موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (١).

وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ... ) (٢).

وقوله تعالى : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) (٣).

وقوله تعالى : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ... ) (٤).

وقوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) (٥).

وقوله تعالى : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) (٦).

وقوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) (٧).

وقوله تعالى : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) (٨).

وانبرى الإمام عليه‌السلام إلى تفسير هذه الآيات بما يرفع التعارض المتوهم :

أمّا قوله : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) إنّما يعني نسوا الله في دار الدّنيا ، لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسيّين من الخير.

وكذلك تفسير قوله عزّ وجلّ : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ

__________________

(١) المطفّفين : ١٥.

(٢) الأنعام : ١٥٨.

(٣) السجدة : ١٠.

(٤) التوبة : ٧٧.

(٥) الكهف : ١١٠.

(٦) الكهف : ٥١.

(٧) الأنبياء : ٤٧.

(٨) المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣.

١٢١

هذا ) يعني بالنّسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الّذين كانوا في دار الدّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله ، وخافوه بالغيب.

وأمّا قوله : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) فإنّ ربّنا تبارك وتعالى علوّا كبيرا ليس بالّذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب في باب النّسيان قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنّه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به فهل فهمت ما ذكر الله عزّ وجلّ؟

قال : نعم ، فرّجت عنّي فرّج عنك وحللت عنّي عقدة فعظّم الله أجرك. قال :

وأمّا قوله : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ).

وقوله : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ).

وقوله : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).

وقوله : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ).

وقوله : ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ).

وقوله : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ، فإنّ ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الّذي كان مقداره خمسين ألف سنة.

المراد : يكفر ـ أهل المعاصي ـ بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، والكفر في هذه الآية « البراءة » تقول : فتبرّأ بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم ، قول الشّيطان : ( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (١) ، وقول إبراهيم خليل الرّحمن : ( كَفَرْنا بِكُمْ )

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

١٢٢

يعني تبرّأنا منكم.

اجتماع العباد في مواطن :

وأفاد الإمام عليه‌السلام أنّ العباد يجتمعون يوم القيامة في مواطن متعدّدة وهي : ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطقون ويبكون فيه ، فلو أنّ تلك الأصوات بدت لأهل الدّنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم ، ولتصدّعت قلوبهم ... الخ.

ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه ، فيقولون : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) وهؤلاء خاصّة هم المقرّون في دار الدّنيا بالتّوحيد ، فلا ينفعهم إيمانهم بالله لمخالفتهم رسله وشكّهم فيما أتوا به عن ربّهم ، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم ، واستبدالهم الّذي هو أدنى بالّذي هو خير ، فكذّبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله : ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (١) فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم ، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم ، فيقولون لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ قالوا : أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء.

ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون ، فيفرّ بعضهم من بعض فذلك قوله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (٢) فيستنطقون فلا يتكلّمون إلاّ من ...

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

(٢) عبس : ٣٤ ـ ٣٦.

١٢٣

ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه ، فلا يتكلّم أحد إلاّ من أذن له الرّحمن وقال صوابا ، فيقوم الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالة الّتي حملوها إلى اممهم ، وتسأل الامم فتجحد كما قال الله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (١) فيقولون : ( ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) (٢) فتشهد الرّسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهد بصدق الرّسل ، وتكذيب من جحدها من الامم ، فيقول ـ لكلّ أمّة منهم ـ: ( فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم ، كذلك قال الله لنبيّه : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٣) فلا يستطيعون ردّ شهادته ، خوفا من أن يختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون ، ويشهد على منافقي قومه وامّته وكفّارهم بإلحادهم وعنادهم ، ونقضهم عهده ، وتغييرهم سنّته ، واعتدائهم على أهل بيته ، وانقلابهم على أعقابهم وارتدادهم على أدبارهم ، واحتذائهم في ذلك سنّة من تقدّمهم من الامم الظّالمة الخائنة لأنبيائها ، فيقولون بأجمعهم : ( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) (٤).

ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو « المقام المحمود » فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله ، ثمّ يثني على

__________________

(١) الأعراف : ٦.

(٢) المائدة : ١٩.

(٣) النساء : ٤١.

(٤) المؤمنون : ١٠٦.

