موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

« فأنشدك بالله ، أنا صاحب آية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (١) أم أنت؟ ».

أشار الإمام عليه‌السلام إلى نذر الإمام وسيّدة النساء وجاريتها فضة حينما مرض الحسنان أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا لله إن برئا من مرضهما ، فأبلا من مرضهما فصاموا جميعا ، وحين الإفطار طرق الباب مسكين يشكو الجوع فتبرّعوا بإفطارهم ولم يتناولوا شيئا سوى الماء القراح.

وفي اليوم الثاني قبل الإفطار طرق الباب يتيم يشكو الجوع ، فناولوه إفطارهم ، وطووا ليلتهم جوعا.

وفي اليوم الثالث طرق الباب أسير يستميحهم القوت ، فناولوه إفطارهم ، وقد ذابت أجسامهم وصاروا أشباحا ، فلمّا رآهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فزع وانهارت قواه ، فنزل عليه الوحي بسورة : ( هَلْ أَتى ... ) وفيها تقييم من الله تعالى لإيثارهم ، وإشادة ببرّهم وإحسانهم ، وقد أضفى عليهم وساما خالدا خلود الدهر.

أبو بكر : بل أنت.

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي ردّت عليه الشّمس لوقت صلاته فصلاّها ، ثمّ توارت أم أنا؟ ».

حديث ردّ الشمس على الإمام ذكرته الخاصّة والعامّة ، وقد ذكر المحقّق الأميني رحمه‌الله كوكبة من المصادر التي ذكرت ذلك.

أبو بكر : بل أنت.

« فأنشدك بالله ، أنت الفتى الّذي نودي من السّماء : لا سيف إلاّ ذو الفقار ،

__________________

(١) الإنسان : ٧.

٢١

ولا فتى إلاّ عليّ ، أم أنا؟ ».

نودي الإمام من السماء بهذا النداء في واقعة احد ، وهو من الأوسمة الرفيعة التي تقلّدها.

أبو بكر : بل أنت.

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي حباك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله برايته يوم خيبر ففتح الله له أم أنا؟ ».

قاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حملة عسكرية إلى فتح خيبر التي هي أهم حصن لليهود ، وقد أسند قيادة جيشه إلى أبي بكر فرجع منهزما ، ثمّ أسند القيادة إلى عمر فكان كصاحبه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لاعطينّ غدا الرّاية رجلا يحبّه الله ورسوله ، ويحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه » ، فلمّا أصبح الصبح دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليّا ، وكان يشتكي من عينيه ، فسقاه بريقه فبرئ وسلّم الراية ، وحمل على اليهود ، ففتح الله على يده ، وقد ذكرنا تفصيل القصة في بعض أجزاء هذه الموسوعة.

أبو بكر : بل أنت.

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي نفّست عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ودّ أم أنا؟ ».

عمرو بن عبد ودّ أعظم فارس في الجزيرة العربية ، وقد برز في واقعة الخندق يطلب من المسلمين من يبارزه منهم ، فلم يستجب له أحد وخيّم عليهم الخوف ، فانبرى إليه بطل الإسلام الإمام عليه‌السلام فأرداه صريعا يتخبّط بدمه ، وكان لقتله الأثر الفعّال في هزيمة المشركين ، وقتل هذا الجاهلي الخطير من الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام على الإسلام والمسلمين.

أبو بكر : بل أنت.

٢٢

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي طهّره الله من السّفاح من لدن آدم إلى أبيه بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خرجت أنا وأنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطّلب » أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

حكى حديث الإمام إلى ما نقله الرواة إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خرجوا من لدن آدم من نكاح غير سفاح (١).

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي اختارني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزوّجني ابنته فاطمة عليها‌السلام ، وقال : الله زوّجك إيّاها في السّماء ، أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

زواج الإمام من سيّدة نساء العالمين بأمر الله حديث متّفق عليه عند جميع الرواة.

« فأنشدك بالله ، أنا والد الحسن والحسين سبطيه وريحانتيه إذ يقول :

هما سيّدا شباب أهل الجنّة وأبوهما خير منهما ، أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

امتاز الإمام عليه‌السلام على بقيّة المسلمين بولديه السبطين ريحانتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما‌السلام.

