واحد كما تقول : لقيت منه الرحيين وهو واحد. ويراد به المبالغة. وأنشد قول النابغة (١) : [من البسيط]

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

قيل : والعلياء من عليت أعلى ، لا من علوت أعلو ، وإلا لوجب العلواء. وقد حقّقنا هذا في شرح هذه القصيدة المذكورة في مصنّف مفرد كثير الفوائد. والعلّيّة : الغرفة المرتفعة. وعالية الرمح : ما دون سنانه. قال أبو طالب (٢) : [من الرجز]

كذبتم وبيت الله محمدا

لم تختضب سمر العوالي بالدّم

وفي الحديث : «بعث إلى أهل العوالي» (٣) ؛ مواضع مرتفعة بالمدينة. وشذّوا في النسب إليها فقالوا : علويّ والقياس عالي وعالوي كقاضي وقاضوي. والعلاة : السّندان حجرا كان أو حديدا ، وغلب في الحديد. والعلّيّة : الغرفة المرتفعة. قال الراغب (٤) : والعلّيّة تصغير عالية ، وصارت في التعارف اسما للغرفة ، وجمعها علالي فهي فعاليل. والكلامان مشكلان جدا ؛ أما الأول فلا يجوز أن يكون علّيّة تصغير عالية ؛ إذ يجب أن يكون عويلية نحو صويرية تصغير صارية ، جريا بالمعتلّ مجرى نظيره من الصحيح. وإنّما علّيّة بوزن فعليّة ولا تصغير البتّة ، فأصلها علّيوة فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها فصارت علّيّة كما ترى. وأمّا الكلام الثاني فكيف يكون علاليّ بزنة فعاليل وإنما هو بزنة فعاعيل ، ولم يكن له حاجة بذلك إذ لا تعلّق له بما هو من صدده. وعجبت كيف يخفى على مثله ذلك! والعليان : البعير الضخم. وعلاوة الشيء : أعلاه كالرأس ونحوها. ويقال لما فوق الحمل من زيادة علاوة.

__________________

(١) مطلع معلقته (الديوان : ٢).

(٢) العجز مكسور ، وناقص.

(٣) المفردات : ٣٤٦ ، والفتح الكبير : ٢ / ٧ مع خلاف.

(٤) لم نجده ، وفي الفتح الكبير : ٢ / ٧ : عن عائشة : «بعثت إلى الناس كافة فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي».

١٤٢

وعلاوة الريح (١) وسفالها ـ بضم الفاء فيهما ـ. والمعلّى : / هو القدح السابع (٢). واستعير للحظّ فقيل : له القدح المعلّى. واعل : أمر من العلوّ ، وغلب في الاستدعاء. ويقال : أمر من التعالي وهو الارتفاع. قيل : أصله أن يدعى الإنسان إلى مكان مرتفع ثم جعل للدعاء من كلّ مكان. وقيل : أصله من العلوّ وهو ارتفاع المنزلة ، فكأنّه دعاه إلى ما فيه رفعة نحو قولهم : قم غير صاغر. وهو تشريف للمقول له. ثم جعل لكلّ مدعوّ وإن لم يقصد تشريفه. والمشهور أن يعتدّ بما حذف منه وهو اللام ، فتفتح لامه أمرا للواحد المذكر والمؤنث والمثنّى والمجموع فيهما ، فيقال : تعال ، تعالوا ، تعالي ، تعالين ؛ قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)(٣)(فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ)(٤). ونقل فيه عدم الاعتداد بالحذف فيقال تعالي ـ بالكسر ـ وتعالوا ـ بالضم ـ وأنشد (٥) : [من الطويل]

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

والشعر لبعض الحمدانيين فيستأنس به ولا يستشهد به. وعلّيته فتعلّى. قوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(٦) أي المنصورون على أعدائكم بالحجّة والظفر. علوت قرني ، أي غلبته. قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)(٧) هذا علوّ في الأرض (٨) تكبرا منه وطغيانا. ومثله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ)(٩). قوله : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)(١٠) أي لتطغون ولتعظمنّ. قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)(١١) أي تكبرا

__________________

(١) في الأصل : الرمح. وعلاوة الريح : أشرفها.

(٢) وهو أشرف القداح.

(٣) ٦٤ / آل عمران : ٣.

(٤) ٢٨ / الأحزاب : ٣٣.

(٥) البيت لأبي فراس (الديوان : ٢٤٦). وصدره :

أجارتنا ما أنصف الدهر بيننا

(٦) ١٣٩ / آل عمران : ٣ ، وغيرها.

(٧) ٤ / القصص : ٢٨.

(٨) كذا في م ، وفي ح وس : في الأرض.

(٩) ٣١ / النمل : ٢٧.

(١٠) ٤ / الإسراء : ١٧.

(١١) ٨٣ / القصص : ٢٨.

١٤٣

وطغيانا. وأمّا الرّفعة في الأمور الدّنيوية من طلب مال ورياسة عقل فلا يسلم منها كالأنبياء ومن والاهم.

