البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٣

منهج التحقيق

(١) اعتمدت فى التحقيق على ثلاث نسخ. وبعد دراستها ، والتزام المقابلة بينها جميعا بكل دقة ، اعتمدت النسخة المحفوظة بمكتبة السيد الفريق / حسن التهامي أصلا ، وذلك للاعتبارين الآتيين :

ـ أنها نسخة المؤلف. ـ أنها أكثر النسخ ضبطا ودقة ووضوحا وتماما.

ومن ثم حررت النص ، بحيث يظهر على صورة مطابقة للنسخة المذكورة.

(٢) تغاضيت عن الإشارة إلى الفروق الموجودة فى النسخ الأخرى ، كالسقط والتصحيف ، وذلك لئلا أثقل الكتاب بكثرة الهوامش التي لا ضرورة لها ، ولئلا يتضخم حجم الكتاب. أما الفروق الجوهرية فأشرت إليها ، وهى قليلة جدا.

(٣) حرصت أشد الحرص على تدبر النص ، مستعينا بأصول المؤلف ومصادره فى تفسيره. ونبهت فى الهامش على ما إذا كان النقل بالمعنى ، أو كان هناك اختلاف فى بعض العبارات.

(٤) راعيت إثبات قراءة حفص فى الهامش ، فى كل موضع جاءت القراءة فيه على غير هذه القراءة ، مع تخريج القراءات من مصادرها.

(٥) بداية من المجلد الثاني خرّجت الآيات القرآنية ، بإرجاعها إلى سورها ، وذكر أرقامها فى تلك السور كما عملت على تخريج ما أومأ إليه المفسر من آيات ، وحرصت على ذكر نص الآيات بالهامش.

(٦) بداية من المجلد الثاني خرّجت الأحاديث النبوية والآثار ، بإرجاعها إلى مصادرها. فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اقتصرت عليه ، وإن كان فى غيرها توسعت فى التخريج قدر الإمكان ، ونبهت إلى النص الأصلى للحديث ، كلما كان إيراده بالمعنى. كما عزوت أسباب النزول إلى مظانها ، من كتب الحديث وكتب التفسير الأخرى ، كالطبرى والبغوي والدر المنثور للسيوطى.

(٧) ضبطت بالشكل ما يشتبه من الألفاظ والأسماء وغيرها.

(٨) شرحت بعض الألفاظ بالرجوع إلى معاجم اللغة المشهورة.

(٩) علّقت باختصار على بعض المسائل التي تحتاج إلى تعليق.

(١٠) وزعت النص توزيعا فنيا ، ييسر الاطلاع عليه والانتفاع منه.

(١١) أثبت فى أعلى كل صفحة اسم السورة ، ورقم الآية ، ورقم الجزء ، تيسيرا للاستفادة ، وتوفيرا للوقت على القارئ ، عند البحث عن تفسير آية معينة.

٤١

ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أذكر : أنه ولا بد وأن يوجد فى هذا العمل بعض النقص والهفوات ، التي يسبق إليها القلم ، أو يذهل عنها الفكر ، والكمال لله وحده.

وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل ، ويجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن يثيبنى عليه بما يثيب به عباده الصالحين ... والحمد لله رب العالمين.

أحمد عبد الله القرشي رسلان

المدرس المساعد بقسم التفسير

بكلية أصول الدين ـ بطنطا جامعة الأزهر

بنها فى ٢٧ ـ رمضان ـ ١٤١٩ ه

٤٢

٤٣

٤٤

٤٥

٤٦

٤٧
٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)

قال الشيخ الإمام الحبر الهمام ، العارف الرباني والقطب الصمداني ، قدوة السالكين ومنار الواصلين ، بحر العرفان ، ومشرق شمس العيان ، مهيع الطريقة ، الجامع بين الشريعة وبحر الحقيقة ، أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى ـ رضى الله عنه وأرضاه ـ آمين :

نحمدك يا من تجلّى لعباده فى كلامه ، بكمال بهائه وجماله ، وفتق ألسنة العلماء النحارير لاستخراج درره ولآلئه ، وفجّر قلوبهم بينابيع الحكم المؤيدة بأصوله ومبانيه ، واستفادوا عند غوصهم فى تياره من فرائده ومثانيه ، فدحضوا بآياته الباهرة ، وحججه الظاهرة القاهرة شبه من يناويه ويعانيه ، والكلّ معترف بالتقصير ، مغترف على حسب الفهم والتيسير ، من بحر أسراره ومعانيه ، فهو البحر الطام الذي لا يدرك له قعر ، والروض المونق الذي لا يعدم منه زهر ولا نور ، وكيف لا ، وهو كلام مولانا العالم بالخفيات ، وبما كان وما هو الآن وما هو آت؟!.

