موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ) (١) ، فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه في عبادته واجتهاده ، ألا ترى أنّ تأويله غير تنزيله ـ أي غير ظاهره ـ؟ وقال : ( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) (٢) ، وقال : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) (٣) فإنزاله ذلك خلقه إيّاه.

وكذلك قوله : ( إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) (٤) أي الجاحدين ، والتّأويل في هذا القول باطنه مضادّ لظاهره.

ومعنى قوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) فإنّما خاطب نبيّنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله هل ينتظر المنافقون والمشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينوهم؟

( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) ، يعني بذلك أمر ربّك ، والآيات هي العذاب في دار الدّنيا ، كما عذّب الامم السّالفة ، والقرون الخالية.

وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) (٥) ، يعني بذلك ما يهلك من القرون فسمّاه إتيانا.

وقال : ( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (٦) ، أي لعنهم الله أنّي يؤفكون ، فسمّى اللّعنة قتالا.

__________________

(١) الصافّات : ٩٩.

(٢) الزمر : ٦.

(٣) الحديد : ٢٥.

(٤) الزخرف : ٨١.

(٥) الرعد : ٤١.

(٦) المنافقون : ٤.

١٤١

وكذلك قال : ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) ، أي لعن الإنسان.

وقال : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) (٢) ، فسمّى فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلا له ، ألا ترى تأويله على غير تنزيله؟

ومثل قوله : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) (٣) فسمّى البعث لقاء.

وكذلك قوله : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) (٤) ، أي يوقنون أنّهم مبعوثون ليوم عظيم ، واللّقاء عند المؤمن البعث وعند الكافر المعاينة والنّظر.

ويأخذ في إيضاح هذه الجهة أنّ المراد غير التنزيل.

وأمّا معنى قوله : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (٥) فذلك حجّة الله أقامها على خلقه ، وعرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النّبيّ إلاّ من يقوم مقامه ، ولا يتلوه إلاّ من يكون في الطّهارة مثله ، لئلاّ يتّسع لمن ماسّه حسّ الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ...

وعرض الإمام عليه‌السلام بعض الامور التي ترتبط بذلك.

وأمّا الأمانة الّتي ذكرتها فهي الأمانة الّتي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلاّ في الأنبياء وأوصيائهم ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه ،

__________________

(١) عبس : ١٧.

(٢) الأنفال : ١٧.

(٣) السجدة : ١٠.

(٤) البقرة : ٤٦.

(٥) هود : ١٧.

١٤٢

وجعلهم حججا في أرضه ... إلى آخر ما ذكره.

وأمّا ما كان من الخطاب بالانفراد مرّة وبالجمع مرّة ، من صفات الباري جلّ ذكره ، فإنّ الله تبارك وتعالى اسمه على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانيّة ، هو النّور الأزليّ القديم الّذي ليس كمثله شيء ، لا يتغيّر ويحكم ما يشاء ويختار ، ولا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزّه ، ولا نقص منه ما لم يخلقه ، فخلق ما شاء كما شاء ، وأجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من امنائه ، وكان فعلهم فعله ، وأمرهم أمره ، كما قال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (١) وجعل السّماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه ليميز الخبيث من الطّيّب ، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها ...

وتحدّث الإمام بصورة مستوعبة عن الإمامة وضرورتها وما يرتبط بالموضوع.

وأمّا قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٢) فالمراد كلّ شيء هالك إلاّ دينه لأنّه من المحال أن يهلك منه كلّ شيء ويبقى الوجه ، هو أجلّ وأكرم وأعظم من ذلك ، إنّما يهلك من ليس منه. ألا ترى أنّه قال : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) (٣)؟

وحوت المناظرة التالية على بعض البحوث التي لا يقرها العلم ، وقد أعرضنا عن ذكرها لاعتقادنا أنّها من الموضوعات ، ونكتفي بهذا المقدار منها (٤).

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) القصص : ٨٨.

(٣) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) ومن أراد الوقوف عليها فإنها في الاحتجاج للطبرسي ١ : ٣٥٨ ـ ٣٨٤.

١٤٣

مع ابن الكوّاء

أمّا ابن الكوّاء ، فهو خبيث دنس قد اترعت نفسه بالزندقة والمروق من الدين ، وكان من سعة حلم الإمام عليه‌السلام وعظيم أخلاقه أن فسح المجال لهذا الوضر الخبيث بالتطاول عليه ، ولم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيعتقله أو ينفيه ، وقد آل أمر هذا الخبيث أن صار من عيون الخوارج ، فكان يجابه الإمام بالكلمات القاسية فيقول له : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١).

فيجيبه الإمام الممتحن بقوله تعالى :

( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (٢).