قوله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ)(١) قرىء علي (٢) أي مرتفع. ومعنى قراءة العامة أنّ طريق الخلق كلّهم عليّ فلا يفوتني منهم أحد ، اللهمّ بجاه كتابك القرآن ونبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعصمنا منه ومن نزغاته. واعلم أنّ «على» قال النحاة فيها : إنها تكون مترددة بين الفعلية والاسمية والحرفية ؛ فتكون فعلا ماضيا متعديا ؛ تقول : علا زيد السطح ، وأنشد (٣) : [من الطويل]

علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

بأبيض ماضي الشّفرتين يماني

وتكون حرفا إذا جرّت ما بعدها نحو : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٤) وتكون اسما إذا دخل عليها حرف جر نحو من في قول الشاعر ؛ هو مزاحم العقيليّ (٥) : [من الطويل]

غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها

تصلّ ، وعن قيض بزيزاء مجهل

قالوا : لأنّ حرف الجرّ لا يدخل على مثله ويكون معناها حينئذ معنى فوق. فإذا قلت : غدت من عليه ، أي من فوقه ومن جهة علوّه. وقال بعضهم : تكون اسما إذا أدّى جعلها حرفا إلى تعدّي فعل المضمر المتصل في غير باب ظنّ وفي لفظتي فقد وعدم. وأنشد (٦) : [من المتقارب]

هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها

__________________

(١) ٤١ / الحجر : ١٥.

(٢) هي قراءة يعقوب والحسن (معاني القرآن للفراء ، وحاشيته : ٢ / ٨٩). وبالرفع تكون نعتا للصراط.

(٣) البيت من شواهد المغني : ٥٢.

(٤) ١٦٠ / آل عمران : ٣.

(٥) البيت من قصيدة طويلة لمزاحم (شرح المفصل : ٨ / ٣٨).

(٦) البيتان للأعور الشّنّيّ ، كان عمر كثيرا ما ينشدهما (الكتاب : ١ / ٦٤ ، مغني اللبيب : ٤٨٧).

١٤٤

وفي هذه المسألة غموض أوضحناه في كتبنا الإعرابية فعليك بتحقيقها منها. وفي الحديث : «فإذا انقطع من عليها» (١) أي من فوقها. وقال الهرويّ : معناه من عندها. ويقال : علج في على بإبدال الياء جيما وأنشد (٢) : [من الرجز]

خالي عويف وأبو علجّ

يقلع بالودّ وبالصّيصجّ

المطعمان اللحم بالعشجّ

وبالغداة كسر البرنجّ

يريد : أبو عليّ وبالعشيّ والبرنيّ والصّيصيّ ، وهذه لغة ثانية في قلب الياء (٣) جيما لا خصوصية لها بهذه الكلمة.

فصل العين والميم

ع م د :

قوله تعالى : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)(٤) قيل : رفعها بقدرته من غير عمد البتّة وقيل : لها عمد لكنّها غير مرئية لكم ، فإنها عمد القدرة ، وهو كقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً)(٥). والعمد جمع عمود. وقد قرىء قوله تعالى : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٦) بضمتين وفتحتين وكلاهما جمع عمود. وقد صرّح بأن عمدا وعمدا جمع عمود. قال الراغب (٧) : قيل : عمد جمع عامد نحو خادم وخدم ، والعامد والعماد والعمود بمعنى واحد وهو ما يعمد به من خشب ونحوه. وقال ابن عرفة : هو جمع عماد. قال : وليس في كلامهم فعال

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٢٩٦.

(٢) عزاهما ابن منظور لراجز ، كما في مادة ـ برن ، وفيه تبادل الأشطر.

(٣) يريد الياء المشدّدة. والبرني : ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة.

(٤) ٢ / الرعد : ١٣.

(٥) ٢٧٣ / البقرة : ٢.

(٦) ٩ / الهمزة : ١٠٤.

(٧) لم يقل الراغب شيئا من هذا ، وانظر المفردات : ٣٤٦.

١٤٥

على فعل (١) إلا عماد وعمد وإهاب وأهب (٢). وقال الهرويّ : يقال : عماد وأعمدة وعمد ، وهي التي ترفع بها البيوت. وقولهم : رفيع العماد ، كناية عن ارتفاع شأنه في قومه ؛ إذ لا يرفع بيت إلا لمن كان مسوّدا في قومه. ويقولون : هو رفيع العماد ، كثير الرماد ، طويل النّجاد كناية عن رفعة بيته وطوله وكرمه. ومنه حديث أمّ زرع : «زوجي رفيع العماد» (٣).

قوله : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ)(٤) أي الأساطين. قال المبرد : أي ذات الطول والبناء الرفيع. قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً)(٥) أي قاصدا الفعل والشخص. والعمد في الأصل : قصد الشيء والاستناد إليه. والتعمّد في العرف خلاف السهو. والعمدة : كلّ ما يعتمد عليه. والعميد : ما يعتمده الناس ، وغلب على السيد الذي يعتمد عليه الناس. والعميد أيضا : المقتول حبا. وقيل : هو القلب الذي قتله الجوى والسّقم. وأنشد (٦) : [من الطويل]

ولكنّني من حبّها لعميد

ومنه : عمد أي توجّع من حزن وغضب. وعمد البعير : توجّع من عقر أصابه بظهره. وفي حديث عمر رضي الله عنه : «يأتي [به] أحدهم على عمود بطنه» (٧). وقال أبو عمر : هو ظهر من حيث إنه يمسك البطن ويقوّيه ، فصار بمنزلته. وقيل : هو مثل في المشقّة والتّعب وإن لم يأت به على ظهره. وفي حديث عمر أيضا رضي الله عنه : «إنّ نادبته قالت : واعمراه! أقام الأود وشفى العمد» (٨) هو ورم يكون بظهر البعير ، كنّت بذلك عن حسن سياسته.

__________________

(١) وفي الأصل : فعلى على فعيل ولعل الصواب ما ذكرنا.

(٢) ويضيف اللسان : وأهب.

(٣) النهاية : ٣ / ٢٩٦.

(٤) ٧ / الفجر : ٨٩.

(٥) ٩٣ / النساء : ٤.

(٦) البيت لمجهول ، وذكر الأئمة أنه لا يعرف قائله. ذكره كاملا السيوطي (شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٠٥) وذكر ابن عقيل (١ / ١٤١) صدره :

يلومونني في حب ليلى عواذلي

(٧) النهاية : ٣ / ٢٩٦ ، والإضافة منه.

