البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٣

سورة آل عمران

مدنية. وآياتها : مائتان ، وقيل : مائة وسبع وثمانون. وكلماتها : ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة ، ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى فى أولها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) إلخ ، فكأنه تتميم لقوله ، (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) ، وتفسير له.

ومضمنها : توجيه العتاب لثلاث طوائف : للنصارى ؛ لغلوهم فى عيسى عليه‌السلام ، ولامتناعهم من الدخول فى الإسلام ، وبسببهم نزلت السورة ، أعنى نصارى نجران ، ولليهود ؛ لتفريطهم فى اتباع النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وللمسلمين ؛ لما وقع لهم من الفشل يوم أحد ، ولذلك افتتح السورة بذكر الكتب الثلاثة ، إذ لو قاموا بحقوقها ما توجه لهم عتاب ، فقال :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ...)

قلت : فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب ؛ لفقدان موجبه ومقتضيه ، فيوقف عليها بالسكون ، كقولهم : واحد ، اثنان. وإنما فتح الميم هنا فى القراءة المشهورة ؛ لإلقاء حركة الهمزة عليها. انظر البيضاوي. قال ابن عباس رضي الله عنه : (الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم ملكه).

قلت : ولعلّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجّه العتاب إليهم ، فالآلاء لمن أسلم من النصارى ، واللطف لمن أسلم من اليهود ، والملك لمن أسلم من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، فقد ملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله : أيها الملك المعظّم ، والرسول المفخم ، بلّغ قومك أن الله واحد فى ملكه ، ليس معه إله ، ولا يحب أن يعبد معه سواه ؛ إذ لا يستحق أن يعبد إلا الحي القيوم ، الذي تعجز عن إدراكه العقول ومدارك الفهوم ، قائم بأمر عباده ، متصرف فيهم ، على وفق مراده ، فأعذر إليهم على ألسنة المرسلين ، وأنزل عليهم الكتب بيانا للمسترشدين ، فنزّل (عَلَيْكَ الْكِتابَ) منجّما فى عشرين سنة ، متلبسا (بِالْحَقِ) ، حتى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، أو متلبسا بالحجج التي تدفع كل باطل ، أو بالعدل حتى ينتفى به جور كل مائل ، (مُصَدِّقاً) لما تقدم قبله من الكتب الإلهية ؛ إذ هو موافق لما فيها من القصص والأخبار ، فكان شاهدا عليها بالصحة والإبرار.

٣٢١

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) من قبله هاديا لمن كلف باتباعها من الأنام ، أو للجميع ، إذا كان شرع من قبلنا شرعا لنا ـ معشر أهل الإسلام ـ ، ثم ختم الوحى بإنزال (الْفُرْقانَ) ، وكلف بالإيمان به الإنس والجان ، فرّق به بين الحق والباطل ، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل ؛ وقدّم ذكره على الكتب ؛ لعظم شرفه ، وختم به آخرا لتأخر نزوله. والله تعالى أعلم.

الإشارة : لمّا أراد الحق جل جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات ، قدّم قبل ذلك رموزا وإشارات ، لا يفهمها إلا من غاص فى قاموس بحر الذات ، وغرق فى تيار الصفات ، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم ، ما تحار فيه الأذهان ، وتكلّ عنه عبارة اللسان ، فحينئذ يفهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات ، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات ، ويفهم أسرار الكتب السماوية ، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية ، والمواهب الربانية ، ويشرق فى قلبه أنوار الفرقان ، حتى يرتقى إلى تحقيق أهل الشهود والعيان. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.

ثم هدد من كفر بالفرقان ، بعد وضوح سواطع البرهان ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤))

قلت : الانتقام والنقمة : عقوبة المجرم. وفعله : نقم ؛ بكسر القاف وفتحها.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه ، أو الآيات الدالة على وحدانيته ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد ، فينتقم الله فيه من المجرمين ، ويتعطف على عباده المؤمنين ، فإن (اللهُ عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، (ذُو انْتِقامٍ) كبير ولطف كثير. لطف الله بنا وبجميع المسلمين. آمين.

الإشارة : ظهور أولياء الله لطف من آيات الله ، فمن كفر بهم حرم بركتهم ، وبقي فى عذاب الحجاب وسوء الحساب ، تظهر عليه النقمة والمحنة ، حين يرفع الله المقربين فى أعلى عليين ، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين ، (ذلك يوم التغابن). والله تعالى أعلم.

ولمّا وصف الحق جلّ جلاله نفسه بالوحدانية والحياة والقيومية المقتضية للغنى المطلق ، وصف نفسه أيضا بالعلم المحيط والقدرة النافذة ، فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

٣٢٢

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) من أمر خلقه ، إيمانا أو كفرانا ، طاعة أو عصيانا ، أحاط علمه بما فى السموات العلى وما فى الأرضين السفلى ، كليا كان أو جزئيا ، حسيا أو معنويا ، يعلم عدد الحصى والرمال ، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال ، ويعلم حوادث الضمائر ، وهواجس الخواطر ، بعلم قديم أزلى ، وله قدرة نافذة ، وحكمة بالغة ، فبقدرته صوّر النّطف فى الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام ، وأتقنها بحكمته ، وأبرزها إلى ما يسّر لها من رزقه ، سبحانه من مدبر عليم ، عزيز حكيم ، لا يعجزه شىء ، ولا يخرج عن دائرة علمه شىء ، لا موجود سواه ، ولا نعبد إلا إياه ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

الإشارة : من تحقق أن الله واحد فى ملكه ، لا شريك له فى ذاته ولا فى صفاته ولا أفعاله ، وأنه أحاط به علما وسمعا وبصرا ، وأن أمره بين الكاف والنون ، (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) ـ كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما ، وسيده من خيره لا ينساه؟ من دبرك فى ظلمة الأحشاء ، وصوّرك فى الأرحام كيف يشاء ، وآتاك كل ما تسأل وتشاء ، كيف ينساك من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفى ذلك يقول لسان الحقيقة :

تذكّر جميلى فيك إذ كنت نطفة

ولا تنس تصويرى لشخصك فى الحشا

وكن واثقا بي فى أمورك كلّها

سأكفيك منها ما يخاف ويختشى

وسلّم لى الأمر واعلم بأننى

أصرّف أحكامى وأفعل ما أشا

ثم وصف كتابه الفرقان بأنه مشتمل على ما هو محكم واضح البيان ، وعلى ما هو متشابه لا يعلمه إلا الله ، والراسخون من أهل العرفان ، فقال :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

٣٢٣

قلت : (منه) : خبر مقدم ، و (آيات) : مبتدأ ، فيوقف على (الكتاب) ، وقيل : (منه) : نعت لكتاب ، وهو بعيد.

