تراثنا ـ العددان [ 93 و 94 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 93 و 94 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

١٣ ـ مستدرك الوسائل ، الميرزا النوري (ت ١٣٢٠ هـ) ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلاملاحياء التراث ، قم / إيران ١٤١٦ هـ.

١٤ ـ معجم البلدان ، الحموي (ت ٦٢٦ هـ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت / لبنان ١٣٩٩ هـ.

١٥ ـ المنتظم ، ابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) ، الهند.

١٦ ـ منتهى المقال ، أبو علي الحائري (ت ١٢١٦ هـ) ، مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلاملاحياء التراث ، قم ، إيران / ١٤١٦ هـ.

١٧ ـ الوجيزة ، للمجلسي (ت ١١١١ هـ)، منشورات مؤسسة الاعلمي، بيروت، لبنان ١٤١٥ هـ.

* * *

 

١٦١

النظرية التفسيرية

في المدرسة الإمامية

(١)

السـيّد زهير الأعرجي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة :

نعني بالنظرية التفسيرية المسلك الذي سلكه المفسّرون من علماء أهل البيت عليهم‌السلام في بيان المعاني القرآنية عبر التفسير النقلي الروائي الصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، فهو تفسيرٌ بالمأثور في مقابل التفسير بالرأي الذي تمسّكت به مدرسة الحديث والرأي.

لقد نبع الاهتمام بالقرآن الكريم في المدرسة الإمامية من كونه كتاب الله المجيد المصون المحفوظ بين الدفّتين الذي لا تطاله يد التحريف والتزوير ، وقد قال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه الكريم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(١) ، وقال عزّ من قائل : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ)(٢) ، وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب

__________________

(١) سورة الحجر ١٥ : ٩.

(٢) سورة البروج ٨٥ : ٢١ ـ ٢٢.

  

١٦٢

مَكْنُون)(١) ، وأوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين ، وهو من الأحاديث الصحيحة المتواترة التي رواها الفريقان(٢).

ولذلك أجمع فقهاء المدرسة الإمامية على أنّ أشرف العلوم قدراً وأعلاها منـزلة هو العلم بمعاني القرآن الكريم ، وقد اهتمّ علماؤنا بتفسير كلام الله المجيد ، وأصبح القرآن الكريم في المدرسة الإمامية محور المعرفة الإسلامية في التشريع والفقه والفلسفة والكلام والعرفان والأخلاق.

وعندما نتحدّث عن نشأة التفسير وتطوّره وعن مناهج المفسّرين وطرقهم فإنّنا نريد أن نبيّن اهتمام المدرسة العلمية السائرة على هدى أهل البيت عليهم‌السلام بالقرآن الكريم باعتباره الأصل الأوّل من أصول مباني الإسلام في المعرفة والتشريع ، فـ : التفسير هو : «إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز ، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ولا على شيء لم يثبت أنّه حجّة من طريق العقل أو من طريق الشرع ، للنّهي عن اتّباع الظنّ وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه ، قال الله تعالى : (قُلْ ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣) ... إلى غير ذلك من الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم. والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين ... ولابدّ للمفسّر من أن يتّبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح ، أو يتّبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح ، فإنّه حجّة من الداخل

__________________

(١) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) الأُصول الستّة عشر : ٨٨ ، بصائر الدرجات : ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ح ٣ ـ ٥ ، دعائم الإسلام ١/٢٨ ، مسند أحمد ٣/١٤ و١٧ و٢٦ و٥٩ ، سنن الدارمي ٢/٤٣٢ ، فضائل الصحابة للنسائي : ١٥ ، المستدرك للحاكم ٣/١٠٩ و١٤٨ ، مسند ابن الجعد : ٣٩٧.

(٣) سورة يونس ١٠ : ٥٩.

  

١٦٣

كما أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة من الخارج»(١).

