موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

كامل لمناهضته يصحبهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم باحسان وانهم جميعا في شوق لملاقاة ربهم والشهادة في سبيله.

وكانت هذه الرسالة خاتمة الرسائل التي دارت بينه وبين معاوية ، وأعقبت بعد ذلك استعداد الفريقين للحرب ، وقد ذكرنا عرضا لذلك في بعض أجزاء الكتاب.

٦١

مع الخوارج

وبعد ما أحرز الإمام عليه‌السلام النصر الحاسم على خصمه الجاهلي معاوية وبات الاستيلاء عليه قاب قوسين أو أدنى ، مني الإمام عليه‌السلام بانقلاب عسكري ، فقد رفع جيش معاوية المصاحف الكريمة على الرماح ودعوا إلى المحاكمة على ضوئها فانخدع جيش الإمام بذلك وأصروا على الاستجابة لهم ، وكان بعض أفراد القيادة العامة في معسكر الإمام على اتصال بمعاوية واتفاق معه على ذلك ، ووقعت الفتنة في جيش الإمام ، ورفعت الأصوات بضرورة إيقاف القتال ، وإلاّ ناجزوا الإمام وقتلوه.

وكان على رأس القائلين بالتحكيم المنافق الأشعث بن قيس ، ومن يتصل به من عملاء معاوية ، فراحوا يجوبون في معسكر الإمام وينادون بضرورة التحكيم.

احتجاج الإمام عليهم :

واندفع الإمام عليه‌السلام لإبطال مزاعم معاوية واتباعه قائلا لأصحابه :

« ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن ادعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما اقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا

٦٢

العمل بالقرآن يريدون ... » (١).

لقد أوضح الإمام لجيشه زيف ما دعوا إليه ، وانه انما قاتل معاوية من أجل العمل بالقرآن ، وتطبيق أحكامه ، وانهم انما رفعوا المصاحف للكيد بهم وتضليلهم ، وليس لهم أية صلة بالقرآن ، ولا يدينون بما فيه.

مناظرة الإمام معهم :

وبعد ما أرغم على قبول التحكيم ، وعلى انتخاب أبي موسى الأشعري ممثلا عن العراقيين ، وعزله للإمام ، انحاز الخوارج وهم ينادون بشعارهم « لا حكم إلاّ لله » فبعث الإمام إليهم عبد الله بن عباس فحاججهم وابطل شبههم ، فلم تغن حججه ومنطقه الفياض معهم شيئا.

فانبرى إليهم الإمام عليه‌السلام فقال لهم :

« هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطف فيه أو عنت فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ».

ثم قال لهم :

« من زعيمكم؟ ».

فهتفوا جميعا : ابن الكواء.

فوجه إليه كلامه وشاركهم فيه قائلا :

« ما أخرجكم علينا؟ ».

حكومتكم يوم صفين.

« نشدتكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٥١١.

٦٣

إلى كتاب الله ، قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي صحبتهم ، وعرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شرّ رجال وشرّ أطفال ، امضوا على حقّكم وصدقكم إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة وو هنا ومكيدة ، فرددتم عليّ رأيي.

وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ، فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحياه القرآن وأن يميتا ما أماته القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن ، فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء » (١).

وقد دحضت هذه المحاججة أوهام الخوارج ، وأظهرت زيف ما يذهبون إليه ، وهم يتحملون المسئولية الكبرى فيما آلت إليه امور المسلمين ، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم ، وهم الذين فرضوا عليه أبا موسى الأشعري ممثلا عنهم في التحكيم فأي مسئولية بعد هذا تقع على الإمام عليه‌السلام؟

مناظرة اخرى للإمام معهم :

وبعد أن فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لإقناع الخوارج فقد أشاعوا الفساد والتمرّد والرعب بين المسلمين ، فلم يجد الإمام عليه‌السلام طريقا لإعادة الأمن والاستقرار إلاّ فتح باب الحرب معهم ، وقد وجّه إليهم خطابا مشفوعا بالنصح والإرشاد لهم قائلا :

« أيّتها العصابة! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الامّة غدا ، وأنتم

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٢ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٦٤

