باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢
بردا وسلاما ، فهل فعل بمحمّد شيئا من ذلك؟
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله لمّا نزل بخيبر سمّته الخيبريّة فصيّر الله السّمّ في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ، فالسّمّ يحرق إذا استقرّ في الجوف ، كما أنّ النّار تحرق ، فهذا من قدرته لا تنكره.
اليهودي : فإنّ يعقوب أعظم إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ومريم ابنة عمران من بناته.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله أعظم في الخير نصيبا منه ؛ إذ جعل فاطمة سيّدة نساء العالمين من بناته والحسن والحسين عليهماالسلام من حفدته.
اليهودي : إنّ يعقوب قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض من الحزن.
لقد كان كذلك ، وكان حزن يعقوب بعده تلاق ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله قبض ولده إبراهيم قرّة عينه في حياته ، وخصّه بالاختبار ليعظم له الادّخار فقال صلىاللهعليهوآله : « تحزن النّفس ويجزع القلب ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون ، ولا نقول : ما يسخط الرّبّ » ، في كلّ ذلك يؤثر رضا الله عزّ ذكره ، والاستسلام له في جميع الفعال.
اليهودي : إنّ يوسف قاسى مرارة الفرقة ، وحبس في السجن توقيا للمعصية ، فألقي في الجبّ وحيدا.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله قاسى مرارة الغربة ، وفراق الأهل والأولاد والمال ، مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه ، فلمّا رأى الله تعالى كآبته ، واستشعاره الحزن أراه تبارك وتعالى اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها ، وأبان للعالمين صدق تحقيقها فقال : ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) (١) ولئن كان يوسف عليهالسلام حبس في السّجن فلقد حبس رسول الله نفسه في الشّعب ثلاث سنين ، وقطع منه أقاربه وذوو الرّحم وألجئوه له إلى أضيق المضيق ، فقد كادهم الله عزّ ذكره كيدا مستبينا ؛ إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الّذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه ، ولئن كان يوسف القي في الجبّ فلقد حبس محمّد نفسه مخافة عدوّه في الغار حتّى قال لصاحبه : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) (٢) ومدحه الله بذلك في كتابه.
اليهوديّ : هذا موسى بن عمران آتاه الله عزّ وجلّ التوراة التي فيها حكم الله.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل منه ، اعطي سورة البقرة والمائدة وطواسين وطه ونصف المفصّل والحواميم بالتّوراة ، واعطي نصف المفصّل والتّسابيح بالزّبور ، واعطي سورة بني إسرائيل وبراءة ، بصحف إبراهيم وصحف موسى ، وزاد الله عزّ وجلّ محمّدا صلىاللهعليهوآله السّبع الطّوال ، وفاتحة الكتاب وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم واعطي الكتاب والحكمة.
اليهودي : إنّ موسى ناجاه الله عزّ وجلّ على طور سيناء.
لقد كان كذلك ، ولقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى محمّد صلىاللهعليهوآله عند سدرة المنتهى ، فمقامه في السّماء محمود ، وعند منتهى العرش مذكور.
اليهودي : ألقى الله على موسى محبة منه.
__________________
(١) الفتح : ٢٧.
(٢) التوبة : ٤٠.
لقد كان كذلك ، لقد أعطى الله محمّدا ما هو أفضل من هذا ، لقد ألقى الله عليه محبّة منه ، فمن هذا الّذي يشركه في هذا الاسم إذ تمّ من الله عزّ وجلّ الشّهادة ، فلا تتمّ الشّهادة إلاّ أن يقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ... فلا يرفع صوت بذكر الله إلاّ رفع بذكر محمّد معه.
اليهودي : لقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عند الله.
لقد كان كذلك ، ولقد لطف الله جلّ ثناؤه لأمّ محمّد صلىاللهعليهوآله بأن أوصل إليها اسمه حتّى قالت : شهد الله والعالمون أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله منتظر ، وشهد الملائكة على الأنبياء أنّهم أثبتوه في الأسفار ، وبلطف الله عزّ وجلّ ساقه إليها وأوصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده ، ورأت في المنام أنّه قيل لها : إنّ ما في بطنك سيّد فإذا ولدته فسمّيه محمّدا ، فاشتقّ الله له اسما من أسمائه ، فالله المحمود ، وهذا محمّد.
اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران أرسله الله إلى فرعون ، وأراه الآية الكبرى.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله أرسله إلى فراعنة شتّى ، مثل أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة ، وأبي البختريّ ، والنّضر بن الحارث ، وابيّ بن خلف ، ومنبه ونبيه ابني الحجّاج وإلى الخمسة المستهزئين :
الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السّهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزّهري ، والأسود بن المطّلب ، والحرث بن أبي الطّلالة ، فأراهم الآيات في الآفاق ، وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ.