ولاشكّ أنّ النظرية التفسيرية الإمامية تستخدم العقل للاستدلال بالحكم ومعرفة المعاني باعتبار أنّ العقل يعدُّ طريقاً موصلاً إلى العلم القطعي ، أي إنّ العقل يدعو إلى اعتماد تفسير القرآن بالقرآن وردّ المتشابه إلى المحكم واستخدام السنّة الصحيحة في استنباط المعاني والأحكام أو تأويلها ، ولذلك أصبح مبنى المدرسة الإمامية قائماً على أصل مهمٍّ وهو أنّ المفسّر لا يرتقي إلى مستوى التفسير إلاّ إذا كان عالماً مجتهداً بأحكام الشريعة عارفاً بالمباني الأصولية واللغوية والعقلية.

وعندما نستخدم العقل طريقاً لمعرفة المعاني والأحكام فإنّنا نقصد به الحكم النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعاً أو عقلاً وبين حكم شرعيٍّ آخر ، كالملازمة بين المقدّمة والواجب في ذي المقدّمة ، أو الحكم باستحالة التكليف بلا بيان الذي يلزم منه حكم الشارع بالبراءة ، أو الملازمة بين عقيدة قطعية وعقيدة أُخرى كاستحالة التجسيم الملازمة لاستحالة رؤيته عزّ وجلّ.

وبناءً على ذلك نلحظ أنّ تفاسير المدرسة الإمامية تعدُّ من أدقّ التفاسير القرآنية وأقربها إلى المعنى الواقعي في فهم القرآن الكريم لأنّها مستندة على ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أدرى بمعاني القرآن الكريم من غيرهم من المسلمين ، وأصبحت كتب الشيعة التفسيرية نجوماً متلألئة في سماء المعرفة القرآنية ، كـ : التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) ، ومجمع البيان للطبرسي (ت

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ٣٩٧.

  

١٦٤

٥٤٨ هـ) ، وزبدة البيان في أحكام القرآن للمقدّس الأردبيلي (ت ٩٩٣ هـ) ، وآيات الأحكام للاسترآبادي (ت ١٠٢٨ هـ) ، ومسالك الأفهام إلى آيات الأحكام للكاظمي (ت ١٠٦٥ هـ) ، وتفسير الميزان للسيّد الطباطبائي (ت ١٤٠٢ هـ) ، والبيان في تفسير القرآن للسيّد الخوئي (ت ١٤١٣ هـ) والذي لم يظهر منه بكلِّ أسف إلاّ مجلّدٌ واحد.

ولا ننسى أنّ تلك التفاسير قد استعانت بالعلوم الأدبية من صرف ونحو ولغة كأدوات لبيان المعنى ، واستعانت أيضاً بالأسلوب الجمالي لعرض فنون كلام الله المجيد وتبيين خصائص القرآن وكنوزه المعنوية ، واستعانت بالبلاغة لعرض الكناية والاستعارة والتشبيه والمجاز والتمثيل والتقديم والتأخير والتنكير والتعريف والفصل والوصل والمجاز اللغوي والمجاز العقلي.

والأصل في تفسير القرآن هو إرشاد الناس إلى كلام الله عزّ وجلّ وإدراك حكمة التشريع في العقائد والأخلاق والأحكام على وجه يسوق الإنسان إلى معرفة ربِّه وطاعته.

وقبل أن نتحدّث عن التاريخ التفسيري في المدرسة الإمامية لابدّ من إلقاء الضوء على علاقة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بالقرآن الكريم وجهادهم المتواصل من أجل صيانة ذلك الكتاب الإلهي المجيد.

* * *

 

١٦٥

الفصل الأوّل

العلاقة بين القرآن الكريم وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

القرآن الكريم وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام :

من الأمور المبنائية عند الإمامية هو الربط بين القرآن الكريم وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وبالخصوص علاقة الإمام علي عليه‌السلام بالقرآن الكريم ، فقد اهتمّ الإمام عليه‌السلام عند ملازمته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن ، فلا عجب أن يقول عليه‌السلام : «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمتُ فيما أنزلت وأين نزلت ، وإنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً»(١).

وكان من اختصاصه عليه‌السلام جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(٢)حتّى يُصان من التحريف بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يختصّ بعليّ عليه‌السلام ويعلّمه معاني القرآن الكريم وأسراره وخفاياه ، وكان الإمام عليه‌السلام يجهر بذلك مصرّحاً : «ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها وحفظها ، فما نسيتُ آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليَّ فكتبته ، وما ترك شيئاً علّمه الله عزّ وجلّ من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنسَ منه حرفاً واحداً ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله تبارك وتعالى بأن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمةً ونوراً ،

__________________

(١) مناقب الخوارزمي. الفصل السابع : ٤٦.

