البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٣

ولمّا قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله أطلعنى على من يؤمن بي ممن يكفر». قال المنافقون : نحن معه ولا يعرفنا ، فأنزل الله تعالى :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

قلت : ماز يميز ، وميّز يميّز ، بمعنى واحد ، لكن فى ميّز معنى التكثير.

يقول الحق جل جلاله لعامة المؤمنين والمنافقين : (ما كانَ اللهُ) ليترك (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الاختلاط ، ولا يعرف مخلصكم من منافقكم ، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق من المخلص ، بالوحى أو بالتكاليف الشاقة ، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون ، كبذل الأموال والأنفس فى سبيل الله ، ليختبر به بواطنكم ، ويستدل به على عقائدكم ، أو بما ظهر فى غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو النفاق ، (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتى تعرفوا ما فى القلوب من كفر أو إيمان ، أو تعرفوا : هل تغلبون أو تغلبون. (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) لرسالته (مَنْ يَشاءُ) ، فيوحى إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها ، (فَآمِنُوا بِاللهِ) الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي ، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب ، لا يعلمون إلا ما علّمهم.

روى أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا : من يؤمن منا ومن يكفر؟ فنزلت الآية. وقيل : سببها ما تقدم من قول المنافقين ، ووجه المناسبة : هو ما صدر منهم يوم أحد من المقالات التي ميزتهم من المؤمنين. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) إيمانا حقيقيا (وَتَتَّقُوا) النفاق والشرك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) عند الله.

الإشارة : من سنة الله فى المتوجهين إليه إذا كثروا ، وظهرت فيهم دعوى القوة ، أرسل الله عليهم ريح التصفية ، فيثبت الصحيح ، والخاوي تذروه الريح ، وما كان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، أي : من همّته الله ومن همّته سواه ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع ، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال ، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم‌السلام ، وقد يطلع على شىء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام ، فالواجب على المريد أن يؤمن بالقدر المغيب ، ولا يستشرف على الاطلاع عليه ؛ «استشرافك على ما بطن فيك من العيوب ، خير من استشرافك على ما حجب عنك من الغيوب». (وإن تؤمنوا) بمواقع القضاء والقدر ، (وتتقوا) القنوط والكدر ، (فلكم أجر عظيم).

٤٤١

ولمّا كان البخل هو معيار المخلصين من المخلطين ، ذكره بإثر تمييز المؤمنين من المنافقين ، فقال :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

قلت : من قرأ بالخطاب ؛ فالموصول مفعول أول ، و (خيرا) : مفعول ثان ، والضمير للفصل ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : لا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، ومن قرأ بالغيب ؛ ف ـ (الذين) : فاعل ، والمفعول الأول محذوف ، لدلالة (يبخلون) عليه ، لا يحسبن البخلاء بخلهم خيرا لهم ، والطوق : ما يدار بالعنق.

يقول الحق جل جلاله : ولا يظنن (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الأموال ، فلم يؤدوا زكاتها ، أن بخلهم خير لهم ، (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) ؛ لاستجلابه العذاب إليهم ، ثم بيّنه بقوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) أي : يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق ، وقيل : يطوق به حقيقة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة ـ مثّل له شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يطّوقه ، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ أي : شدقيه ـ يقول : أنا كنزك ، أنا مالك ، ثم تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ ...)». وقيل : يجعل يوم القيامة فى أعناقهم طوقا من نار.

والمال الذي بخل به هو لله ، وسيرجع لله ، (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يرث الأرض ومن عليها ، فكيف يبخل العبد بمال الله ، وهو يعلم أنه يرجع لله ، فيموت ويتركه لمن يسعد به! ولله در القائل ، حيث قال :

يا جامع المال كم تضرّ به

تطمع بالله فى الخلود معه

هل حمل المال ميّت معه؟

أما تراه لغيره جمعه؟!

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه منعكم ولا إعطاؤكم ، فيجازى كلّا بعمله.

الإشارة : لا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه ، أن يبذلوها فى طلب معرفة الله ، وبذلها : إسقاطها وإبدالها بالخمول ، والذل لله ، وإسقاط المنزلة بين عباد الله ، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم ، بل هو شر لهم ، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة ، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية فى أعلى عليين ، وهم مع عوام أهل اليمين ، محجوبون عن شهود رب العالمين ، إلا فى وقت مخصوص وحين.