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ، مظهر الرحمات ، المبعوث بخوارق العادات ولوامع البينات ، وعلى آله وأصحابه أولى النّدى والسماحة ، وجبال اليقين فى اشتداد الأزمات وتفاقم المعضلات.

وبعد ... فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم ، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم ، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير ، الذي رسخت أقدامه فى العلوم الظاهرة ، وجالت أفكاره فى معانى القرآن الباهرة ، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر ، عربية وتصريفا ولغة وبيانا ، وفقها وحديثا وتاريخا ، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال ، ثم غاص فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما ، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال ، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم ، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.

واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر ، وباطن لأهل الباطن ، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن ، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم ، ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر ، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة وإشارة دقيقة ، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم ، ولا يبادر بالإنكار ؛ فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول ، ولا يدرك بتواتر النقول.

قال فى لطائف المنن : اعلم أن تفسير هذه الطائفة ـ يعنى الصوفية ـ لكلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه فى حرف اللسان ،

٤٩

وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع». فلا يصدّنك عن تلقى المعاني الغريبة منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله ـ عزوجل ـ وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس بإحالة ، وإنما يكون إحالة لكلام الله لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك. بل يقرّون الظواهر على ظواهرها ومراداتها وموضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما أفهمهم. ه.

وقال سعد الدين فى شرح عقائد النسفي ـ بعد إبطال الإلحاد ـ : (وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان) وقوله : يمكن التطبيق ... إلخ ، أي : يمكن أن يشار إليها فى باطن الخطاب بحيث لا ينبو عنها سرّ الخطاب ، ولا يبعد اللفظ عنها كل البعد حتى يكون تحريفا.

وقال الشيخ زرّوق رضى الله عنه : نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث ، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه. وإلّا فهو باطني خارج عن الشريعة فضلا عن المتصوفة. والله أعلم. ه.

وقوله عليه الصلاة والسلام : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع» فالظاهر لمن اعتنى بظاهر اللفظ ، كالنحاة وأهل اللغة والتصريف ، والباطن لمن اعتنى بمعنى اللفظ ، وما دلّ عليه الكلام من الأمر والنهى والقصص والأخبار والتوحيد ، وغير ذلك من علوم القرآن ، وهو نظر المفسرين. والحدّ لمن اعتنى باستنباط الأحكام منه ، وهم الفقهاء ، فهم ينتهون إلى ما يدل عليه اللفظ وسيق لأجله ، دون زيادة عليه. والمطّلع لأهل الحقائق من أكابر الصوفية ، لأنهم يطلعون من ظاهر الآية إلى باطنها ، فيكشف لهم عن أسرار وعلوم وغوامض ، تتجلى لهم عند استعمال الفكرة فيها.

قال فى الصّحاح : فى الحديث : «من هول المطّلع» ، شبّه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بالمطّلع وهو المأتى.

يقال : أين مطلع هذا الأمر؟ أي : مأتاه ، وهو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار. ه ؛ لأن أهل الحقائق يشرفون من ظاهر الآية إلى أسرار باطنها ، ويغوصون فى لجج بحرها. والله تعالى أعلم.

هذا ... وقد ندبنى شيخى العارف الرباني سيدى محمد البوزيدى الحسنى ، وكذلك شيخه القطب الجامع شيخ المشايخ مولاى العربي الدرقاوى الحسنى ، أن أضع تفسيرا يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر وإشارة أهل الباطن ، فأجبت سؤالهم وأسعفت طلبتهم ، رجاء أن يعمّ به الانتفاع ، ويكون ممتعا للقلوب والأسماع. مقدّما فى كل آية ما يتعلق بمهمّ العربية واللغة ، ثم بمعاني الألفاظ الظاهرة ، ثم بالإشارات الباطنة. متوسطا فى ذلك بين الإطناب

٥٠

والاختصار. منتظرا فى ذلك كله ما يفتح علىّ من خزائن الكريم الغفار .. وسميته (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) نسأل الله أن يكسوه جلباب القبول ، وأن يبلغ فيه القصد المأمول ، إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وقد ذكرت فى تفسير الفاتحة الكبير عشر مقدمات تتعلق بأصول العلوم وتفاريعها ، وعلوم القرآن وأصل منابعها ، فلينظرها من أرادها. وبالله التوفيق.