١٢٤

الملائكة كلّهم ، فلا يبقى ملك إلاّ أثنى عليه محمّد ، ثمّ يثني على الأنبياء ، بما لم يثن عليهم أحد قبله ، ثمّ يثني على كلّ مؤمن ومؤمنة يبدأ بالصّدّيقين والشّهداء ثمّ الصّالحين ، فيحمده أهل السّماوات وأهل الأرضين ، فذلك قوله تعالى : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (١).

فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظّ ونصيب ، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظّ ولا نصيب.

ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر ، ويزال بعضهم عن بعض ، وهذا كلّه قبل الحساب ، فإذا اخذ في الحساب شغل كلّ إنسان بما لديه ، نسأل الله بركة ذلك اليوم.

لقد عرض الإمام عليه‌السلام إلى تفصيل المواقف التي يقف بها العباد في يوم القيامة وذلك قبل يوم الحساب ، ولا أظن أن رواية وردت عن أئمة الهدى عليهم‌السلام عرضت لذلك بصورة مفصلة.

ثمّ يأخذ الإمام عليه‌السلام في تفسير الآيات التي سئل عنها وغيرها فيقول :

وأمّا قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عزّ وجلّ بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمّى « نهر الحيوان » فيغتسلون منه ، ويشربون من آخر ، فتبيضّ وجوههم فيذهب عنهم كلّ أذى وقذى ووعث ، ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم ـ أي إلى عطائه كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنّة فذلك قول الله عزّ وجلّ في تسليم الملائكة عليهم : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

١٢٥

طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) ، فعند ذلك اثيبوا بدخول الجنّة ، والنّظر إلى ما وعدهم الله عزّ وجلّ وهو قوله تعالى : ( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) أي منتظرة ... الخ.

وأمّا قوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزّ وجلّ ، وقوله في آخر الآية : ( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (٢) رأى جبرئيل في صورته مرّتين هذه مرّة ومرّة اخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل خلق عظيم فهو من الرّوحانيّين الّذين لا يدرك خلقهم ولا صفتهم إلاّ الله ربّ العالمين.

وأمّا قوله : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ... ) (٣) ، كذلك قال الله تعالى ، وقد كان الرّسول يوحي إليه رسل من السّماء فتبلغ رسل السّماء إلى الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السّماء ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل ، هل رأيت ربّك؟

فقال جبرئيل : إنّ ربّي لا يرى.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أين تأخذ الوحي؟

قال : آخذه من إسرافيل.

__________________

(١) الزمر : ٧٣.

(٢) النجم : ١٧ ـ ١٨.

(٣) الشورى : ٥١.

١٢٦

قال : ومن أين يأخذه إسرافيل؟

قال : يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين.

قال : ومن أين يأخذه ذلك الملك؟

قال : يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي ، وهو كلام الله عزّ وجلّ ، وكلام الله ليس بنحو واحد :

منه ما كلّم الله به الرّسل.

ومنه ما قذف في قلوبهم.

ومنه رؤيا يراها الرّسل.

ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ ، فهو كلام الله عزّ وجلّ.

وأمّا قوله : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (١) فإنّما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربّهم لمحجوبون.

وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (٢) يخبر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المشركين والمنافقين الّذين لم يستجيبوا لله ولرسوله فقال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله قال : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدّنيا ، كما عذّب في القرون الاولى ، فهذا خبر يخبر به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، ثمّ قال : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ

__________________

(١) المطفّفين : ١٥.

(٢) الأنعام : ١٥٨.

١٢٧

قَبْلُ ) يعني لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية ، وهي طلوع الشّمس من مغربها.

وقال في آية اخرى : ( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) يعني أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم حيث قال : ( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) (٢) يعني أرسل عليهم العذاب.

وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ).

وقوله : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ القيامة ).

وقوله : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) يعني : البعث ، فسمّاه لقاء.

كذلك قوله : ( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) (٣) يعني : من كان يؤمن أنّه مبعوث فإنّ وعد الله لآت : من الثّواب والعقاب ، فاللّقاء هاهنا ليس بالرؤية ، واللّقاء هو البعث.

وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) يعني تيقّنوا أنّهم يدخلونها.

وكذلك قوله : ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (٤).