٤٤٢

فمن بخل بماله حشر مع الفجار ، ومن بخل بنفسه وجاهه ، وبذل ماله ، حشر مع الأبرار ، ومن بذلهما معا حشر مع المصطفين الأخيار ، ومنتهى الملك لله الواحد القهار ، وهو الغنى بالإطلاق. فمن وصفه بضد ذلك كان من أهل البعاد والشقاق. وإلى ذلك أشار بقوله :

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣))

قلت : (وقتلهم) : معطوف على (ما) المفعولة أو النائبة عن الفاعل ، على القرائتين رفعا ونصبا ، و (أن الله) : عطف على (ما) أي : ذلك العذاب بسبب ما قدمتم وبأن الله منتف عنه الظلم ، فلا بد أن يعاقب المسيئ ويثيب المحسن ، (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) : صفة للذين (قالوا إن الله فقير) ، أو بدل منه مجرور مثله.

يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ) اليهود (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وقائله : فنحاص بن عازوراء ، فى جماعة منهم ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب مع أبى بكر إلى يهود بنى قينقاع ، يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه مدراسهم (١) ، فوجد خلقا كثيرا اجتمعوا إلى فنحاس ، وهو من علمائهم ـ ومعه حبر آخر اسمه : (أيشع) ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، فأسلم وصدّق ، وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ، فقال فنحاص لعنه الله : يا أبا بكر ؛ تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغنى ، ولو كان غنيا ما استقرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه وقال : لو لا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : عليه الصلاة والسلام : ـ «ما حملك على ما فعلت؟» فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير ، وهم أغنياء ، فجحد ما قال ، فنزلت الآية ؛ تكذيبا له.

__________________

(١) راجع معنى المدراس فى التعليق على تفسير الآية / ١٠٩ من سورة البقرة.

٤٤٣

والمعنى : أن الله سمع مقالتهم الشنيعة ، وأنه سيعاقبهم عليها ، ولذلك قال : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي : سنسطرها عليهم فى صحائف أعمالهم ، أو سنحفظها فى علمنا ولا نهملها ، لأنها كلمة عظيمة ، فيها الكفر بالله والاستهزاء بكتاب الله وتكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء ، حيث عطفه عليه ، وفيه تنبيه على أن قولهم الشنيع ليس هو أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه.

ثم ذكر عقابهم ، فقال : (وَنَقُولُ) لهم يوم القيامة : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : المحرق ، والذوق : يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات ، والمعنويات كما هنا ، وذكره هنا ؛ لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليه ، لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله للخوف من فقده.

(ذلِكَ) العذاب بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قتل الأنبياء ، وقولكم هذا ، وسائر معاصيكم ، وعبّر بالأيدى ؛ لأن غالب الأعمال بهن ، وبأن (اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بل يجازى كلّ عبد بما كسب من خير أو شر ، فأنتم ظلمتم أنفسكم.

ثم إن قوما منهم ، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيى بن أخطب وفنحاص ووهب بن يهوذا ، أتوا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ؛ تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا ، وإن الله قد عهد إلينا فى التوراة ، ألّا نؤمن لرسول يزعم أنه نبى حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك ، فأنزل الله فيهم تكذيبا لهم : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) فى التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) ؛ كصدقة أو نسيكة ، (تَأْكُلُهُ النَّارُ) كما كانت لأنبياء بنى إسرائيل.

وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراما على بنى إسرائيل ، وكانوا إذا قرّبوا قربانا ، أو غنموا غنيمة ، فتقبل منهم ، ولم يغل من الغنيمة ، نزلت نار بيضاء من السماء ، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة ، فيكون ذلك علامة على القبول ، وإذا لم يتقبل بقي على حاله ، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم ، لأن أكل القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، وسائر المعجزات فى ذلك سواء ، فلذلك ردّ عليهم بقوله : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات الواضحات ، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من أكل النار القربان ، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما ، (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة ، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه؟ والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما زالت خواص العامة مولعة بالإنكار على خواص الخاصة ، يسترقون السمع منهم ، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمهم ، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم ، حفظوها ، وحرفوها ، وأذاعوها ، يريدون بذلك إطفاء نورهم ،