٥١

سورة الفاتحة

مكية. ولها عشرة أسماء : الفاتحة والوافية والكافية والشافية ، والسبع المثاني ؛ لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة ، وأسقطها مالك وجعل السابعة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الآية ، أو تثنى فى كل صلاة ، أو لاشتمالها على الثناء على الله. وأمّ القرآن ؛ لأنها مفتتحه ومبدؤه ، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتى ، وسورة الحمد والشكر ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة الصلاة لتكريرها فيها ، وأساس القرآن ؛ لأنها أصله ومبدؤه ويبنى سائره عليها.

واتفقت المصاحف على افتتاحها ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واختلف الأئمة فيها ، فقال مالك : ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة ، وقال الشافعي : هى آية من الفاتحة فقط ، وقال ابن عباس : هى آية من كل سورة.

فحجة مالك : ما فى الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت علىّ سورة ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا فى الفرقان مثلها ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين) ولم يذكر البسملة. وكذلك ما ورد فى الصحيح أيضا أن الله يقول : «قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين. يقول العبد : الحمد لله ربّ العالمين» فبدأ بها دون البسملة.

وحجة الشافعي : ما ورد فى الصحيح «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين». وحجة ابن عباس : ثبوت البسملة مع كل سورة فى المصحف ، مع تحرّى الصحابة ألا يدخلوا فى المصحف غير كلام الله ، وقالوا : ما بين الدفّتين كلام الله.

وإذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلا براءة ، وسيأتى الكلام عليها. وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور. وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القرّاء فى البسملة وتركها.

وأما حكمها فى الصلاة ، فقال مالك : مكروهة فى الفرض دون النفل ، وقال الشافعي : فرض تبطل الصلاة بتركها ، فيبسمل ـ عنده ـ جهرا فى الجهر وسرا فى السر ، وعند أبى حنيفة كذلك إلا أنه يسرّها مطلقا ، وحجة مالك أنها ليست بآية : ما فى الحديث الصحيح عن أنس أنه قال : (صلّيت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين) لا يذكرون البسملة أصلا. وحجة الشافعي أنها عنده آية : ما ورد فى الحديث من قراءتها كما تقدم.

٥٢

ولم تكن البسملة قبل الإسلام ، فكانوا يكتبون : باسمك اللهم ، حتى نزلت (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) فكتبوا (بِسْمِ اللهِ) حتى نزل : (... أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) فكتبوا : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ) حتى نزل : (... وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فكتبوها.

وحذفت الألف لكثرة الاستعمال ، والباء متعلقة بمحذوف ، اسم عند البصريين ، أي : ابتدائى كائن بسم الله ، فموضعها رفع. وفعل عند الكوفيين ، أي : أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له ، فموضعها نصب ، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص. وهو مشتق من السّموّ عند البصريين ، فلامه محذوفة ، وعند الكوفيين من السّمة ، أي : العلامة ، ففاؤه محذوفة ، ودليل البصريين : التصغير والتكسير ، فقالوا : أسماء ، ولم يقولوا أوسام ، وقالوا : سمى ، ولم يقولوا : وسيم.

و (الله) علم على الذات الواجبة الوجود ، المستحق لجميع المحامد ، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد لله) ، وكذلك (الرحمن الرحيم).

قال الحق جل جلاله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

قلت : (الحمد) مبتدأ ، و (لله) خبر ، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد الله حمدا ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه ، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي : الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال (أحمد الله) لما أفاد هذا المعنى ، وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس ؛ أي : للحقيقة من حيث هى ، من غير قيد شيوعها ، ومعناه : الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق ؛ إذ الحمد فى الحقيقة كلّه لله ؛ إذ ما من خير إلا وهو موليه بواسطة وبغير واسطة. كما قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقيل : للعهد ، والمعهود حمده تعالى نفسه فى أزله.

