البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٣

الإشارة : لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، وحمد نفسه بنفسه ، تجلى أيضا وتنزّل من عالم الملكوت إلى عالم الملك بقدرته وحكمته ؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته ، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية ، أظهر الحكمة وأبطن القدرة ، فجعل عالم الحكمة يخاطب عالم القدرة ، ويخضع له ، ويتعبد ويستمد ، منه الإعانة والهداية ، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.

فعالم الحكمة محل التكليف ، وعالم القدرة محل التصريف ، عالم الحكمة عالم الأشباح ، وعالم القدرة عالم الأرواح ، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة ، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة. ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) شريعة ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حقيقة ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إسلاما ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إحسانا ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عبادة ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عبودية ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فرق (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) جمع. ه.

وإن شئت قلت : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لأهل العمل لله وهم المخلصون ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأهل العمل بالله وهم الموحّدون ، العمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القربة ، العمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، العمل لله نعت كلّ عابد ، والعمل بالله نعت كل قاصد ، العمل لله قيام بأحكام الظواهر ، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.

ثم إنّ الناس فى شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حجبوا بالحكمة عن شهود القدرة ، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة ، وقفوا مع قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، وقسم حجبوا بشهود القدرة عن الحكمة ، وهم أهل الفناء ، وقفوا مع قوله : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة ، أعطوا كلّ ذى حق حقّه ووفّوا كل ذى قسط قسطه ، وهم أهل الكمال من أهل البقاء ، جمعوا بين قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وبالله التوفيق.

ثم بيّن المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم ، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق ، فقال :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

قلت : الهداية فى الأصل : الدلالة بلطف ، ولذلك تستعمل فى الخير ، وقوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) على التهكم ، والفعل منه (هدى) بالفتح ، وأصله أن يعدى باللام ، أو «إلى» ، فعومل هنا معاملة : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ). والصراط لغة : الطريق ، مشتق من سرط الطعام إذا ابتلعه ، فكأنها تبتلع السابلة ؛ أي

٦١

المارّة به ، وقلبت السين صادا لتطابق الطاء فى الإطباق ، وقد تشمّ زايا لقرب المخرج ، و (المستقيم) : الذي لا عوج فيه ، والمراد به طريق الحق الموصلة إلى الله.

يقول الحق جل جلاله : معلما لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغى لهم أن يطلبوا ، أي : قولوا (اهدنا) أي : أرشدنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريق المستقيم هو السير على الشريعة المحمدية فى الظاهر ، والتبرّى من الحول والقوة فى الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرك شريعة وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع فى باطنك مشهود ، وفى الحكم : «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره وفى الباطن مستسلما لقهره ، فقد أعظم المنّة عليك».

فالصراط المستقيم الذي أمرنا الحقّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة ، والمفهوم من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ولذلك وصله به ، فكأن الحق ـ سبحانه ـ يقول : يا عبادى احمدونى ومجدونى وأفردونى بالقصد وخصّونى بالعبادة ، وكونوا فى ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفى باطنكم مستعينين بحولي وقوتى ، أو كونوا فى ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفى باطنكم مشاهدين لقدرتى وعظمة ربوبيتى.

وقال سيدنا على ـ كرّم الله وجهه ـ : (الصراط المستقيم هنا القرآن). وقال جابر رضي الله عنه : (هو الإسلام) يعنى الحنيفية السمحاء ، وقال سهل بن عبد الله : (هو طريق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم). يعنى اتباع ما جاء به. وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدّيقين.

فإن قلت : إذا كان العبد ذاهبا على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهل الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عموم المؤمنين يقولون : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : بالتثبيت فيما هو

٦٢

حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتهم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداء يقولون : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب. والقطب يقول : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه. ه.

وقال بعضهم : الهداية إمّا للعين وإما للأثر الدالّ على العين ، ولا نهاية للأولى. قلت : فالأولى لأهل الشهود والعيان ، والثانية لأهل الدليل والبرهان ، فالهداية للعين هى الدلالة على الله. والهداية للأثر هى الدلالة على العمل ، «من دلّك على الله فقد نصحك ، ومن دلك على العمل فقد أتعبك». وإنما كانت الأولى لا نهاية لها ؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين ، إن كان الدالّ عارفا بالطريق.

قال البيضاوي : وهداية الله تتنوع أنواعا لا يحصيها عد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) لكنها تنحصر فى أجناس مترتبة :

الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه ، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.

الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه الإشارة بقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، وقال : (فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

الثالث الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هى بالوحى والإلهام والمنامات الصادقة. وهذا يختص بنيله الأنبياء والأولياء ، وإياه عنى بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

٦٣

فالمطلوب : إما زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه ، أو حصول المراتب المترتبة عليه ، فإذا قال العارف الواصل عنى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك ، لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشى أبداننا ، لنستضىء بنور قدسك فنراك بنورك. ه.

