موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

مع قيصر ملك الروم

يقول الرواة : حدثت مشادّة بين الحارث بن سنان الأزدي وبين رجل من الأنصار ، فرفع أمرهما إلى عمر ، فلم ينتصف للحارث فارتدّ عن الإسلام ، ولحق بقيصر ، وكان الحارث قد نسي ما تعلّمه من القرآن الكريم سوى قوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (١) وسمع قيصر هذه الآية فقال : سأكتب إلى ملك العرب بمسائل فإن أجابني عنها أطلقت ما عندي من الأسارى ، وإن لم يجبني عنها عمدت إلى الأسارى فعرضت عليهم النصرانية ، فمن قبلها منهم استعبدته ، ومن أبى قتلته ، وكتب إلى عمر بمسائل كان منها :

١ ـ تفسير سورة الفاتحة.

٢ ـ الماء الذي ليس من الأرض ، ولا من السماء؟

٣ ـ عما يتنفّس ولا روح فيه؟

٤ ـ عصا موسى مم كانت ، وما اسمها ، وما طولها؟

٥ ـ جارية بكر لأخوين في الدنيا وفي الآخرة لواحد؟

ولمّا عرضت هذه المسائل على عمر لم يهتد لحلها ، ففزع إلى الإمام عليه‌السلام فعرضها عليه.

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

٨١

جواب الإمام :

وكتب الإمام جواب هذه المسائل ، وهذا نص ما كتبه بعد البسملة :

« من عليّ بن أبي طالب صهر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووارث علمه ، وأقرب الخلق إليه ، ووزيره ، ومن حقّت له الولاية وامر الخلق من أعدائه بالبراءة ، قرّة عين رسول الله ، وزوج ابنته ، وأبي ولده إلى قيصر ملك الرّوم.

أمّا بعد : فإنّي أحمد الله الّذي لا إله إلاّ هو عالم الخفيّات ، ومنزل البركات ، من يهدي الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، ورد كتابك وأقرأنيه عمر بن الخطّاب.

فأمّا سؤالك عن اسم الله تعالى فإنّه اسم فيه شفاء من كلّ داء ، وعون عن كلّ دواء.

وأمّا الرّحمن فهو عون لكلّ من آمن به ، وهو اسم لم يسمّ به غير الله الرّحمن تبارك وتعالى.

وأمّا الرّحيم فرحم من عصى وتاب وآمن وعمل صالحا.

وأمّا ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فذلك ثناء على ربّنا تبارك وتعالى بما أنعم علينا.

وأمّا قوله : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فإنّه يملك نواصي الخلق يوم القيامة ، وكلّ من كان في الدّنيا شاكّا أو جبّارا أدخله النّار ، ولا يمتنع من عذاب الله عزّ وجلّ شاكّ ولا جبّار ، وكلّ من كان في الدّنيا طائعا مديما محافظا أدخله الجنّة برحمته.

وأمّا قوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فإنّا نستعين بالله عزّ وجلّ من

٨٢

الشّيطان الرّجيم لا يضلّنا كما أضلّكم.

وأمّا قوله : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فذلك الطّريق الواضح من عمل في الدّنيا عملا صالحا فإنّه يسلك على الصّراط إلى الجنّة.

وأمّا قوله : ( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فتلك النّعمة الّتي أنعمها الله عزّ وجلّ على من كان قبلنا من النّبيّين والصّدّيقين فنسأل الله ربّنا أن ينعم علينا كما أنعم عليهم.

وأمّا قوله : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) فاولئك اليهود بدّلوا نعمة الله كفرا فغضب عليهم فجعل منهم القردة والخنازير ، فنسأل ربّنا أن لا يغضب علينا كما غضب عليهم.

وأمّا قوله : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) فأنت وأمثالك يا عابد الصّليب الخبيث ، ضللتم من بعد عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فنسأل الله ربّنا أن لا يضلّنا كما ضللتم.

وأمّا سؤالك عن الماء الّذي ليس من الأرض ولا من السّماء ، فذلك الّذي بعثته بلقيس إلى سليمان بن داود ، وهو عرق الخيل إذا جرت في الحروب.

وأمّا سؤالك عمّا يتنفّس ولا روح له فذلك الصّبح إذا تنفّس.

وأمّا سؤالك عن عصا موسى ممّا كانت؟ وما طولها؟ وما اسمها؟ وما هي؟

فإنّها كانت يقال لها البرنيّة الرّائدة ، وكان إذا كان فيها الرّوح زادت ، وإذا خرجت منها الرّوح نقصت ، وكانت من عوسج ، وكانت عشرة أذرع ، وكانت من الجنّة أنزلها جبرئيل عليه‌السلام.