(٨) النهاية : ٣ / ٢٩٧.

١٤٦

ع م ر :

قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ)(١) العمر : الحياة ، والمعنى أنه تعالى أقسم بحياة نبيّه لعزّته عليه. والعمر والعمر ـ فتحا وضما ـ واحد غير أنه متى اتصل بلام الابتداء مقسما به وجب فتح عينه ، وإلا جاز الأمران. وقال الهرويّ : فإذا استعمل في القسم فالفتح لا غير. ولا بدّ أن يكون مع اللام. ويقال : عمرك بنصب الجلالة وعمرك. على أنّ المعنى : أسأل الله عمرك (٢) ؛ فهما مفعولان بذلك المقدّر ، وحذف زوائد المقدّر. وقيل : المعنى عبادتك الله ، أي اسأل الله يعمرك (٣) بعبادته. فيكون المصدر مضافا لفاعله ، والجلالة منصوبة بالمصدر. وقال عمر بن أبي ربيعة (٤) : [من الخفيف]

أيّها المنكح الثّريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان؟

وفي الحديث : «أنّه بايع رجلا من الأعراب فخيّره بعد البيع فقال له الرجل : عمرك من أنت» ، وفي رواية : «عمّرك الله ـ بالتشديد ـ بيّعا» (٥). قال الأزهريّ : أراد : عمّرك الله من بيّع (٦). وقال أبو بكر : هو حرف معناه القسم ؛ يقول بالذي أسأله أن يعمّرك والعمر والعمر ـ بالضم والفتح ـ : لحم ما بين الأسنان ، والجمع عمور. ومنه الحديث : «أوصاني جبريل عليه‌السلام بالسّواك حتى خشيت على عموري» (٧). والعمر أيضا : الكمّ ، ومنه الحديث : «لا بأس أن يصلي الرجل على عمريه» (٨) أي كمّيه. وفسّر الفقاء بأنهما طرفا الكمّين. قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ)(٩) أي يزيد في السنّ. قوله : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ

__________________

(١) ٧٢ / الحجر : ١٥.

(٢) في الأصل : يعمرك.

(٣) في الأصل : يعمرك الله ، ولعلها كما ذكرنا.

(٤) الأغاني : ١ / ١٢٢ ، والثريا هي بنت علي بن عبد الله الأموية تزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ونقلها إلى مصر.

(٥) كذا الروايتان عند الهروي ، وفي النهاية (٣ / ٢٩٨): «عمرك».

(٦) فتكون «بيعا» تمييز.

(٧) النهاية : ٣ / ٢٩٩. العمور : منابت الأسنان واللحم الذي بين مغارسها ، الواحد عمر ، وقد تضم العين.

(٨) النهاية : ٣ / ٢٩٩.

(٩) ١١ / فاطر : ٣٥.

١٤٧

عُمُرِهِ)(١) أي من عمر معمّر آخر. وهذا يسميه النحويون مما يعود عليه الضمير لفظا لا معنى. وينظرونه بقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم آخر. وينشدون قول الشاعر (٢) : [من الطويل]

وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب

وأجاب بعضهم بأنّ معنى : عندي درهم ، أي مقداره. وعلى هذا فالضّمير عائد عليه لفظا ومعنى ، وفيه لنا مقال ليس هذا موضع تحريره. قوله : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها)(٣) يريد تعالى ما بنوه من الأبنية العتيدة والأساطين الشديدة وشقّ الأنهار وغرس الأشجار كما دوّخت الأرض ساسان والفرس فإنّهم هم الذين عنوا (٤) بذلك. والعمارة : ضدّ الخراب. وأعمرت الرجل واستعمرته : فوّضت إليه العمارة.

والعمر : اسم لمدة عمارة البدن بالحياة. وفرّق بعضهم بين العمر والبقاء ؛ فقال : العمر دون البقاء ، فإذا قيل : طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه. وإذا قيل : بقاؤه فليس يقتضي ذلك ؛ فإن البقاء ضدّ الفناء. ولفضل البقاء على العمر وصف تعالى به ، وقلّما وصف بالعمر. والتّعمير : إعطاء العمر بالفعل أو بالقول على سبيل الدعاء. والعمرى في النّحل أن يقال : أعمرتك هذه الدار ، أي جعلتها لك مدة عمرك أو عمري كالرّقبى. والعمارة أيضا بمعنى الجماعة ، وهي أخصّ من القبيلة ، لأنها اسم الجماعة بها عمارة المكان. والعمار ـ بالفتح ـ : ما يضعه الرئيس على رأسه ظاهر لرئاسته من عمامة ونحوها.

والمعمر : المسكن ما دام عامرا بسكانه ، ثم سمي به الرجل ، ومنه جميل بن معمر (٥). والعومرة : صخب يدلّ على عمارة المكان بأربابه (٦). قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(٧) ؛ العمرة في الأصل : الزيارة. يقال : اعتمر فلان يعتمر : إذا زار. وهي في

__________________

(١) تابع الآية السابقة.

(٢) البيت للأخنس بن شهاب التغلي (اللسان ـ سرب).

(٣) ٩ / الروم : ٣٠.

(٤) بياض في الأصل ، والكلمة من م.

(٥) هو جميل بثينة.

(٦) يقول ابن منظور : تركت القوم في عومرة ، أي صياح وجلبة.

(٧) ١٩٦ / البقرة : ٢.