(٢) توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل: ٤١٨.

  

١٦٦

ولم أنس من ذلك شيئاً ولم يفتني من ذلك شيءٌ لم أكتبه ...»(١).

وكان الإمام عليه‌السلام يعلّم المسلمين القراءة وأحكام الدين ، ويؤيّده رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام يقول فيها : «كان علي عليه‌السلام إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس ، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلّمهم الفقه والقرآن»(٢).

وهذا عبـد الله بن مسعود يقول : «قرأتُ سبعين سورة من فيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقرأتُ البقية على أعلم هذه الأمّة بعد نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام»(٣).

مقدّمات حول كتابة القرآن الكريم(٤) :

لا شكّ أنّ الثقافة المكتوبة لم تكن متداولة بشكل واسع قبل الإسلام بل كانت الثقافة الاجتماعية ثقافة شفهية ، ولذلك فقد اُشير إلى المعلّقات السبعة التي علّقها العرب على جدار الكعبة قبل الإسلام بشيء من الاهتمام والإكبار لأنّه كان من النادر كتابة المواد الثقافية أو قراءتها ، وعندما جاء الإسلام أحدث ثورة حقيقية في الثقافة المكتوبة ، خصوصاً عند كتابة القرآن زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن أجل فهم الأجواء التي كانت سائدة زمن كتابة القرآن الكريم لابدّ من ترتيب النقاط التالية :

١ ـ إنّ الذين كانوا يعرفون الكتابة في الصدر الأوّل من الإسلام

__________________

(١) بحار الأنوار ـ رواه المجلسي باسناده عن سليم بن قيس الهلالي ـ ١٩/٢٦ الطبعة القديمة.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤/١٠٩.

(٣) ينابيع المودّة ـ المودّة الثالثة : ٢٤٧.

(٤) انظر التفصيل في كتاب الصّدّيق الأكبر : ٢٦٩ ـ ٢٨٤ ، ٥٩٩ ـ ٦١٠.

  

١٦٧

قليلون ، وكان منهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأبيّ بن كعب الأنصاري ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان (بعد عام الفتح) ، وعبـد الله بن سعد بن أبي سرح (الذي ارتدّ في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتله) ، وعثمان بن عفّان ، وآخرون.

٢ ـ انتشرت الكتابة في المدينة بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فعندما وقعت غزوة بدر الكبرى وتمّ تأسير سبعين رجلاً من مشركي قريش وكان فيهم عدد من الكتّاب قَبِلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأُمّيّين الفدية بالمال وجعل فدية الكاتبين منهم تعليمهم المسلمين القراءة والكتابة ، فكلّف كلّ أسير بتعليم عشرة من المسلمين. وبذلك انتشرت الثقافة المكتوبة للقرآن في تلك المرحلة ، وازدهرت الأمصار الإسلامية بنعمة الثقافة الإسلامية ، وبقيت الأُمّية الصرفة بين الأعراب من البدو في الصحراء العربية.

٣ ـ لابدّ من التمييز بين من كان يكتب الرسائل والعهود زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين من كان يكتب الوحي ويجمع القرآن ، فإنّ في كتابة القرآن وجمعه أثراً عظيماً في حفظ الإسلام وعدم تحريف الكتاب المجيد ، بينما لم يكن ذلك الأثر في كتابة الرسائل ، فهذا عبـد الله بن أرقم كان كاتباً للرسائل فقط ولم يرد أنّه كان كاتباً للقرآن. قال في الاستيعاب في ترجمة عبـد الله بن الأرقم : «إنّه كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عبـد الله بن الأرقم الزهري ...»(١).

وقد وقع في خطأ عدم التمييز بين كتابة الرسائل وكتابة القرآن بعض كبار المؤرّخين ومنهم اليعقوبي في تاريخه ، حيث أطلق الكلام حول كتّاب

__________________

(١) الاستيعاب ١/٦٩.