وأمّا سؤالك عن جارية تكون في الدّنيا لأخوين وفي الآخرة لواحد ، فتلك

٨٣

النّخلة في الدّنيا هي للمؤمن مثلي وللكافر مثلك ، ونحن من ولد آدم عليه‌السلام ، وفي الآخرة للمسلم دون الكافر المشرك ، وهي في الجنّة وليس في النّار ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (١) ».

ثم طوى الكتاب ، وأنفذه إلى قيصر ، فلما قرأه أعجب به ، وعمد إلى الأسرى فأطلقهم وأسلم ، ودعا أهل مملكته إلى الإسلام فثارت عليه النصارى وهمّوا بقتله ، فأعتذر منهم بأنه إنما أعلن إسلامه لاختبارهم فكفّوا عنه ، وبقي كاتما اسلامه حتى مات (٢).

وانتهت هذه المناظرة وهي قبس من جهاد الإمام عليه‌السلام فقد نافح عنه في جميع المواقف بسيفه وعلمه وبهذا ينتهى بنا الحديث عن بعض مناظراته مع النصارى.

__________________

(١) الرحمن : ٦٨.

(٢) بحار الأنوار ١٠ : ٦٠ ـ ٦٢. ارشاد القلوب ٢ : ١٧٥.

٨٤

مناظرته

مع اليهود

٨٥
٨٦

ناظر بعض علماء اليهود ، وأعمدتهم الروحية ، الإمام عليه‌السلام ، فقد سألوه عن أعقد المسائل ، وأكثرها غموضا ، وأشبهها بالألغاز ، وذلك لامتحانه واكتشاف الواقع الرسالي الماثل فيه ، وقد أجابهم الإمام عنها جواب العالم الخبير ، فلم يبق أي جانب من مسائلهم إلاّ أجاب عنه بدقة وشمول وقد بهروا بسعة علومه ، وإحاطته الكاملة بأديانهم وبالكتب السماوية ، وقد اعتنق بعضهم الإسلام لما رأوه من سعة علوم الإمام ، ونعرض ـ فيما يلي ـ لبعض تلك المناظرات.

٨٧
٨٨

مع عالم يهوديّ

لمّا تقلّد عمر الخلافة بعد أبي بكر وفد عالم يهوديّ على عمر ، وقد احتفّ به جماعة من الصحابة كان من بينهم الإمام عليه‌السلام ، فقال اليهوديّ لعمر : إني رجل من اليهود وأنا علاّمتهم ، قد أردت أن أسألك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت ، فقال عمر : وما هي؟ قال ثلاث ، وثلاث ، وواحدة ، وان كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني ، فأشار إلى الإمام عليه‌السلام ، فاتجه صوبه ، فقال له الإمام :

قلت : ثلاثا ، وثلاثا ، وواحدة ألا قلت : سبعا؟ ... (١).

اليهوديّ : أسألك عن ثلاث ، فإن أصبت فيهن أسألك عن الواحدة ، وإن أخطأت في الثلاث الاولى ، لم أسألك عن شيء ...

ما يدريك إذا سألتني فأجبتك أخطأت أم أصبت؟

فاستخرج اليهودي كتابا عتيقا ، وقال : هذا كتاب ورثته عن آبائي وأجدادي بإملاء موسى وخطّ هارون ، وفيه هذه الخصال التي أريد أن أسألك عنها.

بالله عليك إن أجبتك عنها بالصّواب تسلم؟

اليهوديّ : لئن أجبتني منها بالصواب لاسلمنّ الساعة على يديك (٢).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٢٢٦.

(٢) الغدير ٦ : ٢٦٨.

٨٩

سل.

اليهوديّ : اخبرني عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض؟ وأوّل عين نبعت ، وأوّل شجرة نبتت.

أنتم تقولون : أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الّذي في بيت المقدس ، وكذبتم ، هو الحجر الأسود الّذي نزل مع آدم من الجنّة.

اليهودىّ : صدقت والله إنه بخط هارون وإملاء موسى.

أمّا العين فأنتم تقولون : إنّ أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين الّتي ببيت المقدس ، كذبتم ، هي عين الحياة الّتي غسل فيها النّون موسى ، وهي العين الّتي شرب منها الخضر.

اليهوديّ : صدقت والله إنّه بخط هارون وإملاء موسى.

وأما الشجرة فأنتم تقولون : إن أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم ، وهي «العجوة» نزل بها آدم عليه‌السلاممن الجنة.