وعلى أي حال فقد جرت بين الإمام وابن الكوّاء عدّة مناظرات لم يكن غرض ابن الكوّاء الوقوف على الواقع والتعرّف على الحقّ ، وإنّما غرضه امتحان الإمام وازعاجه ، ومن بين تلك المناظرات ما يلي :

ابن الكوّاء : أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار؟

وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهار.

وعن أعمى بالليل بصير بالنهار.

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

(٢) الروم : ٦٠.

١٤٤

وعن أعمى بالنهار بصير بالليل؟

الإمام :

« سل عمّا يعنيك ولا تسأل عمّا لا يعنيك. ويلك!

أمّا بصير باللّيل وبصير بالنّهار : فهو رجل آمن بالرّسل والأوصياء الّذين مضوا وبالكتب والنّبيّين وآمن بالله ونبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقرّ لي بالولاية ، فأبصر في ليلة ونهاره.

وأمّا بصير باللّيل أعمى بالنّهار : فرجل آمن بالأنبياء والكتب ، وجحد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنكر حقّا فأبصر باللّيل وعمي بالنّهار.

وأمّا أعمى باللّيل أعمى بالنّهار : فرجل جحد الأنبياء والأوصياء والكتب الّتي مضت ، وأدرك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يؤمن به ، ولم يقرّ بولايتي ، فجحد الله عزّ وجلّ ونبيّه فعمي باللّيل وعمي بالنّهار.

وأمّا أعمى باللّيل وبصير بالنّهار ، فرجل جحد الأنبياء الّذين مضوا والأوصياء والكتب ، وأدرك محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فآمن بالله وبرسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآمن بإمامتي ، وقبل ولايتي ، فعمي باللّيل وأبصر بالنّهار.

ويلك يا ابن الكوّاء! نحن بنو أبي طالب ، بنا فتح الله الإسلام ، وبنا يختمه » (١).

ولم يكن يبغي ابن الكوّاء في هذه المناظرة الوقوف على الواقع والانتهال من نمير علوم الإمام ، وإنّما كان يبغي التبكيت بالإمام وامتحانه.

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٢٩.

١٤٥

كان إمام المتّقين على المنبر يخطب الناس ويوعظهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ ، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له :

أخبرني عن ذي القرنين أنبيّا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب كانا أم من فضّة؟

فأجابه الإمام :

« لم يكن نبيّا ولا ملكا ، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضّة ، ولكنّه كان عبدا أحبّ الله فأحبّه الله ، ونصح لله فنصح الله له ، وإنّما سمّي « ذا القرنين » لأنّه دعا قومه إلى الله عزّ وجلّ فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثمّ عاد إليهم ، فضرب على قرنه الآخر ، وفيكم مثله » (١).

يعني نفسه الشريفة ، فقد ضربه عمرو بن عبد ودّ على قرنه الأوّل ، وضربه الزنيم الفاجر ابن ملجم ضربة اخرى على هامته ففلقها ، وكانت بها شهادته.

روى الأصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند الإمام عليه‌السلام فجاء ابن الكوّاء ، فقال للإمام : من البيوت في قول الله عزّ وجلّ : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (٢)؟

فقال الإمام عليه‌السلام :

« نحن البيوت الّتي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها ، نحن باب الله وبيوته الّتي يؤتى منها ، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ،

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ٣٤١.

(٢) البقرة : ١٨٩.

١٤٦

ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها ».

فقال ابن الكوّاء : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (١)؟

فأجابه الإمام :

« نحن أصحاب الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف يوم القيامة بين الجنّة والنّار ، ولا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا وأنكرناه ، وذلك بأنّ الله عزّ وجلّ لو شاء عرّف للنّاس نفسه حتّى يعرفوه وحده ، ويأتوه من بابه ، ولكنّه جعلنا أبوابه وصراطه وبابه الّذي يؤتى منه ، فقال ـ فيمن عدل عن ولايتنا وفضّل علينا غيرنا فإنّهم ( عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) (٢) » (٣).

* * *

كان الإمام عليه‌السلام على المنبر يخطب الناس ، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما الذاريات ذروا؟

« الرّياح ».

ما الحاملات وقرا؟

« السّحاب ».

ما الجاريات يسرا؟

« السّفن ».

ما المقسّمات أمرا؟

__________________

(١) الأعراف : ٤٦.

(٢) المؤمنون : ٧٤.

(٣) الاحتجاج ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

١٤٧

« الملائكة ».

وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضا.

« ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! كتاب الله يصدّق بعضه بعضا ، ولا ينقض بعضه بعضا سل عمّا بدا لك ».

سمعته يقول : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) (١).

ويقول : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (٢).

وقال في آية اخرى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (٣).

« يا ابن الكوّاء! هذا المشرق وهذا المغرب ».

وأومأ إلى جهة المشرق والمغرب.