  

١٦٨

الوحي ولم يقيّده بكتابة الوحي أو الرسائل أو العهود ، فقال : «وكان كتّابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود عليّ بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وعمرو بن العاص بن أمية ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وعبـد الله بن سعد بن أبي سرح ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وحنظلة بن الربيع ، وأبي بن كعب ، وجهيم بن الصلت ، والحصين النميري»(١).

٤ ـ إنّ الكتابة إذا كانت مجرّدة من مضامينها الرسالية فإنّها لا توجب شرفاً ولا منـزلةً ولا تثمر في صيانة كتاب الله المجيد ، فقد كان عبـد الله بن سعد كاتباً لكنّه ارتدّ وبات يشهّر بالنبوّة لعدم إيمانه بعمله الذي كان يؤدّيه ، وكان معاوية قد أعلن إسلامه قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أشهر فقط وطرح نفسه إلى العبّاس ليشفع له إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعفو عنه(٢) ومع ذلك فقد زعم بأنّه كان من كتّاب الوحي ، نعم ربّما كتب شيئاً من الرسائل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في أواخر حياته ولكن لم تتّفق الأخبار أنّه كان كاتباً للوحي.

عليّ عليه‌السلام وجمع القرآن الكريم :

كان موضوع كتابة القرآن المجيد زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً في غاية الأهمّية ، ذلك أنّ القرآن إذا لم تتمّ كتابته وامضاؤه من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته فإنّه سيكون عرضة للأخذ والردّ واختلاف المسلمين عندما يرحل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالم الآخر ، فكان من اهتمامات عليٍّ عليه‌السلام الرئيسية كتابة القرآن المجيد في المدينة خلال حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢/٦٤.

(٢) نهج الحقّ وكشف الصدق : ١١.

  

١٦٩

١ ـ كاتب الوحي عليه‌السلام :

تعلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام القراءة والكتابة في مكّة ، ولكن المصادر التأريخية لم تذكر لنا طريقة التعلّم ولا أسلوبها. وعلى أيّ تقدير فإنّ الذي يهمّنا من قدرة عليٍّ عليه‌السلام على الكتابة والقراءة هو كتابته عليه‌السلام للقرآن الكريم وجمعه له في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وحسبما يساعد عليه الدليل فقد ثبت أنّ عليّاً عليه‌السلام كان كاتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد نقل العلاّمة المجلسي (ت ١١١١ هـ) عن بصائر الدرجات : «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان جبريل يُملي على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يُملي على عليٍّ عليه‌السلام ...»(١).

وكتب ابن شهرآشوب في المناقب قائلاً : «أفلا يكون عليٌّ عليه‌السلام أعلم الناس وكان مع النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت والمسجد يكتب وحيه ومسائله ويسمع فتاواه ويسأله. وروي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نزل عليه الوحي ليلاً لم يصبح حتّى يخبر به عليّاً عليه‌السلام وإذا اُنزل عليه نهاراً لم يمس حتّى يُخبر به عليّاً»(٢).

وإلى ذلك أشار ابن عبد ربّه في فصل صناعة الكتاب : «فمن أهل هذه الصناعة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وكان مع شرفه ونبله وقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتب الوحي»(٣).

والغريب استغرابه بالقول : «وكان مع شرفه ونبله وقرابته من

__________________

(١) بحار الأنوار ـ الطبعة الجديدة ١٨/٢٧٠. نقلها عن بصائر الدرجات عن العبّاس بن معروف عن حمّاد بن عيسى بن ربعي عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ٢/باب المسابقة إلى العلم.

(٣) العقد الفريد ٣/٥ فصل صناعة الكتاب.

  

١٧٠

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتب الوحي»! وهل كتابة الوحي إلاّ شرف لا يستحقّه إلاّ علي عليه‌السلام؟!

وقد احتجّ عليه‌السلام حول معرفته بالقرآن المجيد وعلومه على جماعة من المهاجرين والأنصار فقال : «يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها الله تعالى على محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندي بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطّ يدي ، وتأويل كلِّ آية أنزلها الله تعالى على محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ حلال وحرام أو حدٍّ أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطِّ يدي ، حتّى أرش الخدش»(١).