١٤٨

الشّرع زيارة مخصوصة. وقيل : العمرة : الزيارة التي فيها عمارة الودّ. قوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ)(١) قيل : يجوز أن يكون من العمارة ضدّ الخراب ، فيكون عبارة عن حفظ بنيانه وجدره أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا : أقمت به. يقال : عمرت مكان كذا وبمكان كذا : أقمت به. وأمّ عامر : كنية الضّبع تفاؤلا أو تهكما. وأنشد (٢) : [من الطويل]

فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم

عليكم ، ولكن خامري أمّ عامر

ويكنى عن الإفلاس بأبي عمرة. وفي حديث : «ما رأيت حربا بين رجلين مثلهما قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه عند شجرة عمريّة يلوذ بها» (٣) قال أبو العميثل وأبو سعيد : العمريّ : القديم ، والعمريّ (٤) : الذي ينبت من السّدر على الأنهار.

ع م ق :

قوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٥) أي بعيد. وأصل العمق : البعد سفلا. يقال : بئر عميق : إذا كان بعيد القعر. ويقال : معيق إذا كان ... (٦) ، وهو مقلوب منه ، لأنّ عميق أكثر من معيق.

ع م ل :

قوله تعالى : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ)(٧). العمل هنا أعمّ لأنه من أعمال الجوارح والقلب ، ويدخل فيه الأقوال لأنها عمل اللسان وهو من جملة الجوارح. وقد وقع في التقابل.

__________________

(١) ١٨ / التوبة : ٩.

(٢) البيت للشنفرى كما في الأغاني : ٢١ / ٨٩. مقدمة الشعر لابن قتيبة : ٩. ويروى البيت كذلك لتأبط شرا كما في الحماسة : ١ / ١٨٨ ، الحيوان : ٦ / ٤٥٠. وفي الأخير : فلا تقبروني.

(٣) النهاية : ٣ / ٢٩٨ ، والحديث لمحمد بن مسلمة. والشجرة العمرية : القديمة العظيمة.

(٤) ويقال : عبريّ.

(٥) ٢٧ / الحج : ٢٢.

(٦) بياض قدر كلمة.

(٧) ٦١ / يونس : ١٠.

١٤٩

الفرق بين الأقوال والأفعال فيقولون : سديد الأقوال والأفعال. وقال بعضهم (١) : العمل كلّ فعل من الحيوان يقصد فهو أخصّ من الفعل ، لأنّ الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات. والعمل قلّما ينسب إلى ذلك ، ولم يستعمل العمل في الحيوان إلا في قولهم البقر والإبل العوامل. والعمل يستعمل في الصالح والطالح ؛ قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(٢) وقال تعالى : (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ)(٣). قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً)(٤) الظاهر أنّ صالحا مفعول به. وقيل : نعت مصدر. قوله : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها)(٥) أي المولّون عليها ، والعمالة : أجرته. والعامل من الرمح ممّا يلي السّنان. واليعملة : الناقة والجمل يعمل. قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ)(٦). قيل : عملت في الدنيا بغير ما يقرّب إلى الله. وقيل : أنهم الرهبان ومن جرى مجراهم. وقيل : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) يعني شدّة مقاساتها العذاب وقيل : العمل والنصب بمعنى. قال الهرويّ : والعمل : التعب والنصب. وقال القطاميّ (٧) : [من البسيط]

إن ترجعي من أبي عثمان منجحة

فقد يهون على المستنجح العمل

أي النصب والتّعب. قوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)(٨) أي صنعته ، وما يجوز أن تكون نافية ، أي لم تعمله أيدي الخلق إنّما عملته أيدينا ، أي قدرتنا. وقوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا)(٩) هو كقوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ). وقيل : (أَيْدِينا) أي نعمتنا قال : ودليل النعمة قوله تعالى : (أَفَلا يَشْكُرُونَ)(١٠). قلت : قال بعضهم : اليد بمعنى النّعمة ، تجمع على أياد (١١) ، وبمعنى الجارحة على أيد ، وهذا يردّ هذا القول. قوله : (فَاعْمَلْ إِنَّنا

__________________

(١) يعني الراغب (المفردات : ٣٤٨).

(٢) ٢٩ / الفتح : ٤٨ ، غيرها.

(٣) ٤ / العنكبوت : ٢٩.

(٤) ٥١ / المؤمنون : ٢٣ ، وغيرها.

(٥) ٦٠ / التوبة : ٩.

(٦) ٢ ، ٣ / الغاشية : ٨٨.

(٧) الديوان : ٢٩.

(٨) ٣٥ / يس : ٣٦.

(٩) ٧١ / يس : ٣٦.

(١٠) تابع الآية قبل السابقة.

(١١) في الأصل : أيادي ، وما بعدها : أيدي.

١٥٠

عامِلُونَ)(١). قيل : فاعمل بما تدعو إليه فإنا عاملون بمذهبنا. وقيل : فاعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك. وفي حديث الشعبيّ : «أتي بشراب معمول» (٢) قال المبرد : هو الذي فيه اللبن والعسل والثلج. وأعملت الناقة : سقتها. ومنه : إعمال المطايا. وفي حديث الإسراء : «فعملت بأذنيها» (٣) يعني البراق ؛ أسرعت (٤).