قلت : قوله الرابع ... إلخ ، فى عبارته قلق واختصار ، والصواب أن يقول : الرابع ـ أن يكشف عن قلوبهم الظلم والأغيار ، ويشرق عليها الأنوار والأسرار ، ويريهم الأشياء كما هى بالوحى والإلهام ، وباستعمال الفكرة فى عظمة الملك العلّام ، حتى تستولى أنوار المعاني على حسّ الأوانى ، ثم يقول : وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء.

وقوله : فإذا قال العارف .. إلخ ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر ؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلمات كلها والغواشي وسائر الأكدار ؛ لأن الله تعالى غطّى وصفه بوصفه ونعته بنعته ، فلم يبق له وصف ظلمانى. وأيضا قوله : [أرشدنا إلى طريق السير] إنما يناسب السائر دون الواصل ؛ لأن الواصل ما بقي له إلا الترقي ، ولا يسمى فى اصطلاح الصوفية [السير] إلا قبل الوصول. والله تعالى أعلم.

ثم فسرّ الطريق المستقيم ، فقال :

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

قلت : (صراط) بدل من الأول ـ بدل الكل من الكل ـ وهو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته : التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة ، على آكد وجه وأبلغه ؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له ، فكأنه من البيّن الذي لا خفاء فيه ، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين ، و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. أو صفة له مبيّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهى نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال ، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين : إجراء الموصول مجرى النكرة ، إذ لم يقصد به معهود كالمعرّف فى قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبنّى (١) ...

أو يجعل (غير) معرفة ؛ لأنه أضيف إلى ماله ضدّ واحد ، وهو المنعم عليه ، فيتعين تعين الحركة غير السكون ، وإلا لزم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأمله.

__________________

(١) هذا شطر بيت ، وتمامه : (فمضيت ثمة قلت لا يعنينى).

٦٤

والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة ، و (عليهم) نائب فاعل ، و (لا) مزيدة لتأكيد ما فى (غير) من معنى النفي ، فكأنه قال : ولا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وقرأ عمر رضي الله عنه (وغير الضالين) والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير. قاله البيضاوي.

وإنما أسند النعمة إلى الله والغضب إلى المجهول تعليما للأدب ، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ...) الآية.

يقول الحق جل جلاله فى تفسير الطريق المستقيم : هو طريق الذين أنعمت عليهم بالهداية والاستقامة ، والمعرفة العامة والخاصة ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، والمنعم عليهم فى الآية مطلق ، يصدق بكل منعم عليه بالمعرفة والاستقامة فى دينه ، كالصحابة وأضرابهم. وقيل : المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه‌السلام قبل التحريف. وقيل : أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. والتحقيق أنه عام.

قال البيضاوي : ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال الله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) تنحصر فى جنسين : دنيوى وأخروى.

فالأول : وهو الدنيوي ـ قسمان : موهبى وكسبى ، والموهبي قسمان : روحانى ، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى ، كالفهم والفكر والنطق ، وجسمانى : كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبي : كتزكية النفس عن الرذائل ، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المستحسنة ، وحصول الجاه والمال.

والثاني : وهو الأخروى ـ : أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه فى أعلى علّيين ، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين ، والمراد القسم الأخير ، وما يكون وصلة إلى نيله من القسم الأول ، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر. ه.

قال ابن جزى : النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام ، دنيوية : كالصحة والعافية والمال الحلال. ودينية : كالعلم والتقوى والمعرفة. وأخروية : كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل. وقال أيضا : والناس فى الشكر على مقامين : منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه ، الخاصة به ، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. والشكر على ثلاث درجات : فدرجة العوام : الشكر على النعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المنعم. قال رجل

٦٥

لإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه : الفقراء إذا أعطوا شكروا وإذا منعوا صبروا ، فقال إبراهيم : هذه أخلاق الكلاب ، ولكن القوم إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. ه.

ثم احترس من الطريق غير المستقيمة ، فقال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) أي : غير طريق الذين غضبت عليهم ، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها ، بل سلّمنا من مواردها. والمراد بهم : اليهود ، كذا فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويصدق بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم ، (وَلَا الضَّالِّينَ) أي : ولا طريق الضالين ، أي : التالفين عن الحق ، وهم النصارى كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى. قال تعالى فى شأن اليهود : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) ، وقال فى حق النصارى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

واعلم أن الحق ـ سبحانه ـ قسم خلقه على ثلاثة أقسام : قسم أعدّهم للكرم والإحسان ، ليظهر فيهم اسمه الكريم أو الرحيم ، وهم المنعم عليهم بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدّهم للانتقام والغضب ، ليظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار ، وهم المغضوب عليهم والضالون عن طريق الحق عقلا أو عملا ، وهم الكفار ، وقسم أعدّهم الله للحلم والعفو ، ليظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو ، وهم أهل العصيان من المؤمنين.

فمن رام أن يكون الوجود خاليا من هذه الأقسام الثلاثة ، وأن يكون الناس كلهم سواء فى الهداية أو ضدها ، فهو جاهل بالله وبأسمائه ؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه فى هذا الآدمي ، من كرم وقهرية وحلم وغير ذلك. والله تعالى أعلم.

