موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

كانت بيعة الإمام عامة اشتركت فيها جميع قطاعات الشعب بما فيها القوات المسلّحة التي أطاحت بحكومة عثمان بن عفان ، وقد باركتها الصحابة وباركها جميع المسلمين سوى الاسر القرشية التي ناهضت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانها أصيبت بذهول ووجوم ، وتميّزت من الغيظ ، فقد خافت على مصالحها وما كانت تتمتع به من السيطرة على جهاز الدولة وتسخير اقتصادها لمصالحهم ، وهي على يقين لا يخامره شك أنّ الإمام عليه‌السلام يتحرى بكل دقة مصالح الامّة ، ويقيم فيها برامج السياسة الإسلامية الهادفة إلى نشر الرخاء والأمن بين المسلمين ، وابعاد العناصر المشبوهة ، ومعاملتها معاملة عادية تتّسم بعدم التقدير وعدم الاستجابة لرغباتها ومصالحها.

إنّ الاسر القرشية تعرف الإمام عليه‌السلام أنه لا يداهن أحدا في دينه ولا يصانع أي إنسان قريب أو بعيد ، وأنه يبغي في جميع تصرفاته وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فلذا أجمعت على مناجزته ووضع الحواجز والسدود أمام سياسته ، وقبل أن نذكر بعض احتجاجاته معهم نعرض إلى ما يلي :

٤١
٤٢

لوعة الإمام من القرشيّين

التاع الإمام عليه‌السلام كأشد ما تكون اللوعة من القرشيين وبلغ به الحزن منهم أقصاه ، فقد استبان له عداؤهم السافر له وحقدهم البالغ عليه ، وقد ادلى عليه‌السلام بعدة مناسبات بعميق ألمه وحزنه منهم ، ولنستمع لبعضها :

١ ـ قال عليه‌السلام :

« اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ؛ فإنّهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متأسّفا ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا ذابّ ولا مساعد ، إلاّ أهل بيتي ؛ فضننت بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشّجا ، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من وخز الشّفار » (١).

أرأيتم مدى حزن الإمام وأساه من ظلم القرشيين واعتدائهم عليه ، فقد قطعوا رحمه ، ونازعوه الخلافة التي هو أولى بها من غيره ، وأجبروه على ما أرادوه ، ولم يكن باستطاعة الإمام أن يناهضهم ، فلم تكن عنده قوة ولم يكن يأوي إلى ركن شديد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١١ : ١٠٩.

٤٣

لينتزع حقه منهم فصبر على ما في الصبر من قذى في العين ، وشجى في الحلق.

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« اللهمّ إنّي استعديك على قريش ، فإنّهم أضمروا لرسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله ضروبا من الشّرّ والغدر فعجزوا عنها وحلت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدّائرة عليّ.

اللهمّ احفظ حسنا وحسينا ، ولا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّا ، فإذا توفّيتني فأنت الرّقيب عليهم ، وأنت على كلّ شيء شهيد » (١).

حكت هذه الكلمات ما يلي :

أولا : عداء القرشيين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أضمروه له من ضروب الشر والغدر إلاّ أنّ الله تعالى حال بينهم وبين ما دبروا وأضمروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من سوء ومكر فقد نصر نبيّه وأعزّ دينه.

ثانيا : أنّ دائرة القرشيين كانت على الإمام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد استوفوا منه ديونهم التي كانت لهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشفوا غيظ صدورهم منه فسلبوه حقه ، وانتزعوا منه ولايته على المسلمين التي عقدها النبي له في غدير خم.

ثالثا : فإنّه أبدى مخاوفه على سبطي الرحمة وامامي الهدى الحسن والحسين من القرشيين الذين كانوا يبغون الغوائل لذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تحقق ما كان يتخوف عليهما الإمام عليه‌السلام فالسبط الأوّل الإمام ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تجرّع أقسى الآلام من طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان فقد بالغ الطاغية في ظلم الإمام والاعتداء عليه ، وأخيرا دسّ إليه السم فقتله ، وأمّا أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢٩٨.

٤٤

أبو الشهداء ، فقد عمد يزيد بن معاوية الممثل الوحيد للأسر القرشية إلى السبط فأجهز عليه وعلى أهل بيته وأصحابه في أرض كربلاء ، ورفع جيشه رءوسهم على أطراف الرماح ومعها عقائل النبوة سبايا يطاف بهم في الأقطار والأمصار ، وقد اعلنوا فرحتهم الكبرى باستئصالهم لذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد استوفوا بذلك ثارات بدر.