« فأنشدك بالله ، أخوك المزيّن بالجناحين يطير في الجنّة مع الملائكة أم أخي؟ ».

أبو بكر : بل أخوك.

__________________

(١) يراجع في ذلك ينابيع المودة : ١٦. كنز العمال ٦ : ١٠٠.

٢٣

ومن مزايا الإمام أنّ أخاه الشهيد العظيم جعفرا الطيّار الذي ، استشهد في مؤتة دفاعا عن الإسلام ، ووقف صامدا حتى قطعت يداه ، وأصابته تسعون ضربة ما بين طعنة بالرمح وضربة بالسيف ، وقد أبدله الله تعالى عن يديه بجناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى مع الملائكة.

« فأنشدك بالله ، أنا ضمنت دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناديت في المواسم بإنجاز موعده أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

أشار الإمام عليه‌السلام بكلماته إلى حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه جمع الأقربين من اسرته ، وقال لهم :

« من يضمن عنّي ديني ومواعدي يكن معي في الجنّة ويكن خليفتي في أهلي؟ ».

فانبرى إليه الإمام وقال : « أنا يا رسول الله ».

ذكر ذلك أحمد في مسنده ، كما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١).

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والطّير عنده يريد أكله ، يقول : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ وإليك بعدي يأكل معي من هذا الطّير فلم يأته غيري ، أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

حديث الطائر المشوي أجمع الرواة على نقله ، وقد دلّ بوضوح على أنّ

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

٢٤

الإمام أحبّ الخلق إلى الله وإلى رسوله (١).

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي بشّرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين على تأويل القرآن أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

ألمح الإمام في كلماته إلى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما كان عند أمّ المؤمنين أمّ سلمة فجاء عليّ فقال لها :

« يا أمّ سلمة ، هذا قاتل القاسطين والنّاكثين والمارقين من بعدي » (٢).

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي دلّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلم القضاء وفصل الخطاب بقوله : عليّ أقضاكم ، أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

تظافرت الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في أصحابه : « أقضاكم عليّ بن أبي طالب » (٣).

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسّلام عليه بالإمرة في حياته أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

ألمح الإمام عليه‌السلام إلى ما أمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسلّموا على الإمام بإمرة المؤمنين.

« فأنشدك بالله ، أنا الّذي شهدت آخر كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووليت غسله

__________________

(١) يراجع في ذلك : اسد الغابة ٤ : ٣٠. مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٠ ، وغيرهما.

(٢) الرياض النضرة : ٣٢٠.

(٣) يراجع في ذلك : الاستيعاب ٢ : ٤٦١.

٢٥

ودفنه أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

كان الإمام عليه‌السلام آخر الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي تولّى غسله ودفنه (١).

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي سبقت له القرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

أمّا الإمام عليه‌السلام فهو من ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقربهم إليه ، فهو أخوه ، وابن عمّه ، وختنه على سيّدة نساء العالمين ، وأبو سبطيه ، وليس لغيره هذه المنزلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي حباك الله بالدّينار عند حاجته إليه ، وباعك جبرئيل ، وأضفت محمّدا فاطعمت ولده أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

ألمح الإمام عليه‌السلام في كلامه إلى أنّ سيّدة نساء العالمين طلبت من الإمام عليه‌السلام أن يخرج ليقترض لهم ما يسدّ رمقهم من الجوع ، فخرج فلم يجد أحدا يستقرض منه إلاّ أنّه التقط دينارا فعرّف به فلم يجد له صاحبا ، وعرضت عليه حبيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستقرضه ، ومتى جاء صاحبه أعطوه مكانه ، فأخذ الإمام عليه‌السلام الدينار ومضى إلى السوق فوجد رجلا يبيع الطعام فاشترى منه بدينار ، إلاّ أنّ صاحب الطعام أبى أن يأخذ الدينار.

وفي اليوم الثاني خرج الإمام إلى السوق ليشتري طعاما لهم فوجد الرجل

__________________

(١) يراجع في ذلك : مستدرك الحاكم ٣ : ١١١. ذخائر العقبى : ٧٢. الرياض النضرة ٢ : ٢٣٧.

٢٦

الذي باعه الطعام قد عرض طعاما للبيع فاشترى منه ، وناوله الدينار فامتنع من أخذه.