الإشارة : الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هى : طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هى العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص ، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد ، وليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء والرسل ، ولا بدّ فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير ، قد سلك المقامات ذوقا وكشفا ، وحاز مقام الفناء والبقاء ، وجمع بين الجذب والسلوك ؛ لأن الطريق عويص ، قليل خطّاره ، كثير قطّاعه ، وشيطان هذه الطريق فقيه بمقاماته ونوازله ، فلا بد فيه من دليل ، وإلا ضل سالكها عن سواء السبيل ، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا ، حيث قال :

وإنّما القوم مسافرون

لحضرة الحقّ وظاعنون

فافتقروا فيه إلى دليل

ذى بصر بالسّير والمقيل

قد سلك الطّريق ثمّ عاد

ليخبر القوم بما استفاد

٦٦

وقال فى لطائف المنن : (من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ، ويكشف له عن قلبه القناع ، فهو فى هذا الشأن لقيط لا أب له ، دعىّ لا نسب له ، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه ، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه ، لم ترضه سياسة التأديب والتهذيب ، ولم يقده زمام التربية والتدريب) ، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) مع الترقي الذي ذكره الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه المتقدم ، وإذا قرأ (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) استشعر ، أي : أنعمت عليهم بالوصول والتمكين فى معرفتك.

وقال الورتجبي : اهدنا مرادك منّا ؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص فى عبوديته وخدمته. ثم ، قال : وقيل : اهدنا هدى العيان بعد البيان ، لنستقيم لك حسب إرادتك. وقيل : اهدنا هدى من يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبّتنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام ، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب فى الخدمة. ثم قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يعنى : المطرودين عن باب العبودية ، (وَلَا الضَّالِّينَ) يعنى المفلسين عن نفائس المعرفة ه.

قلت : والأحسن أن يقال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم الذين أوقفهم عن السير اتباع الحظوظ والشهوات ، فأوقعهم فى مهاوى العصيان والمخالفات ، (وَلَا الضَّالِّينَ) هم الذين حبسهم الجهل والتقليد ، فلم تنفذ بصائرهم إلى خالص التوحيد ، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد الدليل والبرهان ، وهو ضلال عند أهل الشهود والعيان ، ولو بلغ فى الصلاح غاية الإمكان.

وقال فى الإحياء : إذا قلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فافهم أن الأمور كلها بالله ، وأن المراد هاهنا المسمّى ، وإذا كانت الأمور كلها بالله فلا جرم أن الحمد كله لله ، ثم قال : وإذا قلت : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأحضر فى قلبك أنواع لطفه لتتفتح لك رحمته فينبعث به رجاؤك ، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك : (يَوْمِ الدِّينِ). ثم قال : ثم جدّد الإخلاص بقولك : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وجدّد العجز والاحتياج والتبرّى من الحول والقوة بقولك : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ثم اطلب اسم حاجتك ، وقل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضى بنا إلى مرضاتك ، وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا ، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين. ه. ملخصا.

٦٧

وقال القشيري : قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الأمر فى هذه الآية مضمر ، أي : قولوا : اهدنا. والصراط المستقيم : طريق الحق ، وهو ما عليه أهل التوحيد ، أي : أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات ، فيقع على وجه التوحيد غبار الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك. ثم قال : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي : الواصلين بك إليك ، ثم قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بنسيان التوفيق والتّعامى عن رؤية التأييد ، (وَلَا الضَّالِّينَ) عن شهود سابق الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار. ه.

تتمات :

الأولى : هذه السورة جمعت معانى القرآن كلّها ، فكأنها نسخة مختصرة منه ، ولذلك سميت أمّ القرآن ، فالإلهيات حاصلة من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، والدار الآخرة من قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، والعبادات كلّها من الاعتقادات والأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر والنواهي ، من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والمقامات وأسرار المعاملات الباطنة ـ تخلية وتحلية ـ من قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) والأنبياء وغيرهم من قوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وذكر طوائف الكفار من قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

وقال الشيخ ابن أبى جمرة رضى الله عنه فى بيان تضمنها لكتاب الله : إن لفظ (الحمد) يتضمن كل ما فى كتاب الله من الحمد والشكر ؛ لأن الحمد أعمّ من الشكر ، وأتى بالعام ليدل على الصفتين. ولفظة (الله) تدل على ما فى الكتاب العزيز من أسماء الترفيع والتعظيم ؛ لأنه قيل : إنه اسم الله الأعظم ، ولفظ : (رَبِّ الْعالَمِينَ) يدل على ما فيه من أسماء الله ، سبحانه ، وعلى العوالم وعلى اختلافها وخالقها والمتصرف فيها. ولفظ : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يتضمن كل ما فى الكتاب من المغفرة والرحمة والإنعام والعفو والإفضال ، ولفظ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يدل على ما فيه من ذكر الآخرة وما فيه من الأهوال ، ولفظ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يتضمن ما فيه من التعبّدات وإفراده بالألوهية ، ولفظ (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يدل على ما فيه من طلب الاستعانة وذكر الاضطرار ، ولفظ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يتضمن ما فيه من طلب الهداية إلى سبيل الخير ، ولفظ : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يتضمن ما فيه من ذكر الخصوص والمرضىّ عنهم والمعفوّ عنهم وأهل السعادة ، ولفظ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يتضمن ما فيه من أنواع الكفر والمخالفات ومساوئهم ومآلهم فاستحقّت أن تسمى أمّا. ه.