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« حتّى إذا قبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السّبل ، واتّكلوا على الولائج (١) ، ووصلوا غير الرّحم ، وهجروا السّبب (٢) الّذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير موضعه. معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب في غمرة. قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السّكرة ، على سنّة من آل فرعون : من منقطع إلى الدّنيا راكن ، أو مفارق للدّين مباين » (٣).

وحفل كلام الإمام عليه‌السلام بما مني به المسلمون بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الانقلاب على الأعقاب الذي كان من مظاهره إبعاد الاسرة النبوية وإقصاؤها عن قيادة الامة ، وتقليد الخلافة إلى غيرها ، وقد وصفهم بالأوصاف التي ذكرها والتي هي واضحة الدلالة بيّنة المفاد ، ومن المؤكد أنه لم يقم بعملية الانقلاب إلاّ الاسرة القرشية الحاقدة على أهل البيت عليهم‌السلام.

٤ ـ قال عليه‌السلام :

« اللهمّ فاجز قريشا عنّي الجوازي ، فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت عليّ ،

__________________

(١) الولائج : جمع وليجة ، وهي البطانة التي يتّخذها الإنسان.

(٢) أراد بالسبب هم أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة الذين قرنهم الرسول بمحكم التنزيل.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ١٣٢.

٤٥

ودفعتني عن حقّي ، وسلبتني سلطان ابن امّي ، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرّسول وسابقتي في الإسلام ، إلاّ أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه ، ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كلّ حال » (١).

ويلمس في هذه الكلمات مدى لوعة الإمام عليه‌السلام وأساه على ضياع حقه ، ونهب تراثه الذي استأثرت به قريش.

٥ ـ قال عليه‌السلام :

« اللهمّ أخز قريشا فإنّها منعتني حقّي ، وغصبتني أمري » (٢).

٦ ـ قال عليه‌السلام :

« فجزى قريشا عنّي الجوازي فإنّهم ظلموني حقّي واغتصبوني سلطان ابن امّي » (٣).

٧ ـ قال عليه‌السلام :

« اللهمّ إنّي استعديك على قريش فإنّهم ظلموني حقّي وغصبوني إرثي » (٤).

وأعربت هذه الكلمات عما لاقاه الإمام عليه‌السلام من الظلم والاعتداء من القرشيين فقد اجمعوا على مناهضته والحطّ من شأنه ، ولنستمع بعد هذا إلى احتجاجاته على المتمردين على حكومته من القرشيين.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ١١٩.

(٢) نهج البلاغة : ٣٤٦.

(٣) المصدر السابق : ٣٣٦.

(٤) نهج البلاغة : ٣٤٦.

٤٦

احتجاجاته على طلحة والزبير

بايع الزبير وطلحة الإمام عليه‌السلام عن رضى لا إكراه فيه ، ولمّا تمّ الأمر للإمام وأعلن منهجه في الحكم ، وانه يسير على منهاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستأثر بشيء من أموال المسلمين ، وإنما يحتاط فيها كأشد ما يكون الاحتياط ، وقد جرت بينه وبين طلحة والزبير عدّة مناظرات كان منها ما يلي :

سارع طلحة والزبير نحو الإمام ، وهما يرفعان عقيرتهما قائلين : هل تدري علام بايعناك يا أمير المؤمنين؟

فرمقهما الإمام بطرفه ، وقال برنة المستريب منهما :

« نعم على السّمع والطّاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان ».

وكشفا عن نواياهما وأطماعهما قائلين : ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر ...

ما ذا يعني الشيخان في الاشتراك في الأمر؟

هل يبغيان أن تسير الدولة في برامجها السياسية والاقتصادية على ضوء الكتاب والسّنّة ، ويكونا عونا للإمام على تحقيق هذه الغاية النبيلة؟

هل الاشتراك في الأمر معناه بذل الجهود لسير البلاد قدما في تطورها

٤٧

الاقتصادي وتنمية دخل الفرد ونشر الرخاء بين المواطنين واشاعة العلم بين الناس؟

كل ذلك لم يفكّر فيه طلحة والزبير ، وإنّما المقصود هو الاستيلاء على مقدّرات الدولة وأجهزة الحكم ، والاستيلاء على ثروات الامّة ، واخضاعها لرغباتهما وشهواتهما.