ع م م :

قوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ)(٥) العمّ يجمع على أعمام وعمومة ، ويقال : رجل معمّ مخول ، أي كريم الطرفين من جهة أبيه ومن جهة أمّه. وأنشد لامرىء القيس (٦) : [من الطويل]

فأدبرن كالجزع المفصّل بينه

بجيد معمّ في العشيرة مخول /

أراد بالجيد الجمل (٧). واستعممت فلانا وتعمّمته ، أي اتخذته عمّا ، نحو استأبنته. قيل : وأصل ذلك من العموم وهو الشّمول ، وذلك باعتبار الكثير. ويقال : عمّهم كذا وعمّهم بكذا عماّ وعموما ، وسمّي الجمّ الغفير عامة (لكثرتهم وعمومهم في البلد. وباعتبار : الشمول سمي المشور عمامة ؛ فقيل : تعمّم نحو تقنّع وتقمّص وعمّمته. وكنّي بذلك عن السيادة. وشاة معمّمة : مبيضّة الرأس كأنّ عليها عمامة) (٨) نحو مقنّعة ومخمّرة. وأنشد (٩) : [من الرجز]

يا عامر بن مالك يا عمّا

أفنيت عمّا وجبرت عمّا

__________________

(١) ٥ / فصلت : ٤١.

(٢) النهاية : ٣ / ٣٠١.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٠١.

(٤) لأنها إذا أسرعت حركت أذنيها.

(٥) ٥٠ / الأحزاب : ٣٣.

(٦) الديوان : ٣٨.

(٧) وفي الديوان : العنق.

(٨) إضافة ما بين مقوستين من م.

(٩) من شواهد المفردات : ٣٤٦.

١٥١

أي عمّاه سلبت قوما وأعطيت قوما. وفي الحديث : «وإنها لنخل عمّ» (١) أي توامّ في طولها (والتفافها) (٢) الواحدة عميمة. وفي حديث الحوض : «وإنه من مقامي إلى عمّان» (٣) عمّان : موضع بالشام ، وهو بفتح العين وتشديد الميم.

ع م ه :

قوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٤) أي يتردّدون في حيرتهم. يقال : رجل عامه وعمه ، وعمه أبلغ من عامه ، والجمع عمّاه وعمّه. وأنشد (٥) : ومعنى التحيّر في الطغيان أنهم ليسوا على بصيرة ممّا هم عليه إن كانوا متوغّلين فيه محسنين له.

ع م ي :

قوله تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)(٦) هو جمع أعمى (٧) نحو حمر في جمع أحمر ، والمراد أعمى البصيرة لا البصر ، فإنهم كانوا ثاقبي الأبصار. قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)(٨) أي عمين عن الحقّ. والفرق بين الأعمى والعمي أن الأعمى يقال في عمى البصر والبصيرة ، والعمى في عمى البصر خاصة ، ويذمّ بعمى البصيرة دون عمى البصر. قال بعضهم : لم يعدّ الله تعالى افتقاد البصر في جنب افتقاد البصيرة عمى حين قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٩). ويجمع الأعمى أيضا

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٠١.

(٢) بياض في الأصل ، والكلمة مذكورة في م والمفردات والنهاية.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٠٤ ، وذكرها في مادة (عمن).

(٤) ١١٠ / الأنعام : ٦.

(٥) بياض في الأصل. وفي م : بالجاهلين العمه. وهو جزء من قول رؤبة (اللسان ـ مادة عمه) :

ومهمه أطرافه في مهمه

أعمى الهدى بالجاهلين العمه

(٦) ٤٤ / فصلت : ٤١.

(٧) هذا وهم ، ف «عمى» في الآية مصدر لا جمع!

(٨) ٦٤ / الأعراف : ٧.

(٩) ٤٦ / الحج : ٢٢.

١٥٢

على عميان (١). قوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى)(٢) أي من كان ضالا في الدنيا فهو أضلّ منه في الآخرة فكلاهما بمعنى. وقيل : اسم فاعل لا يقصد به تفضيل ، والثاني للتفضيل لأنه من فقدان البصيرة. ويجوز بناء أفعل منه بخلاف عمى البصر.

قلت : ولأجل ذلك فرّق أبو عمرو بينهما في الإمالة ؛ فأمال الأول دون الثاني لأن الثاني أفعل للتفضيل ، فمن معه مزادة ، فوقعت ألفه كالحشو لافتقار أفعل إلى من افتقار المضاف إلى المضاف إليه ، بخلاف الأول فإنه لغير تفضيل. فألف طرف لفظا وتقديرا ، وقد أتقنّا ذلك في غير هذا من كتب الإعراب والقراءات.

قوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) الآية (٣) ، قيل : هو عمى البصر وإنه يعاقب بذلك. وقال الراغب (٤) : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى كانُوا قَوْماً عَمِينَ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً)(٥) يحتمل لعمى البصر والبصيرة معا. قلت : إن أراد مجموع المعنيين فقريب وإن أراد انفراد كلّ واحد منهما ، فيشكل إرادة عمى البصيرة إلا بتأويل متعسف ، لأنّ المراد العقوبة ولا يرى أشدّ عذابا ممن يعاقب بالعذاب وبفقد البصر. قوله : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ)(٦) أي اشتبهت. وقرىء بالتخفيف مع فتح الفاء. نسب العمى إليها مبالغة كما نسب الإبصار إلى آية «النهار» مبالغة ، وكذلك الناقة (٧). وأمّا قوله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ)(٨) فلم تثقل. والعماء بالمدّ : الجهالة ، والسّحاب أيضا. وفي الحديث : «أين كان ربّنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال : في عماء

__________________

(١) وتجمع على : عمي.

(٢) ٧٢ / الإسراء : ١٧.

(٣) ١٢٤ / طه : ٢٠.

(٤) المفردات : ٣٤٨.

(٥) ٩٧ / الإسراء : ١٧.

(٦) ٢٨ / هود : ١١.

(٧) إشارة في الأولى إلى قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا آيَةَ اللَّيْلِ مُبْصِرَةً) (١٢ / الإسراء : ١٧) ، وفي الثانية إلى قوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (٥٩ / الإسراء : ١٧). وآية النهار : ١٢ / الإسراء : ١٧.