٦٨

وعن على ـ كرم الله وجهه ـ قال : (شرح موسى عليه‌السلام التوراة فى سبعين سفرا ، ولو أذن لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأوقرت على الفاتحة سبعين بعيرا). قلت : قوله (سبعين) تقريبا ، وإلا فهى قابلة لأكثر من ذلك ، وتفصيل ذلك يطول ، وقد ذكرنا أصول علومها فى شرحنا الكبير عليها. والله تعالى أعلم.

الثانية : قال ابن جزىّ : قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أفضل عند المحققين من (لا إله إلا الله) لوجهين : أحدهما : ما أخرج النّسائيّ : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه من قال : لا إله إلا الله ، كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال : الحمد لله ربّ العالمين ، كتبت له ثلاثون حسنة». والثاني : أن التوحيد الذي تقتضيه (لا إله إلا الله) ، حاصل فى قولك : (رب العالمين) وزادت بقولك : الحمد لله ، وفيه من المعاني ما قدّمنا. وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله» فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه ، وقد شاركتها (الحمد لله رب العالمين) فى ذلك وزادت عليها. وهذا لمؤمن حقّق إيمانه وطلب الثواب ، وأما لمن دخل فى الإسلام فيتعيّن «لا إله إلا الله». ه.

قلت : والتحقيق أن كل ما يدل على التوحيد من الألفاظ يكفى فى الدخول فى الإسلام ، كما قال البنانىّ فى حاشيته.

الثالثة : قراءة الفاتحة فى الصلاة واجبة عند مالك والشافعي خلافا لأبى حنيفة ، وقد ذكرنا فى الشرح الكبير منشأ الخلاف.

الرابعة : التأمين عند ختم الفاتحة مطلوب للدعاء الذي فيها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حسدتكم اليهود على شىء ما حسدتكم على السّلام والتّأمين». رواه ابن ماجة. وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أعطانى خصالا ثلاثة : أعطانى صلاة الصّفوف وأعطانى التحية ، وإنها لتحية أهل الجنة ، وأعطانى التأمين ، ولم يعطه أحدا من النبيين قبلى ، إلا أن يكون الله أعطاه هارون ، يدعو موسى ويؤمن هارون» رواه ابن خزيمة. وسمع عليه الصلاة والسلام رجلا يدعو ويلح فقال : «أوجب إن ختم» فقال بعض القوم : بأيّ شىء يختم؟ فقال : «يؤمن ؛ فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب». قال أبو زهير ـ راوى الحديث ـ فإن آمين مثل الطّابع على الصحيفة. ولعلّه مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه أبو داود.

ولفظ (آمِّينَ) بالمدّ والقصر مخففا. وتشديد الميم لغة. قيل : هو اسم من أسماء الله تعالى .. وقيل معناه : اللهم استجب ، أو كذلك فافعل ، أو كذلك فليكن. قاله المنذرى فى الترغيب. قال البيضاوي : بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين ، وجاء مدّ ألفه وقصرها. قال :

ويرحم الله عبدا قال آمينا (١)

__________________

(١) هذا شطر بيت ، أوله : (يا رب لا تسلبنى حبها أبدا ...) ونسبه ابن منظور فى اللسان إلى عمر بن أبى ربيعة. قلت : وقد أغفل الشيخ المفسر ذكر مثال القصر. وهو كما فى أنوار التنزيل ولسان العرب :

تباعد منى فطحل ، إذ سألته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

٦٩

وليس من القرآن اتفاقا ، ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام : «علّمنى جبريل عليه‌السلام آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة». وقال : إنّه كالختم على الكتاب.

ويقوله الإمام ويجهر به فى الجهرية ، لما روى عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ) قال : آمين ، رفع بها صوته» وعن أبى حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه لا يقوله. والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس. قلت : ومشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقوله فى الجهرية.

ثم قال : والمأموم يؤمن معه لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا قال الإمام ولا الضالين ، فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عين الحق والتحقيق ، وعلى آله وصحبه المطهرين بعده ، أعلام الطريق ، وسلّم تسليما.

٧٠

سورة البقرة

قال سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ : (أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة) (١). وفيها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، ومائتان وست وثمانون آية ، وقيل : سبع وثمانون. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكلّ شيء سنام ، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة. من قرأها فى بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها فى بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال ، وفيها سيّدة آي القرآن ، وهى آية الكرسي». وإنما كانت سنام القرآن ، أي ذروته ؛ لأنها اشتملت على جملة ما فيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم البقرة من تحت العرش».