اليهوديّ : لقد انتقم الله عزّ وجلّ لموسى من فرعون.
لقد كان كذلك ، ولقد انتقم الله جلّ اسمه لمحمّد صلىاللهعليهوآله من الفراعنة. فأمّا
المستهزءون فقد قال الله تعالى : ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (١) فقتل الله كلّ واحد بغير قتلة صاحبه في يوم واحد ، فأمّا الوليد فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطّريق فأصابته شظيّة منه فانقطع أكحله حتّى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد صلىاللهعليهوآله .
وأمّا العاص بن وائل فإنّه خرج في حاجة إلى موضع فتدهده (٢) تحته حجر ، فسقط فتقطّع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد صلىاللهعليهوآله .
وأمّا الأسود بن عبد يغوث : فإنّه خرج يستقبل ابنه زمعة ، فاستظلّ بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشّجرة ، فقال لغلامه : امنع عنّي هذا ، فقال : ما أرى أحدا يصنع بك شيئا إلاّ نفسك ، فقتله وهو يقول : قتلني ربّ محمّد صلىاللهعليهوآله .
وأمّا الأسود بن المطّلب فإنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآله دعا عليه أن يعمي الله بصره ، وأن يثكله بولده ، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتّى صار إلى موضع فأتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه ، فعمي ، وبقي حتّى أثكله الله بولده.
وأمّا الحرث بن أبي الطّلالة فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا فرجع إلى أهله ، فقال : أنا الحرث ، فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول : قتلني ربّ محمّد صلىاللهعليهوآله .
اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران قد أعطي العصا فكانت تتحول ثعبانا.
__________________
(١) الحجر : ٩٥.
(٢) تدهده : أي تدحرج.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ رجلا كان يطلب أبا جهل بن هشام دينا عن جزور كان قد اشتراه منه ، فاشتغل أبو جهل بشرب الخمر ولم يدفع للرّجل دينه ، فشكا حاله إلى رجل وكان من المستهزئين بالنّبيّ ، فقال له : أدلّك على رجل يستخرج حقّك؟ قال : نعم ، فدلّه على النّبيّ صلىاللهعليهوآله وكان أبو جهل يقول : ليت لمحمّد إليّ حاجة فأسخر به وأردّه ، فأتى الرّجل إلى النّبيّ صلىاللهعليهوآله وقال له : بلغني أنّ بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة ، وأنا استشفع بك إليه فأجابه إلى ذلك وقام معه ، فطرق بابه فخرج أبو جهل فقال له : أدّ إلى الرّجل حقّه ، فقام مسرعا وأدّى إليه حقّه ، فلمّا اجتمع أبو جهل بأصحابه قال له بعضهم : فعلت ذلك فرقا من محمّد صلىاللهعليهوآله ؟ فقال : ويحكم! اعذروني إنّه لمّا أقبل إليّ رأيت عن يمينه رجالا بأيديهم حراب تتلألأ ، وعن يساره ثعبانان تلمع النّيران من أبصارهما لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب ويقضمني الثّعبانان. هذا أكبر ممّا اعطي موسى.
ولقد كان النّبيّ صلىاللهعليهوآله يؤذي قريشا بالدّعاء ، فقام يوما فسفّه أحلامهم ، وعاب دينهم ، فشتم أصنامهم ، وضلّل آباءهم ، فاغتمّوا من ذلك غمّا شديدا ، فقال أبو جهل : والله! للموت خير لنا من الحياة ، فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمّدا فيقتل به؟ فقالوا له : لا ، فقال : أنا أقتله فإن شاء بنو عبد المطّلب قتلوني به وإلاّ تركوني ، فقالوا له : إنّك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي خيرا لا تزال تذكر به.
قال أبو جهل : إنّه كثير السّجود حول الكعبة ، فإذا جاء وسجد أخذت حجرا فشدخته به ، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآله فطاف بالبيت سبعا ثمّ صلّى وأطال
السّجود ، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه ، فلمّا أن قرب منه أقبل فحل ـ أي ثعبان ـ من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله فاغرا فاه ، فلمّا أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده وطرح الحجر فشدخ رجله فرجع مدميّا متغيّر اللّون يفيض عرقا ، فقال له أصحابه : ما رأيناك كاليوم؟ قال : ويحكم! اعذروني فإنّه أقبل من عنده فحل فاغرا فاه كاد أن يبتلعني فرميت الحجر فشدخني.
