تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

يفهم من نحو (اتّخذت صديقا من دوني) الاستبدال. فذاك من قرينة خارجية. وإلا فالمثال لا يعينه. لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفي. فتبصر (قالَ سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يقال هذا وينطق به (ما يَكُونُ لِي) أي ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق (أَنْ أَقُولَ) أي في حق نفسي (ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه‌السلام ، بالطريق البرهانيّ. فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا. فحيث انتفى علمه تعالى به ، انتفى صدره عنه حتما. ضرورة. أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم. قاله أبو السعود (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) استئناف جار مجرى التعليل لما قبله. كأنه قيل : لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي. فكيف بما أعلنه؟ وقوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) بيان للواقع ، وإظهار لقصوره. أي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. أفاده أبو السعود (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١١٧)

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به. وإنما قيل : (ما قُلْتُ لَهُمْ) نزولا على قضية حسن الأدب ، ومراعاة لما ورد في الاستفهام. وقوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) تفسير للمأمور به (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ). أي : رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك ، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي : بالرفع إلى السماء. كما في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]. والتوفي : أخذ الشيء وافيا. والموت نوع منه. قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢]. وسبق في قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) في (آل عمران) زيادة إيضاح على ما هنا. فتذكر (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : الناظر لأعمالهم. فمنعت من أردت عصمته من التفوّه بذلك. وخذلت من خذلت من الضالين ، فقالوا ما قالوا : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله. وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل ، حين كونه عليه‌السلام فيما بينهم.

٣٠١

تنبيه :

دلت الآية على أن الأنبياء ، بعد استيفاء أجلهم الدنيويّ ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم. وقد روى البخاري (١) هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أيها الناس! إنكم محشرون إلى الله حفاة عراة غرلا. ثم قال : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب! أصيحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١١٨)

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الحافظ ابن كثير : هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزوجل. فإنه الفعال لما يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]. ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله. وجعلوا لله ندّا وصاحبة وولدا. تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. انتهى.

أي : إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك. ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح. لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب. الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم. فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد. فلا امتناع فيه لذاته ، ليمتنع الترديد والتعليق ب (إن). أفاده البيضاوي.

يعني أن المغفرة ، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود ، لكنها لما كانت بحسب العقل ، تحتمل الوقوع واللاوقوع ، استعمل فيها كلمة (إن) فسقط ما يتوهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في أبواب متعددة من صحيحه وأولها ما جاء في : الأنبياء ، ٨ ـ باب قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، حديث ١٥٨٥.

٣٠٢

أن تعذيبهم ، مع أنه قطعيّ الوجود ، كيف استعمل فيه (إن) وعدم وقوع العفو بحكم النص والإجماع.

وفي كتب الكلام : إن غفران الشرك جائز عقلا عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة. لأن العقاب حق الله على المذنب ، وليس في إسقاطه مضرة.

وبالجملة : فليس قوله تعالى (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) تعريضا بسؤاله العفو عنهم. وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد ، وعلى مقتضى حكمه وحكمته. ولذا قال : إنك أنت العزيز الحكيم ، تنبيها على أنه لا امتناع لأحد عن عزته ، فلا اعتراض في حكمه وحكمته.

قال الرازيّ : قال قوم : لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم ، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم. فلما قال : فإنك أنت العزيز الحكيم ، دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى ، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.

وفي (العناية) ما ملخصه : أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بدل (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود ـ فقد غاب عنه سر المقام. لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط ، لكونه جوابه. وليس كما توهم. بل هو متعلق بهما. ومن له الفعل والترك عزيز حكيم. فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام ، أو هو متعلق بالثاني ، وإنه احتراس ، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة ، أو لإهمال ينافي الحكمة. فبيّن أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة.

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب. وقد ورد في الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها.

روى الإمام (١) أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة. فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فلما أصبح قلت : يا رسول! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت. تركع بها وتسجد بها؟ قال : إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لأمتي ؛ فأعطانيها. وهي نائلة ، إن شاء الله ، لمن لا يشرك بالله شيئا.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ١٤٩.