قال ابن السبكى : المحكم : المتضح المعنى ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، وقد يطلع عليه بعض أصفيائه. و (هن أم الكتاب) : جملة ، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات ، وإنما أفرده على تأويل كل واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ : الميل عن الحق. و (الراسخون فى العلم) : معطوف على (الله) ، أو مبتدأ ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ، أو بما دل القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و (إذ هديتنا) : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر ، أي : بعد هدايتك إيانا.

يقول الحق جل جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية ، ولا يخفى عليه شىء فى العالم العلوي والسفلى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) المبين ، فمنه ما هو (آياتٌ مُحْكَماتٌ) واضحات المعنى ، لا اشتباه فيها ولا إجمال ، (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله ، يرد إليها غيرها ، (وَ) منه آيات (أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي : محتملات ، لا يتضح مقصودها ؛ لإجمال أو مخالفة ظاهر ؛ إلا بالفحص وجودة الفكر ، ليظهر فضل العلماء النقاد ، ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينال بها ، وبإتعاب القرائح فى استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات ، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.

قال فى نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين ؛ منه ما طوى علمه إلّا على الخواص ؛ كعلم فواتح السور ، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمن دونهم ، وهو سر القدر ؛ لا يستقيم لهم مع العبودية ، ولو كشف لفسدت العبودية ، فطواه عن الرسل والملائكة ؛ لأنهم فى العبودية ، فإذا زالت العبودية احتملوها ؛ أي : أسرار القدر. ه. ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر ـ لو انكشف لبطلت النبوة ، وللنبوة سر ـ لو انكشف لبطل العلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. ه.

قلت : فتحصّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فمعناه : أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) معناه : أنه يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى وجزالة اللفظ.

ثم إن الناس فى شأن المتشابه على قسمين : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : أي : شك ، أو ميل عن الحق ، كالمبتدعة وأشباههم ، (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) ، فيتعلقون بظاهره ، أو بتأويل باطل ، (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلبا لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس ، ومناقضة المحكم بالمتشابه ، (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.

٣٢٤

روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرأ هذه الآية فقال : «إذا رأيتم الذين يسألون عن المتشابه منه ، ويجادلون فيه ، فهم الذين عنا الله تعالى ، فاحذروهم ، ولا تجالسوهم».

(وما يعلم تأويله) على الحقيقة (إلا الله) تعالى ، وقد يطلع عليه بعض خواص أوليائه ، وهم (الراسخون) أي : الثابتون فى العلم ، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التوحيد الخاص ... فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه ، فلم يبق عندهم متشابه فى الكتاب ولا فى السنة ، حال كونهم (يقولون آمنا به) ، وصدقنا أنه من كلامه ، (كلّ من عند ربنا) ؛ المحكم والمتشابه ، وقد فهمنا مراده فى القسمين ، وهم أولو الألباب ، ولذلك مدحهم فقال : (وما يذكّر إلا أولوا الألباب) أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغبش الحس.

سئل عليه الصلاة والسلام : من الراسخون فى العلم؟ فقال : «من برّ يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ فى العلم». وقال نافع بن يزيد : الراسخون فى العلم : المتواضعون لله ، المتذللون فى طلب مرضات الله ، لا يتعظمون على من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم. ه. وقيل : الراسخ فى العلم : من وجد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه. ه. قلت : ويجمع هذه الأوصاف العارف بالله ، فهو الراسخ فى العلم كما تقدم.

ويقولون أيضا فى تضرعهم إلى الله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى ، (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى طريق الوصول إلى حضرتك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) تجمع قلوبنا بك ، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) الجزاء الذي (لا رَيْبَ فِيهِ) ، فاجمعنا مع المقربين ؛ إنك (لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، فأنجز لنا ما وعدتنا فى ذلك اليوم. وخلف الوعد فى حقه تعالى محال. أما الوعد بالخير فلا إشكال ، وأما الوعيد بالشر ، فإن كان فى معيّن فلا يخلفه ، وإن كان فى الجملة فيخلفه بالعفو. والله تعالى أعلم.

وقال فى النوادر أيضا : لمّا ردّ الراسخون فى العلم علم المتشابه إلى عالمه ، حيث قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، خافوا شره النفوس لطلبها ؛ فإنّ العلم لذيذ ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب ، ففزعوا إلى ربهم فقالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ...) الآية. سكنوا نفوسهم لمجىء ذلك اليوم الذي تبطن فيه الحكمة ، وتظهر فيه القدرة. ه. بالمعنى.