(٨) ٦٦ / القصص : ٢٨.

١٥٣

تحته عماء وفوقه عماء» (١) قال بعضهم : إنّ ذلك إشارة إلى أنّ تلك حالة تجهل (٢) ولا يمكن الوقوف عليها.

قلت : تحيّر الباري محال ، وإنما وقع السؤال ممّن سأل لأنّه لم تتقرّر بعد عنده قواعد العقائد ، وجوابه بقوله عليه‌السلام بذلك فيه إشعار بأنّ الله لا يحويه مكان لا قبل وجود السماء ولا بعد وجودها. ولا يعني أنه كان في سحاب تعالى عن ذلك. وقد روى الحديث كذا الراغب في مفرداته ، ورواه الهرويّ في غريبه : «كان في عمايته تحته هواء وفوقه هواء». قال أبو عبيد : العماء : السحاب في كلام العرب ، ولا يدرى كيف كان ذلك العماء. وحكي عن أبي الهيثم أنه قال : هو في عماء يتصور. وقال : هو كلّ أمر لا يعقله بنو آدم ولا يبلغ كنهه الوصف ولا تدركه الفطن. وقال بعضهم : معناه أين كان عرش ربّنا؟ كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٣). وقال : ويدلّ على ذلك قوله (٤) : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٥) وفي الحديث : «نعوذ بالله من الأعميين» (٦) ؛ الحريق والسيل. وفي الحديث : «من قتل تحت راية عمّيّة» (٧). قال بعضهم (٨) : هو الإصر الأعمى (٩) كالعصبيّة لا تستبين وجهه.

وأمّا عما يعمو فمادة أخرى ومعناه الخضوع ، وقد يراد به التحيّر. وفي الحديث : «مثل المنافق مثل شاة بين ربيضين تعمو إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» (١٠). وفي الحديث : «نهى عن الصلاة إذا قام قائم الظهيرة صكّة عميّ (١١) ؛ قال أبو زيد : هو أشدّ الهاجرة. قال أبو

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣٠٤ ، وفيه : « .. في عماء تحته هواء وفوقه هواء». والحديث لأبي رزين. وانظر بعد سطور.

(٢) في الأصل : ما تجهل.

(٣) ٨٢ / يوسف : ١٢.

(٤) ساقطة من ح.

(٥) ٧ / هود : ١١.

(٦) النهاية : ٣ / ٣٠٥ ، وفيه : «تعوّذوا بالله ..».

(٧) النهاية : ٣ / ٣٠٤.

(٨) وفي م : قال ابن حنبل.

(٩) وفي م : الأمر الأعمى.

(١٠) النهاية : ٣ / ٣٠٦.

(١١) النهاية : ٣ / ٣٠٥.

١٥٤

شمر : كأنه تصغير أعمى ؛ يقال : لقيته صكّة عميّ. قالوا : لا يقال ذلك إلا في حمارّة القيظ. والأصل فيه أنّ الرجل إذا خرج نصف النهار لم يتهيأ له أن يملأ عينيه من عين الشمس فأرادوا أنه تصغير كالأعمى.

قلت : وتحقيقه أن المنزل منزلة الأعمى يصكّ جبينه بوضع يده على جبينه لأجل ضوء الشمس ، فانتصابها على المصدر ، ثم وضعت موضع الظرف كقولهم : مقدم الحاجّ ، وخفوق النجم.

فصل العين والنون

ع ن ب :

قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً)(١). العنب : معروف ، وهو غير الكرم ويطلق على الكرم نفسه لقوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ)(٢) والعنبة أيضا بثرة تشبيها بالثمرة في الهيئة. وفي حديث الدجّال : «كأنها عنبة طافية» (٣).

ع ن ت :

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ)(٤) أي لشقّ عليكم. قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ)(٥) أي المشقّة في ترك اللواط والوقوع في الزّنا. وأصله من : عنت الدابة تعنت عنوتا وعنتا : أذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه الجري ومنه : أكمة عنوت : شاقّة المصعد. ويقال : أعنت البيطار الدابة : إذا فعل بها فعلا يغمز فيه. قال ابن الأنباريّ : أصل العنت : التشديد. فإذا قالت العرب : فلان يتعنّت فلانا ويعنته ، فأصله يشدّد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه. ثم يقلب إلى معنى الهلاك. وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ

__________________

(١) ٢٧ و ٢٨ / عبس : ٨٠.

(٢) ٩٩ / الأنعام : ٦ ، وغيرها. والجملة قبلها مضطربة صوّبناها من م.

(٣) النهاية : ٣ / ١٣٠ ، شبه بها عينه.

(٤) ٢٢٠ / البقرة : ٢.

(٥) ٢٥ / النساء : ٤.

١٥٥

خَشِيَ الْعَنَتَ) يريد الهلاك في الزّنا ، وأن يحمله الشّبق على الفجور. ومثله : (لَعَنِتُّمْ)(١) أي لهلكتم ووقعتم في العنت.

وقوله تعالى : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ)(٢) أي تمنّوا ما أعنتكم وأوقعكم في الهلكة. والتقدير : ودّوا عنتكم. وفي الحديث : «فيعنتوا عليكم دينكم» (٣) أي يدخلون الضرر عليكم في دينكم. وقال بعضهم : المعانتة كالمعاندة ، لكنّ المعانتة أبلغ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك (٤) ، ولهذا يقال : عنت فلان : إذا وقع في أمر يخاف منه التّلف ، يعنت عنتا (٥). ويقال للعظم المجبور إذا أصابه ألم (٦) فهاضه.