وأمّا قوله عزّ وجلّ للمنافقين : ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) (٥) ، فهو ظنّ

__________________

(١) الحشر : ٢.

(٢) النحل : ٢٦.

(٣) العنكبوت : ٥.

(٤) الحاقّة : ٢٠.

(٥) الأحزاب : ١٠.

١٢٨

شكّ وليس ظنّ يقين ، والظّنّ ظنّان : ظنّ شكّ ، وظنّ يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظّنّ فهو ظنّ يقين ، وما كان من أمر الدّنيا فهو ظنّ شكّ.

وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) فهو ميزان العدل ، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلائق بعضهم من بعض ويجزيهم بأعمالهم ، ويقتصّ للمظلوم من الظّالم.

ومعنى قوله : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) و : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) ، فهو قلّة الحساب وكثرته ، والنّاس يومئذ على طبقات ومنازل :

فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ، وينقلب إلى أهله مسرورا.

ومنهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يتلبّسوا من أمر الدّنيا ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس بها هاهنا.

ومنهم من يحاسب على النّقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السّعير.

ومنهم أئمّة الكفر وقادة الضّلالة ، فاولئك لا يقيم لهم وزنا ، ولا يعبأ بهم يوم القيامة ، وهم في جهنّم خالدون وتلفح وجوههم النّار ، وهم فيها كالحون.

الزنديق :

ـ أجد الله يقول : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (١).

وفي موضع آخر يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (٢).

__________________

(١) السجدة : ١١.

(٢) الزمر : ٤٢.

١٢٩

( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) (١) وما أشبه ذلك ، فمرّة يجعل الفعل لنفسه ، ومرّة لملك الموت ، ومرّة للملائكة.

ـ أجده يقول : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) (٢).

ويقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (٣) ، ففي الآية الاولى انّ الأعمال الصالحة لا تكفر.

وفي الثانية أنّ الإيمان والأعمال الصالحات لا تنفع إلاّ بعد الاهتداء.

ـ وأجده يقول : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) (٤) كيف يسأل الحيّ من الأموات قبل البعث والنشور؟

ـ أجده يقول : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (٥) فما هذه الأمانة ، ومن هذا الإنسان ، وليس من صفة العزيز العليم التلبيس على عباده؟

ـ أجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (٦).

وبتكذيبه نوحا لمّا قال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (٧) بقوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (٨).

__________________

(١) النحل : ٣٢.

(٢) الأنبياء : ٩٤.

(٣) طه : ٨٢.

(٤) الزخرف : ٤٥.

(٥) الأحزاب : ٧٢.

(٦) طه : ١٢١.

(٧) هود : ٤٥.

(٨) هود : ٤٦.

١٣٠

وبوصفه إبراهيم بأنّه عبد كوكبا مرّة ، ومرّة قمرا ، ومرّة شمسا.

وبقوله في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) (١).

وبتهجينه موسى حيث قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) (٢).

ويبعثه جبرئيل وميكائيل على داود حيث تسوّرا المحراب ، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا ، وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم ، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل ، وكنى عن أسمائهم في قوله : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) (٣) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟

ـ وأجده يقول : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (٤).

و ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (٥).

و ( لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ) (٦) فمرّة يجيئهم ومرّة يجيئونه.

ـ وأجده يقول : ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (٧) فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه؟

__________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.

(٤) الفجر : ٢٢.

(٥) الأنعام : ١٥٨.

(٦) الأنعام : ٩٤.

(٧) التكاثر : ٨.

١٣١

ـ وأجده يقول : ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) ما هذه البقية؟

ـ وأجده يقول : ( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (٢).

و ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٣).

( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٤).

( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) (٥).

( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) (٦) ، ما معنى الجنب والوجه واليمين والشمال فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟

ـ وأجده يقول : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٧).

ويقول : ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ ) (٨).

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (٩).

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (١٠).

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١١).

__________________

(١) هود : ٨٦.

(٢) الزمر : ٥٦.

(٣) البقرة : ١١٥.

(٤) القصص : ٨٨.

(٥) الواقعة : ٢٧.

(٦) الواقعة : ٤١.

(٧) طه : ٥.

(٨) الملك : ١٦.

(٩) الزخرف : ٨٤.