الإشارة : إذا صفت القلوب ، وسكنت فى حضرة علام الغيوب ، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، فمنها ما تكون محكمات المبنى ، واضحات المعنى ، ومنها ما تكون مجملة فى حال ورودها ،

٣٢٥

وبعد الوعى يكون البيان ، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). وقد تكون خارجة عن مدارك العقول. فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتبعون المتشابه من تلك الواردات ، ابتغاء فتنة العامة ، وصرفهم عن طريق الخاصة ، وابتغاء تأويله ، ليقيم عليه حجة الشريعة ، (وما يعلم تأويله إلا الله) ، أو من تحقق فناؤه فى الله ، وهم الراسخون فى معرفة الله ، يقولون : (آمنا به كل من عند ربنا) ؛ إذ القلوب المطهرة من الهوى لا تنطق عن الهوى ، وهم أرباب القلوب يقولون : (ربنا لا تزغ قلوبنا) عن حضرة قدسك (بعد إذ هديتنا) إلى الوصول إليها ، (وهب لنا من لدنك رحمة) تعصمنا من النظر إلى سواك ، (إنك أنت الوهاب)

ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب فى الوصول إليه ، وهو يوم اللقاء ، (إنك لا تخلف الميعاد) فاجمع بيننا وبينك ، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك ؛ (إنك على كل شىء قدير).

ثم هدد أهل الزيغ والفساد ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

قلت : (الوقود) بالفتح : الحطب ، وبالضم : المصدر ، (كذأب آل فرعون) خبر ، أي : دأبهم كدأب آل فرعون. والدأب : مصدر دأب ، إذا دام ، ثم نقل إلى الشأن والعادة ، و (كذبوا) : حال بإضمار «قد» ، أو مستأنف ، تفسير حالهم ، أو خبر ؛ إن ابتدأت بالذين من قبلهم.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما أنزلته ، على نبينا محمد ـ عليه الصلاة السلام ـ ، إذا عاينوا العذاب (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) ، أي : بدلا من رحمته أو طاعته ، أو بدلا من عذابه ، (شَيْئاً) ، وأولئك هم حطب جهنم ، فشأنهم كشأن (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، قد (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي : أهلكهم ، وشدد العقوبة عليهم ، (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن أعرض عنه وركن إلى غيره.

الإشارة : كل من جحد أهل الخصوصية ، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية ، حتى حصل له الطرد والبعاد ، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد ، لن تغنى عنه ـ بدلا مما فاته ـ أموال ولا أولاد ، واتصلت به الأحزان والأنكاد ؛ كما قال الشاعر :

من فاته منك وصل حظّه الندم

ومن تكن همّه تسمو به الهمم

٣٢٦

وقال آخر :

من فاته طلب الوصول ونيله

منه ، فقل : ما الذي هو يطلب!

حسب المحبّ فناؤه عما سوى

محبوبه إن حاضر ومغيّب

وقال آخر :

لكلّ شىء إذا فارقته عوض

وليس لله إن فارقت من عوض

وفى الحكم : «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضى دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحولا». فكل من وقف مع شىء من السّوى ، وفاته التوجه إلى معرفة المولى ، فهو فى نار القطيعة والهوى ، مع النفوس الفرعونية ، وأهل الهمم الدنية. نسأل الله تعالى العافية.

ثم بدأ بعتاب اليهود ، بعد أن قرر شأن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من المحكم والمتشابه ، توطئة للكلام معهم ، فقال :

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

قلت : لمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة بدر غالبا منصورا بالغنائم والأسارى ، جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع ، وقال لهم : يا معشر اليهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فإنكم تعلمون أنى رسول الله حقا ، واحذروا أن ينزل الله بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر ، فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنّك لا أنك لقيت أغمارا لا علم لهم بالحرب ، لئن قاتلتنا لتعلمنّ أنّا نحن الناس. فأنزل الله فيهم هذه الآية.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من بنى إسرائيل ، أو مطلقا : (سَتُغْلَبُونَ) إن قاتلتم المسلمين ، (وَتُحْشَرُونَ) بعد الموت والهزيمة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ما مهدتم لأنفسكم من العذاب ، وقد صدق وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بنى النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم. فقد غلبوا أينما ثقفوا ، وحشروا إلى جهنم ، إلا من أسلم منهم.

ثم ندبهم للاعتبار بما وقع من النصر للمسلمين يوم بدر فقال لهم : (قَدْ كانَ لَكُمْ) يا معشر اليهود ، (آيَةٌ) أي : عبرة ظاهرة ، ودلالة على صدق ما أقول لكم : إنكم ستغلبون ، (فِي فِئَتَيْنِ) أي : جماعتين (الْتَقَتا) يوم بدر ، وهم

٣٢٧

المسلمون ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر ، والمشركون كانوا زهاء ألف ، (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم المؤمنون ، (وَأُخْرى كافِرَةٌ) ، وهم المشركون ، (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي : ترون ، يا معشر اليهود ، الكفار مثلى عدد المسلمين رأى تحقيق ، ومع ذلك أيدهم الله بالنصر والمدد حتى نصرهم على عدوهم ، وكذلك يفعل بهم معكم.

والرؤية ، على هذا ، علمية. ومن قرأ (بالياء) يكون الضمير راجعا للكفار ، أي : يرى الكفار المسلمين مثليهم ، وذلك بعد أن قللهم الله فى أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، وتوجهوا إليهم ، فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا ، مددا من الله للمؤمنين.

أو : يرى المؤمنون المشركين مثلى المؤمنين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ، ليثبتوا لهم ، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله بقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...) الآية. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أي : يقوى (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) نصره ، كما أيد أهل بدر ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) المفتوحة. وذلك حين نصر الله قوما لا عدد لهم ولا عدة ، على قوم لهم عدد وعدة ، فلم تغن عنهم من الله شيئا.