٤٤٤

وإظهار عوراهم ، والله حفيظ عليهم ، سيكتب ما قالوا وما قصدوا من الإنكار على أوليائه ، ويقول لهم : ذوقوا عذاب البعد والحجاب. ومما يتشبثون به فى الإنكار عليهم : اقتراحهم الكرامات التي كانت للأولياء قبلهم ، ويقولون : لانصدق بهم حتى يأتوا بما أتى به فلان وفلان ، فقد كان من قبلهم يطعنون فيهم مع ظهور ذلك عليهم ، كما هو سنة الله فيهم. (والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم).

ثم سلّى الحقّ نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله :

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

قلت : (الزبر) : جمع زبور ، بمعنى مزبور ، أي : مكتوب ، من زبرت ، أي : كتبت ، وكل كتاب فهو زبور ، وقال امرؤ القيس :

لمن طلل أبصرته فشجانى

كخطّ زبور فى عسيب يمان

يقول الحق جل جلاله ، فى تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ من تكذيب اليهود وغيرهم له : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فليس ذلك ببدع ؛ (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) مثلك (مِنْ قَبْلِكَ) جاءوا قومهم بالمعجزات البينات ، وبالكتب المنزلات ، فيها مواعظ زاجرات ، (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) المشتمل على الأحكام الشرعيات.

الإشارة : كما كذبت الأنبياء كذبت الأولياء ، بعد أن ظهر عليهم من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة ، وأعظمها المعرفة ، وهذه سنة ماضية ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وعند الله تجتمع الخصوم ؛ فيظهر المحق من المبطل ، وتوفى كل نفس ما أسلفت ، وتعلم علم يقين ما أظهرت وأضمرت ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

قلت : (زحزح) : بوعد ، والزحزحة : الجذب والإخراج بعجلة.

يقول الحق جل جلاله : كل نفس منفوسة لا بد أن تذوق حرارة الموت ، وتسقى كأس المنون ، وإنما توفون جزاء أعمالكم يوم القيامة ، يوم قيامكم من القبور ، خيرا كان أو شرا.

٤٤٥

قال البيضاوي : ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ، أي : توفية بعض الأجور ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار» ، (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي : بوعد (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنجاة ونيل المراد ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ؛ فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتى إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) وزخارفها ولذاتها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ؛ فإن الغار ـ وهو المدلّس ـ يظهر ما هو حسن من متاعه ، ويخفى ما هو معيب ، كذلك الدنيا تبتهج لطالبها ، وتظهر له حلاوتها وشهواتها ، حتى تشغله عن ذكر الله وعن طاعته ، فيؤثرها على آخرته ، ثم يتركها أحوج ما يكون إليها ، فينقلب نادما متحسرا ، وفى ذلك يقول الشاعر :

ومن يحمد الدنيا لشىء يسره

فسوف للعسر عن قريب يلومها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة

وإن أقبلت كانت كثيرا همومها

الإشارة : النفس ، من حيث هى ، كلها تقبل الموت لمن قتلها وجاهدها ، وإنما وقع التفريط من أربابها ، فمن زحزها عن نار الشهوات ، وقتلها بسيوف المخالفات ، حتى أدخلها جنات الحضرات ، فقد فاز فوزا عظيما ، وربح ربحا كريما. وبالله التوفيق.

ثم أمر بالصبر على فقد الأموال والإخوان ، وعلى أذى اليهود والمشركين ، فقال تعالى :

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

قلت : أصل (تبلونّ) : تبلوون كتنصرون ، ثم قلبت الواو ألفا ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، فصار تبلونن ، ثم أكد بالنون ، فاجتمع ثلاث نونات ، حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان ؛ الواو ونون التوكيد ، فحركت الواو بالضمة المجانسة ، وهى النائبة عن الفاعل.