صرعى بإزاء هذا النّهر بغير برهان ولا سنّة ، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة ، وأخبرتكم أنّ طلب القوم لها مكيدة ، وأنبأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنّي أعرف بهم منكم ، وقد عرفتهم أطفالا ، وعرفتهم رجالا ، فهم شرّ رجال وشرّ أطفال ، وهم أهل المكر والغدر ، وأنّكم إن فارقتموني ورأيي جانبتم الخير والحزم ، فعصيتمونى وأكرهتموني حتّى حكّمت ، فلمّا أن فعلت شرطت واستوثقت ، وأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا ، وخالفا حكم الكتاب والسّنّة وعملا بالهوى ، فنبذنا أمرهم ، ونحن على أمرنا الأوّل ، فما نبؤكم ومن أين اتيتم ... ».

وحكى هذا الاحتجاج إكراه الخوارج للإمام على التحكيم ، وانه رفضه ولكنهم أصرّوا عليه ، وان الإمام عليه‌السلام لم يوافق عليه إلاّ بعد أن اشترط على الحكمين أن يحكما بما وافق الكتاب والسنة ، ولمّا لم يحكما بذلك كان حكمهما مرفوضا إلاّ انّ الخوارج لم يعوا كلام الإمام فردوا عليه قائلين :

إنّا حيث حكّمنا الرجلين أخطأنا بذلك ، وكنّا كافرين ، وقد تبنا من ذلك ، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت كما تبنا فنحن معك وإلاّ فاعتزلنا ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء.

فأنكر الإمام مقالتهم وقال :

« أبعد إيماني بالله ، وهجرتي وجهادي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبوء وأشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.

ويحكم! بم استحللتم قتالنا ، والخروج من جماعتنا؟ أأن اختار النّاس رجلين ، فقالوا لهما : انظرا بالحقّ فيما يصلح العامّة

٦٥

ليعزل رجل ويوضع آخر مكانه ، أحلّ لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم ، تضربون بها هامات النّاس ، وتسفكون دماءهم؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين » (١).

ولم تجد معهم هذه الحجج الناصعة التي أقامها الإمام عليهم فقد أصروا على الغي والعدوان ، وقد اترعت نفوسهم بالجهل والغباء ، فشهروا سيوفهم ، فقاتلهم أصحاب الإمام ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة (٢) ، وقد أوضحنا ذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب ، وبهذا نطوي الحديث عن احتجاج الإمام ومناظراته مع المتمردين على حكومته.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٥٥.

(٢) الملل والنحل ١ : ١٥٩.

٦٦

مناظرته

مع النّصارى

٦٧
٦٨

لمّا انتشر الإسلام في أنحاء الجزيرة ، وعمّت فتوحاته الكثير من مناطق الشرق العربي خفّت جمهرة من علماء النصارى في وفود متعددة إلى يثرب للتعرف على الدين الإسلامي ، ومعرفة خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعهم كوكبة من المسائل المعقّدة التي يشبه بعضها الألغاز أعدوها لامتحانه ، فان اهتدى لحلها آمنوا بالإسلام وإلاّ بقوا على دينهم ، فقد اعتقدوا أنّ أوصياء الأنبياء قد وهبهم الله طاقات من العلم لا تصعب عليهم أية مسألة مهما كانت معقّدة.

وقد عرضت تلك الوفود مسائلهم على الخلفاء فلم يهتدوا للجواب عنها ، وفزع بعض الصحابة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحاطه علما بالأمر فسارع الإمام إلى الجامع والتقى بهم ، وأجابهم عن مسائلهم ، فآمنوا بالإسلام ، واهتدوا لاعتناقه وايقنوا أنّ الإمام عليه‌السلام خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وولي عهده.