الإشارة : إذا توجه القلب إلى مولاه تعرض له جندان ، أحدهما : جند الأنوار ، وهو جند القلب ، والثاني : جند الأغيار ، وهو جند النفس ، فيلتحم بينهما القتال ، فجند الأنوار يريد أن يرتقى بالروح إلى وطنها ؛ وهو حضرة الأسرار ، وجند الأغيار يريد أن يهبط بالنفس إلى أرض الحظوظ والشهوات ، فيحبسها فى سجن الأكوان ، فإذا أراد الله تعالى سعادة عبد ، قوى له جند الأنوار ، وضعّف عنه جند الأغيار ، فينهزم عنه جند الأغيار ، ويستولى على قلبه جند الأنوار ، فلا تزال الأنوار تتوارد عليه حتى تشرق عليه أنوار المواجهة ، فيدخل حضرة الأسرار ، وهى حضرة الشهود ، ويتحصن فى جوار الملك الودود ، وتناديه ألسنة الهواتف : أيها العارف ، قل للذين كفروا ، وهم جند الأغيار : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. وإذا أراد الله خذلان عبده ، بعدله ، قطع عنه مدد الأنوار ، وقوى لديه جند الأغيار ، فتستولى ظلمة النفس على نور القلب ، فتحبسه فى سجن الأكوان ، وتسجنه فى ظلمة هيكل الإنسان ، (والله يويد بنصره من يشاء). ففى التقاء جندى الأنوار والأغيار عبرة لأولى الأبصار.

ثم بيّن الحق تعالى مدد جند الأغيار ، والذي منع الأبصار من الاعتبار ، فقال :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

٣٢٨

قلت : (زين) : بحذف الفاعل ، وهو الله ، حقيقة ؛ إذ لا فاعل سواه ، أو الشيطان ، شريعة ؛ إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار. والقنطار : المال الكثير ، وقيل : مائة ألف دينار ، وقيل : ملء مسك الثور. وروى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «القنطار : ألف دينار» ، وفى رواية : «ألفا دينار» ، وفى عرفنا اليوم : ألف مثقال.

والمقنطرة : المنضدة بعضها فوق بعض ، وسمى الذهب ذهبا ؛ لذهابه وفنائه ، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب ، وسميت الفضة فضة ؛ لأنها تنفض أي : تنفرق ، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها. والمسوّمة : المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان.

يقول الحق جل جلاله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) والركون إلى المألوفات ، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، وذلك لمن وقف مع متعتها ، وغرته شهوة لذتها ، وأما من ذكرته نعيم الجنان ، وأعانته على طاعة الملك الديان ، فلم يقف مع متعتها ، ولا التفت إلى عاجل شهوتها ، بل نزل إليها بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين ، فلا يشمله تحذير الآية ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث ...» الحديث.

وقال بعض الأولياء : [كل شهوة تحجب القلب عن الله ، إلا شهوة الجماع] يعنى الحلال ، وقال الورتجبي : ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات ، من الكاذب بالشروع فى طلبها ، قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق ، ومن استصغرها وأعرض عنها ، عوض عليها‌السلامة منها ، وفتح له الطريق إلى الحقائق. ه.

ثم بدأ برأس الشهوات فقال : (مِنَ النِّساءِ) وذلك لمن شغف بهن فصرف عن ذكر الله ، أو تناولهن على وجه الحرام. وفى الخبر عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما تركت فى الناس بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء». وفى خبر آخر : «النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس». ومن ثمّ جعلن فى القرآن عين الشهوات ، قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ).

وقال بعض العارفين : ما أي الشيطان من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء. وقال على رضى الله عنه : أيها الناس ، لا تطيعوا للنساء أمرا ، ولا تدعوهنّ يدبرن أمر عيش ، فإنهن إن تركن وما يردن أفسدن الملك ، وعصين المالك ، وجدناهن لا دين لهن فى خلواتهن ، ولا ورع لهن عند شهواتهن ، اللذة بهن يسيرة ، والحيرة بهن كثيرة ، فأما صوالحهن ففاجرات ، وأما طوالحهن فعاهرات ـ أي : زانيات ـ ، وأما المعصومات فهن المعدومات ، يتظلمن وهن

٣٢٩

الظالمات ، ويتمنعن وهن الراغبات ، ويحلفن وهن الكاذبات ، فاستعيذوا بالله من شرارهن ، وكونوا على وجل من خيارهن ، والسلام. ه. (١)

(وَالْبَنِينَ) : قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنهم لثمرة القلوب ، وقرّة الأعين ، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة». (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) : أي : المجموعة المنضدة ، (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي : المعلمة : وهى البلق ، أو غيرها ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم». وعن أنس قال : (لم يكن شىء أحب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد النساء ، من الخيل). وعن أبى وهب الجشمي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارتبطوا الخيل ، وامسحوا بنواصيها ، وقلّدوها ، ولا تقلدوها الأوتار ، وعليكم بكل كميت (٢) أغر محجّل ، أو أشقر أغر محجل ، أو أدهم أغر محجّل». وعن خباب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان ، فأما فرس الرحمن فما اتخذ لله فى سبيل الله ، وقوتل عليه أعداء الله ، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه ـ أي : ركب عليه فى طريق حوائجه ، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه ، وقومر عليه». وفى البخاري ما يشهد لهذا.

ومما زين للناس أيضا : حب (الْأَنْعامِ) ، وهى الإبل والبقر والغنم ، إن شغلته عن ذكر الله ، ومنع منها حق الله ، (وَالْحَرْثِ) أي : الزراعة والغراسة ، (ذلِكَ) الذي ذكرت (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية الزائلة ، (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، أي : المرجع فى دار البقاء التي لا يفنى نعيمها ، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد.

الإشارة : كل ما يقطع القلب عن الشهود ، أو يفتّره عن السير إلى الملك المعبود ، فهو شهوة ، كائنا ما كان ، أغيارا أو أنوارا ، أو علوما أو أحوالا ، أو غير ذلك ، فالنساء الأغيار ، والبنون الأنوار ، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة ، والفضة علوم الشريعة ، والخيل المسومة هى الأحوال ، والأنعام الأذكار ، والحرث استعمال الفكرة. فكل من وقف مع حلاوة شىء من هذا ، ولم يفض إلى راحة الشهود والعيان ، فهى فى حقه شهوة.

وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعا من الشهوات ، زهّد فيها فقال : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه : وسم الله الدنيا بالوحشة ؛ ليكون أنس المريد بربه دونها ، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها ، وأهل المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون ، وإلى الله مشتاقون. ه.

__________________

(١) هذا الكلام مشكوك فى نسبته لسيدنا «على» كرم الله وجهه. ومن يستطلع تاريخ السلف الصالح يقف على أمثلة كثيرة وعديدة لنساء صالحات تفوقن على كثير من الرجال فى الصلاح.

(٢) الكميت : مالونه بين السواد والحمرة.

٣٣٠

وقد تعوذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شر فتنتها ، غناها وفقرها. وأكثر القرآن مشتمل على ذمها ، وتحذير الخلق منها ، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها ، ورغّب فى الآخرة ، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع ، وكيف لا ـ وهى عدوة الله ؛ لقطعها طريق الوصلة إليه ، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه ؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر فى مقاطعتها ، وعدوة لأعدائه ؛ لأنها استدرجتهم بمكرها ، واقتنصتهم بشبكتها ، فوثقوا بها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. كفانا الله شرها بمنّه وكرمه.

ثم نبه الحق تعالى على ما هو المقصود الأهم لمن له عقل وافر ، فقال :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

قلت : (للذين) : خبر ، و (جنات) : مبتدأ ، وهو استئناف لبيان الخيرية ، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر ، كالعدوان والطغيان ، و (الذين يقولون) : بدل من (الذين اتقوا) ، أو خبر عن مضمر ، أو منصوب على المدح ، أو بدل من العباد ، و (الصابرين) وما بعده : نعت الموصول.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد : أأخبركم (بِخَيْرٍ) من الذي ذكرت لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة ، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم ، وهو (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ) تحت قصورها الأنهار ؛ من الماء واللبن والعسل والخمر ، (خالِدِينَ فِيها) ، لا كنعيم الدنيا الفاني ، ولهم فيها (أَزْواجٌ) من الحور العين ، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات ، (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) الذي هو (أكبر) النعم.

فانظر : كيف ذكر الحق ـ جل جلاله ـ أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه : متاع الدنيا الذي زين للناس ، وأوسطه : نعيم الجنان ، وأعلاه : رضى الرحمن. وفى الحديث الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى لأهل الجنّة : يا أهل الجنّة ، فيقول أهل الجنّة : لبّيك ربّنا وسعديك ، والخير فى يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربنا ، وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا».

٣٣١

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ؛ لا يخفى عليه شىء من أعمالهم ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء ، أو : (بصير) بأحوال المتقين.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ). وفى ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف فى استحقاق المغفرة والاستعداد لها.

ثم وصف المتقين بقوله : (الصَّابِرِينَ) على أداء الأمر واجتناب النهى ، وفى البأساء والضراء وحين البأس ، (وَالصَّادِقِينَ) فى أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فاستوى سرهم وعلانيتهم ، (وَالْقانِتِينَ) أي : المطيعين ، (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم فى سبيل الله ، (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) ؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة ؛ لأن العبادة حينئذ أشق ، والنفس أصفى ، والروح أجمع ، ولا سيما للمتهجدين.

قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ، ثم يستغفرون ويدعون ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (إن الله تعالى يقول : إنى لأهمّ بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمّار بيوتى ، وإلى المتهجدين ، وإلى المتحابين فىّ ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت عنهم العذاب).

وقال سفيان : إن لله ريحا يقال لها الصيحة ، تهبّ وقت السحر ، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. قال : وبلغنا أنه إذا كان أول الليل ، نادى مناد : ألا ليقم القانتون ، فيقومون يصلون إلى السحر ، فإذا كان وقت السحر ، ينادى مناد : أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك ، ويقوم آخرون ، ويصلون ، فيلحقون بهم ، فإذا طلع الفجر ، نادى مناد : ألا ليقم الغافلون ، فيقومون من فرشهم كالموتى إذا نشروا من قبورهم.

الإشارة : للذين اتقوا شهود السّوى عند ربهم جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، وأصناف الحكم ، مطهرة من العلل ، منزهة من الخلل ، تهب عليهم نسيم الرضوان ، تحمل الرّوح والريحان ، مخلدون فى نعيم الشهود والعيان ، والله بصير بعباده المخلصين ، المنزّهين من العيوب ، المبرّئين من درن الذنوب ، الصابرين على دوام المجاهدة ، والصادقين فى طلب المشاهدة ، والقانتين لأحكام العبودية ، والمنفقين أنفسهم ومهجهم فى طلب مشاهدة أنوار الربوبية ، والمستغفرين من شهود الأغيار ، وخصوصا إذا هب نسيم الأسحار ، فإن كثيرا من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار ، وهى أسرار التوحيد التي أشار إليها بقوله :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ)

٣٣٢

قلت : (قائما) : حال من (الله) ، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس ، كقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ...) ، ولا يجوز : جاء زيد وعمرو راكبا ؛ لعدم القرينة ، أو من (هو) ، والعامل الجملة ؛ لأنه حال مؤكدة ، أي : تفرد قائما ، أو حقه قائما ، (بالقسط) أي : العدل ، و (إن الدين) : جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من (أنه) ، بدل الكل ، إن فسر الإسلام بالإيمان ، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة.

يقول الحق جل جلاله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : بيّن وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها ، وإنزال الآيات الناطقة بها ، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة ، وفى ذلك يقول القائل :

يا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد؟!

ولله فى كل تحريكة

وتسكينة أبدا شاهد

وفى كلّ شىء له آية

تدلّ على أنّه واحد (١)

وقيل لبعض العرب : ما الدليل على أن للعالم صانعا؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوى بهذه اللطافة ، ومركز سفلى بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير؟!