ويمكن عطف ما ورد عنه عليه‌السلام على ما تقدّم : «ما دخل رأسي نوم ولا غمض [جفني] على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى علمتُ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما نزل به جبرئيل في ذلك اليوم من حلال أو حرام أو سنّة أو أمر أو نهي وفيما نزل وفيمن تنـزّل ...»(٢).

وما ورد في كتاب سليم بن قيس : «جلستُ إلى عليٍّ عليه‌السلام بالكوفة في المسجد والناس حوله فقال : سلوني قبل ان تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلّمني تأويلها. فقال ابن الكوّاء : فما كان ينـزل عليه وأنت غائب؟ فقال : بلى ، يحفظ عليَّ ما غبتُ ، فاذا قدمتُ عليه قال لي : يا عليّ أنزلَ الله بعدك كذا وكذا ، فيُقرِئُنيه ، وتأويله كذا وكذا فيعلّمنيه»(٣).

فنستنتج من كلِّ ما تقدّم أنّ عليّاً عليه‌السلام كان يكتب الوحي في كلّ مرّة

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الكوفي : ٢١١ ، الاحتجاج للطبرسي ١/٢٢٣.

(٢) مقدّمة (تفسير مرآة الأنوار) عن أبي خالد الواسطي عن زيد بن عليّ.

(٣) كتاب سليم بن قيس : ١٧١.

  

١٧١

ينـزل فيه ، وكان يحفظ آياته عن ظهر قلب ، وكان يدوّن القرآن مع هامش يذكر فيه العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والرخص والعزائم والآداب والسنن.

قال الرافعي في إعجاز القرآن : «واتفقوا على أنّ من كتب القرآن وأكمله وكان قرآنه أصلاً للقرآنات المتأخّرة : عليّ بن أبي طالب ، وأُبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبـد الله بن مسعود»(١).

وبذلك فلم يكن عليٌّ عليه‌السلام وحده كاتباً للوحي ، بل كان معه آخرون ممّن كتبوا الوحي بدقّة ، وفي ذلك نكتة مهمّة وخطيرة نتعرّض لها بعد قليل.

٢ ـ كتّابٌ آخرون :

كتب القرآن المجيد بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفرادٌ آخرون بجانب عليٍّ عليه‌السلام ، منهم : زيد بن ثابت ، واُبيّ بن كعب الأنصاري ، وعثمان بن عفّان ، وعبـد الله بن مسعود ، وعبـد الله بن سعد بن أبي سرح.

والكتابة في ذاتها ليست منقبة إذا لم تكن نابعة من الإيمان بقيمة المكتوب وقداسته ، فهذا عبـد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاعة نزلت فيه آية : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَاأَنْزَلَ الله ...)(٢) ، فعندما أسلم عبـد الله بن أبي سرح «قدم المدينة ، وكان له خطُّ حسن ، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه فكتب ما

__________________

(١) إعجاز القرآن : ٣٥.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ٩٣.

  

١٧٢

يمليه عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكان إذا قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : سميع بصير ، يكتب : سميع عليم. وإذا قال له : والله بما تعملون خبير ، يكتب : بصير. ويفرّق بين التاء والياء. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : هو واحد. فارتدّ كافراً ورجع إلى مكّة وقال لقريش : والله ما يدري محمّـد ما يقول ، أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليَّ ذلك وأنا أُنزل مثل ما ينزل. فأنزل الله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَاأَنْزَلَ الله ...)(١).

فلمّا فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة أمر بقتله. فجاء به عثمان بن عفّان فأخذ بيده ـ ورسول الله في المسجد ـ فقال : يا رسول الله اعفو عنه ، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ أعاد ، فسكت ، ثمّ أعاد ، فقال : هو لك ، فلمّا مرّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه : ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل : عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليَّ بقتله فأقتله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة. فكان من الطلقاء(٢).

ثمّ أورد عن معاني الأخبار حديثاً قال الصدوق في ذيله : «وإنّما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له فيما يغيره : هو واحد. لأنّه لا ينكتب ما يريد عبـد الله بن أبي سرح إنّما ينكتب ما كان يمليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو واحد غيّرت أم لم تغيّر لم ينكتب ما تكتبه بل ينكتب ما أُمليه عن الوحي وجبرئيل يصلحه. وفي ذلك دلالة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على صدق نبوّته.