اليهوديّ : وأمّا الثلاث الاخرى ، كم لهذه الامّة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم؟

اثنا عشر إماما.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : أين يسكن نبيّكم من الجنّة؟

يسكن أعلاها درجة ، وأشرفها مكانا في جنّات عدن.

اليهوديّ : صدقت والله انه بخط هارون واملاء موسى.

٩٠

اليهوديّ : فمن ينزل معه في منزله؟

ينزل معه اثنا عشر إماما.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : كم يعيش وصيّه ـ أي وصيّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعده؟

ثلاثين سنة.

اليهوديّ : يموت أو يقتل؟

يضرب على قرنه فتخضب لحيته.

اليهودي : صدقت والله انه بخط هارون واملاء موسى ، ثمّ اعتنق اليهودي الإسلام (١).

وحكت هذه المناظرة تصدي الإمام عليه‌السلام لنشر الإسلام ، واشاعة قيمه بين الناس ، وانه ليس هناك أحد يملك ما يملكه الإمام عليه‌السلام من الطاقات العلمية.

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٩١

مع اليهود

وفد جماعة من اليهود على عمر بن الخطاب في أيام خلافته ، فقالوا له : أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم؟ وأتيناك نسألك عن أشياء إن أخبرتنا بها آمنا وصدّقناك ، فقال عمر : سلوا عمّا بدا لكم.

اليهود : أخبرنا عن أقفال السموات السبع ، ومفاتيحها ، وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ، وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس ، وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه ، وأخبرنا عن خمسة لم يخلقوا في الأرحام ، وعن واحد وعن اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟

وأطرق عمر برأسه ولم يهتد للجواب ، واعتذر انّ هذه المسائل لا يعلم بها إلاّ الله ، ولكن يجيبكم عنها ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل خلفه فلما حضر قال له عمر : يا أبا الحسن إنّ اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم عنها ، وقد ضمنوا إن أخبرتهم أن يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعرض اليهود عليه مسائلهم وهي :

اليهود : ما أقفال السماوات؟

الشّرك بالله.

اليهود : ما مفاتيحها؟

قول لا إله إلاّ الله.

٩٢

اليهود : ما القبر الذي سار بصاحبه؟

الحوت الّذي سار بيونس في بطنه البحار السّبعة.

اليهود : ما الذي أنذر قومه لا من الجن ولا من الإنس؟

تلك نملة سليمان بن داود.

اليهود : ما الموضع الذي طلعت الشمس ولم تعد إليه؟

ذلك البحر الّذي أنجى الله عزّ وجلّ فيه موسى وأغرق فرعون.

اليهود : ما الخمسة الذين لم يخلقوا في الأرحام؟

آدم وحوّاء وعصا موسى وناقة صالح وكبش إبراهيم.

اليهود : ما الواحد؟

الله الواحد القهّار.

اليهود : ما الاثنان؟

آدم وحوّاء.

اليهود : ما الثلاثة؟

جبرئيل وميكائيل وإسرافيل.

اليهود : ما الأربعة؟

التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان.

اليهود : ما الخمسة؟

خمس صلوات مفروضات على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

اليهود : ما الستة؟

٩٣

قول الله عزّ وجلّ : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (١).

اليهود : ما السبعة؟

قول الله عزّ وجلّ : ( وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) (٢).

اليهود : ما الثمانية؟

قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (٣).

اليهود : ما التسعة؟

الآيات المنزّلة على موسى بن عمران.

اليهود : ما العشرة؟

قول الله عزّ وجلّ : ( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ) (٤).

اليهود : ما الحادي عشر؟

قول يوسف لأبيه : ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ) (٥).

اليهود : ما الاثنا عشر؟

قول الله عزّ وجلّ لموسى : ( اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (٦).

وأسلموا على يد الإمام ، وجرى بينهم حديث أعرضنا عن ذكره (٧).

__________________

(١) ق : ٣٨.

(٢) النبأ : ١٢.

(٣) الحاقّة : ١٧.

(٤) الأعراف : ١٤٢.

(٥) يوسف : ٤.

(٦) البقرة : ٦٠.

(٧) الخصال ٢ : ٦٥. بحار الأنوار ١٠ : ٧ ـ ٩.