(وَ) شهدت (الْمَلائِكَةُ) أيضا بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها ، (وَأُولُوا الْعِلْمِ) وهم : الأنبياء والعلماء بالله ، بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك فى البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم ، حيث قرن شهادتهم بشهادته ؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى ، والعلماء أعلام الإسلام ، والسابقون إلى دار السلام ، وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة.

وعن جابر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ساعة من عالم يتّكىء على فراشه ، ينظر فى علمه ، خير من عبادة العابد سبعين عاما». وعن معاذ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية ، ومدارسته تسبيح ، والبحث فيه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وتذكّره فى أهله قربة». ثم قال فى آخر الحديث فى فضل أهل العلم : «وترغب الملائكة فى خلّتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفى صلاتها تستغفر لهم ، وكلّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامّه ، وسباع الأرضين وأنعامها ، والسماء ونجومها ، ألا وإن العلم حياة القلوب من العمى ، ونور الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك ، والفكر فيه يعدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، وبه توصل الأرحام ، العلم إمام والعمل تابعه ، يلهمه السعداء ، ويحرمه الأشقياء».

__________________

(١) الأبيات لأبى العتاهية ، انظر ديوانه ١٢٢. وذكرها الأصبهانى فى محاضرات الأدباء ٣ / ٣٩٨ منسوبة للبيد.

٣٣٣

حال كون الحق تعالى (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : مدبّرا لأمر خلقه بالعدل ، فيما حكم وأبرم ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، كرر الشهادة للتأكيد ، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد ، والحكم به ، بعد إقامته الدليل. عليه وقال جعفر الصادق : (الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم). أي : قولوا : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أو ليرتب عليه قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدّم «العزيز» ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) أي : إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به. وروى عن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ هذه الآية عند منامه خلق الله تعالى سبعين ألف خلق يستغفرون الله له إلى يوم القيامة» (١). وهى أعظم شهادة فى كتاب الله ، «من قرأها إلى (الحكيم) وقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهى لى عند الله وديعة ، يقول الحق تعالى : إن لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحقّ من وفّى بالعهد ، أدخلوا عبدى الجنة» (٢).

الإشارة : صدر الآية يشير إلى الفرق ، وعجزها يشير إلى الجمع ، كما هى عادته تعالى فى كتابه العزيز ، يشرع أولا ، ويحقّق ثانيا ، فأثبت الحق ـ جل جلاله ـ شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته ؛ لإثبات سر الشريعة ، ثم محاها بقوله : (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) بحكم الحقيقة. فإثبات الرسوم شريعة ، ومحوها حقيقة ، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب ، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب ، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان ، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان. إثبات الرسوم إسلام وإيمان ، ومحوها شهود وإحسان ، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج (٣) ، لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) أي ، الانقياد والإذعان ، ظاهرا وباطنا ، لأحكام القهرية والتكليفية ، فمن لا انقياد له لا دين له كاملا.

ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبرهان ، فقال :

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّـهِ فَإِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩))

__________________

(١) ذكره ابن عراق فى تنزيه الشريعة ١ / ٢٩٨ وعزاه لأبى نعيم ، من حديث أنس. وفيه مجاشع بن عمرو ، قال ابن معين : أحد الكذابين.

(٢) أخرجه الطبراني فى الكبير والبيهقي فى الشعب ، قال فى العلل المتناهية ١ / ١١٠ : هذا حديث لا يصح ، تفرد به عمر بن المختار ، وعمر يحدث بالأباطيل.

(٣) الخداج : هو النقصان. وأصله : من خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه ، لغير تمام الأيام ، وإن كان تام الخلق ، أو ألقته ناقص الخلق ، وإن كانت أيامه تامة ، فهى مخدح والولد مخدج.

٣٣٤

قلت : (بغيا) : مفعول له ، علة للاختلاف.

يقول الحق جل جلاله : (وَمَا اخْتَلَفَ) اليهود والنصارى فى حقيقة الإسلام والتدين به ، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته ، وأن الدين عند الله هو الإسلام ، فجحدوه ظلما وحسدا. أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة فى دين الإسلام ؛ فأثبته قوم ، وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ، ونفاه آخرون مطلقا ، إلا من بعد ما ثبت لهم العلم بصحته وعموم الدعوة له. أو فى التوحيد ؛ فثلث النصارى ، وقالت اليهود : عزيز ابن الله ، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا. وقال الربيع : إن موسى عليه‌السلام لما حضره الموت ، دعا سبعين حبرا من قومه ، فاستودعهم التوراة ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة ، وهم : الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين ، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف.

وذلك من بعد ما جاءهم العلم ، يعنى بيان ما فى التوراة ، (بغيّا بينهم) أي : طلبا للملك والرئاسة والتحاسد ، فسلط عليهم الجبابرة ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) المنزلة على رسوله ، أو الدالة على وحدانيته ، (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ؛ لا يشغله شأن عن شأن ، وفيه تهديد لأهل الاختلاف.

الإشارة : الاختلاف على الصوفية ، والإنكار عليهم ، إن كان بغيا وحسدا وخوفا على زوال رئاسة المنكر ، فهذا معرض لمقت الله ، فقد آذن بحرب الله ، وباله سوء الخاتمة ، والعياذ بالله ، وفى ذلك يقول القائل :

هممهم تقضى بحكم الوقت

منكرهم معرّض للمقت

وإن كان غيرة على الشريعة ، وسدّا لباب الذريعة ، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده ، وهو منخرط فى سلك الضعفاء ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ، ولا ينكر على الفقير إلا المحرّم المجمع على تحريمه ، وليس فيه تأويل ، كالزنى بالمعينة ، واللواط ، وشبهه ، والمؤمن يلتمس المعاذر ، والمنافق يلتمس العيوب ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم بيّن الحق تعالى الدواء فى أذى المنكر ، وهو الإعراض عنه ، فقال :

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

قلت : (ومن اتبعن) ، عطف على فاعل (أسلمت) ؛ الضمير (١).

__________________

(١) أي : التاء في أسلمت.