وقال الصدوق : ووجه الحكمة في استكتاب النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ـ الطبعة القديمة ـ ١٩/ باب ٣. وتفسير القمّي ١/٢١٠ في تفسيره لسورة الأنعام ٦ : ٩٣.

  

١٧٣

معاوية وعبـد الله بن سعد بن أبي سرح وهما عدوّان هو أنّ المشركين قالوا : إنّ محمّـداً يقول هذا القرآن من تلقاء نفسه ويأتي في كلِّ حادثة بآية ... إلى أن قال : فاستعان في كتب ما ينـزل عليه في الحوادث الواقعة بعدوّين له في دينه عدلين عند أعدائه ليعلم الكفّار والمشركون أنّ كلامه في ثاني الأمر كلامه في الأوّل غير مغيّر ولا يزال عن جهة فيكون أبلغ للحجّة عليهم ، ولو استعان بوليّين مثل سلمان وأبي ذر وأشباههما لكان الأمر عند أعدائه غير واقع هذا الموقع وكان يتخيّل فيه التواطي والتطابق ، فهذا هو وجه الحكمة في استكتابهما»(١).

٣ ـ العلّة في تعدّد كتّاب الوحي :

وكانت العلّة الرئيسية في تعدّد كتّاب الوحي هو أن لا تختلف الأُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قضية القرآن كما اختلفت في قضية الولاية الشرعية والإمامة ، وقد وعد الله سبحانه وتعالى بحفظه من كلّ تحريف كما نستظهر من قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(٢).

لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُميّاً لا يقرأ ولا يكتب بدلالة نصِّ القرآن المجيد : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالأنْجِيلِ ...)(٣) ، (وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)(٤). وكان (صلى الله عليه وآله وسلم)

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣٤٧ ذيل الحديث ١.

(٢) سورة الحجر ١٥ : ٩.

(٣) سورة الاعراف ٧ : ١٥٧.

(٤) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٨.

  

١٧٤

لا يستطيع كتابة ما ينـزل إليه من وحي ، بل كان بعد نزول الوحي إليه يحفظ القرآن النازل من آية أو سورة ويبلّغها الناس ، ثمّ يُقري عليّاً عليه‌السلام ونخبة من الفائزين بشرف صحبته (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستحفظهم إيّاها.

وكانوا إذا نقلوا عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً من القرآن تردّدوا عليه غير مرّة يتلونها أمامه حتّى يزداد تثبّتهم من حفظها ، ثمّ يذهبون وعلى رأسهم عليٌّ عليه‌السلامفيكتبونها ثمّ يعلّمون الناس الآيات الجديدة النازلة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبسبب تعدّد كتّاب الوحي فقد حُفظ القرآن الكريم من التحريف والتزييف ، وقد كانت كلّ العوامل الاجتماعية خلال القرن الأوّل الهجري مهيّأةً للتلاعب بالكتاب الكريم ، ولكن وعد الله تعالى بحفظه جنّب الأُمّة تلك الجناية العظمى ، وكان تعدّد كتّاب الوحي من العوامل التي حفظت القرآن.

٤ ـ فنّية كتابة القرآن :

ومن شدّة اهتمام النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتابة القرآن الذي كتب في عهده وفي حضرته أنّه كان يُنسَخ على الصحف. وفي رواية إسلام عمر بن الخطّاب دلالة بليغة على ذلك : «قال له رجل من قريش : إنّ أختك قد صبأت (أي خرجت عن دينك) فذهب إلى بيتها ولطم أُخته لطمة شجّ بها وجهها ، فلمّا سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفة في ناحية البيت فيها : (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيـمِ سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمـاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ... إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ)(١) ، واطّلع على صحيفة اُخرى فوجد

__________________

(١) سورة الحديد ٥٧ : ١ ـ ٨.

  

١٧٥

فيها : (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ... لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى)(١)»(٢).

وإذا صحّت هذه الرواية فهذا يعني أنّ القرآن كان متداولاً بين المسلمين مستنسخاً على شكل صحف.