يقول الحق جل جلاله : والله (لَتُبْلَوُنَ) أي : لتختبرن (فِي أَمْوالِكُمْ) ؛ بما يصيبها من الآفات ، وما كلفتم به من النفقات ، (وَأَنْفُسِكُمْ) ؛ بالقتل والجراحات ، والأسر والأمراض وسائر العاهات. (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

٤٤٦

الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ اليهود (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ؛ كفار مكة ، (أَذىً كَثِيراً) كقولهم : إن الله فقير ، وهجاء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والطعن فى الدين ، وإغراء الكفرة على المسلمين ، أو غير ذلك من الأذى. أعلمهم بذلك قبل وقوعه ، ليتأهبوا للصبر والاحتمال ، حتى لا يروعهم نزولها حين الإنزال. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك ، (وَتَتَّقُوا) الله فيما أمركم به ، (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله على فعلها ، وأوجبه على عباده. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من دخل فى طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول ، لا بد أن يبتلى ويختبر فى ماله ونفسه ، ليظهر صدقه فى طلبه ، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيرا ، فإن صبر ظفر ، وإن رجع خسر ، وهذه سنة الله فى عباده : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ، قال الورتجبي : (لتبلون فى أموالكم) ؛ بجمعها ومنعها والتقصير فى حقوق الله فيها ، (وأنفسكم) ؛ باتباع شهواتها ، وترك رياضتها ، وملازمتها أسباب الدنيا ، وخلوها من النظر فى أمر الميعاد ، وقيل : (لتبلون فى أموالكم) ؛ بالاشتغال بها أخذا وإعطاء. ه.

ثم عاتب الحقّ تعالى اليهود ، ووبّخهم على كتمان الحق وإظهار الباطل ، فقال :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

قلت : الضمير فى (نبذوه) : يعود على الكتاب ، أو الميثاق.

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم اليهود ، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما فى كتابهم من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يكتمونه ، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ؛ فكتموا صفته ـ عليه الصلاة والسلام ـ خوفا من زوال رئاستهم ، (وَاشْتَرَوْا) بذلك العهد ، أي : استبدلوا به (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا ، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، وهى تجر ذيلها على من كتم علما سئل عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار». وعن على رضي الله عنه : (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا). وقال محمد بن كعب : (لا يحل للعالم أن يسكت على علمه ، ولا الجاهل أن يسكت على جهله).

٤٤٧

الإشارة : أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولى ، وكتموا ذلك حسدا وخوفا على زوال رئاستهم ، دخلوا فى وعيد الآية ؛ لأنّ العوام تابعون لهم ، فإذا كتموا أو أنكروا تبعوهم على ذلك ، فيحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، والله تعالى أعلم.

ولما سأل ـ عليه الصلاة والسلام ـ اليهود عن شىء فى التوراة ، وكتموه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أنهم أخبروه عما سألهم ، واستحمدوا إليه ففرحوا ، أنزل الله فيهم :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

قلت : من قرأ بالخطاب ، فالذين : مفعول أول ، والثاني : محذوف ، أي : بمفازة من العذاب ، أو هو المذكور ، و (تحسبنهم) : تأكيد للفعل الأول ، ومن قرأ بالغيب ؛ فالذين : فاعل ، والمفعولان : محذوفان ، دلّ عليهما ذكرهما مع الثاني ، أي : لا يحسبوا أنفسهم فائزة. (فلا تحسبنهم) : من قرأ بفتح التاء ؛ فالخطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والفعل مبنى ، ومن قرأ بالياء ؛ فالخطاب للذين يفرحون ، والفعل معرب ، أي : لا يحسبوا أنفسهم بمفازة من العذاب.

يقول الحق جل جلاله : (لا تَحْسَبَنَ) يا محمد (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ، (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الوفاء بالعهد ، وإظهار الحق ، والإخبار بالصدق ، أنهم فائزون من العذاب ، فلا تظنهم (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) ، بل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ إن شاء عذب وإن شاء رحم ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه من ذلك شىء ، أو : لا يظن الذين يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب.

وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه : (أنها نزلت فى المنافقين ، كانوا إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) تخلّفوا ، وإذا قدم اعتذروا ، فإذا قبل عذرهم فرحوا ، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا). وما تقدم فى التوطئة هو عن ابن عباس. وقال

__________________

(١) أي : إلى الغزو.