٣٠٣

وأخرجه النسائي أيضا.

وروى الإمام أحمد (١) أيضا عن أبي ذر قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء. فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون. فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله. فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى. فجئت فقمت خلفه فأومأ إليّ بيمينه ، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي. وخلفه ، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله. فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو. وقام بآية من القرآن يرددها ، حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا اومأت إلى عبد الله بن مسعود. أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود : لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ ، فقلت : بأبي وأمي! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن. لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه. قال : دعوت لأمتي. قلت : فماذا أجبت؟ أو ماذا رد عليك؟ قال : أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة ، تركوا الصلاة. قلت : أفلا أبشر الناس ، قال : بلى. فانطلقت معنقا قريبا من قذفة بحجر. فقال عمر : يا رسول الله؟ إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع. فرجع.

وتلك الآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله عزوجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ...) الآية [إبراهيم : ٣٦].

وقول عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فرفع يديه وقال : اللهم! أمتي أمتي. وبكى. فقال الله تعالى : يا جبريل! اذهب إلى محمد. وربك أعلم ، فاسأله : ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه‌السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال ، وهو أعلم. فقال الله : يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.

ثم ختم تعالى حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله بقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ١٧٠.

٣٠٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١٩)

(قالَ اللهُ هذا) أي : يوم القيامة (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) لأنه يوم الجزاء. والمراد بـ (الصّادقين) المستمرون على الصدق في الأمور الدينية ، التي معظمها التوحيد ، الذي الآية في صدده. وفيه شهادة بصدق عيسى عليه‌السلام فيما قاله ، جوابا عن قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية. وقوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ) تفسير للنفع المذكور. ولذا لم يعطف عليه ، أي : لهم بساتين من غرس صدقهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت شجرها وسررها (الْأَنْهارُ) أنهار الماء واللبن والخمر والعسل (خالِدِينَ فِيها) مقيمين لا يموتون ولا يخرجون (أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لصدقهم (وَرَضُوا عَنْهُ) تحقيقا لصدقهم. فلم يسخطوا لقضائه في الدنيا (ذلِكَ) أي : الخلود والرضوان (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : الكبير الذي لا أعظم منه. كما قال تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١]. وكما قال تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في المسيح وأمه. وذلك من تقديم الظرف. لأنه المالك لا غيره. فلا شريك له. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : مبالغ في القدرة. فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ومشيئته. فلا نظير له ولا وزير. لا إله غيره ولا رب سواه.

روى ابن وهب عن عبد الله بن عمرو ، قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة. أخرجه الترمذي (١) والحاكم. وأخرجا أيضا عن عائشة قالت : آخر سورة نزلت المائدة والفتح ـ كذا في (الإتقان) ـ.

كمل ما قدره تعالى على عبيده من محاسن تأويل هذه السورة الشريفة بعد عصر يوم الجمعة في ١٩ رمضان عام ١٣٢٠ في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٥ ـ سورة المائدة ، ٢٣ ـ حدثنا قتيبة.

٣٠٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

سورة الأنعام

وهي مكية. وهي مائة وخمس وستون آية.

روى العوفيّ وعكرمة وعطاء عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة.

روى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مكية ، نزلت جملة واحدة ، نزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم ، غير ست آيات منها ، فإنها مدنيات ، وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣]. إلى آخر الثلاث آيات. وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١]. الآية. وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١ ـ ٢٢] إلى آخر الآيتين.

وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين ، وهما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٤]. الآية. وقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [الأنعام : ٢٠]. الآية.

وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا : إنها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة ، قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١]. وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) [الأنعام : ١٤١] الآية.

قال البيهقيّ في (الدلائل) : في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة ، فألحقت بها. وكذا قال ابن الحصار : كل نوع من المكيّ والمدنيّ ، منه آيات مستثناة. قالا : إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل. ثم ناقش هذه الآيات ، قال : ولا يصح به نقل ، خصوصا ما ورد أنها نزلت جملة. وردّ عليه السيوطيّ بأنه صح النقل عن ابن عباس ، باستثناء : (قُلْ تَعالَوْا)

٣٠٦

[الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣]. الآيات الثلاث ، والبواقي : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ، لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف. وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١]. نزلتا في مسيلمة ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [الأنعام : ٢٠]. وقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [الأنعام : ١١٤].