ثم افتتح السورة برموز رمز بها بينه وبين حبيبه ، فقال : (الم (١))

وقد حارت العقول فى رموز الحكماء ، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟ ، فكيف يطمع أحد فى إدراك حقائق رموز رب العالمين؟! قال الصديق رضى الله عنه : (فى كل كتاب سر وسر ، القرآن فواتح السور). ه.

فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء. وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه.

وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها. فقيل : إنها مختصرة من أسمائه تعالى ، فالألف من الله ، واللام من اللطيف ، والميم من مهيمن أو مجيد. وقيل : من أسماء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى ، ويدل عليه زيادة الصاد فى (المص) ، أو من المرسل ، ويدل عليه زيادة الراء فى (المر). و (الر) مختصرة من الرسول. فكأن الحق تعالى يقول : يا أيها المصطفى ، أو يا أيها الرسول (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أوهذا (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أو غير ذلك ، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الرموز. و (كهيعص) مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق ، و (طه) من طاهر ، و (طس) من يا طاهر يا سيد ، ويا محمد فى (طسم) ، إلى غير ذلك.

__________________

(١) ذكره السيوطي فى الدر المنثور ١ / ٤٦ عن عكرمة. وعزاه لأبى داود فى الناسخ والمنسوخ. ولم أقف عليه منسوبا إلى سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ.

٧١

وعند أهل الإشارة يقول الحق جل جلاله : ألف : أفرد سرّك إلىّ ، انفراد الألف عن سائر الحروف ، واللام : ليّن جوارحك لعبادتى ، والميم : أقم معى بمحو رسومك وصفاتك ، أزينك بصفاء الأنس والقرب منى. قاله الثعلبي.

قلت : والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة ، فالألف لوحدة الذات فى عالم الجبروت ، واللام لظهور أسرارها فى عالم الملكوت ، والميم لسريان أمدادها فى عالم الرحموت ، والصاد لظهور تصرفها فى عالم الملك. وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات فى عالم الشهادة ، فالألف يشير إلى سريان الوحدة فى مظاهر الأكوان ، واللام : يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت ، والميم يشير إلى تصرف الملك فى عالم الملك ، وكأن الحق تعالى يقول : هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد ـ هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت ، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت ، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة ، فلا ينبغى أن يرتاب فيه ، ولذلك رتب عليه قوله تعالى :

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ...)

قلت : الريب : تحرّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام ، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.

يقول الحق جل جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبي المجتبى (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي أنزلناه عليك من جبروت قدسنا وملكوت عزّنا (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه ، أو نسبه إلى غيرنا ، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا ، وحلت عليه شدائد نقمتنا ، ومن تحقق به أنه من لدنا ، وآمن بمن جاء به من عندنا ، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا ، فإذا أحببته كنت له ، فبى يسمع ، وبي يبصر ، وبي يتكلم ... الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وكان فى ذروة درجات المتقين ، الذين يهتدون بهدى القرآن المبين ، كما أشار إلى ذلك بقوله:

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

قلت : (هدى) خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي : هو هاد للمتقين ، أو فيه الهدى لهم. والهدى : هو الإرشاد والبيان ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقى : من جعل بينه وبين مقت الله وقاية ، وله ثلاث درجات :

حفظ الجوارح من المخالفات ،

وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات ،

وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات ،

٧٢

فالأولى لمقام الإسلام ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، والثانية لمقام الإيمان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، والثالثة لمقام الإحسان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

يقول الحق جل جلاله : (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي لا يقرب ساحته شكّ ولا ارتياب ، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوى الألباب ، فلا يزالون يترقّون به فى المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال ، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال ، قد انمحت فى حقهم الرسوم والأشكال ، وهذه غاية الهداية ، وتحقيق سابق العناية.

قال جعفر الصادق : (والله لقد تجلى الله تعالى لخلقه فى كلامه ولكن لا يشعرون) وقال أيضا ـ وقد سألوه عن حالة لحقته فى الصلاة حتى خر مغشيا عليه ، فلما سرّى عنه ، قيل له فى ذلك فقال ـ : (ما زلت أردد الآية على قلبى حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمى لمعاينة قدرته).

فدرجات القراءة ثلاث :

أدناها : أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفا بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه ، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرع والابتهال.

والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم ، والإصغاء والفهم.

والثالثة : أن يرى فى الكلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيا عن نفسه ، غائبا فى شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.

فالأولى لأهل الفناء فى الأفعال ، والثانية لأهل الفناء فى الصفات ، والثالثة لأهل الفناء فى شهود الذات ، رضى الله عنهم ، وحشرنا على منهاجهم .. آمين.

ثم وصف المتقين ، الذين خصوا بهداية كتابه المبين ، بثلاثة أوصاف ، فقال :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال : الأول : عمل قلبى وهو الإيمان ، والثاني : عمل بدني ، وهو الصلاة ، والثالث : عمل مالى ، وهو الإنفاق فى سبيل الله ، وهذه الأعمال هى أساس التقوى التي تدور عليها.