ولم تخف على الإمام أطماعهما فردّ عليهما قائلا :

« ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأود ... ».

إنّ الذي يفهمه الإمام من مشاركتهما له المشاركة على الاستقامة وعدم الانحراف عن الخط الإسلامي الذي يعنى قبل كلّ شيء بإسعاد المجتمع ، ونفي الحاجة والبؤس ، وتوزيع خيرات الله تعالى على الجميع.

وهذا المنطق لا يفهمه طلحة ولا يعيه الزبير ، انّ الذي يعنيهما قبل كلّ شيء الاستيلاء على خيرات الامّة ومقدراتها الاقتصادية.

ولمّا استبان للشيخين ضياع أملهما ، وعدم فوزهما بتحقيق آمالهما انطلقا صوب الإمام يطلبان الإذن لهما في الخروج من يثرب ليعلنا التمرّد على حكومة الإمام فقالا له : ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

« إلى أين؟ ».

نريد العمرة.

فرمقهما الإمام بطرفه ، وقد عرف خفايا نفوسهما ، وما انطوت عليه قلوبهما من الشر ، قائلا لهما برنة المستريب :

« والله ما العمرة تريدان!! بل الغدرة ونكث البيعة »!

ولم يخف على الإمام ما انطوت عليه نفوسهما من الشر والغدر والمكيدة

٤٨

وأخذا يقسمان بالله ويحلفان بالأيمان المغلظة انهما يخرجان للعمرة والتفت إليهما الإمام ونفسه مترعة بالريبة منهما فطلب منهما إعادة البيعة له ثانيا ففعلا دون تردّد ، ومضيا منهزمين إلى مكّة ، وكأنه قد اتيح لهما الخلاص من السجن فلحقا بعائشة ، فجعلا يحثّانها على الثورة على حكومة الإمام ، وقد كانا يعلمان بكراهيتها للإمام.

مع عائشة :

وفزعت عائشة حينما علمت أنّ الإمام عليه‌السلام قد تقلّد زمام الحكم ، وآلت إليه زعامة الامّة ، فأعلنت العصيان والتمرّد ، ورفعت عقيرتها مطالبة بدم عثمان بن عفّان ، وقد كانت من أقوى العناصر التي نادت بسفك دمه ، فقد أفتت بكفره ومروقه من الدين ثمّ هى الآن تطالب بدمه ، وهل هي وليّة دمه حتى يباح لها ذلك؟ وهل هي وليّة أمر المسلمين حتى تطالب بدمه؟ أسئلة لا جواب لها فيما نعلم.

وعلى أي حال فقد رفعت علم الثورة على حكومة الإمام وراحت تستنهض المسلمين للإطاحة بحكومته ، وقد استجاب لها الغوغاء الذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، فقد شكّلت منهم جيشا أمدّه الأمويّون بجميع المعدّات الحربية وما يحتاجون إليه ، وقد أنفقوا عليه أموالا هائلة كانت ممّا نهبوه من أموال المسلمين حينما كانوا ولاة من قبل عثمان بن عفّان ، وقد عرضنا لذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب.

وقد احتلّت عائشة البصرة ، وحينما علم الإمام بذلك زحف بجيوشه للقضاء على هذا التمرّد ، وقبل أن تندلع نار الحرب بعث الإمام إليها عبيد الله بن عبّاس وزيد ابن صوحان يدعوها إلى حقن دماء المسلمين ، وقال لهما قولا لها :

« إنّ الله أمرك أن تقرّي في بيتك وأن لا تخرجي منه ، وإنّك لتعلمين ذلك ، غير أنّ جماعة قد أغروك فخرجت من بيتك ، فوقع النّاس

٤٩

ـ لاتّفاقك معهم ـ في البلاء والعناء ، وخير لك أن تعودي إلى بيتك ، ولا تحومي حول الخصام والقتال ، وإن لم تعودي ولم تطفئي هذه النّائرة فإنّها سوف تعقب القتال ، ويقتل فيها خلق كثير ، فاتّقي الله يا عائشة وتوبي إلى الله فإنّ الله يقبل التّوبة من عباده ويعفو ، وإيّاك أن يدفعك حبّ عبد الله بن الزّبير وقرابة طلحة إلى أمر تعقبه النّار ».