٣٣٥

يقول الحق جل جلاله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) فى الدين ، وخاصموك فيه ، بعد ما أقيمت الحجج على صحته ، (فَقُلْ) لهم : أما أنا فقد (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ، وانقدت بكليتى إليه ، وتمسكت بدينه القويم ، الذي قامت الحجج على حقيته ، وكذلك من تبعني من المؤمنين. وخص الوجه بالانقياد ؛ لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن ، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى ، (وَالْأُمِّيِّينَ) الذين لا كتاب لهم من المشركين : (أَأَسْلَمْتُمْ) كما أسلمت ، لما وضحت لكم من الحجة؟ أم أنتم على كفركم بغيا وحسدا؟ والاستفهام معناه الأمر ، كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : أسلموا ، (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) وأنقذوا أنفسهم من الهلاك ، (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ، ولا يضرك عنادهم ، فقد بلغت ما أمرت به. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى.

روى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قرأ عليهم هذه الآية ، فقال لليهود : «أتشهدون أن عزيرا عبد الله ورسوله وكلمته؟» فقالوا : معاذ الله ، وقال للنصاوى : «أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟» فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا. فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) الآية.

الإشارة : لا يليق بالفقير ، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار ، إلا السكوت والإقرار ، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار ، إذ لا يرى فاعلا إلا الله ، فلا يركن إلى شىء سواه. وفى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليهم لئلا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء ، حتى لا تكون ساكنا إلى شىء». وقال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، وقد غلط فى هذا خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم ، فطال عليهم الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. ه. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه ، فإن انقادوا لأحكام الحق ، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والهداية بيد السميع البصير.

ثم وبّخ اليهود بما وقع لأسلافهم من البغي والفساد ، وهم راضون بذلك ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

قلت : إنما دخلت الفاء فى خبر إنّ ؛ لتضمن اسمها معنى الشرط ؛ لعموم الموصول وإبهامه ، وهو خاص بإنّ ، دون ليت ولعل ؛ لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء ، وإنما تؤكده. وقيل : الخبر : (أولئك ..) إلخ.

٣٣٦

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : بحججه الدالة على توحيده ، وصحة نبوة رسله ، أو بكلامه ، وهم اليهود ، (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) بل بغيا (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ) بالعدل وترك الظلم من الأحبار ، (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) موجع ، (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : بطلت ، (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلا ينتفعون بها فى الدارين ، (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يمنعونهم من العذاب.

وعن أبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أىّ النّاس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : «رجل قتل نبيا ، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أوّل النّهار فى ساعة ، فقام مائة وعشرون من عبّاد بنى إسرائيل فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوهم جميعا من آخر النّهار من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم فى كتابه ، وأنزل الآية فيهم». ه. من الثعلبي.

الإشارة : ذكر فى الآية الأولى تشجيع المريدين ، وأمرهم بالصبر والتسليم لإذاية المؤذين ، وذكر هنا وبال المؤذين الجاحدين لخصوصية المقربين ، فالأولياء والعلماء ورثة الأنبياء ، فمن آذاهم فله عذاب أليم ، فى الدنيا ؛ بغم الحجاب وسوء المنقلب ، وفى الآخرة ؛ بالبعد عن ساحة المقربين ، وبالسقوط إلى درك الأسفلين ، والله تعالى أعلم.

ومن مساوئ اليهود أيضا إعراضهم عن الحق إذا توجه إليهم ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى ، فقال :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

قلت : التنكير فى (نصيب) ؛ يحتمل التحقير والتعظيم ، والأول أقرب. وجملة : (وهم معرضون) ؛ حال من (فريق) ؛ لتخصيصه بالصفة.

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، أو من تصح منه الرؤية ، (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) وهم : اليهود ، تمسكوا بشىء من التوراة ، ولم يعملوا به كلّه ، كيف (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) القرآن (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته ـ عليه الصلاة والسلام ، فأعرضوا عنه ، أو المراد بكتاب الله : التوراة. قال ابن عباس رضي الله عنه : (دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله تعالى ، فقال نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أىّ دين أنت يا محمّد؟ قال : «على ملّة إبراهيم» قالا : إنّ إبراهيم كان

٣٣٧

يهوديا ، فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهلمّوا إلى التّوراة فهى بيننا وبينكم» فأبيا عليه ، فنزلت الآية). وقيل : نزلت فى الرجم ، على ما يأتى فى العقود.

(ذلِكَ) الإعراض بسبب اغترارهم وتسهيلهم أمر العقاب ، فقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ؛ أربعين يوما ، قدر عبادتهم العجل ، ثم يخلفهم المسلمون ، (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) بزعمهم الفاسد وطمعهم الفارغ.

يقول الحق جل جلاله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ، وهذا تهويل لشأنهم ، واستعظام لما يحيق بهم ، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من خير أو شر ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : لا يبخسون من أعمالهم شيئا ، فلا ينقص من الحسنات ، ولا يزاد على السيئات. وفيه دليل على أن المؤمن لا يخلد فى النار. قال ابن عباس : (أول راية ترفع لأهل الموقف ، ذلك اليوم ، راية اليهود ، فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ، ثم يؤمر بهم إلى النار).

الإشارة : ترى كثيرا ممن ينتسب إلى العلم والدين ينطلق لسانه بدعوى الخصوصية ، وأنه منخرط فى سلك المقربين ، فإذا دعى إلى حق ، أو وقف على عيب من عيوب نفسه ، أعرض وتولى ، وغرته نفسه ، وغلبه الهوى ، فجعل يحتج لنفسه بما عنده من العلم أو الدين ، أو بمن ينتسب إليهم من الصالحين ، فكيف يكون حاله إذا أقبل على الله بقلب سقيم ، ورأى منازل أهل الصفا ، الذين لقوا الله بقلب سليم ، حين ترفع درجاتهم مع المقربين ، ويبقى هو مع عوام أهل اليمين؟ قال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الآية.