وأخرج أبو الشيخ عن الكلبيّ قال : نزلت الأنعام كلها بمكة ، إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود ، وهو الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ـ كذا في (اللباب) و (الإتقان). ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عباس قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا ، جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك ، يجأرون بالتسبيح.

وروى السدّي عن ابن مسعود قال : نزلت سورة الأنعام يشيّعها سبعون ألفا من الملائكة. وروي نحوه من وجه آخر عنه أيضا.

روى الحاكم في (مستدركه) عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق. ثم قال : صحيح على شرط مسلم.

وأخرجه ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزلت سورة الأنعام معها موكب الملائكة سدّ ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح ، والأرض بهم ترتج ، ورسول الله يقول : سبحان الله العظيم؟ سبحان الله العظيم!

وأخرج أيضا عن ابن عمر : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد.

قال الرازيّ : قال الأصوليون : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة :

أحدهما ـ أنها نزلت دفعة واحدة.

والثاني ـ أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة. والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والمعاد ، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين ، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة. وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام ، قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم ، وبحسب الحوادث والنوازل. وأما ما يدل على علم الأصول ، فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة ، وذلك

٣٠٧

يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور ، لا على التراخي.

وأخرج (١) الدارميّ في (مسنده) عن عمر رضي الله عنه قال : الأنعام من نواجب القرآن.

وفي القاموس : نجائب القرآن أفضله ومحضه. ونواجبه لبابه. انتهى.

وسميت ب (سورة الأنعام) ، لأن أكثر أحكامها ، وجهالات المشركين فيها ، وفي التقرب بها إلى أصنامهم ـ مذكورة فيها.

__________________

(١) أخرجه الدارمي في مسنده في : فضائل القرآن ، ١٧ ـ باب فضائل الأنعام والسور : عن عمر قال : الأنعام من نواجب القرآن.

٣٠٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي جميع المحامد ، بما حمد به نفسه أو خلقه ، أو حمد به الخلق ربهم ، أو بعضهم ، مخصوص به. ثم أخبر عن قدرته الكاملة ، الواجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم المخلوقات ، فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع ، لأن السموات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية. والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات.

(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي : أوجدهما منفعة لعباده ، في ليلهم. ونهارهم. وهاهنا :

لطائف :

الأولى ـ أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة ، دون ما سواه.

الثانية ـ لفظ (جعل) يتعدى إلى واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كما هنا ؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى (صيّر) كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩]. والفرق بين (الخلق) و (الجعل) أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي (الجعل) معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩]. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [الزمر : ٦]. وإنما حسّن لفظ (الجعل) هاهنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا ، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر ـ قاله الرازيّ ـ وسبقه إليه الزمخشريّ.

٣٠٩

قال الناصر في (الانتصاف) : وقد وردت (جَعَلَ) و (خَلَقَ) موردا واحدا. فورد : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١]. وورد : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩]. وذلك ظاهر في الترادف. إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن (جَعَلَ) لم يصحب السموات والأرض ، وإما لزمتهما (خَلَقَ). وفي إضافة (الخلق) في هذه الآية إلى السموات والأرض ، و (الجعل) إلى الظلمات والنور ، مصداق للمميّز بينهما ـ والله أعلم ـ

الثالثة ـ إن قيل : لم جمعت السموات دون الأرض مع أنها مثلهن لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢]. وفي الحديث (١) : هل تدرون ما هذه؟ قالوا : هذه أرض. هل تدرون ما تحتها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم؟ قال : أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام ، حتى عدّ سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام ـ أخرجه الترمذيّ ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه؟.

فالجواب : لأن السموات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين ـ كما قاله البيضاوي ـ.

وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل. والأرض مجرى القابل. فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخلّ بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول. انتهى.

وقدم السموات لشرفها وعلوّ مكانها.