ع ن د :

قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٧) هذا إشارة إلى رفعة رتبهم وليس ثمّ عنديّة حقيقية إذ الباري لا يتحيّز ، كما تقول : فلان عزيز عند الملك ، وإن كان غائبا عن حضرته. وعند : ظرف مكان لا يتصرف بأكثر من جرّه بمن. ويقلّ فتح عينه وضمّها. وقال بعضهم : عند : لفظ موضوع للقرب ؛ فتارة يستعمل في المكان وتارة في الاعتقاد ، نحو : عندي كذا. وتارة في الزّلفى والمنزلة. قال تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ)(٨)(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)(٩). ومن ثمّ قيل للملائكة : المقرّبون ، لا يراد بذلك منزلة مكانية.

قوله : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)(١٠) أي حائد عن القصد والسواء ؛ يقال : رجل عنيد وعنود وعاند. وينبغي أن يكون عنيد وعنود أبلغ من عاند. قال الليث : العنود من الإبل

__________________

(١) ٧ / الحجرات : ٤٩.

(٢) ١١٨ / آل عمران : ٣.

(٣) النهاية : ٣ / ٣٠٦.

(٤) وفي س : خوف الهلاك ، وفي ح : خوف هلاك. ولعلها كما ذكرنا.

(٥) وفي الأصل : عنت عنتا.

(٦) وفي الأصل : آخر.

(٧) ٦٢ / البقرة : ٢.

(٨) ٤٧ / ص : ٣٨.

(٩) ٢٠٦ / الأعراف : ٧.

(١٠) ١٥ / إبراهيم : ١٤.

١٥٦

الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا ؛ أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة. وفرّق بعضهم بين الثلاثة بفرق آخر فقال : العنيد : المعجب بما عنده ، والمعاند : المباهي ، والعنود : قيل : مثل (١) العنيد. وقال (٢) : لكن بينهما فرق لأنّ العنيد الذي يعاند ويخالف. والعنود : الذي يعند عن القصد. ويقال : بعير عنيد ولا يقال عنود (٣) قيل : والعنّد (٤) جمع عاند وجمع العنود عندة ، وجمع العنيد عند ، وقال بعضهم : هو العدول عن الطريق ، لكن خصّ العنود بالعادل عن الطريق في المحسوسات ، والعنيد بالعادل عن الطريق في الحكم. وعند عن الطريق : عدل عنه. ويقال : عاند : لازم ، وعاند : فارق. قال الراغب : كلاهما من عند لكن باعتبارين مختلفين كقولهم : البين (٥) في الوصل والهجر (٦) باعتبارين مختلفين.

ع ن ق :

قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ)(٧) الأعناق : جمع عنق وهو الجارحة المعروفة. والمراد : اضربوا فوق رؤوسهم. وقيل : فوق مزيدة ، ولا يحتاج إلى مثل ذلك لصحة المعنى بدون الحذف. ورجل أعنق وامرأة عنقاء ، أي طويلة العنق. والأعناق : الأشراف ، وعليه قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٨). قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(٩) أي قلّدناه كسبه من خير وشرّ (١٠) تقليد الإنسان بما لا انفكاك له منه نحو قولهم : ألزمته به طوق الحمامة ، وطوّقته به وجعلته في عنقه ، تصويرا للمعاني بصورة أجرام تحتوي على أعزّما في الإنسان وأمكنه مبالغة في ذلك. ويروى أنّ ذلك يكون حقيقة ، وأنّ كلّ أحد يكتب عمله في سجلّ يطوّق به. وفي الحديث : «المؤذنون

__________________

(١) في الأصل : وذو شك. وفي م : ومثل. ولعلها كما ذكرنا ويؤيده الراغب.

(٢) يعني الراغب : ٣٤٩.

(٣) وفي المفردات : عنود ولا يقال عنيد.

(٤) وفي الأصل : والعنود.

(٥) وفي الأصل : الدين.

(٦) في الأصل : والفخر.

(٧) ١٢ / الأنفال : ٨.

(٨) ٤ / الشعراء : ٢٦.

(٩) ١٣ / الإسراء : ١٧.

(١٠) ساقطة من س.

١٥٧

أطول الناس أعناقا يوم القيامة» (١) قال ابن الأعرابيّ : أكثر الناس أعمالا. ومنه : لفلان عنق من الخير (٢). وقال بعضهم : هو على حقيقته ، وذلك أنّ الناس في الكرب يومئذ وهم في الرّوح مشرئبّون لأن يؤذن لهم في دخول الجنة. وقيل : إنّ ذلك كناية عن شرفهم وفضلهم ، وذلك أنّ المستبشر بخير لا يطأطىء برأسه ولا يخفض رأسه ولا يغضّ طرفه بخلاف من هو في خشية ، فإنه يطرق رأسه ، فبشّروا بأنهم بهذه الصفة. وقيل : ذلك يدلّ على كونهم رؤساء فضلاء من قولهم : عندي أعناق الناس كما تقدّم في الآية الكريمة. ويقال : العرب تصف السادات والأكابر بطول العنق وأنشد (٣) : [من البسيط]

يشبهون سيوفا في صرامتهم

طوال أنصية الأعناق والأمم

وروى بعضهم «إعناقا» بكسر الهمزة (٤) على أنه مصدر من أعنق ، مأخوذ من سير العنق وهو الإسراع. وفي الحديث : «كان يسير العنق» (٥). وفي حديث آخر : «لا يزال الرجل معنقا ما لم يصب دما» (٦) أي منبسط في سيره. وفي حديث آخر : «أنّه بعث رجلا في سرية فانتحى له عامر بن الطّفيل فقتله فلمّا بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أعنق ليموت» (٧). وهذا مثل مشهور تفسيره أنّ المنية أسرعت به وساقته إلى مصرعه. وقال أبو موسى : «فانطلقنا إلى الناس معانيق» (٨) أي مسرعين. ويقال : أعنقته كذا أي جعلته في عنقه ، وعنه استعير أعنق الأمر ، وتعنّق الأرنب : رفع عنقه. والعناق : الأنثى من المعز ، وهو علم لامرأة أيضا.