ونعرض إلى طائفة من تلك المسائل التي سئل الخلفاء عنها ، وعجزوا عن حلها وأجاب عنها الإمام عليه‌السلام :

٦٩
٧٠

أسئلة الجاثليق

وفد إلى المدينة جماعة من النصارى يتقدمهم الجاثليق وهو من علمائهم النابهين ، وكان قدومهم بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقلّد أبي بكر للخلافة ، فقال له الجاثليق : إنّا وجدنا في الإنجيل رسولا يخرج بعد عيسى ، وقد بلغنا خروج محمد بن عبد الله ، يذكر أنه ذلك الرسول ، ففزعنا إلى ملكنا ، فجمع وجوه قومنا ، وانفذنا ـ أي الملك ـ في التماس الحق ... وقد فاتنا نبيكم محمد ، وفيما قرأناه من كتبنا أنّ الأنبياء لا يخرجون إلاّ بعد إقامة أوصياء لهم يخلفونهم في أممهم يقتبس منهم الضياء فيما أشكل ، فأنت أيّها الأمير وصيه لنسألك عما نحتاج إليه؟

فانبرى عمر ، فقال له : هذا ـ وأشار إلى أبي بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ...

فاتجه صوبه.

الجاثليق : خبّرنا عن فضلكم علينا في الدين ، فإنّا جئنا نسأل عن ذلك.

أبو بكر : نحن مؤمنون وأنتم كفار ، والمؤمن خير من الكافر ، والإيمان خير من الكفر.

الجاثليق : هذه دعوى تحتاج إلى حجة ، خبّرني أنت مؤمن عند الله أم عند نفسك؟

أبو بكر : أنا مؤمن عند نفسي ، ولا علم لي بما عند الله.

الجاثليق : فهل أنا كافر عندك على مثل ما أنت مؤمن ، أم أنا كافر عند الله؟

أبو بكر : أنت عندي كافر ، ولا علم لي بحالك عند الله.

٧١

الجاثليق : ما أراك إلاّ شاكّا في نفسك وفيّ ... خبّرني ألك عند الله منزلة في الجنّة بما أنت عليه من الدين تعرفها؟

أبو بكر : لي منزلة في الجنّة أعرفها بالوعد ، ولا أعلم هل أصل إليها أم لا.

الجاثليق : ترجو لي منزلة في الجنّة؟

أبو بكر : أرجو لك.

الجاثليق : ما أراك إلاّ راجيا لي وخائفا على نفسك ... أخبرني هل احتويت على جميع علم النبي إليك؟

أبو بكر : لا ، ولكن أعلم ما أفضى لي علمه.

الجاثليق : كيف صرت خليفة للنبي وأنت لا تحيط علما بما تحتاج إليه امّته من علمه؟

وثقل الجاثليق على عمر ، فقد رأى منه تعدّيا على أبي بكر فصاح به.

وسارع سلمان إلى الإمام وأحاطه علما بالأمر ، فجاء إلى الجامع والتفت إلى الجاثليق ، وقال له :

« سل يا نصرانيّ فو الّذي خلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لا تسألني عمّا مضى وعما يكون إلاّ أخبرتك به عن نبيّ الهدى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

الجاثليق : أخبرني أمؤمن عند الله أم عند نفسك؟

أنا مؤمن عند الله كما أنا مؤمن في عقيدتي.

الجاثليق : هذا كلام من يثق بدينه ، اخبرني عن منزلتك في الجنّة ما هي؟

منزلتي مع النّبيّ الامّي في الفردوس الأعلى ، لا أرتاب في ذلك ولا أشكّ في الوعد به من ربّي.

الجاثليق : بما ذا عرفت الوعد لك بالمنزلة التي ذكرتها؟

٧٢

بالكتاب المنزل ، وصدق النّبيّ المرسل.

الجاثليق : بما علمت صدق نبيّك؟

بالآيات الباهرات ، والمعجزات البيّنات.

الجاثليق : هذا طريق الحجّة لمن أراد الاحتجاج ، اخبرني عن الله تعالى أين هو اليوم؟

إنّ الله تعالى يجلّ عن الأين ، ويتعالى عن المكان ، كان فيما لم يزل ، ولا مكان وهو اليوم على ذلك ، لم يتغيّر من حال إلى حال.

الجاثليق : أحسنت أيّها العالم وأوجزت في الجواب ، أخبرني عن الله تعالى أمدرك بالحواس عندك ، فيسلك المسترشد في طلبه استعمال الحواس؟ أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك؟

تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار أو تدركه الحواس ، أو يقاس بالنّاس ، والطّريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول الدّالّة ذوي الاعتبار بما هو منها مشهود ومعقول.