٩٤

مع عالم يهودي

ووفد إلى يثرب عالم يهودي من أهل الشام كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء ، فالتقى بكوكبة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من بينهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وحبر الامّة عبد الله بن عباس وأبو معبد الجهني ، وجرت بينه وبين الإمام عليه‌السلام مناظرة متشعبة قد استوعبت وقتا كثيرا لطولها ، ونحن نذكر معظمها ، فقد التفت اليهودي إلى الجماعة الجالسين وقال لهم :

يا أمّة محمد ما تركتم لنبي درجة ، ولا لمرسل فضيلة إلاّ أنحلتموها نبيّكم ، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه؟ فأمسك القوم عن جوابه ، سوى الإمام فقد انبرى إليه قائلا :

« نعم ، ما أعطى الله عزّ وجلّ نبيّا درجة ، ولا مرسلا فضيلة ، إلاّ جمعها لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزاد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأنبياء أضعافا مضاعفة ... ».

اليهوديّ : هل أنت مجيبي؟

نعم ، سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقرّ الله به أعين المؤمنين ، ويكون نفسه فيه إزالة لشكّ الشّاكّين في فضائله ، إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال : ولا فخر ، وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء ، ولا منتقص لهم ، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ما أعطاهم وما زاده الله ، وما فضّله عليهم ...

٩٥

اليهوديّ : إني أسألك فأعدّ له جوابا.

هات.

اليهوديّ : هذا آدم أسجد الله له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟

لقد كان ذلك ، ولئن أسجد الله لآدم ملائكته فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة ، وأنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله تعالى صلّى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها ، وتعبّد المؤمنون بالصّلاة عليه (١) فهذه زيادة له.

اليهوديّ : إنّ آدم تاب الله عليه من بعد خطيئته.

لقد كان كذلك ، ومحمّد نزل عليه ما هو أكبر من هذا ، قال الله عزّ وجلّ : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (٢) إنّ محمّدا غير مواف في القيامة بوزر ، ولا مطلوب فيها بذنب.

اليهوديّ : إنّ إدريس رفعه الله عزّ وجلّ مكانا عليّا ، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته.

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله جلّ ثناؤه قال فيه : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٣) فكفى بهذا من الله رفعة ، ولئن اطعم إدريس من تحف الجنّة بعد وفاته ، فإنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله اطعم في الدّنيا في حياته ، بينما هو يتضوّر جوعا أتاه جبرئيل بجام من الجنّة فيه تحفة ...

__________________

(١) يشير الإمام عليه‌السلام بذلك إلى الآية ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).

(٢) الفتح : ٢.

(٣) الشرح : ٤.

٩٦

فناولها أهل بيته ، فهمّ أن يتناولها بعض الصّحابة ، فتناولها جبرئيل فقال له : كلها فإنّها تحفة من الجنّة أتحفك الله عزّ وجلّ بها وإنّها لا تصلح إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ ، فأكلنا منها ، وإنّي لأجد حلاوتها ساعتي هذه.

اليهوديّ : هذا نوح صبر في ذات الله عزّ وجل ، وأعذر قومه إذ كذّب.

لقد كان كذلك ، ومحمّد صبر في ذات الله ، وأعذر قومه إذ كذّب وشرّد ، وحصب بالحصى ، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة فأوحى الله تعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شقّ الجبال ، وانته إلى أمر محمّد فأتاه فقال له : إنّي قد امرت لك بالطّاعة ، فإن أمرت أن اطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها ... قال عليه الصّلاة والسّلام : إنّما بعثت رحمة. ربّ اهد أمّتي فإنّهم لا يعلمون ... إنّ نوحا لمّا شاهد غرق قومه رقّ عليهم رقّة القرابة ، وأظهر عليهم شفقة فقال : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (١) فقال الله تبارك وتعالى اسمه : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (٢) أراد جلّ ذكره أن يسلّيه بذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النّقمة ولم تدركه فيهم رقّة القرابة.

اليهوديّ : إنّ نوحا دعا ربه فهطلت له السماء بماء منهمر؟

لقد كان كذلك ، وكانت دعوته دعوة غضب ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هطلت له السّماء بماء منهمر رحمة ، إنّه لمّا هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة ، فقالوا له : يا رسول الله ، احتبس القطر ، واصفرّ العود ، وتهافت الورق ، فرفع يده المباركة حتّى رئي بياض إبطيه ، وما ترى في السّماء سحابة ، فما برح حتّى

__________________

(١) هود : ٤٥.

(٢) هود : ٤٦.

٩٧

سقاهم الله ، حتّى إنّ الشّابّ المعجب بشبابه لهمّته نفسه في الرّجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدّة السّيل ، فدام اسبوعا ، فأتوه في الجمعة الثّانية فقالوا : يا رسول الله ، لقد تهدّمت الجدر ، واحتبس الرّكب والسّفر ، فضحك صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : هذه سرعة ملالة ابن آدم ، ثمّ قال : اللهمّ حوالينا ولا علينا ، اللهمّ في اصول الشّيح ومراتع البقع ، فرئي حوالي المدينة يقطر المطر قطرا ، وما يقع في المدينة قطرة لكرامته على الله عزّ وجلّ.