وقرئ (الحمد لله) بإتباع الدال للام (١) ، وبالعكس (٢) ، تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.

ومعناه فى اللغة : الثناء بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل ، وفى العرف : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. والشكر فى اللغة : فعل يشعر بتعظيم المنعم ، فهو مرادف للحمد العرفي ، وفى العرف : صرف

__________________

(١) فى الكسر ـ وهى قراءة شاذة.

(٢) أي : اتباع اللام الدال فى الضم ، وهى قراءة شاذة أيضا.

٥٣

العبد جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خلق لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة فى النّسب التي بيناها نظما ونثرا.

و (الله) اسم مرتجل جامد ، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف ، قال الواحدي : اسم تفرّد به الباري ـ سبحانه ـ يجرى فى وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يعرف له اشتقاق ، وقال الأقليشى : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقا كان دليلا على عين الذات ، دون أن ينظر فيها إلى صفة من الصفات ، وليس باسم مشتق من صفة ، كالعالم والحق والخالق والرازق ، فالألف واللام على هذا فى (الله) من نفس الكلمة ، كالزاى من زيد ، وذهب إلى هذا جماعة ، واختاره الغزالي وقال : كل ما قيل فى اشتقاقه فهو تعسّف.

وقيل : مشتق من التّألّه وهو التعبد ، وقيل : من الولهان ، وهو الحيرة ؛ لتحيّر العقول فى شأنه. وقيل : أصله : الإله ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام ، ثم وقع الإدغام وفخمت للتعظيم ، إلا إذا كان قبلها كسر.

و (رب) نعت (لله) ، وهو فى الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل.

وقيل : هو وصف من ربّه يربّه ، وأصله : ربب ثم أدغم ، سمى به المالك ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ). قال ابن جزىّ : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح ، وكلها تصلح فى رب العالمين ، إلا أن الأرجح فى معناه : الإله ؛ لاختصاصه بالله تعالى.

و (العالمين) جمع عالم ، والعالم : اسم لما يعلم به ، كالخاتم لما يختم به ، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته ، تدل على وجوده ، وإنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلّب العقلاء منهم فجمع بالياء والنون كسائر أوصافهم ، فهو جمع ، لا اسم جمع ، خلافا لابن مالك.

وقيل : اسم وضع لذوى العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع ، وقيل : عنى به هذا الناس ، فإن كل واحد منهم عالم ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما فى العالم الكبير ، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

٥٤

قلت : وإليه يشير قول الشاعر :

يا تائها فى مهمه عن سرّه

انظر تجد فيك الوجود بأسره

أنت الكمال طريقة وحقيقة

يا جامعا سرّ الإله بأسره

و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اسمان بنيا للمبالغة ، من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة فى اللغة : رقّة القلب ، وانعطاف يقتضى التفضل والإحسان ، ومنه الرّحم ؛ لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات ، التي هى أفعال ، دون المبادئ التي هى انفعالات. و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم) ؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، كقطّع وقطع ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتباره الكيفية.

فعلى الأول : قيل : يا رحمن الدنيا ؛ لأنه يعمّ المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة ؛ لأنه يختص بالمؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ؛ لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.

وإنما قدّم (الرحمن) ـ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى ـ لتقدّم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره ؛ لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ فى الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره تعالى. انظر البيضاوي. وسيأتى الكلام عليهما فى المعنى.

و (ملك) نعت لما قبله ، قراءة الجماعة بغير ألف من (الملك) بالضم ، وقرأ عاصم والكسائي بالألف ، من (الملك) بالكسر ، والتقدير على هذا : مالك مجئ يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءة الجماعة أرجح ، لثلاثة أوجه : الأول : أن الملك أعظم من مالك ، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما الملك فهو سيد الناس ، والثاني : قوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، والثالث : أنها لا تقتضى حذفا ، والحذف خلاف الأصل (١).

و (يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع ، وأجرى الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية ، أي : الملك فى يوم الدين ، أو ملك الأمر يوم الدين ، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان ـ أي : القصر والمد ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) ينبغى ألا يكون ترجيح فى هذا المجال ، مع ورود القراءتين عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقراءتان ـ كما يقول الآلوسى ـ : فرسا رهان ، ومتى أردت الترجيح تعارضت الأدلة.