٤٤٨

ابن حجر : ولا مانع من أن تتناول الآية كلّ من أتى بحسنة وفرح بها فرح إعجاب ، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : لا يظن أهل الفرق الذين يسندون الأفعال إلى أنفسهم ، غائبين عن فعل ربهم ، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحهم بفعل غيرهم ، أنهم فائزون عن عذاب الفرق ، وحجاب العجب ، إذ لا فاعل سوى الحق ، فمن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك ، فإن فرح العبد بالطاعة من حيث ظهورها عليه ، وهى عنوان العناية ـ ورأى نفسه فيها كالآلة ، معزولا عن فعلها ، محمولا بالقدرة الأزلية فيها ، فلا بأس عليه ، ويزيد بذلك تواضعا وشكرا ، وإن فرح بها من حيث صدورها منه ، ويتبجح بها على عباد الله ، فهو عين العجب ، وفى الحكم : «لا تفرحك الطاعة من حيث إنها صدرت منك ، وافرح بها من حيث إنها هدية من الله عليك ؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)».

ثم استدل على قدرته المفهومة من (القدير) ، فقال :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإظهارهما للعيان ، لدلائل واضحة على وجود الصانع ، وكمال قدرته ، وعلمه ، لذوى العقول الكاملة الصافية ، الخالصة من شوائب الحس والوهم. قال البيضاوي : ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة فى هذه الآية ؛ لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه متعرضة لجملة أنواعه ، فإنه ـ أي التغير ـ إما أن يكون فى ذات الشيء ، كتغير الليل والنهار ، أو جزئه ، كتغير الناميات بتبدل صورها ، أو لخارج عنها ، كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

الإشارة : الخلق هو الاختراع والإظهار ، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على أن الحقّ ـ تعالى ـ تجلى لعباده بين الضدين ، بين النور والظلمة ، بين القدرة والحكمة ، بين الحس والمعنى ، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين ، ليقع الفرار من اثنينية حسهما إلى فردية معناهما ، ففروا إلى الله ، فالسموات والنهار نورانيان ، والأرض والليل ظلمانيان ، ففى ذلك دلالة على وحدة المعاني ، فلا تقف مع الأوانى ، وخض بحر المعاني ، لعلك ترانى. وبالله التوفيق.

ثم وصف أولى الألباب الذين يدركون صفاء هذه المعاني ، فقال :

٤٤٩

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

يقول الحق جل جلاله ، فى وصف أولى الألباب : هم (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ، أي : يذكرونه على الدوام ، قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من أراد أن يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله». وقيل : يصلون على الهيئات الثلاث ، حسب الطاقة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين ، وكان مريضا : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنبك وتومىء إيماء».

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استدلالا واعتبارا ، وهو أفضل العبادات قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عبادة كالتفكر» ؛ لأنه المخصوص بالقلب ، والمقصود من الخلق ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما رجل مستلق على فراشه فنظر إلى السماء والنجوم ، فقال : أشهد أن لك خالقا ، اللهمّ اغفر لى ، فنظر الله إليه فغفر له». وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. قاله البيضاوي. وسيأتى مزيد من كلام على التفكر فى الإشارة إن شاء الله.

فلما تفكروا فى عجائب المصنوعات ، قالوا : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي : عبثا من غير حكمة ، بل خلقته لحكمة بديعة ، من جملتها : أن يكون مبدأ لوجود الإنسان ، وسببا لمعاشه ، ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية فى جوارك ، (سُبْحانَكَ) تنزيها لك من العبث وخلق الباطل ، (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار ، وأخل بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) يمنعونهم من دخول النار. ووضع المظهر موضع المضمر ؛ للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم فى دار البوار.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) ، وهو الرسول العظيم الشأن ، أو القرآن ؛ قائلا : (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ووحدوه ، فأجبنا نداءه وآمنا ، (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الكبائر ، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) الصغائر ، (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) المصطفين الأخيار ، مخصوصين بصحبتهم ، معدودين فى زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم يحبون لقاء الله فأحب الله لقاءهم. (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) تصديق (رُسُلِكَ) من الثواب ، أو على ألسنة

٤٥٠

رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب ، سألوا ما وعدوا على الامتثال ، لا خوفا من إخلاف الوعد ، بل مخافة ألّا يكونوا موعودين لسوء عاقبة ، أو قصور فى الامتثال ، أو تعبدا ، أو استكانة. قاله البيضاوي.