٧٣

أما العمل القلبي : فهو الإيمان أولا ، والمعرفة ثانيا ، فما دام العبد محجوبا بشهود نفسه ، محصورا فى الأكوان وفى هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب ، يؤمن بوجود الحق تعالى ، وبما أخبر به من أمور الغيب ، يستدل بوجود أثره عليه ، فإذا فنى عن نفسه وتلطفت دائرة حسه ، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، أفضى إلى الشهود والعيان ، فصار الغيب عنده شهادة ، والملك ملكوتا ، والمستقبل حالا ، والآتي واقعا ، وقد قلت فى ذلك :

فلا ترضى بغير الله حبّا

وكن أبدا بعشق واشتياق

ترى الأمر المغيّب ذا عيان

وتحظى بالوصول وبالتّلاقى

وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها». وقال فى التنوير : ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان. ه.

وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به ؛ إذ هو الذي يطيقه جل العباد ، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص ، والله تعالى أعلم.

وأما العمل البدني : فهو إقامة الصلاة ، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها ، وحفظ السر فيها ، قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : (كل موضع ذكر فيه المصلون فى معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة ، إما بلفظ الإقامة ، وإما بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، وقال تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) ، ولما ذكر المصلين بالغفلة قال : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل : فويل للمقيمين الصلاة).

وأما العمل المالى فهو الإنفاق فى سبيل الله واجبا أو مندوبا ، وهو من أفضل القربات ، يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : «يا ابن آدم أنفق ، أنفق عليك» ، وفى حديث آخر : «أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. قيل لمن هى يا رسول الله؟ قال : لمن أطعم الطعام ، وأفشى السلام ، وصلى باللّيل والناس نيام». وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ عزوجل ـ ليدخل باللقمة من الخبز والقبضة من التمر ومثله ممّا ينتفع به المسكين ثلاثة ، الجنة : رب البيت الآمر به ، والزوجة تصلحه ، والخادم

٧٤

الذي يناوله المسكين». وقال أيضا : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الصدقة لتسدّ سبعين بابا من السّوء». وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صنائع المعروف تقى مصارع السّوء ، وصدقة السرّ تطفئ غضب الربّ ، وصلة الرّحم تزيد فى العمر».

الإشارة : يا من غرق فى بحر الذات وتيار الصفات (ذلك الكتاب) الذي تسمعه من أنوار ملكوتنا ، وأسرار جبروتنا (لا ريب فيه) أنه من عندنا ، فلا تسمعه من غيرنا ، (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) ، فهو هاد لشهود ذاتنا ، ومرشد للوصول إلى حضرتنا ، لمن اتقى شهود غيرنا ، وغرق فى بحر وحدتنا ، الذي يؤمن بغيب غيبنا ، وأسرار جبروتنا ، التي لا تحيط بها العلوم ، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والمفهوم ، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، إظهارا لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة ، فهو على صلاته دائم ، وقلبه فى غيب الملكوت هائم ، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم ، فهو دائما ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه ، فلا جرم أنه على بينة من ربه.

ولمّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب ، ذكر من آمن من أهل الكتاب ، فقال :

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

قلت : الموصول مبتدأ ، و (أولئك) خبره ، أو عطف على (المتقين) ، وحذف المنزل عليه فى جانب الكتب المتقدمة ، فلم يقل : وما أنزل على من قبلك ؛ إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف ، إلا من ورد تعيينه فى الكتاب والسنة فلابد من الإيمان به ، أما القرآن العظيم فلابد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع ، ولذلك ذكر المتعلق بقوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ) يصدقون (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية ، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب السماوية ، والأخبار القدسية ، وهم (يُوقِنُونَ) بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب ، على نعت ما أخبرت به فى كتابى وأخبار أنبيائى ، (أُولئِكَ) راكبون على متن الهداية ، مستعلون على محمل العناية ، محفوفون بجيش النصر والرعاية ، (وَأُولئِكَ هُمُ) الظافرون بكل مطلوب ، الناجون من كل مخوف ومرهوب ، دون من عداهم ممن

٧٥

سبق له الخذلان ، فلم يكن له إيمان ولا إيقان ، فلا هداية له ولا نجاح ، ولا نجاة له ولا فلاح ، نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه.

الإشارة : قلت : كأن الآية الأولى فى الواصلين ، والثانية فى السائرين ، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم ، وهؤلاء وصفهم بالتصديق فى قلوبهم ، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون. فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان ، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية ، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية ، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها ، واستنشقوا شيئا من روائح أسرارها وعلومها ، فهم يوقنون بوجود الحقيقة ، عالمون برسوم الطريقة ، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية ، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية. دون الفرقة الثالثة التي هى بالإنكار موسومة ، ومن نيل العناية محرومة ، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

قلت : (سواء) خبر مقدم ، و (أنذرتهم) مبتدأ لسبك همزة التسوية ، أي : الإنذار وعدمه سواء فى حق هؤلاء الكفرة ، والجملة خبر إن ، و (غشاوة) مبتدأ ، والجار قبله خبره ، والغشاوة : ما يغشى الشيء ويغطيه ، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان.