اليهوديّ : إنّ موسى قد أعطي اليد البيضاء فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟
لقد كان كذلك ، فإنّ محمّدا قد اعطي ما هو أفضل من هذا. إنّ نورا كان يضيء عن يمينه حيثما جلس ، وعن يساره أينما جلس ، وكان النّاس يرونه.
اليهوديّ : إنّ موسى قد ضرب له في البحر طريق فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب ـ أي يسيل ـ فقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة ، فقالوا : يا رسول الله ، العدوّ من ورائنا والوادي أمامنا كما قال أصحاب موسى : إنّا لمدركون فنزل رسول الله صلىاللهعليهوآله ثمّ قال : « اللهمّ إنّك جعلت لكلّ نبيّ مرسل دلالة فأرني قدرتك » وركب صلىاللهعليهوآله فعبرت الخيل لا تندى حوافرها ، والإبل لا تندى أخفافها ، فرجعنا فكأن فتحنا فتحا.
اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله لمّا نزل الحديبية وحاصره أهل مكّة ، اعطي ما هو أفضل من ذلك ، فإنّ أصحابه شكوا إليه الظّمأ ، وأصابهم ذلك حتّى التقت خواصر الخيل ، فذكروا له ذلك ، فدعا بركوة يمانيّة ثمّ نصب يده المباركة فيها فتفجّرت من بين أصابعه عيون الماء ، فصدرنا وصدرت الخيل رواء ،
وملأنا كلّ مزادة وسقاء ... الخ.
اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي المنّ والسلوى ، فهل اعطي محمد صلىاللهعليهوآله نظير هذا؟
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ له الغنائم ولامّته ، ولم تحلّ لأحد قبله ، فهذا أفضل من المنّ والسّلوى ، ثمّ زاده بأن جعل النّيّة ـ أي نيّة عمل الخير ـ له ولامّته بلا عمل عملا صالحا ، ولم يجعل لأحد من الامم ذلك قبله ، فإذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشرا.
اليهوديّ : إنّ موسى قد ظلل عليه الغمام.
لقد كان كذلك ، وقد فعل ذلك لموسى في التّيه ، واعطي محمّد صلىاللهعليهوآله أفضل من هذا إنّ الغمامة كانت تظلّه من يوم ولد إلى يوم قبض ، في حضره وأسفاره ، فهذا أفضل ممّا اعطي موسى.
اليهودي : هذا داود قد ليّن الله له الحديد فعمل منه الدروع.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله قد اعطي ما هو أفضل منه ، إنّه ليّن الله عزّ وجلّ له الصّمّ الصّخور الصّلاب ، وجعلها غارا ، ولقد غارت الصّخرة تحت يده ببيت المقدس ليّنة حتّى صارت كهيئة العجين وقد رأينا ذلك ، والتمسناه تحت رايته.
اليهوديّ : إنّ داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّه كان إذا قام إلى الصّلاة ، سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدّة البكاء ، وقد آمنه الله عزّ وجلّ من عقابه فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه ،
ويكون إماما لمن اقتدى به ، ولقد قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه ، يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك ، فقال الله عزّ وجلّ :
( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) (١) بل لتسعد به ، ولقد كان يبكي حتّى يغشى عليه ، فقيل له :
يا رسول الله ، أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟
قال : بلى أفلا أكون عبدا شكورا ...
اليهوديّ : إنّ سليمان اعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل منه ، إنّه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله ، وهو ميكائيل ، فقال له :
يا محمّد ، عش ملكا منعّما ، وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك ، وتسير معك جبالها ذهبا وفضّة ، لا ينقص لك فيما ادّخر لك في الآخرة شيء ، فأومأ إلى جبرئيل ، وكان خليله من الملائكة فأشار إليه : أن تواضع ، فقال :
بل أعيش عبدا آكل يوما ، ولا آكل يومين ، وألحق بإخواني من الأنبياء من قبلي فزاده الله الكوثر وأعطاه الشّفاعة ، وذلك أعظم من ملك الدّنيا من أوّلها إلى آخرها سبعين مرّة ، ووعده المقام المحمود ، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله تعالى على العرش ، فهذا أفضل ممّا اعطي سليمان بن داود.
اليهوديّ : إنّ سليمان قد سخّرت له الرياح فسارت به في بلاده غدوّها شهر ورواحها شهر.
__________________
(١) طه : ١ ـ ٢.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتّى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى ، فدلّي له من الجنّة رفرف أخضر وغشّي النّور بصره ، فرأى عظمة ربّه عزّ وجلّ بفؤاده ، ولم يرها بعينه فكان كقاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فكان فيما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١).