(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : لا تهنّا بسبب تقصيرنا ، (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، أو ميعاد البعث والحساب ، وتكرير (رَبَّنا) ؛ للمبالغة فى الابتهال ، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها ، ففى بعض الآثار : (من حزبه أمر فقال خمس مرات : «ربنا» ، أنجاه الله مما يخاف). (١) قاله البيضاوي.

الإشارة : قدّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير ، فإن المريد يؤمر أول أمره بذكر اللسان ، حتى يفضى إلى الجنان ، فينتقل الذكر إلى القلب ، ثم إلى الروح ، وهو الفكر ، ثم إلى السر ، وهو الشهود والعيان ، وهنا يخرس اللسان ، ويغيب الإنسان فى أنوار العيان ، وفى ذلك يقول القائل :

ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعننى

سرّى وروحى وقلبى عند ذكراك

حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي :

إيّاك : ويحك والتّذكار! إيّاك!

أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده

وواصل الكلّ من معناه معناك

فإذا بلغ العبد هذا المقام ـ الذي هو مقام الإفراد ـ اتحدت عنده الأوراد ، وصار وردا واحدا ، وهو عكوف القلب فى الحضرة بين فكرة ونظرة ، أو إفراد القلب بالله ، وتغيبه عما سواه.

قال فى الإحياء فى كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد ، الذي أصبح وهمومه هم واحد ، فلا يحب إلا الله ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يتوقع الرزق من غيره ، ولا ينظر فى شىء إلا يرى الله فيه ، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة ، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها ، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد ، وهو حضور القلب مع الله فى كل حال ، فلا يخطر بقلبه أمر ، ولا يقرع سمعه قارع ، ولا يلوح لنظره لائح ، إلّا كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد ، فلا محرك ولا مسكن إلا الله. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا لازديادهم ، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة ، وهم الذين فروا إلى الله كما قال تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) ، وتحقق فيهم قوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) ، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين ، ولا ينبغى أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك ، فيدعيه لنفسه ، ويفتر عن وظائف عباداته ، فذلك علامته ألا يحس فى قلبه وسواسا ، ولا يخطر بقلبه معصية ، لا يزعجه هواجم الأحوال ، ولا يستفزه عظائم الأشغال ، وأنى تكون هذه المرتبة!. ه.

__________________

(١) حكى القرآن عن أولى الألباب فى هذه الآيات ـ أنهم قالوا : (ربنا) خمس مرات. وعن الأثر الذي ذكره المصنف ـ قال المناوى فى الفتح السماوي : لم أقف عليه.

٤٥١

قلت : قوله : [لا يخطر بقلبه معصية] غير لازم ؛ لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية ، لكنها تقل ولا تسكن.

وقال فى موضع آخر : وأما عبادة ذوى الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه ؛ حبا لجلاله وجماله ، وسائر الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة ؛ درجته درجة البله ، وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله. ه. وقال فى كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء ، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآنى فى الابتداء ، قال : صار صديقا ، ومن رآنى فى الانتهاء ، قال : صار زنديقا ، يعنى أن الابتداء يقتضى المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات ، وفى الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن ، فيبقى القلب على الدوام فى عين الشهود والحضور ، وتفتر ظواهر الأعضاء ، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة (١) ، وهيهات هيهات!! ، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها ، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس. ه.

قال شيخ شيوخنا ـ سيدى عبد الرحمن العارف ـ بعد نقل كلام القشيري فى هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر فى أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفى ألا يقرأ ولا يكتب ؛ لأنه أجمع لهمه ، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث ؛ لئلا يتغير حاله. ه. قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيّنه له فهو عين ذكره ، يسير به كيفما كان.

هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدّمه الله تعالى ، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات ، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفى الخبر : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة».

وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة فى ميدان التوحيد ، والتنسم بنسيم المعرفة ، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد ، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس ، ما أجلها ، ومن شراب ما ألذه ، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه : التفكر نعت كل طالب ، وثمرته : الوصول بشرط العلم ، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبه على مناهل التحقيق. ه.