وإذا كانت العرب زمن الجاهلية قد اهتمّت بكتابة الشعر ووضعه على جدران الكعبة المشرّفة كالمعلّقات السبعة فهل يصحّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يهتمّ بكتابة القرآن الكريم وهو الكتاب السماوي الذي بحفظه مصوناً بين الدفّتين يتمّ حفظ الدين إلى يوم القيامة؟!

وكان عليٌّ عليه‌السلام يكتب القرآن على جرائد النخل وأكتاف الإبل والصحف والحرير والقراطيس وما تيسّر من أدوات للكتابة والتصحيف ، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم)يأمره بوضع الآيات في مواضعها في القرآن. وبكلمة ، فإنّ نصَّ القرآن وترتيبه كان أمراً توقيفيّاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الوحي.

فقد روى العيّاشي (ت ٣٢٠ هـ) ـ وهو من كبار محدّثي الإمامية ـ في تفسيره في ذيل رواية له : «قال علي عليه‌السلام : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصاني إذا واريته في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتّى أُؤلّف كتاب الله ، فإنّه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل»(٣).

وفي رواية عليّ بن إبراهيم (ت ٣٠٧ هـ) ـ وهو من ثقات المحدّثين ـ عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعليٍّ عليه‌السلام : يا عليّ إنّ القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١ ـ ٨.

(٢) أسد الغابة ٤/٥٤ (ترجمة عمر بن الخطّاب).

(٣) تفسير العيّاشي ٢/٦٦ ضمن الحديث ٧٦.

  

١٧٦

والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، وانطلق عليٌّ عليه‌السلامفجمعه في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه»(١).

وما روي أنّ عليّاً عليه‌السلام قد جمع القرآن بعد وفاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرةً يُردّ عليه بأنّه لم يكن جمعاً اصطلاحيّاً بل أمر تدقيق وحفظ وصيانة وعناية.

ففي كتاب سليم بن قيس عن سلمان رضي‌الله‌عنه : «إنّ علياً عليه‌السلام بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه ... وكان في الصحف والشظاظ(٢) والأسيار(٣) والرقاع ... إلى أن قال : فجمعه في ثوب واحد وختمه»(٤).

وقد أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً عليه‌السلام : «يا عليّ هذا كتاب الله خذه إليك ، فجمعه عليٌّ عليه‌السلام في ثوب ومضى إلى منـزله ، فلمّا قبض النبيٌّ (صلى الله عليه وآله وسلم)جلس عليه‌السلام فألّفه كما أنزل الله وكان به عالماً»(٥).

ومعنى التأليف : الجمع ، ومنه قوله تعالى : (... فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(٦).

والخلاصة : إنّ عليّاً عليه‌السلام كان قد كتب القرآن الكريم في حياة

__________________

(١) تفسير القمّي ٢/٤٥١ (سورة الناس) رواها عن أبي بكر الحضرمي عن الإمام الصادقعليه‌السلام.

(٢) شظاظ : خشبة عقفاء تدخل في عروتي الجواليق (الوعاء).

(٣) السيار : مجمع السير وهو القدّة المستطيلة من الجلد. والقدُّ هو جلد المعز المشقوق طولاً.

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٦٥.

(٥) مناقب ابن شهرآشوب ١/٣١٩ (باب درجات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فصل في المسابقة بالعلم).

(٦) سورة آل عمران ٣ : ١٠٣.

  

١٧٧

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية آية ، وكان يُعرض ذلك عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيُمضيه ، وكان على الإمام عليه‌السلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بجمع تلك الصحف وتدقيقها من أجل الاطمئنان على سلامتها ، مصداقاً لوعده تعالى بحفظ الكتاب المجيد من التلاعب والتزييف.

صيانة القرآن :

ذكرنا آنفاً أنّ عليّاً عليه‌السلام مع كتاب آخرين كتبوا القرآن الكريم في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحف وبأمر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة ، ثمّ قام عليٌّ عليه‌السلامبعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتدقيق الصحف المكتوبة على الجلود والأقتاب.

نقل السيوطي في الاتقان عن ابن حجر :

«إنّه قد ورد عن عليٍّ عليه‌السلام أنّه جمع القرآن على ترتيب النـزول عقب موت النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(١) ، أخرجه ابن أبي داود.