ولو أنّها وعت هذه النصيحة ، واستجابت لنداء الحق لجنّبت الامّة الكثير من المآسي والخطوب إلاّ انها جعلت ذلك دبر اذنيها ، وقالت للرسولين : إني لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام لأني لا أبلغه بالحجاج (١). ولم ترد على الإمام بالكلام ، وانما ردّت عليه بالسيوف والرماح وأبت أن تذعن لنداء الحق.

مع طلحة والزبير :

وأقام الإمام عليه‌السلام الحجّة على طلحة والزبير ، فقد بعث إليهما برسالة يدعوهما إلى الوئام ، وجمع كلمة المسلمين ، وهذا نصها :

« أما بعد : فقد علمتما ـ وإن كتمتما ـ أنّي لم ارد النّاس حتّى أرادوني ، ولم ابايعهم حتّى بايعوني ، وإنّكما ممّن أرادني وبايعني ، وانّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب ، ولا لعرض حاضر ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السّبيل باظهاركما الطّاعة وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة والكتمان ، وأنّ دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ١ : ٤٤٣ ، نقلا عن تاريخ ابن أعثم.

٥٠

إقراركما به ، وقد زعمتما أنّي قتلت عثمان فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما ، فإنّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار والنّار » (١).

لقد ألقيا الفتنة بين المسلمين ، وجرّا للعالم الإسلامي الويل والدمار ، وقاتل الله الطمع والحسد ، فقد ألقياهما في شر عظيم ، وحمّلاهما المسئولية أمام الله تعالى.

وقد ألمحنا إلى تفصيل هذه الأحداث المروعة في بعض أجزاء هذه الموسوعة ، فلا نطيل البحث عنها.

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ١٢٢.

٥١

مع معاوية

وأعلن معاوية التمرّد على حكومة الإمام ، ورفض البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، فقد رأى له قوة تمكّنه من مناجزة الإمام ؛ وذلك لما له من النفوذ والمكانة في بلاد الشام فانّه لم يعمل فيها عمل وال ، وإنمّا عمل فيها عمل صاحب الدولة الذي يؤسسها ، فقد أمدّه عمر وعثمان بجميع مقومات البقاء والقوة ، ويعترف معاوية بصراحة أنّه لو لا أبو بكر وعمر لما نازع الإمام ، فقد أعلن ذلك في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر جاء فيها :

كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزه ـ يعني عليا ـ حقّه ، وخالفاه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم ـ يعني قتله ـ ، ثمّ انّه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشاركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله.

وأضاف قائلا :

فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا له ، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا وأخذنا بمثله (١).

__________________

(١) المسعودي على هامش ابن الأثير ٦ : ٧٨ ـ ٧٩.

٥٢

فمن المؤكد الذي لا ريب فيه أنّه لو لا منازعة الشيخين للإمام وابتزازهما لحقّه لما استطاع معاوية منازعته ، ولقبع في زوايا الخمول هو واسرته.

وعلى أي حال فان من مهازل الزمن أن ينبري معاوية إلى مناهضة عملاق الفكر الإنساني ، وباب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعلن العصيان المسلّح عليه.

إيفاد جرير إلى معاوية :

رأى الإمام عليه‌السلام أن يقيم الحجّة على معاوية ، ويدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي وزوّده بهذه الرسالة :

« أمّا بعد .. فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام ؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشّاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار ، إذا اجتمعوا على رجل ، فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا ، وإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى ، ويصليه جهنّم وساءت مصيرا.

وإنّ طلحة والزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ، فكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، وظهر أمر الله وهم كارهون.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الامور إليّ فيك العافية ، إلاّ أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك.

٥٣

وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه النّاس ، ثمّ حاكم القوم إليّ ـ يعني الذين قتلوا عثمان ، أحملك وإيّاهم على كتاب الله ، فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان ، وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجليّ ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ، ولا قوّة إلاّ بالله » (١).