اليهوديّ : هذا يحيى بن زكريا اوتي الحكم صبيا والحلم والفهم ، وانّه كان يبكي من غير ذنب وكان يواصل الصوم.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ يحيى بن زكريّا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهليّة ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اوتي الحكم والفهم صبيّا بين عبدة الأوثان وحزب الشّيطان ، ولم يرغب لهم في صنم قطّ ، ولم ينشط لأعيادهم ، ولم ير منه كذب قطّ ، وكان أمينا ، صدوقا ، حليما ، وكان يواصل صوم الأسبوع والأقل والأكثر ، فيقال له في ذلك : فيقول : إنّي لست كأحدكم ، إنّي أظلّ عند ربّي ، فيطعمني ، ويسقيني ، وكان يبكي حتّى يبتلّ مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ من غير جرم.
اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلّم في المهد صبيا.
__________________
(١) البقرة : ٢٨٤.
لقد كان كذلك ، ومحمّد سقط من بطن امّه واضعا يده اليسرى على الأرض ، ورافعا يده اليمنى إلى السّماء يحرّك شفتيه بالتّوحيد ، وبدا من فيه نور رأى أهل مكّة منه قصور بصرى من الشّام وما يليها ، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من اسطخر وما يليها ... ولقد أضاءت الدّنيا ليلة ولد النّبيّ صلىاللهعليهوآله ... الخ.
اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله عزّ وجلّ.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله اعطي ما هو أفضل من ذلك ، أبرأ ذا العاهة من عاهته ، فبينما هو جالس إذ سأل عن رجل من أصحابه ، فقالوا :
يا رسول الله ، إنّه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه ، فأتاه ، فإذا هو كهيئة الفرخ من شدّة البلاء ، فقال :
قد كنت تدعو في صحّتك دعاء؟
قال : نعم ، كنت أقول : يا ربّ السّماء ، أيّما عقوبة معاقبي بها في الآخرة فعجّلها لي في الدّنيا.
فقال له النّبيّ صلىاللهعليهوآله : ألا قلت : ( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) (١) ، فقالها ، فكأنّما نشط من عقال ، وقام صحيحا وخرج معنا ...
وذكر الإمام بوادر كثيرة ممن ابتلوا بالأرض والعاهات ، وعافاهم الله تعالى ببركة النبي صلىاللهعليهوآله . ومن بنود هذه المناظرة :
__________________
(١) البقرة : ٢٠١.
اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنّه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم.
لقد كان كذلك ، ومحمّد فعل ما هو أكثر من ذلك إنّ عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء حائط ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله أنبأ عن مؤتة وهو عنها غائب ، ووصف حربهم ، ومن استشهد منهم ، وبينه وبينهم مسيرة شهر.
وكان يأتيه الرّجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول صلىاللهعليهوآله : تقول أو أقول؟
فيقول : بل قل يا رسول الله ، فيقول : جئتني في كذا وكذا حتّى يفرغ من حاجته ، ولقد كان صلىاللهعليهوآله يخبر أهل مكّة بأسرارهم ، حتّى لا يترك من أسرارهم شيئا ، منها ما كان بين صفوان بن اميّة ، وبين عمير بن وهب إذ أتاه عمير ، فقال : جئت في فكاك ابني ، فقال له : كذبت ، بل قلت لصفوان : وقد اجتمعتم في الحطيم ، وذكرتم قتلى بدر ، والله للموت خير لنا من البقاء مع ما صنع محمّد صلىاللهعليهوآله بنا ، وهل حياة بعد أهل القليب؟ فقلت أنت : لو لا عيالي ودين عليّ لأرحتك من محمّد ، فقال صفوان : عليّ أن أقضي دينك ، وأن أجعل بناتي مع بناتك يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خير أو شرّ ، فقلت أنت :
فاكتمها عليّ وجهّزني حتّى أذهب فأقتله ، فجئت لتقتلني ، فقال : صدقت يا رسول الله ، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، وأشباه هذا ممّا لا يحصى.
اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله عزّ وجلّ.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله قد فعل ما هو أشبه بهذا ؛ إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا ، ثمّ قال للحجر : انفلق فانفلق ثلاث فلق نسمع لكلّ فلقة منها تسبيحا لا يسمع للاخرى.
ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ، ولكلّ غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس ، ثمّ قال لها : انشقى ، فانشقّت نصفين ، ثمّ قال لها : التزقي فالتزقت ، ثمّ قال لها : اشهدي لي بالنّبوّة فشهدت ، ثمّ قال لها : ارجعي إلى مكانك بالتّسبيح والتّهليل والتّقديس ففعلت ، وكان موضعها بجنب الجزّارين بمكّة.
اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه كان سياحا.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله كانت سياحته في الجهاد واستنفر في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد ، وأفنى فئاما من العرب من منعوت بالسّيف ... وذلك لنشر كلمة التوحيد ـ.
اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون كان زاهدا.
لقد كان كذلك ، ومحمّد صلىاللهعليهوآله أزهد الأنبياء ، كان له ثلاث عشرة زوجة سوى من يطيف به من الإماء ، ما رفعت له مائدة قطّ وعليها طعام ، وما أكل خبز برّ قطّ ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قطّ ، توفّي ودرعه مرهونة عند يهوديّ بأربعة دراهم ، ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطّئ له من البلاد ، ومكّن له من غنائم العباد ، ولقد كان يقسّم في اليوم الواحد ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف ، ويأتيه السّائل بالعشيّ فيقول : والّذي بعث محمّدا بالحقّ ما أمسى في آل محمّد صاع من شعير ، ولا صاع من برّ ، ولا درهم ، ولا دينار.
وانتهت هذه المناظرة التي حفلت بتفوّق الرسول صلىاللهعليهوآله على سائر الأنبياء وامتيازه عليهم بما منحه الله وآتاه من الطاقات الهائلة في ميادين الفضائل التي لا حدّ لها ، وقد أسلم اليهودي ، وقال :
أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله رسول الله ، وأشهد أنّه ما أعطى الله نبيّا درجة ، ولا مرسلا فضيلة إلاّ وقد جمعها لمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وزاد محمّدا صلىاللهعليهوآله على الأنبياء صلوات الله عليهم أضعافا.
وبهر حبر الامّة عبد الله بن عباس من حديث الإمام وقال : أشهد يا أبا الحسن إنّك من الراسخين في العلم.
فقال له الإمام : وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله تعالى في عظمته فقال : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) (٢).
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مناظرات الإمام واحتجاجاته مع اليهود وقد حفلت بأروع الأدلّة ، وأكثرها أصالة ، مما دعا اليهود الذين سألوه وحاججوه إلى إعلان الإسلام واعتناقه.
__________________
(١) القلم : ٤.
(٢) بحار الأنوار : ١٠ : ٢٨ ـ ٤٨. الاحتجاج ١١١ ـ ١٢٠.
مناظرته
مع الزّنادقة
كان الإمام عليهالسلام هو المتصدي الوحيد لإبطال الشّبه والأوهام التي تحوم حول الإسلام في تشريعاته وأحكامه ، والتي أثارها الحاقدون على انتصاره ، واقبال الناس أفواجا على اعتناقه ، ومن المؤكد انه ليس هناك أقدر ولا أولى من حماية الإسلام سوى الإمام عليهالسلام ، فقد احاط بفلسفة التشريع الإسلامي ، ووقف على دقائقه ومحتوياته وانه ليس هناك أي تناقض أو تضاد في جميع تشريعاته التي تواكب الفطرة ، وتساير الطبيعة ، وتتفق مع سنن الكون ، ونعرض لبعض شبهات الزنادقة والمنحرفين والمنجمين ، وإبطال الإمام عليهالسلام لها.
مع زنديق
وفد على الإمام عليهالسلام زنديق ، وقد اترعت نفسه بالأوهام حول الإسلام ، فزعم أنّ هناك تضاربا وتعارضا في آيات القرآن الكريم ، فقال للإمام :
لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم وسارع الإمام قائلا :
« ما هو؟ ».
عرض الزنديق على الإمام عليهالسلام ما التبس عليه من الآيات وهي :
قوله تعالى : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) (١).
وقوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) (٢).
وقوله تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (٣).
وقوله تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ) (٤).
__________________
(١) التوبة : ٦٧.
(٢) الأعراف : ٥١.
(٣) مريم : ٦٤.
(٤) النبأ : ٣٨.
وقوله تعالى : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (١).
وقوله تعالى : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (٢).
وقوله تعالى : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (٣).
وقوله تعالى : ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ) (٤).
وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٥).
وقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٦).
وقوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ... ) (٧).
وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) (٨).
وقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٩).
وقوله تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً ... ) (١٠).
__________________
(١) الأنعام : ٢٣.
(٢) العنكبوت : ٢٥.
(٣) ص : ٦٤.
(٤) ق : ٢٨.
(٥) يس : آية ٦٥.
(٦) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣.
(٧) الأنعام : ١٠٣.
(٨) النجم : ١٣ ـ ١٤.
(٩) طه : ١٠٩.
(١٠) الشورى : ٥١.