وفي اليوم الثالث فعل مثل ذلك ، فسارع الإمام عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرض عليه الأمر فأخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ صاحب الطعام هو جبرئيل (١).

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي جعلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على كتفه في طرح صنم الكعبة وكسره حتّى لو شئت أن أنال افق السّماء لنلتها أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

عرض الإمام في حديثه إلى تحطيمه لأصنام قريش التي اتّخذتها آلهة يعبدونها من دون الله ، وقد حطّمها الإمام عليه‌السلام في فتح مكّة ، وقضى على خرافات الجاهلية ، والحديث مستفيض ذكرته مصادر التأريخ والحديث.

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي قال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت صاحب لوائي في الدّنيا والآخرة ، أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

حكى الإمام عليه‌السلام الحديث الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عليّ ، أنت صاحب لوائي في الدّنيا والآخرة » ، هذا الحديث متواتر مستفيض.

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي أمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح بابه في مسجده عند ما أمر بسدّ أبواب جميع أهل بيته وأصحابه ، وأحلّ لك فيه ما أحلّ الله له ، أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

__________________

(١) يراجع في ذلك : مناقب الخوارزمي : ٢٢٤.

٢٧

عرض الإمام عليه‌السلام إلى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسدّ جميع الأبواب التي كانت على المسجد إلاّ باب عليّ عليه‌السلام فقد أبقاها ، وكان ذلك تكريما للإمام عليه‌السلام (١).

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي قدّمت بين يدي نجوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صدقة فناجيته إذ عاتب الله قوما فقال : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) (٢) أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

من آداب الإمام عليه‌السلام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه إذا أراد أن يناجيه قدّم صدقة ثمّ يناجيه ، ولم يعمل مثل ذلك من الصحابة غيره (٣).

« فأنشدك بالله ، أنت الّذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : زوّجتك أوّل النّاس إيمانا ، وأرجحهم إسلاما ، في كلام له ، أم أنا؟ ».

أبو بكر : بل أنت.

أشار عليه‌السلام إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام حينما عرض عليها الزواج من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لها :

« أما ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاما ، وأعلمهم علما ... » (٤).

« فأنشدك بالله يا أبا بكر ، أنت الّذي سلّمت عليه ملائكة سبع سماوات يوم القليب أم أنا؟ ».

__________________

(١) يراجع في ذلك : كنز العمال ٦ : ١٥٢. مستدرك الحاكم ٢ : ١٢٥. الرياض النضرة ٢ : ٢٥٣.

(٢) المجادلة : ١٣.

(٣) يراجع في ذلك : الرياض النضرة ٢ : ٢١٥.

(٤) يراجع في ذلك : كنز العمال ٦ : ١٥٣ وغيره.

٢٨

أبو بكر : بل أنت.

عرض الإمام عليه‌السلام إلى قيامه بسقي الماء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في ليلة بدر ، فقد طلب منهم ذلك فلم يستجب له أحد منهم سوى الإمام ، فقد انبرى ومعه قربة إلى بئر بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها ، فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالقيام بنصرة رسوله ، فهبطوا إلى الأرض ، فلمّا حاذوا القليب وقفوا وسلّموا على الإمام إكراما وتبجيلا له (١).

موقف أبي بكر :

ووجم أبو بكر أمام هذه الحجج الحاسمة التي أدلى بها الإمام عليه‌السلام ، والتي تدلّ بوضوح على أنّ الإمام أحقّ بالأمر وأولى به من غيره ، وقد سدّت على أبي بكر جميع النوافذ ، فاستجاب لرأي الإمام إلاّ أنّ عمر صدّ أبا بكر عمّا عزم عليه من التخلّي عن منصبه (٢).

لا أكاد أعرف مناظرة قائمة على العلم والحقّ ، خالية عن الالتواء والغلبة سوى هذه المناظرة المشفوعة بأوثق الحقائق ، والتي وضعت النقاط على الحروف ، وكان الأولى بأبي بكر أن يستجيب لها إلاّ أنّ صاحبه عمر ومستشاره صدّه عن ذلك.

__________________

(١) يراجع في ذلك : ذخائر العقبى : ٦٨ ـ ٦٩. تذكرة الخواص : ٢٢٨.