وأعرب الإمام الممتحن في رسالته عن شمول بيعته التي لم يظفر بمثلها أحد من الذين سبقوه ، فقد بايعه الأنصار والمهاجرون ، وبايعته الأقطار الإسلامية ، وبايعه طلحة والزبير إلاّ انهما نكثا بيعته لغير سبب إسلامي ، فقد دفعتهما الأطماع والحسد للإمام إلى ذلك.

وقد دعا الإمام عليه‌السلام معاوية إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن لا يخلع يد الطاعة ، ويفارق الجماعة الإسلامية كما أعرب الإمام عن براءته من دم عثمان الذي اتّخذه معاوية وسيلة لإعلان التمرّد ، والخروج عن طاعة الإمام ، وأعلن الإمام أنّ معاوية لا يصلح للخلافة ولا لأي منصب من مناصب الدولة لأنه من الطلقاء الذين ناجزوا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يستجب معاوية لنداء الحق ، وراح في غيه مناجزا للإمام ، ومعلنا للتمرّد على حكومته ، فردّ جرير البجلي ، وحمّله رسالة الحرب للإمام.

احتجاجه على معاوية :

من أروع ما احتجّ به الإمام عليه‌السلام على معاوية هذا الاحتجاج الذي كان جوابا

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ٢٣٣. الإمامة والسياسة ١ : ٧١. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ٣٠٠.

٥٤

لرسالة معاوية له ، ولنقرأه بإمعان :

« أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ؛ فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا ؛ إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا ، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر (١) ، أو داعي مسدّده إلى النّضال.

وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان (٢) ؛ فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه.

وما أنت والفاضل والمفضول ، والسّائس والمسوس! وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء ، والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك (٣) ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا ظفر الظّافر! ».

حكى هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام استهانته بمعاوية وازدراءه له وأنه لا حقّ له ولا مكانة له في التمييز بين المهاجرين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فان كان لهم الفضل فهو لغيره ولا يلحقه وان كان فيهم ثلمة ونقص فلا تلتصق به لأنه من الطلقاء الذين لا يحق لهم التدخل في شئون المسلمين ...

ويستمر الإمام في رسالته الذهبية قائلا :

__________________

(١) هجر : مدينة باليمن كثيرة النخيل ، وقيل مدينة بالبحرين.

(٢) فلان وفلان : يعني بهما الشيخين أبا بكر وعمر.

(٣) أربع على ظلعك : أي قف عند حدّك ، واعرف قدرك.

٥٥

« وإنّك لذهّاب في التّيه (١) ، روّاغ عن القصد ، ألا ترى ـ غير مخبر لك ».

تحدث الإمام عليه‌السلام بهذه الكلمات عن نفسية معاوية ، وانه لذهاب في التّيه أي الضلال ، فقد كان من عناصره ومقوماته ، كما كان رواغا عن القصد أي الاعتدال ، فلم يستقم إلاّ على الباطل.

وأضاف الإمام قائلا :

« ولكن بنعمة الله احدّث ـ أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل الطّيّار في الجنّة وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه ، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السّامعين.

فدع عنك من مالت به الرّميّة ، فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد صنائع لنا (٢) لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ؛ فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب ـ وهو أبو جهل.

__________________

(١) التيه : الضلال.

(٢) لعلّ المراد من قوله عليه‌السلام : « فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد صنائع لنا » أنّ الله خصّهم بالهداية فبعث منهم رسوله العظيم ، وهو وأهل بيته مصادر الهداية والرشاد للخلق ، فهم بهذا صنائع الله لأنهم خصهم بالنبوة ، والناس صنائع لهم لأنّ هدايتهم كانت بسببهم.

٥٦

ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ـ وهو أبو سفيان.

ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النّار ـ وهم صبية الأمويّين.

ومنّا خير نساء العالمين ـ وهي زهراء الرسول ـ ، ومنكم حمّالة الحطب ـ وهي أمّ جميل عمة معاوية ـ ، في كثير ممّا لنا وعليكم! ».

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع إلى مآثر الاسرة النبوية ، وما خصّها الله بها من الفضائل التي جعلتهم في قمة الفضيلة ، فقد جعل منهم قادة الأنام وعمالقة الإسلام كما جعل من خصومهم الأمويين والقرشيين أئمة الضلال ودعاة الكفر والإلحاد.