(١٠) الحديد : ٤.

(١١) ق : ١٦.

١٣٢

( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ ) (١).

ـ وأجده يقول : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (٢) وليس يشبه القسط في اليتامى من نكاح النساء ولا كل النساء أيتام فما معنى ذلك؟

ـ وأجده يقول : ( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣) فكيف يظلم الله؟ ومن هؤلاء الظلمة؟

ـ وأجده يقول : ( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ) (٤) ما هذه الواحدة؟

ـ أجده يقول : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (٥) وأرى مخالفي الإسلام ، معتكفين على باطلهم غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم يلعن بعضهم بعضا ، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟

ـ أجده قد بيّن فضل نبيّه على سائر الأنبياء ، ثمّ خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الإزراء عليه ، وانتقاص محله ، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء ، مثل قوله :

( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (٦).

وقوله : ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (٧).

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) النساء : ٣.

(٣) الأعراف : ١٦٠.

(٤) سبأ : ٤٦.

(٥) الأنبياء : ١٠٧.

(٦) الأنعام : ٣٥.

(٧) الإسراء : ٧٤.

١٣٣

( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١).

وقوله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) (٢).

وقوله : ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (٣).

وقال : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٤).

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) (٥) ، فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام وهو وصيّ النبيّ ، فالنبيّ أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها :

( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) وهذه كلّها صفات مختلفة ، وأحوال متناقضة ، وامور مشكلة ، فإن يكن الرسول والكتاب حقّا فقد هلكت لشكّي في ذلك ، وإن كانا باطلين فما عليّ من بأس؟

جواب الإمام :

وانبرى الإمام عليه‌السلام إلى تفنيد هذه الشبه والأوهام ، قائلا :

« سأنبّئك بتأويل ما سألت » ، وفيما يلي ذلك :

أمّا قوله تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ).

وقوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ).

( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ).

__________________

(١) الإسراء : ٧٥.

(٢) الأحزاب : ٣٧.

(٣) الأحقاف : ٩.

(٤) الأنعام : ٣٨.

(٥) يس : ١٢.

١٣٤

( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) (١) فهو تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله لأنّهم بأمره يعملون ، فاصطفى جلّ ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الّذين قال الله فيهم : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (٢) فمن كان من أهل الطّاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرّحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكة النّقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرّحمة والنّقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكلّ ما يأتونه منسوب إليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإنّ فعل امنائه فعله كما قال : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (٣).

وأمّا قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ).

وقوله : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء ، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنّجاة ممّا هلك به الغواة ، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتّوحيد ، وإقرارها بالله ، ونجا سائر المقرّين بالوحدانيّة ، من إبليس فمن دونه بالكفر ، وقد بيّن الله ذلك بقوله :

__________________

(١) النحل : ٢٨.

(٢) الحجّ : ٧٥.

(٣) الإنسان : ٣٠.

١٣٥

( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (١).

وبقوله : ( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (٢) ، وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها. ومن ذلك أنّ الإيمان قد يكون على وجهين :

إيمان بالقلب وإيمان باللّسان ، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله لمّا قهرهم بالسّيف ، وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالإيمان بالقلب هو التّسليم للرّبّ ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره ، كما استكبر إبليس عن السّجود لآدم ، واستكبر أكثر الامم عن طاعة أنبيائهم ، فلم ينفعهم التّوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السّجود الطّويل ، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، ولم يرد بها غير زخرف الدّنيا ، والتّمكين من النّظرة ، فلذلك لا تنفع الصّلاة والصّدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النّجاة ، وطرق الحقّ ، وقد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته ، وإرسال رسله ، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، ولم يخل أرضه من عالم بما تحتاج إليه الخليقة ، ومتعلّم على سبيل النّجاة ، اولئك هم الأقلّون عددا ، وقد بيّن الله ذلك في امم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخّر ، مثل قوله في قوم نوح : ( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (٣).

__________________

(١) الأنعام : ٨٢.

(٢) المائدة : ٤١.

(٣) هود : ٤٠.

١٣٦

وقوله فيمن آمن من أمّة موسى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١).

وقوله في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل : ( مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (٢) يعني : بأنّهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم ، ولا يستكبرون عن أمر ربّهم فما أجابه ـ أي عيسى ـ منهم إلاّ الحواريّون.