(٢) الاحتجاج ١ : ١٥٧ ـ ١٨٤.

٢٩

احتجاجه على أبي بكر وحزبه

ولمّا اخذ الإمام عليه‌السلام قسرا إلى الجامع النبوي ليبايع أبا بكر أحاط به حزب أبي بكر ، وصاحوا به : بايع أبا بكر ، فأجابهم الإمام بحجّته البالغة ، ومنطقه الفيّاض قائلا :

« أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا ابايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصبا؟

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة؟

وأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّا وميّتا ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظّلم وأنتم تعلمون ... » (١).

وسلك الإمام عليه‌السلام بهذا الاحتجاج الصارم نفس الطريقة التي احتجّ بها المهاجرون على الأنصار من أنّهم أمسّ الناس رحما برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبه تغلّبوا على الأنصار وتسلّموا قيادة الحكم ، وهذه الجهة قد توفرت في الإمام عليه‌السلام على النحو

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٧٣.

٣٠

الأكمل فهو ابن عم النبي وختنه على بضعته سيدة نساء العالمين ، وأبو سبطيه فهو أمسّ الناس رحما بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولى بمركزه وأحقّ بمقامه.

٣١

مع عمر

وثار ابن الخطّاب على الإمام بعد ما أدلى بحجّته ، فقال له :

إنّك لست متروكا حتى تبايع ....

فزجره الإمام وصاح به :

« احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا ».

وأوضح الإمام السبب في اندفاع ابن الخطاب وحماسه في بيعة أبي بكر انّه يرجو أن ترجع إليه الخلافة بعده.

ثمّ ثار الإمام في وجه عمر ، وقال :

« والله يا عمر لا أقبل قولك ، ولا ابايعه ... ».

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، فأجاب الامام بناعم القول : إن لم تبايع فلا اكرهك عليه ...

وخلّى أبو بكر سبيل الإمام ، ولم يرغمه على البيعة له.

٣٢

احتجاج الإمام على المهاجرين

واحتجّ الإمام على المهاجرين باحتجاج صارم لأنهم وقفوا ضده ، وحالوا بينه وبين حقه ، فخاطبهم بأسى ولوعة قائلا :

« يا معشر المهاجرين والأنصار ، الله الله لا تخرجوا سلطان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به ؛ لأنّا أهل البيت ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، أما كان منّا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرّعيّة ، الدّافع عنهم الامور السّيّئة ، القاسم بينهم بالسّويّة ، والله إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا عن الحقّ بعدا ... » (١).

ولو أنّ المهاجرين استجابوا لنداء الحق وآثروا الصالح العام لما عانت الامّة الأزمات الحادة ، على امتداد التأريخ الإسلامي.

إنّ الحسد لآل البيت عليهم‌السلام قد نخر قلوبهم وألقاهم في شرّ عظيم ، وباعد بينهم وبين دينهم.

لقد اقصوا الاسرة النبوية عن قيادة الامّة ، وحالوا بينها وبين ما أراده الله

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١١ ـ ١٢. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ١١ ـ ١٢.

٣٣

ورسوله لها ، فتركوهم في أرباض يثرب حتى انتهى المطاف إلى أن يتسلّم الأمويون مركز الحكم ، ويستولوا على مقدرات الدولة فينفقوها على شهواتهم وملاذهم ، ويمعنوا في قتل قادة الإسلام أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وتعدّوا إلى ما هو أفظع من ذلك كلّه وهو إبادة العترة النبوية التي هي عديلة الذكر الحكيم حسبما نصّ عليه حديث الثقلين ، ومجزرة كربلاء ، وما جرى على آل الرسول من الخطوب السود والنكبات القاسية ناجم عن تصرفات المهاجرين الذين هم الطلائع للاسر القرشية التي ناجزت الإسلام.

٣٤

الإمام مع أعضاء الشورى

وأقام عمر بعد اغتياله نظام الشورى ، وهو نظام هزيل لا يحمل أي طابع من الشورى الواقعية التي تمثّل جميع قطاعات الشعب ، فقد حصرها في ستة أشخاص فكان معظمهم من الحاقدين على الإمام أمثال سعد بن أبي وقاص وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف.