يقول الحق جل جلاله : يا محمد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما أنزل إليك جهرا ، وسبقت لهم منى الشقاوة سرا ، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار ، ولا البشارة والتذكار ، فإنذارك وعدمه فى حقهم سواء ، لما سبق لهم منى الطرد والشقاء ، فالتذكير فى حقهم عناء ، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء ، لأنى ختمت على قلوبهم بطابع الكفران ، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان ، ومنعت أسماعهم أن تصغى إلى الوعظ والتذكير ، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير ، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب ، قد أعددتهم لعذابى ونقمتى ، وطردتهم عن ساحة رحمتى ونعمتى.

وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم ، وإنى وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتى وعنادى ؛ فإنى لا أظلم أحدا من خلقى وعبادى ، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). فما ظلمتهم ؛ لأنى بعثت الرسل مبشرين ومنذرين ، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين ، فحكمتى اقتضت الإنذار ، وقدرتى اقتضت

٧٦

القهر والإجبار ، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتى وشريعتى فتتأدب ، وعين تنظر لقدرتى وحقيقتى فتسلم ، وتكون بين الأمن والرّهب ، فلا تأمن مكرى وإن أمّنتك ، ولا تيأس من حلمى وإن أبعدتك ، فعلمى لا يحيط به محيط ، إلا من هو بكل شىء محيط.

الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية ، وجحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية ، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير ، بما سبق لهم فى علم الملك القدير ، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب ، أم لم تنذرهم ؛ لعدم فتح الباب ، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات ، أو حلاوة الزهد والطاعات ، أو تحرير المسائل والمشكلات ، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات ، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب ، فلا يبصرون إلا المحسوسات ، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات ، بخلاف قلوب العارفين ، فإنها ترى من أسرار المعاني مالا يرى للناظرين ، وفى ذلك يقول الشاعر :

قلوب العارفين لها عيون

ترى مالا يرى للناظرينا

وألسنة بأسرار تناجى

تغيب عن الكرام الكاتبينا

وأجنحة تطير بغير ريش

إلى ملكوت ربّ العالمينا (١)

فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم ، وحجب العلماء يعلمهم عن معلومهم ، واختص قوما بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم ، فهم فى رياض ملكوته يتنزهون ، وفى بحار جبروته يسبحون ، (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).

ولما ذكر الحق ـ جل جلاله ـ من أعلن بالإنكار ، ذكر من أسرّ بالجحود وأظهر الإقرار ، فقال جل وعلا :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

قلت : (من) موصوفة مبتدأ ، والخبر مقدم ، أي : ومن الناس ناس يقولون كذا ، والمخادعة : إظهار خلاف ما يخفى من المكروه ، وأصل الخدع : الإخفاء ، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع. وقيل : الفساد لأن المنافقين

__________________

(١) تنسب هذه الأبيات للحلاج ، كما تنسب لميمونة السوداء فى قصة مع إبراهيم بن أدهم .. راجع كتاب عقلاء المجانين.

٧٧

يفسدون إيمانهم بما يخفون ، وجملة (وما يشعرون) حالية ، أي : غير شاعرين ، والشعور : التفطن ، وفعله من باب كرم ونصر. وليت شعرى : أي : ليت فطنتى تدرك هذا ، وجملة (فى قلوبهم مرض) تعليلية للمخادعة ، والمرض : الضعف والفتور ، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق. والعياذ بالله.

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ) منهم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ، يقولون : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وما هم فى عداد المؤمنين ، (يُخادِعُونَ) بزعمهم (اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما يظهرون من الإيمان ، (وَما يَخْدَعُونَ) فى الحقيقة (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ؛ لأن وبال خداعهم راجع إليهم ، (وَما يَشْعُرُونَ) أن خداعهم وبال عليهم ، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن (فِي قُلُوبِهِمْ) مرضا من الشك والحسد ، فقلوبهم مذبذبة ، وأنفسهم مغمومة ، (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم ، (وَلَهُمْ) فى الآخرة ـ إذا قدموا على الله ـ (عَذابٌ) موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله. هذا مضمّن الآية.

افتتح الحق ـ جل جلاله ـ بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم أخبث الكفرة ؛ لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعا ، ولذلك كانوا فى الدرك الأسفل من النار.