وفي شرح الكافي للمولى صالح القزويني عن كتاب سليم بن قيس بعد أن ذكرَ جمْعَ عليٍّ عليه‌السلام القرآن في ثلاثة أيّام ، قال : «فلم يخرج من بيته حتّى جمعه كلّه ... وكتبه بيده على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه»(٢).

والمستفاد من ذلك أنّ مكوث عليٍّ عليه‌السلام في بيته ثلاثة أيّام(٣) كان من

__________________

(١) الإتقان ١ / ٩٥ ، فتح الباري ٩/٤٧ باب القرّاء من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) كتاب سليم بن قيس : ١٤٦.

(٣) قال ابن النديم في (الفهرسـت) : قال ابن المنادي : حدّثني الحسن بن العبّاس قال : أخبرت عن عبد الرحمن بن أبي حمّاد عن الحكم بن ظهيـر السدوسي عن

  

١٧٨

أجل التأكّد من وجود القرآن مكتوباً بكامله ، فيكون الأمر من قبيل مراجعة نصوص القرآن المجيد ، وإلاّ فإنّه لو لم يكن مكتوباً لتعذّرت كتابته في تلك الفترة القصيرة.

وبعد أن أشار الشيخ المفيد (ت ٤١٣ هـ) في أثره المسائل السروية(١)بأنّ عليّاً عليه‌السلام قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ قال : «وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل».

وأورد مسلم أنّ عليّاً عليه‌السلام قد جمع القرآن المنـزل من أوّله إلى آخره وألّفه على حسب النزول ، فقدّم المكّي على المدني والمنسوخ على الناسخ ، وأضاف شرحاً وتفسيراً بما يناسبه ، وذكر فيه بيان المحكم والمتشابه والسبب في النزول(٢).

وإذا كان جمع القرآن حسب النزول فهذا يعني أن يبتدئ بسورة العلق إلى آخر ما نزل من القرآن على اختلاف الروايات ، ولم نعثر على نسخة خطّية للقرآن الكريم بهذا المعنى. قال ابن سيرين : «لو أصبتُ ذلك الكتاب كان فيه العلم»(٣).

وإذا لم يكن ابن سيرين قادراً على اقتناء ذلك الكتاب أو رؤيته فكيف بنا وقد ابتعدنا عن ذلك العصر أكثر من أربعة عشر قرناً؟!

يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره : «كان الصحابة متّفقين على أنّ

__________________

عبد خير عن عليٍّعليه‌السلام أنّه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فأقسـم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتَّى يجمع القرآن. فجلس في بيته ثلاثـة أيّام حتّى جمع القرآن.

(١) انظر : المسائل السروية : ٧٩ المسألة التاسعة.

(٢) لم نعثر عليه ولكن انظر : الاستذكار ٢/٤٨٥ ، وفتح الباري ٩/٣٨.

(٣) مؤلّفوا الشيعة : ١٣.

  

١٧٩

علم القرآن مخصوص لأهل البيت عليهم‌السلام ، إذ كانوا يسألون عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام : هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟»(١).

فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ علوم القرآن مخصوصة بهم عليهم‌السلام.

ومع كلّ ذلك فقد حُذف اسم عليٍّ عليه‌السلام من باب جمع القرآن من مصادر مدرسة الصحابة عدا ما شذّ.

فقال البخاري فيمن جمع القرآن على عهد النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد».

وروى في موضع آخر مكان أبيّ بن كعب : أبا الدرداء(٢).

وقال السيوطي في الاتقان نقلاً عن ابن أبي داود بسند حسن : «إنّهم خمسة : معاذ ، وعبادة بن الصامت ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري».

وعن ابن سيرين أنّهم أربعة : معاذ ، وأُبيّ ، وأبو زيد ، وأبو الدرداء أو عثمان أو هو مع تميم الداري.

وخرّج البيهقي وابن أبي داود عن الشعبي أنّهم ستّة : أبيّ ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمع بن جارية(٣).

نعم قد أنصف صاحب الفهرس محمّـد بن إسحاق (ابن النديم)

__________________

(١) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار : المقدّمة.

(٢) صحيح البخاري ٦/١٠٣ باب القرّاء من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١/١٩٥ رقم ٩٨٥ ـ ٩٨٧.

  

١٨٠