وحسب الدراسات العلمية التي لا تخضع للنزعات الطائفية إنّ الغرض من هذه الشورى اقصاء الإمام عن مركز الحكم ، وتسليمه إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية ، وقد تكلّمنا عن هذه الشورى وحلّلنا أبعادها في بعض بحوث هذا الكتاب.

وعلى أي حال فإنا نعرض لاحتجاج الامام على أعضاء الشورى فقد قال لهم :

« لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم. فاسمعوا قولي ، وعوا منطقي ؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة ، وشيعة لأهل الجهالة » (١).

وكان الإمام عليه‌السلام رائد حق وداعية هداية في احتجاجه ، ولو انهم استجابوا له

__________________

(١) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ٣١.

٣٥

ولم ينسابوا وراء شهوة الحكم لما واجه المسلمون الأزمات القاسية والأحداث الرهيبة.

لقد تحقّق ما تنبّأ به الإمام ، فلم تمض حفنة من السنين حتى انتضيت السيوف وتصارع القوم على الحكم ، فكان بعضهم من أئمّة الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة والضلال.

إذعان الإمام لمصلحة المسلمين :

وأعرب الإمام عليه‌السلام حينما بويع عثمان عن إذعانه لمصلحة المسلمين ، فقد خاطب أعضاء الشورى قائلا :

« لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها ـ أي الخلافة ـ من غيري ؛ وو الله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ؛ ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (١).

لقد كانوا على ثقة وإيمان انّ الإمام عليه‌السلام أحقّ بالخلافة وأولى بالأمر من غيره ، فهو حامي الإسلام ، والمجاهد الأوّل ، وأخو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وصبر الإمام على سلب تراثه حفظا على كلمة الإسلام ووحدة المسلمين ، وقد أدلى بذلك بقوله عليه‌السلام.

« إنّ الله لمّا قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافّة ، فرأيت أنّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والنّاس حديثو عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلق ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ١٦٦.

٣٦

فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثمّ انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله وليّ تمحيص سيّئاتهم ، والعفو عن هفواتهم » (١).

وقد عزى الإمام سكوته عن أخذ حقه من الذين اغتصبوه إلى الحفاظ على كلمة المسلمين ، وعدم اراقة دمائهم ، خصوصا في تلك الظروف التي كان الإسلام في أوّل مراحله ، وإثارة الفتنة توجب إعراض الناس عن الإسلام واعتناق أديانهم التي كانوا يدينون بها.

كما تحدّث الإمام عمّا لحقه من ضيم وأذى من جراء ما اقترفه القوم تجاهه يقول عليه‌السلام :

« فإنّه لمّا قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قلنا : نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا ، وصرنا سوقة ؛ يطمع فينا الضّعيف ، ويتعزّز علينا الذّليل ، فبكت الأعين منّا لذلك ، وخشنت الصّدور ، وجزعت النّفوس ، وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه » (٢).

وحكت هذه الكلمات الآلام المرهقة التي عانتها الاسرة النبوية من جرّاء اقصاء الخلافة عنهم ، وتسلّم القرشيين لها الذين امعنوا في ظلمهم واذلالهم.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٣٠٨.

(٢) المصدر السابق ١ : ٣٠٧.

٣٧

احتجاج آخر للإمام

روى أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا عليه‌السلام يقول :

« بايع النّاس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ بايع النّاس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذا لا أسمع ولا اطيع.

وإنّ عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصّلاح ، ولا يعرفونه لي كلّنا فيه شرع سواء ، وأيم الله لو أشاء أن أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم ولا أعجميّهم ولا معاهد منهم ولا المشرك ردّ خصلة منها لفعلت » (١).

وأنت تري في هذه الكلمات مدى الصدعة والأسى التي في نفس الإمام عليه‌السلام من القوم الذين استهانوا بمكانته وعاملوه معاملة عادية ، وتنكروا لجميع حقوقه ، وقد امسك الإمام عن استعمال القوة في ارجاع حقه ، وذلك خوفا على ردة المسلمين ، وانتكاس الدين ، وضياع الرسالة الإسلامية.

__________________

(١) فرائد السمطين ١ : ٣٢٠.

٣٨

احتجاجاته

على المتمرّدين

٣٩
٤٠