« وأمّا قوله : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) فإنّ مشرق الشّتاء على حدة ومشرق الصّيف على حدة ، أما تعرف ذلك من قرب الشّمس وبعدها؟

وأمّا قوله : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) ، فإنّ لها ـ أي الشمس ـ ثلاثمائة وستّين برجا ، تطلع كلّ يوم من برج وتغيب في آخر ، فلا تعود إليه إلاّ من قابل في ذلك اليوم ».

كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟

« ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! سل متعلّما ولا تسأل متعنّتا ، من موضع

__________________

(١) المعارج : ٤٠.

(٢) الرحمن : ١٧.

(٣) المزمل : ٩.

١٤٨

قدمي إلى عرش ربّي أن يقول قائل ـ مخلصا ـ : لا إله إلاّ الله ».

ما ثواب من قال : لا إله إلاّ الله؟

« من قال : لا إله إلاّ الله مخلصا طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّقّ الأبيض ، فإن قال ثانية : لا إله إلاّ الله مخلصا خرقت أبواب السّماوات وصفوف الملائكة حتّى تقول الملائكة اخشعوا لعظمة الله ، فإذا قال ثالثة : لا إله إلاّ الله ـ مخلصا ـ تنتهي دون العرش ، فيقول الجليل : لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) ارتفع قوله وكلامه ».

أخبرني عن قوس قزح؟

« لا تقل : قوس قزح ، فإنّ قزحا اسم شيطان ، ولكن قل : قوس الله إذا بدا يبدو الخصب والرّيف ».

أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

« عن أيّ أصحاب رسول الله تسألني؟ ».

قال : أخبرني عن أبي ذرّ الغفاري؟

« سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء ، ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ ».

أخبرني عن سلمان الفارسي؟

« بخ بخ سلمان منّا أهل البيت ، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم؟ علم علم الأوّل والآخر ».

__________________

(١) فاطر : ١٠.

١٤٩

أخبرني عن حذيفة بن اليماني؟

« ذاك امرؤ علم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالما ».

أخبرني عن عمّار بن ياسر؟

« ذاك امرؤ حرّم الله لحمه ودمه على النّار أن تمسّ شيئا منها ».

اخبرني عن نفسك؟

« كنت إذا سألت اعطيت ، وإذا سكتّ ابتدئت ».

أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (١)؟

« كفرة أهل الكتاب : اليهود والنّصارى ، وقد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم ، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ».

ثمّ نزل الإمام عن المنبر ، وضرب بيده على منكب ابن الكوّاء ، وقال له :

« يا بن الكوّاء! ما أهل النّهروان منك ببعيد! ».

فقال ابن الكوّاء : ما اريد غيرك ، ولا أسأل سواك.

ولم تمض الأيام حتّى كان ابن الكوّاء في مقدّمة المحاربين للإمام يوم النهروان ، فقيل له : بالأمس تسأل أمير المؤمنين وأنت اليوم تقاتله؟

وانبرى إليه رجل فطعنه برمحه فهلك عدوّ الله (٢).

__________________

(١) الكهف : ١٠٣.

(٢) الاحتجاج ١ : ٣٨٦ ـ ٣٨٨.

١٥٠

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لأصحابه :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله عزّ وجلّ ، فو الله ما نزلت آية من كتاب الله في ليل ونهار إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلّمني تأويلها ».

فقام إليه ابن الكوّاء فقال له : فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟

قال عليه‌السلام :

« كان رسول الله ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائب عنه حتّى أقدم عليه ، فإذا قدمت عليه فيقرأنيه ، ويقول لي : يا عليّ ، أنزل الله عليّ بعدك كذا وكذا ، وتأويله كذا وكذا ، فيعلّمني تنزيله وتأويله » (١).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٣٨٦ ـ ٣٨٨.

١٥١

مع رجل

ارتقى الإمام عليه‌السلام المنبر في الكوفة ، وقال :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت عنه ، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر ».

فقام إليه رجل ، وفي عنقه كتاب كالمصحف وكان رجلا آدم طوالا ، جعد الشعر كأنّه من يهود العرب ، فرفع صوته قائلا :

أيّها المدّعي لما لا يعلم ... أنا سائلك فأجب ، فوثب إليه جماعة من شيعة الإمام لمعاقبته ، فنهرهم الإمام ، وقال لهم :

« دعوة ولا تعجّلوه فإنّ العجل والطّيش لا يقوم به حجج الله ، ولا بإعجال السّائل تظهر براهين الله تعالى ».

ثمّ التفت إلى السائل ، فقال له :

« سل بكلّ لسانك ومبلغ علمك ، اجبك إن شاء الله تعالى بعلم لا تختلج فيه الشّكوك ، ولا تهيّجه دنس ريب الزّيغ ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ».

وانبرى الرجل سائلا :

كم بين المشرق والمغرب؟

١٥٢

« مسافة الهواء ».