والعنقاء : طائر عجيب الخلق يتوهم العرب وجوده كالغول. وزعم بعضهم أنها كانت

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣١٠.

(٢) أي قطعة منه.

(٣) البيت للسّمر دل بن شريك اليربوعي ، وعجزه مذكور في اللسان ـ مادة أمم. ومذكور في التاج ـ مادة عنق ، ورواية عجزه فيه :

وطول أنقية الأعناق واللمم

(٤) رواية الحديث السابق. أي أكثر إسراعا إلى الجنة.

(٥) النهاية : ٣ / ٣١٠.

(٦) النهاية : ٣ / ٣١٠ ، وفيه : «لا يزال المؤمن ...».

(٧) النهاية : ٣ / ٣١٠ ، والرجل هو حرام بن ملحان. واللام للعاقبة.

(٨) النهاية : ٣ / ٣١٠.

١٥٨

تختطف صبيان قوم نبيّ من الأنبياء يقال له حنظلة بن صفوان ، وأنه دعا عليها فهلكت. ويقال : عنقاء مغرب. وعن الخليل : لم يبق من رسمها غير اسمها. وقال الكميت (١) : [من الطويل]

محاسن من دين ودنيا كأنّها

بها خلقت في الجوّ عنقاء مغرب

وقال عنترة بن أحرش الطائي : [من الطويل]

لقد خلقت بالجوّ فتخاء كاسر

كفتخاء دمج خلّقت بالحزوّر

وقال أبو نواس (٢) : [من الطويل]

وما خبزه إلا كعنقاء مغرب

تصوّر في بسط الملوك وفي المثل

وقال بعض الشعراء : [من البسيط]

الجود والغول والعنقا ثلاثتها

أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن

وقد كذب في الجود فإنه موجود. ودمج : جبل تزعم العرب أنها كانت تأويه وأنها كانت أحسن الطيور فيها من كلّ لون ، وأنها كانت تأكل الطير فأعوزها الطير يوما ، فاختطفت صبيا وهو الحزوّر في شعر عنترة ثم حلّقت بجارية فشكا أهل الرسّ ذلك لحنظلة فدعا عليها فهلكت. وقيل : بل النبيّ خالد بن سنان في الفترة ، وأنها كانت في زمن موسى إلى زمن خالد ، وسميت مغربا لأنها تغرب بكلّ من تأخذه.

ع ن و :

قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ)(٣) أي خضعت مستأسرة بعناء. ومنه : وعنيته بكذا ، أي أنصبته وأتعبته. / عني : نصب واستأسر. ومنه قيل للأسير : عان. وأنشد لامرىء القيس (٤) : [من الطويل]

__________________

(١) ثمار القلوب : ٣٥٧ ، وفيه : من دنيا ودنيا.

(٢) ديوان أبي نواس : ٥١٥. ثمار القلوب : ٣٥٧ ، وفيه : لها المثل ، وهو وهم.

(٣) ١١١ / طه : ٢٠.

(٤) الديوان : ٨١.

١٥٩

فيا ربّ مكروب كررت وراءه

وعان فككت الغلّ عنه فغداني

وفي الحديث : «استوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ عوان [عندكم]» (١) ، أي أسراء. وعني بحاجته فهو معنيّ. وعني بها أيضا فهو عان. ومنه فتحت البلدة عنوة أي قهرا وذلا لأهلها.

ع ن ي :

قرىء : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(٢) أي يشغله عن غيره. وفي الحديث : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٣) والمعنى في الأصل اسم مصدر كالمعتلّ ، وهو في التعارف إظهار ما تضمّنه اللفظ ، من قولهم : عنت الأرض بالنّبات ، أي أنبتته حسنا. وعنت القربة : أظهرت ماءها. ومنه عنوان الكتاب في قول من يجعله من عني. وقد يطلق المعنى ويراد به التفسير ، فيقال : معنى ذلك كيت وكيت ، أي تفسيره. قال الراغب (٤) : وإن كان بينهما فرق ، ولم يبيّنه. والفرق أنّ التفسير هو الكشف والإيضاح. ومنه قيل لماء الطبيب تفسرة (٥) حسبما نبيّنه إن شاء الله تعالى في باب الفاء (٦). وقد يطلق المعنى على مدلول الألفاظ وبه يقابل اللفظ فيقال : معنى كذا وكذا. وقد يراد به التقدير كقولهم : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٧) المعنى : أهل القرية. والعنيّة : شيء تطلى به الإبل الجرب ؛ ومنه المثل المشهور : «عنيّة تشفي الجرب» (٨).

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣١٤ ، والإضافة منه. وفيه خلاف.

(٢) ٣٧ / عبس : ٨٠ ، يعني قرىء بالعين المهملة ؛ قرأها ابن محيصن والزهري (مختصر الشواذ : ١٦٩).

(٣) النهاية : ٣ / ٣١٤.

(٤) المفردات : ٣٥٠.

(٥) الفسر : نظر الطبيب إلى الماء ، وكذلك التّفسرة. وقيل : البول الذي يستدل به على المرض وينظر فيه الأطباء.

(٦) أنظر مادة فسر.

(٧) ٨٢ / يوسف : ١٢.

(٨) المستقصى : ٢ / ١٧١. هو بول البعير يعقد في الشمس يطلى به الجربى. يضرب لذي البصيرة المستشفى برأيه.

١٦٠