ويستمر الإمام في رسالته :

« فإسلامنا قد سمع ، وجاهليّتنا لا تدفع (١) ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) ، فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطّاعة.

ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ... ».

__________________

(١) أراد عليه‌السلام أن شرف اسرته في الجاهلية لا ينكر.

(٢) الأنفال : ٧٥.

(٣) آل عمران : ٦٨.

٥٧

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع إلى سمو مكانته ، وعظيم منزلته وذلك لقربه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو ابن عمه وأبو سبطيه ، وليس لغيره من قريب أو بعيد هذه المنزلة ، ثمّ ذكر عليه‌السلام احتجاج المهاجرين على الأنصار بأنّهم ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه الجهة التي احتجوا بها وتغلبوا على الأنصار موجودة في أهل البيت عليهم‌السلام على النحو الأكمل فلم لا يأخذ بها المهاجرون ، ويرجعون الخلافة إلى مركزها الذي عينه الرسول؟

ويأخذ الإمام في احتجاجه :

« وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك ، فيكون العذر إليك.

* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها *

وقلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش (١) حتى أبايع ؛ ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ».

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع إلى رده على معاوية الذي اتهمه بحسده للخلفاء ، ويقصد معاوية موقف الإمام عليه‌السلام من بيعة أبي بكر فقد رفضها ، وتخلف عنها ، فاتخذ معه أبو بكر جميع الإجراءات الصارمة التي منها هجوم شرطته بقيادة عمر على دار الإمام ، وحمله مقادا إلى أبي بكر ، بصورة مروعة وقد عيّره معاوية بذلك فردّ عليه الإمام بانه لا غضاضة ولا منقصة عليه في أن يكون مظلوما غير شاك في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، ويستمر الإمام الممتحن في رسالته واحتجاجه

__________________

(١) الجمل المخشوش : هو الذي يجعل في أنفه خشبة ليقاد.

٥٨

على معاوية قائلا :

« ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأيّنا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه ، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه ، حتّى أتى قدره عليه.

كلاّ والله ( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (١).

وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا ؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له ؛ فربّ ملوم لا ذنب له.

وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح

وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب ».

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع إلى موقفه من عثمان ، وان معاوية جدير بالإجابة ؛ لأنه من اسرته وإن كان ليس من أولياء دمه ، وأعرب الإمام انه بريء من دم عثمان ، ولا علاقة له في ذلك ، وإنّما المسئول عن دمه معاوية فقد استنجد به عثمان ، فلم يهب لنجدته ، وكانت جيوش معاوية قريبة من يثرب فلم يسمح لها بنجدته حتى أجهز عليه ، وكان الإمام عليه‌السلام يأمر عثمان بالاستقامة في سياسته وسلوكه إلاّ انه استجاب لآراء مروان الذي كان مسيطرا على جميع شئونه ، فأوقعه في الفخ الذي نصبه الأمويون له ليتخذوا من مصرعه ورقة إلى تنفيذ أغراضهم ...

__________________

(١) الأحزاب : ١٨.

٥٩

وعلى أي حال فقد أخذ الإمام في رسالته في الاحتجاج على معاوية قائلا :

« وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السّيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار (١)! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسّيف مخوّفين؟!

فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل (٢)

فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل (٣) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتّابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم (٤) ، متسربلين سرابيل الموت (٥) ؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم ، وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك وما هي من الظّالمين ببعيد » (٦).

عرض الإمام في هذا المقطع الأخير من رسالته إلى تهديد معاوية للإمام بالسلاح والقوى العسكرية التي يملكها فردّ عليه الإمام ساخرا ومستهزئا ، وانه والاسرة الهاشمية لا يرهبهم الموت ، ولا تخيفهم قوة العدو ، وانهم على استعداد

__________________

(١) الاستعبار : البكاء.

(٢) لبث قليلا يلحق الهيجا حمل ، هو شطر من بيت قاله بدر بن قشير لمّا اغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال :

لبث قليلا يلحق الهيجا حمل

لا بأس بالموت اذا الموت نزل

(٣) مرقل نحوك : أي مسرع.

(٤) القتام : الغبار.

(٥) متسربلين : أي لابسين.

(٦) صبح الأعشى ١ : ٢٢٩. نهاية الأدب ٧ : ٢٣٣. نهج البلاغة ٢ : ٢١.

٦٠