الإشارة : ومن الناس من يترامى بالدعوى على الخصوصية ، ويدعى تحقيق مشاهدة الربوبية ، وهو فى الدرك الأسفل من العمومية ، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان ، وهو فى أودية الشكوك والخواطر حيران ، وفى فيافى القطيعة والفرق ظمآن ، لسانه منطلق بالدعوى ، وقلبه خارب من الهدى ، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه ، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره ، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه ، يتزيه بزىّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين ، ويصدق عليه قول القائل :

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم

وأرى نساء الحىّ غير نسائها (١)

وما يخادع فى الحقيقة إلا نفسه ، حيث حرمها الوصول ، وتركها فى أودية الأكوان تجول ، قلبه بمرض الفرق والقطيعة سقيم ، وهو يظن أنه فى عداد من يأتى الله بقلب سليم ، فزاده الله مرضا على مرضه حيث رضى بسقمه وعيبه ، وله عذاب الحرص والتعب فى ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله ، وإنكاره على أولياء الله ، فجزاؤه البعد والخذلان ، وسوء العاقبة والحرمان ، عائذا بالله من المكر والطغيان.

__________________

(١) البيت نسبه القرطبي فى تفسيره لأبى بكر الشبلي ، فى قصة. وجاء فى ديوان الشبلي : قسم أشعار تمثل بها الشبلي.

٧٨

ثم ذكر أقوالهم الشنيعة ، وأحوالهم الفظيعة ، فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))

قلت : «إذا» ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ، أي : قالوا نحن مصلحون ، وقت قول القائل لهم : لا تفسدوا ، والجملة بيان وتقرير لخداعهم ، أو معطوفة على (من يقول آمنا) ، أي : ومن الناس فرقة إذا قيل لهم : لا تفسدوا ، قالوا : إنما نحن مصلحون.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا قِيلَ) لهؤلاء المنافقين : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي والتعويق عن الإيمان ، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان ، وتهييج الحروب والفتن ، وإظهار الهرج والمرج والمحن ، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين ، فإن ذلك يؤدى إلى فساد النظام ، وقطع مواد الإنعام ، (قالُوا) فى جوابهم الفاسد : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فى ذلك ، فلا تصح مخاطبتنا بذلك ، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد ، وحالنا خالص من شوائب الفساد ، قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) هنالك ، ولكن لا شعور لهم بذلك.

قلت : فردّ الله ما ادعوه من الانتظام فى سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه ، من وجوه الاستئناف الذي فى الجملة ، والاستفتاح بالتنبيه ، والتأكيد بإن وضمير الفعل ، وتعريف الخبر ، والتعبير بنفي الشعور ، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون.

وهذه الآية عامة لكل من اشتغل بما لا يعنيه ، وعوق عن طريق الخصوص ، ففيه شعبة من النفاق ، وفى صحيح البخاري : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقا خالصا : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان».

الإشارة : وإذا قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله : أقصر من هذا الإفساد ، وارجع عن هذا الغى والعناد ، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد. قال : إنما أنا مصلح ناصح ، وفى أحوالى كلها صالح ، يقول له الحق جل جلاله : بل أفسدت قلوب عبادى ، ورددتهم عن طريق محبتى وودادي ، وعوقتهم عن دخول حضرتى ، وحرمتهم شهود ذاتى وصفاتى ، سددت بابى فى وجه أحبابى ، آيستهم من وجود التربية ، وتحكمت على القدرة الأزلية ، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية.

٧٩

ولقد صدق من سبقت له العناية ، وأتحف بالرعاية والهداية ، حيث يقول (١) :

فهذه طريقة الإشراق

كانت وتبقى ما الوجود باق

وقال أيضا :

وأنكروه ملا عوام

لم يفهموا مقصوده فهاموا

فتب أيها المنكر قبل الفوات ، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات ، لئلا تلقى الله بقلب سقيم ، فتكون فى الحضيض الأسفل من عذابه الأليم ، فسبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم ، منحنا الله منه الحظ الأوفى فى الدنيا والآخرة. آمين.

ثم ذكر الحق تعالى استهزاءهم بالإسلام وامتناعهم منه ، فقال :

(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

قلت : الكاف من (كَما آمَنَ) صفة لمصدر محذوف ، و (ما) مصدرية. أي : إذا قيل لهم آمنوا إيمانا خالصا من النفاق مثل إيمان المسلمين ، أو من أسلم من جلدتهم ، والسفه : خفة وطيش فى العقل ، يقال : ثوب سفيه ، أي : خفيف.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا قِيلَ) لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود : اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود ، وراقبوا الملك المعبود ، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق ، وأقصروا مما أنتم فيه من البعاد والشقاق و (آمِنُوا) إيمانا خالصا مثل إيمان المسلمين ، لتكونوا معهم فى أعلى عليين ، «من أحبّ قوما حشر معهم». «المرء مع من أحبّ» ، (قالُوا) مترجمين عما فى قلوبهم من الكفر والنفاق : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الذين لا عقل لهم ، إذ جلهم فقراء وموالى.

قال الحق تعالى فى الرد عليهم وتقبيح رأيهم : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) لا غيرهم ، حيث تركوا ما هو السبب فى الفوز العظيم بالنعيم المقيم ، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود فى الدرك الأسفل من الجحيم (وَلكِنْ لا

__________________

(١) القائل : ابن البنا السرقسطى فى المنظومة.

٨٠