ثم ذكر الحق تعالى نزع ملك أهل الكتاب ، وسلب عزهم ، وانتقاله إلى المسلمين ، فقال :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

قلت : (اللهم) منادى مبنى على الضم ، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق ، وعوضت منها الميم المؤذنة بالجمع ، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فرق (١) ، و (مالك) : نعت لمحل المنادى ؛ لأنه مفعول ، ومنادى ثان عند سيبويه ، لأن الميم عنده تمنع الوصفية.

يقول الحق جل جلاله : (قُلِ) يا محمد فى استنصارك على عدوك : (اللهُمَ) يا (مالِكَ الْمُلْكِ) ؛ ملك الدنيا وملك الآخرة ، (تُؤْتِي الْمُلْكَ) والنصر (مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ، فهب لنا ملك الدارين ،

__________________

(١) هذا توجيه إشارى.

٣٣٨

والنصر على الأعداء فى كل أين ، وأنزع الملك من يد عدونا ، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين. قال قتادة : (ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم فى أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية).

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالإيمان والطاعة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالكفر والمعصية ، أو تعز من تشاء بالمعرفة ، وتذل من تشاء بالفكرة ، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع ، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان ، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله ، فأعطنا من خيرك الجزيل ، وأجرنا من الشر الوبيل ، فالأمور كلها بيدك.

قال البيضاوي : ذكر الخير وحده ؛ لأنه المقضى بالذات ، والشر مقتضى بالعرض ؛ إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا. أو لمراعاة الأدب فى الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه ، إذ روى أنه عليه الصلاة والسلام ـ لمّا خطّ الخندق ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام ، فأخذ المعول منه ، فضرب به ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (١) ، لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم ، فكبر ، وكبّر معه المسلمون ، وقال : أضاءت لى منها قصور الحيرة ، كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية ، فقال : أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : أضاءت لى منها قصور صنعاء ، وأخبرنى جبريل أنّ أمّتى ظاهرة على كلّها ، فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق (٢) فنزلت ، أي : الآية. ونبه على أن الشر أيضا بيده بقوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ه.

ثم استدل على نفوذ قدرته بقوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي : تدخل أحدهما فى الآخر بالتعقيب ، أو بالزيادة أو النقص ، فيولج الليل فى النهار ، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة ، وفى الليل تسع ، ويولج النهار فى الليل ، إذا طال الليل كذلك ، وفيه دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل ، والملك بنزعه. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ؛ كالحيوانات من النّطف ، وبالعكس ، والنباتات من الحبوب ، وبالعكس ، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل ، وبالعكس ، (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من الأقوات والعلوم والأسرار ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، ولا تقدير ولا حصر. اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر ، (إنك على كل شىء قدير).

__________________

(١) اللابة : الحرة ، وهى الحجارة السوداء ، ولابتيها : حرتان تكتنفان المدينة.

(٢) الفرق ـ بفتحتين ـ : الخوف.

٣٣٩

روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا معاذ ، أتحبّ أن يقضى الله عنك دينك؟» قال : نعم يا رسول الله ، قال : «قل» (اللهم مالك الملك) إلى قوله : (بغير حساب) ، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطى منهما ما تشاء ، وتمنع منهما ما تشاء ، اقض عنى دينى ، فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا وفضة لأدّاه الله عنك».

وروى عن على رضي الله عنه أنه قال : الفاتحة ، وآية الكرسي ، و (شهد الله) ، و (قل اللهم مالك الملك ...) إلى (... بغير حساب) ، لمّا أراد الله أن ينزلهن ، تعلقن بالعرش وقلن : تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزوجل : وعزتى وجلالى لا يقرؤكن عبد ، دبر كل صلاة مكتوبة ، إلا أسكنته حظيرة القدس ، على ما كان فيه ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة فى كل يوم سبعين نظرة ، وقضييت له فى كل يوم سبعين حاجة ، وأعززته من كل عدو ، نصرته عليه ...» الحديث (١). انظر الثعلبي.

الإشارة : من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين ، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذله الله فى الدارين ، ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف فى الكون بأسره ، وكان حرا حقيقة ، وفى ذلك يقول الشاعر :

دعونى لملكهم ، فلمّا أجبتهم

قالوا : دعوناك للملك لا للملك

ومن أذلّ نفسه لله فقد أعزه الله ، قال الشاعر :

تذلّلّ لمن تهوى لتكسب عزّة

فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ

إذا كان من تهوى عزيزا ولم تكن

ذليلا له ، فأقر السّلام على الوصل

قال ابن المبارك : (قلت لسفيان الثوري : من الناس؟ قال : الفقهاء ، قلت : فمن الملوك؟ قال : الزهاد ، قلت : فمن الأشراف؟ قال : الأتقياء ، قلت فمن الغوغاء؟ قال : الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس ، قلت : أخبرنى ما السفلة؟ قال : الظلمة.) وقال الشبلي : (الملك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين). وقال الوراق : (تعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى ، وتذل من تشاء باتباع الهوى). قلت : وفى ذلك يقول البرعى رضي الله عنه :

لا تتبع النّفس فى هواها

إنّ اتّباع الهوى هوان

وقال وهب : «خرج الغنى والعز يجولان ، فلقيا القناعة فاستقرا». وقال عيسى عليه‌السلام لأصحابه : أنتم أغنى من الملوك ، قالوا : يا روح الله ؛ كيف ، ولسنا نملك شيئا؟ قال : أنتم ليس عندكم شىء ولا تريدونها ، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم ه.

__________________

(١) الحديث : أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة. عن سيدنا على مرفوعا وفى سنده الحارث بن عمير البصري. قال ابن حبان : يروى عن الأثبات الموضوعات ، وأورد له الذهبي هذا الحديث على سبيل الإنكار.

٣٤٠