وقد جعل الله للعلم أهلا ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣).

وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٤).

وبقوله : ( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٥).

وبقوله : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦) ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (٧) ، والبيوت هي بيوت العلم الّذي استودعه الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ من عمل من أعمال الخير فجرى على

__________________

(١) الأعراف : ١٥٩.

(٢) آل عمران : ٥٢.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) النساء : ٨٣.

(٥) التوبة : ١١٩.

(٦) آل عمران : ٧.

(٧) البقرة : ١٨٩.

١٣٧

غير أيدي أهل الاصطفاء وعهودهم وشرائعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود وغير مقبول ، وأهله بمحلّ كفر ، وإن شملتهم صفة الإيمان ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ ) (١)؟ فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النّجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حقّ أوليائه ، وحبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ، وكذلك قال الله سبحانه : ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) (٢).

وهذا كثير في كتاب الله عزّ وجلّ ، والهداية هي : الولاية كما قال الله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (٣) والّذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر ، وليس كلّ من أقرّ أيضا من أهل القبلة بالشّهادتين كان مؤمنا. إنّ المنافقين كانوا يشهدون : أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، ويدفعون عهد رسول الله بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوّته إلى وصيّه ، ويضمرون من الكراهة لذلك ، والنّقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم ، فيما قد بيّنه الله لنبيّه بقوله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤).

__________________

(١) التوبة : ٥٤.

(٢) غافر : ٨٥.

(٣) المائدة : ٥٦.

(٤) النساء : ٦٥.

١٣٨

وبقوله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (١).

ومثل قوله : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) (٢) ، أي لتسلكنّ سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.

وهذا كثير في كتاب الله عزّ وجلّ ، وقد شقّ على النّبيّ ما يؤول إليه عاقبة أمرهم ، واطلاع الله إيّاه على بوارهم فأوحى الله عزّ وجلّ إليه :

( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ) (٣) ، ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (٤).

أمّا قوله : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّنا الّتي آتاه الله إيّاها ، وأوجب به الحجّة على سائر خلقه ، لأنّه لمّا ختم به الأنبياء ، وجعله الله رسولا إلى جميع الامم ، وسائر الملل ، خصّه الله بالارتقاء إلى السّماء عند المعراج ، وجمع له يومئذ الأنبياء ، فعلم منهم ما ارسلوا به ، وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه ، وأقرّوا جميعا بفضله وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده وفضل شيعة وصيّه من المؤمنين والمؤمنات الّذين سلّموا لأهل الفضل فضلهم ، ولم يستكبروا عن أمرهم ، وعرف من أطاعهم وعصاهم من اممهم ، وسائر من مضى ومن غبر ، أو من تقدّم وتأخّر.

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) الانشقاق : ١٩.

(٣) فاطر : ٨.

(٤) المائدة : ٦٨.

١٣٩

وأمّا هفوات الأنبياء وما بيّنه الله في كتابه ، ووقوع الكناية ... ممّن شهد الكتاب بظلمهم فإنّ ذلك من أدلّ الدّلائل على حكمة الله عزّ وجلّ الباهرة ، وقدرته القاهرة ، وعزّته الظّاهرة لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور اممهم ، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إليها ، كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الّذي تفرّد به عزّ وجلّ.

ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال ـ فيه وفي امّه ـ: ( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) (١)؟ يعني أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل ، ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا ادّعته النّصارى لابن مريم ، ولم يكنّ عن أسماء الأنبياء تبجّرا (٢) أو تعزّرا (٣) ...

إلى آخر ما أفاده الإمام في هذا الموضوع.

وأمّا قوله : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ).

وقوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) فذلك كلّه حقّ ، وليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه فإنّه ربّ كلّ شيء.

ومن كتاب الله عزّ وجلّ يكون تأويله على غير تنزيله ، ولا يشبّه تأويله بكلام البشر ، ولا فعل البشر ، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى وهو حكاية الله عزّ وجلّ عن إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : ( إِنِّي

__________________

(١) المائدة : ٧٥.

(٢) البجر : العيب.

(٣) التعزير : اللوم والتأديب.

١٤٠