الجاثليق : صدقت هذا والله هو الحقّ الذي ضلّ عنه التائهون في الجهالات ، اخبرني عمّا قاله نبيكم في المسيح ، وانه مخلوق من أين أثبت له الخلق ، ونفي عنه الإلهيّة؟

اثبت له الخلق بالتّقدير الّذي لزمه ، والتّصوير والتّغيّر من حال إلى حال ، والزّيادة الّتي لم ينفكّ عنها والنّقصان ، ولم أنف عنه النّبوّة ، ولا أخرجته من العصمة والكمال ، وقد جاءنا عن الله تعالى بأنّه مثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له : كن فيكون.

وجرت بعد ذلك احتجاجات بين الجاثليق والإمام ، فبهر الجاثليق من علوم

٧٣

الإمام ، وأعلن إسلامه قائلا : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّك وصي رسول الله ، وأحقّ بمقامه ، وأسلم الوفد الذي كان معه.

وانبرى عمر قال للجاثليق : الحمد لله الذي هداك إلى الحق وهدى من معك ، واعلم أنّ علم النبوة في بيت صاحب النبوة ، والأمر بعده لمن خاطبت أوّلا برضى الامّة واصطلاحها عليه ، وتخبر صاحبك ـ أي الملك ـ بذلك وتدعوه إلى طاعة الخليفة.

فقال الجاثليق : عرفت أيّها الرجل ، وأنا على يقين من أمري فيما أسررت وأعلنت (١).

وتمثّلت روعة الاستدلال وقوة الحجة في مناظرة الإمام مع الجاثليق فقد استوعبت نفسه اعجابا بمواهب الإمام وعبقرياته الأمر الذي دعاه إلى اعتناق الإسلام.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١٣٧. بحار الأنوار ١٠ : ٥٤ ـ ٥٦. الغدير ٧ : ١٧٩ ـ ١٨١ ، رويت بأسلوب آخر لا يتّفق مع ما ذكره الطوسي والمجلسي.

٧٤

أسئلة راهب

وفد إلى يثرب جمع من النصارى من الروم يتقدمهم راهب لمعرفة الخليفة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخلوا الجامع النبوي وفيه أبو بكر وقد احتفّ به المهاجرون والأنصار ، فتقدم إليه الراهب ودار بينهما الحديث التالي بتصرف :

الراهب : أيّها الشيخ ما اسمك؟

أبو بكر : عتيق.

الراهب : هل هناك اسم آخر؟

أبو بكر : الصدّيق.

الراهب : هل هناك اسم آخر؟

أبو بكر : لا.

الراهب : لست بصاحبي.

أبو بكر : ما حاجتك؟

الراهب : أنا من بلاد الروم جئت منها ببختيّ موقرا ذهبا لأسأل أمين هذه الامّة عن مسألة إن أجابني عنها أسلمت ، وفرقت عليكم هذا المال ، وإن عجز رجعت إلى بلدي ومعي المال ، ولا أسلم.

أبو بكر : سل عمّا بدا لك.

٧٥

الراهب : والله لا أفتح الكلام حتى تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابك.

أبو بكر : أنت آمن ، وليس عليك بأس قل ما شئت.

الراهب : أخبرني عن شيء ليس لله ، ولا من عند الله ، ولا يعلمه الله؟

أبو بكر لم يهتد للجواب.

ووجّه الراهب سؤاله إلى الصحابة فلم يهتدوا لحلّه ، فانبرى سلمان الفارسي إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأخبره بالأمر فأسرع إلى الجامع ومعه السبطان الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال أبو بكر للراهب : سل عليّا فإنه صاحبك ، فتوجّه الراهب صوب الإمام ، وعرض عليه ما يلي : الراهب : ما اسمك يا فتى؟

اسمي عند اليهود إليا ، وعند النّصارى إيليا ، وعند والدي عليّ ، وعند امّي حيدرة.

الراهب : ما محلّك من نبيّكم؟

أخي وصهري وابن عمّي.

الراهب : أنت صاحبي وربّ عيسى! أخبرني عن شيء ليس لله ، ولا من عند الله ، ولا يعلمه الله؟

أمّا قولك : ما ليس لله ، فإنّ الله تعالى ليس له صاحبة ولا ولد.