اليهودي : إنّ هودا قد انتصر الله له من أعدائه بالريح ، فهل فعل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من هذا؟

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله عزّ وجلّ قد انتصر له من أعدائه بالرّيح يوم الخندق ، إذ أرسل عليهم ريحا تذرو الحصى ، وجنودا لم يروها فزاد الله تبارك وتعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على هود بثمانية آلاف ملك ، وفضّله على هود ، بأنّ ريح عاد ريح سخط وريح محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ريح رحمة ، قال الله تبارك وتعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) (١).

اليهودي : إنّ صالحا أخرج الله له ناقة جعلها عبرة لقومه.

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اعطي ما هو أفضل من ذلك ، إنّ ناقة صالح لم تكلّم صالحا ، ولم تشهد له بالنّبوّة ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ، ثمّ رغا فأنطقه الله عزّ وجلّ فقال : يا رسول الله ، إنّ فلانا استعملني حتّى كبرت ، ويريد نحري فأنا أستعيذ بك منه ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صاحبه فاستوهبه منه ، فوهبه له وخلاّه ...

__________________

(١) الأحزاب : ٩.

٩٨

اليهودي : إنّ إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى ، وأحاطت دلالته بعلم الإيمان به؟

لقد كان كذلك ، واعطي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من ذلك ، قد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى ، وأحاطت دلائله بعلم الإيمان به ، وتيقّظ إبراهيم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ابن سبع سنين ، قدم تجّار من النّصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصّفا والمروة ، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته ، وخبر مبعثه وآياته فقالوا له : يا غلام ، ما اسمك؟ قال محمّد. قالوا : ما اسم أبيك؟ قال : عبد الله. قالوا : ما اسم هذه ـ وأشاروا إلى الأرض ـ قال : الأرض ، ثمّ قالوا فما اسم هذه؟ وأشاروا إلى السّماء؟ قال : السّماء. قالوا : فمن ربّهما؟ قال : الله ، ثمّ انتهرهم وقال : أتشكّكوني في الله عزّ وجلّ؟ ويحك يا يهودي! لقد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله عزّ وجلّ مع كفر قومه ، إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام ، ويعبدون الأوثان ، وهو يقول : لا إله إلاّ الله.

اليهودي : إنّ إبراهيم حجب عن نمرود بحجب ثلاثة؟

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حجب عمّن أراد قتله بحجب خمسة ، فثلاثة بثلاثة ، واثنان فضل ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) (١) فهذا الحجاب الأوّل ، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) فهذا الحجاب الثّاني ، ( فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) فهذا الحجاب الثّالث ، ثمّ قال : ( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) (٢) فهذا الحجاب الرّابع ، ثمّ قال : ( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ

__________________

(١) يس : ٩.

(٢) الإسراء : ٤٥.

٩٩

مُقْمَحُونَ ) (١) ، فهذه حجب خمسة.

اليهودي : إنّ إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته.

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه مكذّب بالبعث بعد الموت وهو ابيّ بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثمّ قال :

يا محمّد ( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) فأنطق الله محمّدا بمحكم آياته ، وبهته ببرهان نبوّته ، فقال : ( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، فانصرف مبهوتا.

اليهوديّ : إنّ إبراهيم جذّ أصنام قومه غضبا لله عزّ وجلّ.

لقد كان كذلك ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نكس عن الكعبة ثلاث مائة وستّين صنما ، ونفاها عن جزيرة العرب ، وأذلّ من عبدها بالسّيف.

اليهوديّ : إنّ إبراهيم قد اضجع ولده وتلّه للجبين.

لقد كان كذلك ، ولقد اعطي إبراهيم بعد الاضطجاع الفداء ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اصيب بأفجع منه فجيعة إنّه وقف على عمّه حمزة أسد الله ، وأسد رسوله ، وناصر دينه ، وقد فرّق بين روحه وجسده ، فلم يبن عليه حرقة ، ولم يفض عليه عبرة ، وذلك ليرضي الله عزّ وجلّ بصبره ، ويستسلم لأمره ، في جميع الفعال.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو لا أن تحزن صفيّة لتركته حتّى يحشر من بطون السّباع وحواصل الطّير ، ولو لا أن يكون سنّة بعدي لفعلت ذلك ».

اليهودي : إنّ إبراهيم قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر ، فجعل الله عزّ وجلّ النار عليه

__________________

(١) يس : ٨.

١٠٠