الرابعة ـ الظاهر في (الظلمات والنور) أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر. والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. والأصل اللفظ على حقيقته. ولأن (الظلمات والنور) إذا قرنا بالسموات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان ، ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما الكفر والإيمان.

ورجح الرازي الأول لما ذكر.

ووجه بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السموات والأرض ، فقد نصب

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٥٧ ـ سورة الحديد.

٣١٠

الأدلة على معرفته وتوحيده. ثم بيّن طريق الضلال ، وطريق الهدى ، بإنزال الشرائع والكتب السماوية. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فناسب المقام (ثم) الاستبعادية ، إذ ببعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل ، اختيار الباطل. انتهى.

وعليه فجمع (الظلمات) وتوحيد (النور) ظاهر. لأن الهدى واحد ، والضلال متعدد ، كما قال في آخر هذه السورة : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

وعلى الأول ، فجمعها لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، فإن لكل جرم ظلمة ، وليس لكل جرم نور. وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق ، على النور.

وفي الأثر (١) : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره.

وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى ، بالحمد المستدعى لاقتصار العبادة عليه. مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول. والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة ، باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ، ويعدلون به سبحانه. أي : يسؤون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقا له ، غير متصف بشيء من مبادئ الحمد.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ص ١٧٦ ج ٢ والحديث رقم ٦٦٤٤ ونصه : عن عبد الله بن الدّيلمي قال : دخلت على عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط له بالطائف ، يقال له الوهط ، وهو مخاصر فتى من قريش ، يزنّ بشرب الخمر. فقلت له : بلغني عنك حديث : أن من شرب شربة خمر لم يقبل الله له توبة أربعين صباحا. وأن الشقي من شقي في بطن أمه ، وأن من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه.

فلما سمع الفتى ذكر الخمر ، اجتذب يده من يده ، ثم انطلق.

ثم قال عبد الله بن عمرو : إني لا أحلّ لأحد أن يقول عليّ ما لم أقل.

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ...

وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله عزوجل خلق الخلق في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ. فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ، ومن أخطأ ضلّ. فلذلك أقول : جف القلم على علم الله عزوجل».

وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ...

رواه الترمذي في : الإيمان ، ١٨ ـ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة.

٣١١

وكلمة (ثم) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ، القاضية ببطلانه. و (الباء) متعلقة ب (يعدلون) ووضع (الرب) موضع ضميره تعالى ، لزيادة التشنيع والتقبيح. والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل ، وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل ، بتنزيله منزلة اللازم ، إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد ، لا خصوصية المفعول. هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل ـ أفاده أبو السعود ـ.

ثم ناقش ما وقع للمفسرين هنا مما يخالفه. فانظره.

وأصل (العدل) مساواة الشيء بالشيء. والمعنى : أنهم يجعلون له عديلا من خلقه ، مما لا يقدر على شيء ، فيعبدون الحجارة ، مع إقرارهم بأن الله خلق السموات والأرض.

وقال النضر بن شميل : (الباء) بمعنى (عن) أي : عن ربهم يعدلون وينحرفون ، من العدول عن الشيء.

لطيفة :

قال ابن عطية رحمه‌الله : (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا ، لأن المعنى أن خلقه السموات قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم. فهذا كما تقول : أعطيتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني؟ ولو وقع العطف في هذا ونحوه ب (الواو) لم يلزم التوبيخ كلزومه ب (ثم). انتهى. أي : ففيها الدلالة على التوبيخ والإنكار ، كالتعجيب أيضا.

قال أبو حيان : هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن (ثم) للتوبيخ. والزمخشري من أنها للاستبعاد ـ مفهوم من سياق الكلام ، لا من مدلول (ثم). انتهى.