وأمّا قولك : ولا من عند الله فليس من عند الله ظلم لأحد.

وأمّا قولك : لا يعلمه الله فإنّ الله لا يعلم له شريكا في الملك.

أعلن الراهب إسلامه ، وقام فقبّل الإمام وقال له : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأشهد أنّك أنت الخليفة ، وأمين هذه الامّة ، ومعدن الدين

٧٦

والحكمة ، وقدّم للإمام عليه‌السلام ما معه من أموال ، فلم يبرح الإمام من مكانه حتى أنفق المال بأجمعه على الفقراء ، وانصرف الراهب ، مع قومه وقد أعلنوا إسلامهم (١).

لقد وقف الراهب على الحقيقة ، وتبيّن الواقع الرسالي ، فآمن بالإمام عليه‌السلام وصيا للرسول الأعظم ، وخليفة له.

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٧٧

مع الاسقف

وفد اسقف نجران على عمر بن الخطاب ليؤدي الجزية ، فدعاه عمر إلى الإسلام ، فأطرق الأسقف إلى الأرض لا يردّ جوابا ، ودخل الإمام عليه‌السلام على القوم فاستقبل بحفاوة بالغة ، والتفت الإمام إلى الأسقف ، وتبادل معه المناظرة التالية :

الأسقف : أنتم تقولون : إنّ الجنّة عرضها السماوات والأرض ، فأين تكون النار؟

إذا جاء اللّيل أين يكون النّهار؟

وبهر الأسقف من علم الإمام ، والتفت إليه يطلب منه الإذن بأن يسأل عمر بن الخطاب ، فأذن له الإمام فقال له :

أنبئني يا عمر عن أرض طلعت عليها الشمس ساعة ولم تطلع مرة اخرى؟

فعجز عمر عن الجواب وطلب من الإمام أن يجيبه.

هي أرض البحر الّذي فلقه الله تعالى لموسى حتّى عبر هو وجنوده ، فوقعت عليها الشّمس تلك السّاعة ، ولم تطلع عليها قبل ولا بعد ، وانطبق البحر على فرعون وجنوده.

الأسقف : صدقت ، أخبرني عن شيء هو في أهل الدّنيا تأخذ الناس منه مهما أخذوا فلا ينقص بل يزداد؟

٧٨

هو القرآن والعلوم.

الأسقف : صدقت ، اخبرني عن أوّل رسول أرسله الله تعالى لا من الجنّ ولا من الإنس؟

ذلك الغراب الّذي بعثه الله تعالى لمّا قتل قابيل أخاه هابيل ، فبقي متحيّرا لا يعلم ما يصنع به ، فعند ذلك بعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه.

الأسقف : صدقت ، بقيت لي مسألة واحدة أريد أن يخبرني عنها عمر وهي : أين الله؟

فغضب عمر ، فقال له الإمام :

لا تغضب يا أبا حفص حتّى لا يقول إنّك قد عجزت.

وطلب عمر من الإمام أن يجيبه.

كنت يوما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل إليه ملك فسلّم عليه ، فردّ عليه‌السلام ، فقال له النّبيّ : أين كنت؟ قال : عند ربّي فوق سبع سماوات.

ثمّ أقبل ملك آخر فقال له : أين كنت؟ فقال : عند ربّي في مطلع الشّمس ، ثمّ جاء ملك آخر فقال له : أين كنت؟ قال : كنت عند ربّي في مغرب الشّمس ، إنّ الله تعالى لا يخلو منه مكان ، ولا هو في شيء ، ولا على شيء ، ولا من شيء ، وسع كرسيّه السّماوات والأرض ، ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، يعلم ما في السّماوات وما في الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، ولا خمسة إلاّ هو

٧٩

سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا.

لم يملك الاسقف اعجابه بمواهب الإمام ، فقد علم أنه باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وراح يعلن اسلامه قائلا :

أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأنّك خليفة الله في أرضه ، ووصي رسوله (١).

وحكت هذه المناظرة مدى سعة علوم الإمام عليه‌السلام واحاطته التامة بواقع التوحيد ، وانه لا يضارعه أحد في فضله وسعة علومه.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ٥٩ ـ ٦٠.

٨٠