ما مسافة الهواء؟

« دوران الفلك ».

ما دوران الفلك؟

« مسيرة يوم للشّمس ».

صدقت.

متى القيامة؟

« عند حضور المنيّة وبلوغ الأجل ».

صدقت.

أين بكّة من مكّة؟

« مكّة أكناف الحرم ، وبكّة موضع البيت ».

لم سمّيت مكّة؟

« لأنّ الله تعالى مكّ الأرض ـ أي مدّ الأرض ـ من تحتها ».

لم سمّيت بكّة؟

« لأنّها بكّت رقاب الجبّارين ، وأعناق المذنبين ».

صدقت.

أين كان الله قبل أن يخلق عرشه؟

« سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة عرشه على قرب ربواتهم من كرسيّ كرامته ، ولا الملائكة المقرّبون من أنوار سبحات جلاله.

ويحك! لا يقال : الله أين؟ ولا فيم؟ ولا أيّ ، ولا كيف ».

١٥٣

صدقت.

كم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء؟

« أتحسن أن تحسب؟ ».

نعم.

« لعلّك لا تحسن أن تحسب ».

بلى ، إني أحسن أن أحسب.

« أرأيت إن صبّ خردل في الأرض حتّى يسدّ الهواء ، وما بين الأرض والسّماء ، ثمّ اذن لك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من مقدار المشرق إلى المغرب ، ومدّ في عمرك ، واعطيت القوّة على ذلك ، حتّى نقلته وأحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الله الأرض والسّماء ، وإنّما وصفت لك عشر عشر العشير من جزء من مائة ألف جزء ، وأستغفر الله من التّقليل والتّحديد ».

فبهر الرجل وراح يقول :

فأنت أصل العلم هادي الهدى

تجلو من الشّكّ الغياهيبا

حزت أقاصي كلّ علم فما

تبصر إن غولبت مغلوبا

لا تنثني عن كلّ اشكولة

تبدي إذا حلّت أعاجيبا

لله درّ العلم من صاحب

يطلب إنسانا ومطلوبا (١)

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ١٢٦ ـ ١٢٨.

١٥٤

مع ذعلب

كان إمام المتقين عليه‌السلام على المنبر ، وهو يدعو الناس إلى سؤاله قائلا :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لو سألتموني عن آية في ليل انزلت أو في نهار ، مكّيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم ... ».

فانبرى إليه ذعلب ، وكان ذرب اللسان بليغا ، شجاعا فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لاخجّلنّه اليوم لكم في مسألتي ، فرفع عقيرته قائلا :

يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟

فصاح به الإمام :

« ويلك يا ذعلب لم أكن بالّذي أعبد ربّا لم أره ».

كيف رأيته؟ صفه لنا؟

وأخذ الإمام في وصفه لله تعالى قائلا :

« ويلك ، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

ويلك يا ذعلب ، إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ، ولا بالسّكون ،

١٥٥

ولا بقيام ، قيام انتصاب ، ولا بجيئة ، ولا بذهاب ، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ... » (١).

إلى آخر ما تفضل به في صفة المبدع العظيم ، الذي لا يخضع لأوصاف الممكنات التي يطرق عليها العدم ، ويؤول أمرها إلى التراب.

لقد كان وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وباب مدينة علمه ، متصدّيا لكلّ ما يرد على الإسلام من أوهام فيكشفها ببالغ حججه ، وعظيم برهانه.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ١١٨.

١٥٦

مناظرته

مع المنجّمين

١٥٧
١٥٨

أمّا علم النجوم فإنّه من العلوم القديمة ، وقد ذهب فريق من علماء هذا الفنّ القدامى إلى أنّ الكواكب حيّة مريدة مختارة ، وانّ لها الاستقلال التامّ في جميع مجريات الأحداث ، بمعنى أنّها العلّة التامّة المؤثّرة ، أو أنّها شريكة في التأثير ، وهذا المعنى قد حرّمه الإسلام ولم يجزه ؛ لأنّه صريح وواضح في إنكار الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، وانّ جميع ما يجري في الكون من أحداث يستند إليه ، فالاعتقاد بأنّ المؤثر هي الكواكب مروق من الدين ، قد أفتى فقهاء الإمامية بكفر من يذهب إلى ذلك (١).

فقد ورد في بعض الأخبار أنّ المنجّم بمنزلة الكاهن وهو بمنزلة الساحر الذي هو بمنزلة الكافر (٢).

وعلى أي حال ، فإنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أنكر هذا العلم بالمعنى الذي ذكرناه ، وشجب الآثار التي ذكروها له ، وكان من بين ما اثر عنه في ذلك ما يلي :

__________________

(١) القواعد للشهيد. جامع المقاصد. بحار الأنوار وغيرها.

(٢) المكاسب وغيرها.

١٥٩
١٦٠