وإنما لم تحمل (ثم) على التراخي ، مع استقامته ، لكون الاستبعاد أوفق بالمقام ، لأن التراخي الزمانيّ معلوم فيه ، فلا فائدة في ذكره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث ، مع

٣١٢

مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجبات توحيده. وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكره من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١]. لما أن محل النزاع بعثهم. فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشئون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي : ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل ، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر. وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين ، لا إلى آدم عليه‌السلام ، وهو المخلوق منه حقيقة. بأن يقال : هو الذي خلق أباكم .. إلخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه‌السلام منه ، في إيجاب الإيمان بالبعث ، وبطلان الامتراء ـ لتوضيح منهاج القياس ، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية : هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ، عليه‌السلام ، منه ، حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد الجنس ، انطواء إجماليا ، مستتبعا لجريان آثارها على الكل. فكان خلقه عليه‌السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه. ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته ، أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه ، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم ، وكمال علمه وحكمته ، وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معيارا لانتهائها ـ فعل ما فعل. ولله در شأن التنزيل! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١]. إلخ. وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩]. كما سيأتي.

وقيل : المعنى خلق أباكم منه ، على حذف المضاف. وقيل : معنى خلقهم منه ، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض. وأيا ما كان ، فيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ، ما لا يخفى. فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط ، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة ـ أفاده أبو السعود ـ.

وفي (العناية) : أن في الآية التفاتا ، لأن الخطاب ـ وإن صح كونه عامّا ـ لكنه خاص بالذين كفروا ، كما يقتضيه (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، والشكر عليه أوجب. وقد أشير في

٣١٣

كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد ، وما بينهما. انتهى.

أخرج أبو داود (١) والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض. جاء منهم. الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك. والسهل والحزن ، والخبيث والطيّب.

وقوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي : كتب لموت كل واحد منكم أجلا خاصّا به. أي حدّا معينا من الزمان يفنى عند حلوله. أو كتب ، لما بين أن يولد كل منكم إلى يوم أن يموت ، أجلا.

(وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أي : وحدّ معين لبعثكم جميعا ، مثبت معيّن في علمه ، لا يقبل التغيير ، ولا يقف على وقت حلوله أحد. كقوله تعالى : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧]. فمعنى (عِنْدَهُ) أنه مستقل بعلمه. و (أَجَلٌ) مبتدأ لتخصيصه بالصفة ، ولوقوعه في موقع التفصيل. وتنوينه لتفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو (عِنْدَهُ) ، مع أن الشائع في مثله التأخير ، كأنه قيل : وأيّ أجل معين في علمه لا يعلمه أحد لا مجملا ولا مفصلا. أما أجل الموت فمعلوم إجمالا وتقريبا ، بناء على ظهور أماراته ، أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان.

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث ، بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه. أي : تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه ، مع مشاهدتكم في أنفسكم ما يقطع مادة الامتراء. فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها ، وإبقائها ما يشاء ، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي المعبود فيهما ، (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : السنة ، ١٦ ـ باب في القدر ، حديث ٤٦٩٣ وأخرجه الترمذي في : التفسير ، ٢ ـ سورة البقرة ، ١ ـ حدثنا محمد بن بشار.

٣١٤

وَجَهْرَكُمْ) أي من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي : ما تفعلونه من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب. وتخصيصه بالذكر ، مع اندراجه فيما سبق ، على التفسير الثاني للسر والجهر ـ لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء. وهو السر في إعادة (يعلم).

قال الناصر في (الانتصاف) : وما هاتان الآيتان الكريمتان ـ يعني هذه الآية وآية الزخرف ، وهي قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ـ إلّا توأمتان. فإن التمدح في آية الزخرف ، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية ، وفي كونه تعالى المعبود في السموات والأرض.

وقال الإمام ابن كثير رحمه‌الله تعالى : للمفسرين في هذه الآية أقوال ، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية ، الأول القائلين ـ تعالى عن قولهم علوا كبيرا ـ بأنه في كل مكان ، حيث حملوا الآية على ذلك. فالأصح من الأقوال أنه المدعوّ في السموات والأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقرّ له بالآلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه (رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠]. إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية ـ على هذا القول ـ كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ). أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا ، فيكون قوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبرا أو حالا.

والقول الثاني ـ إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر. فيكون قوله (يَعْلَمُ) متعلقا بقوله (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات ... إلخ.

والقول الثالث ـ إن قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) وهذا اختيار ابن جرير. انتهى.