٥٥

وقد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل : ملك ومالك نكرة ؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تخصص ، وكيف ينعت به (الرحمن الرحيم) وهما معرفتان؟ قلت : إنما تكون إضافة اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ لأنها حينئذ غير محضة ، وأما هذا فهو مستمر دائما ، فإضافته محضة. قاله ابن جزىّ.

يقول الحق جل جلاله معلّما لعباده كيف يثنون عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادى قولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمد سواه ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ، (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ). أو جميع المحامد كلّها لله ، أو الحمد المعهود فى الأذهان هو حمد الله تعالى نفسه فى أزله ، قبل أن يوجد خلقه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد لله ، أي : احمدونى بذلك الحمد المعهود فى الأزل.

وإنما استحق الحمد وحده لأنه (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وكأن سائلا سأله : لم اختصصت بالحمد؟ فقال : لأنى ربّ العالمين ، أنا أوجدتهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيرى ، فاستحققت الحمد وحدي ، منّى كان الإيجاد وعلىّ توالى الإمداد ، فأنا ربّ العباد ، فالعوالم كلها ـ على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها ـ فى قبضتى وتحت تربيتى ورعايتى.

قال بعضهم : خلق الله ثمانية عشر ألف عالم ، نصفها فى البر ونصفها فى البحر. وقال الفخر الرازي : روى أن بنى آدم عشر الجن ، وبنو آدم والجن عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلّهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكلّ فى مقابلة الكرسي نزر قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السّرادق الواحد من سرادقات العرش ، التي عددها : مائة ألف ، طول كل سرادق وعرضه ـ إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ـ يكون شيئا يسيرا ونزرا قليلا. وما من موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، وله زجل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم فى مقابلة الذين يجولون حول العرش كالقطرة فى البحر ، ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). ه.

وقال وهب بن منبّه : (قوائم العرش ثلاثمائة وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفى كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قدر الثقلين).

فهذه العوالم كلها فى قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه ، يوصل المدد إلى كل واحد وهو فى مستقرّه ومستودعه ، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف ، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح ، من العرش إلى الفرش ،

٥٦

كلها مقدّرة أرزاقها محصورة آجالها ، محفوظة أشباحها ، معلومة أماكنها ، لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم.

ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هى رحمة منه وإحسان ، لا لزوم عليه وإيجاب ، ولذلك وصله بقوله (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، أي : الرحمن بنعمة الإيجاد ، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مكوّن منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولا بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد». كما فى (الحكم) (١). فاسمه (الرحمن) يقتضى إيجاد الأشياء وإبرازها ، واسمه (الرحيم) يقتضى تربيتها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد ، ولم يتسمّ أحد به ؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى ، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى ؛ لمشاركة صدور الإمداد فى الظاهر من بعض المخلوقات مجازا وعارية.

أو : الرحمن فى الدنيا والآخرة ، والرحيم فى الآخرة ؛ لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها ، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ، والمعرفة والهداية ، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب ، ودقائق النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال ، وغير ذلك مما يأتى ذكره فى المنعم عليهم.

ثم من تحقق منه الإيجاد والإمداد استحق أن يكون ملكا لجميع العباد ، ولذلك ذكره بأثره فقال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي : المتصرف فى عباده كيف شاء ، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى ، فهو ملك الملوك رب الأرباب فى هذه الدار وفى تلك الدار. وإنما خصّ يوم الدين ـ وهو يوم الجزاء ـ بالملكية ؛ لأن ذلك اليوم يظهر فيه الملك لله عيانا لجميع الخلق ، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده ، حتى يراه المؤمنون عيانا ، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكملة من المؤمنين ، ولذلك ادّعى كثير من الجهلة الملك ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام ، قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

الإشارة : لما تجلّى الحق سبحانه من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، حمد نفسه بنفسه ، ومجّد نفسه بنفسه ، ووحّد نفسه بنفسه ، ولله درّ الهروىّ ، حيث قال :

ما وحّد الواحد من واحد

إذ كلّ من وحّده جاحد

__________________

(١) لابن عطاء الله السكندرى.