ورجح ابن عطية في الآية : أنه الذي يقال له (اللهُ) فيهما. قال : وهذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى ، وإيضاحه : أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآيات قدرته ، وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات. فجمع هذه كلها في قوله (وَهُوَ اللهُ) ـ الّذي له هذه كلّها ـ (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.

٣١٥

تنبيه :

قال الرازي : الآية تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل ، والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضرّ. ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب ، لكونه تعالى منزّها عن جلب النفع ، ودفع الضرّ ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٤)

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) يعني : ما يظهر لكفار مكة دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار ، أو معجزة من المعجزات ، أو آية من آيات القرآن ، التي من جملتها الآيات السالفة ، الناطقة ببدائع صنعه وقدرته على البعث (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي : على وجه التكذيب والاستهزاء ، لقلة خوفهم وتدبرهم ، في العواقب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٥)

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) يعني : القرآن الذي تحدّوا به ، فعجزوا عنه (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : مصداق أنباء الحق الذي كانوا يكذبون به على سبيل الاستهزاء. وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة. فهو وعيد شديد لهم بأنه لا بد لهم أن يذوقوا وباله. وقد ذاقوه يوم بدر وغيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

(أَلَمْ يَرَوْا) أي : ألم يعلموا علما يشبه الرؤية بالبصر ، لما سمعوا بالتواتر من إتيان المستهزئين قبلهم. أنباءهم مرارا كثيرة (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة ، فلم نبق منها أحدا ، مثل قوم نوح وعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم الماضية ، والقرون الخالية. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : قررناهم وثبتناهم في الأرض ، (ما لَمْ

٣١٦

نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي : ما لم نجعل لكم من السعة والرفاهية وطول الأعمار ، يا أهل مكة! (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي المطر. قال المهايمي : هو أبلغ من أنزلنا في الدلالة على الكثرة ، (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي كثيرا ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي من تحت أشجارهم ، فعاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار ، وسقيا الغيث المدرار ، (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم وكفرهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وجعلناهم أحاديث ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه. أي وسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب. (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي : بدلا من الهالكين ، يعني : فلا يتعاظمه تعالى أن يهلك هؤلاء ، ويخلي ديارهم منهم ، وينشئ أمة سواهم ، فما هم بأعزّ على الله منهم. والرسول الذي كذبوه أكرم على الله من رسلهم. فهم أولى بالعذاب ، ومفاجأة العقوبة ، لو لا لطفه وإحسانه.

ثم بين تعالى شدة مكابرتهم ، إثر إعراضهم ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي : مكتوبا في ورق (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي : فمسوه ، (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي : ليس هذا المعظم بهذه الوجوه الدالة على أنه لا يكون إلا من الله ، (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعنادا ، وتخصيص (اللمس) لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار ، حيث لا مانع. وتقييده ب (الأيدي) لرفع التجوز ، فإنه قد يتجوز به للفحص ، كقوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] ـ أفاده البيضاوي.

قال الناصر في (الانتصاف) : والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم ، تحقيق القراءة على قرب. أي : فقرؤوه وهو في أيديهم ، لا بعيد عنهم ، لما آمنوا.

وقال ابن كثير : وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ـ ١٥]. ولقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨)

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي : ليكون معه فيكلمنا أنه نبيّ ، كقوله : (لَوْ لا

٣١٧

أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧].

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) جواب لمقترحهم ، وبيان لمانعه ، وهو البقيا عليهم ، كيلا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه. والمعنى : أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورته ، وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لم يؤمنوا ، لحاق بهم العذاب ، وفرغ الأمر. فإن سنة الله قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية. ثم لم يؤمنوا ، استؤصلوا بالعذاب ، كما قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨]. وقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢].

(ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين ، فضلا عن أن ينذروا به. ومعنى (ثم) بعد ما بين الأمرين ، قضاء الأمر ، وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار. أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.

تنبيه :

ذكر الزمخشريّ وجها ثانيا في تعجيل عذابهم ، عند نزول الملائكة ، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف ، فيجب إهلاكهم ، وفي (الكشف) الاختيار قاعدة التكليف ، وهذه آية ملجئة. قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [الفتح : ٨٥]. فوجب إهلاكهم ، لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة ، إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف ، وهو لا يبقى مع الإلجاء. هذا تقريره على مذهبهم ، وهو غير صاف عن الإشكال. انتهى. وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة ، وكأنّ وجه إشكاله أنه وقع في القرآن ، والواقع ما ينافيه ، كما في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ...) [البقرة : ٢٥٩]. ـ كذا في (العناية) ـ وذكر أيضا وجها ثالثا. وهو أنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته ، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

قال في (الانتصاف) : ويقوّي هذا الوجه قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً). قال ابن عباس. ليتمكنوا من رؤيته ، ولا يهلكوا من مشاهدة صورته ، انتهى.

وهذا الوجه آثره أبو السعود في التقديم حيث قال : أي لو أنزلنا ملكا على هيئته حسبما اقترحوه ، والحال أنه من هول المنظر ، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية. ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصورة البشرية؟ كضيف إبراهيم ولوط ، وخصم داود عليهم

٣١٨

السلام ، وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك ، وهم مؤيدون بالقوى القدسية ، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟ فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية ، واستحال جعله نذيرا ، وهو ـ مع كونه خلاف مطلوبهم ـ مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة ، من إرسال الرسل ، وتأسيس الشرائع ، وقد قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]. انتهى.

وفي (العناية) أن الوجه الثالث لا يناسب قوله : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ، لأنه يدل على إهلاكهم ، لا على هلاكهم ، برؤية الملك ، إلا بتكلف.

هذا ، وقال الناصر في (الانتصاف) : على الوجه الأول لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك. فإنه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح ، وليس الأمر كذلك. فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم ، أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه ، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا ، لا المعجز الخاص ، فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم ، فلم ينجع فيهم ، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النّظرة ـ والله أعلم ـ.

قال المهايميّ : لا دليل على النبوة سوى شهادة الملك ، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف ، إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت ، فلا يمهلون ، لأن الإمهال للنظر. والمعجزة ـ وإن أفادت علما ضروريّا ـ لا تخلو عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر ، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت ، فلا وجه للإمهال للنظر ، فلا يقبل الإيمان معه ، فلا بد من المؤاخذة عقيبه. انتهى ـ فليتأمل ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٩)

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) جواب ثان. أي : ولو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكا لمثلناه رجلا ، لما مرّ من عدم استطاعة الآحاد ، لمعاينة الملك على صورته ، من النور. وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء بقوتهم القدسية. (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) جواب محذوف. أي : ولو جعلناه رجلا لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم حينئذ ، بأن يقولوا له : إنما أنت بشر ، ولست بملك. ولو استدل على

٣١٩

ملكيته بالقرآن المعجز ، الناطق بها ، أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق ـ لكذبوه ، كما كذبوا النبيّ عليه الصلاة والسلام. ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم ما تقدم من قضاء الأمر.

تنبيهات :

الأول : في إيثار (رجلا) على (بشرا) إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل ، لا بطريق قلب الحقيقة ، وتعيين لما يقع به التمثيل.

الثاني ـ في الآية بيان لرحمته تعالى بخلقه ، وهو أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال. كما قال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [آل عمران : ١٦٤]. الآية. وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥].

الثالث : التعبير عن تمثيله تعالى (رجلا) باللبس إما لكونه في صورة اللبس ، أو لكونه سببا للبسهم ، أو لوقوعه في صحبته بطريق المشاكلة. وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكا ، كأنه قيل : لو فعلناه لفعلناه ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم ـ أفاده أبو السعود.

الرابع ـ جوز بعضهم وجها ثانيا في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) وهو أن يكون جواب اقتراح ثان ، على أن الضمير عائد للرسول ، لا لمقترحهم السابق. قال : لأنهم تارة يقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وتارة يقول : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤]. والمعنى : ولو جعلنا الرسول ملكا لمثلناه رجلا. والظاهر هو الوجه الأول.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصر والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة. و (حاق) بمعنى نزل وحلّ ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. أي : فنزل بهم وبال استهزائهم ، أو العذاب الذي كانوا يسخرون من

٣٢٠