٥٧

توحيد من ينطق عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده

ونعت من ينعته لاحد (١)

فقال فى توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه : (الحمد لله رب العالمين) ، فكأنه يقول فى عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود ، وأنا القائم بكل موجود ، أنا رب الأرباب ، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب ، أنا رب العالمين ، أنا قيوم السموات والأرضين ، بل أنا المتوحد فى وجودى ، والمتجلّى لعبادى بكرمى وجودى ، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتى ، ممحوّة بأحدية ذاتى.

قال رجل بين يدى الجنيد : (الحمد لله) ولم يقل : (رب العالمين) ، فقال له الجنيد : كمّلها يا أخى ، فقال الرجل : وأىّ قدر للعالمين حتى تذكر معه؟! فقال الجنيد : قلها يا أخى ؛ فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم.

يقول سبحانه : يا من هو منى قريب ، تدبر سرّى فإنه غريب ، أنا المحب ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمن ، وأنا الملك الديان ، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد ، والرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد ، وعلىّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الدّيان ، وأنا المجازى بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لو لا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام.

قال فى الرسائل الكبرى (٢) : لا عبرة بظواهر الأشياء ، وإنما العبرة بالسر المكنون ، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غطائه وزوال أستاره وخفائه ، فإذا تحقق ذلك التجلي والظهور ، واستولى على الأشياء الفناء والدّثور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عين اليقين ويحق الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك فى يوم الدين ، حين يكون الملك لله رب العالمين ، وليت شعرى أىّ وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد بقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وقوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)؟! لو لا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. ه.

__________________

(١) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم : أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته ، حيث أشرك معه نفسه ، وكل من ينعته بنفسه فهو لاحد ـ أي : مائل عن الصواب. وهذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات ، وللأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. وانظر أيضا : مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.

(٢) لابن عباد النفزي ، شارح الحكم.

٥٨

ثم تنزل لبيان العبودية ، فقال :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))

قلت : (إياك) مفعول (نعبد) ، وقدّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس : (نعبدك ولا نعبد معك غيرك) ، ولتقديم ما هو مقدّم فى الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه ، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ، ووصلة بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته ومظهر لربوبيته ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و (إياك) مفعول (نستعين) وقدّم أيضا للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم فى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين ؛ لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على الله ، وأقطع فى إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدح ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمى وبك أنال مطالبى ـ أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمى ... إلخ؟.

وقدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي ، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة ، فإن من تلبّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وسعه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته ، فقال : أعطنى ما يعيننى عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضا : من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع والعبادة ، وأيضا : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، دفعا لذلك التوهم.

والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق معبّد ، أي : مذلل ، والاستعانة : طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة فى المهمات كلّها ، أو فى أداء العبادات.

والضمير المستتر فى الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين. أدرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.

٥٩

يقول الحق جل جلاله ، تتميما لتعليم عباده : فإذا أثنيتم على ومجدتمونى وعظمتمونى فأقروا لى بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا منى العون فى كل وقت وقولوا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وكأنه ـ جل جلاله ـ لمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها ؛ لأنه رب العوالم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يعبد سواه ؛ إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ، فهو أحقّ أن يعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مستبد وغير مستمدّ ، والمادة من عين الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.

قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات ، تعلّق العلم بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصّك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقى من الغيبة إلى الشهود ، وكأن المعلوم صار عيانا ، والمعقول مشاهدا ، والغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف ؛ من الذكر والفكر والتأمل فى أسمائه ، والنظر فى آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره ، وهو أن يخوض لجة الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عيانا ويناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن فى الكلام والعدول عن أسلوب إلى آخر ، تطرية وتنشيطا للسامع ، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ ...) ولم يقل (بكم) وقوله (أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ ...) أي : ولم يقل : فساقه .. انظر تمام كلامه.

والالتفات هنا فى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل : إياه نعبد ؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيّن وصار حاضرا.

قال الأقليشى : فهذه الآية هى التي قال فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى : هذه بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل». معناه : أي عبد توجّه إلى بالعبادة وسألنى العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون منى له عليها حاصل حتى يوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من الله تعالى للعبد ، فلهذا قال : «فهذه بينى وبين عبدى».

قال ابن جزي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفى هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية ، وأنّ الحق بين ذلك.

٦٠