وسئلت زوجة أبى ذر عن عبادة زوجها ، فقالت : كان نهاره أجمع فى ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبى بكر قالت : كان ليله أجمع فى ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبى الدرداء ، وكان سيدنا عيسى عليه‌السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكرا وصمته تفكرا ، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو. ه. وقال فى الحكم : (ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة). وقال أيضا : (الفكرة سراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له). وقال أيضا : (الفكرة فكرتان ؛ فكرة تصديق وإيمان ، وفكرة شهود وعيان ، فالأولى لأرباب الاعتبار ، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار).

__________________

(١) راجع التعليق على إشارة الآية ٢١٢ من سورة البقرة.

٤٥٢

وفكرة الشهود والعيان هى عبادة العارفين ، ولا يحصر ثوابها فى ستين ولا فى سبعين ، بل وقت منها يعدل ألف سنة ، كما قال الشاعر :

كلّ وقت من حبيبى

قدره كألف حجّه

فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر ، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام ، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء ، وفى أمثاله قال القائل :

هم الرّجال وغبن أن يقال لمن

لم يتّصف بمعاني وصفهم رجل

حققنا الله بمقامهم ، وسقانا من منالهم ، آمين.

وقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) بل هو ثابت بإثباتك ، ممحوّ بأحدية ذاتك ، فالباطل محال ، وكل ما سواه باطل ، كما قرره الرسول ـ عليه الصلاة والسلام (١). وقوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي : كنا فى الرعيل الأول من أهل الإيمان ، فجعل لنا سبيلا إلى مقام الإحسان ، (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.

ثم ذكر ما أجابهم به ، فقال :

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

قلت : (استجاب) : أخص من أجاب ، لأن استجاب مستلزم لفعل ما طلب منه ، وأجاب يصدق بالوعد ، ويتعدى بنفسه وباللام ، و (بعضكم من بعض) : جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره.

يقول الحق جل جلاله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) فيما طلبوه ؛ لأنه لا يرد السؤال ، ولا تخيب لديه الآمال ، ولذلك قال : (أَنِّي) أي : بسبب (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ؛ لأنكم (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ؛ لأن الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، ولأنهما من أصل واحد ، ولفرط الاتصال والاتحاد والاتفاق فى الدين.

__________________

(١) حين قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أصدق كلمة قالها شاعر : ألا كل شىء ما خلا الله باطل). الحديث أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار : باب أيام الجاهلية) ومسلم فى (الشعر) من حديث أبى هريرة.

٤٥٣

روى «أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله ، إنى أسمع الله يذكر الرجال فى الهجرة ولم يذكر النساء ، فنزلت. (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى)» إلخ.

ثم فصل أعمال العمال ، وما أعد لهم من الثواب فقال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) دار الشرك ، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر ، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بسبب إيمانهم بالله ، (وَقاتَلُوا) الكفار ، (وَقُتِلُوا) أي : ماتوا فى الجهاد. وقرىء بالعكس ؛ لأن الواو لا ترتب ، أو قتل بعضهم ، وقاتل الباقون ولم يضعفوا ، (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : لأمحونها ، (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : أثيبهم ثوابا من عند الله تفضلا وإحسانا ، (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) لا يعجزه شىء.

الإشارة : لما توجهوا إليه بهممهم العلية ، وعزائمهم القوية ، فقرعوا بابه بدوام ذكره ، والتفكر فى عظمة ذاته ، وجميل إحسانه وبره ، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار ، وحال الخضوع والاضطرار ، أجابهم ففتح فى وجوههم الباب ، وأدخلهم فى حضرته مع الأحباب ، لأنه يجيب السؤال ، ولا يخيب الآمال ، بعد أن هاجروا الأوطان ، وفارقوا العشائر والإخوان ، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن ، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال ، إلى جوار الكبير المتعال ، قال الشاعر :

إن ترد وصلنا فموتك شرط

لا ينال الوصال من فيه فضله

فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار ، وطهّر قلوبهم من درن الأكدار ، حتى دخلوا جنة المعارف ، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، وتنفتح منها مخازن الفهوم ، ثوابا من عند الحي القيوم والله تعالى أعلم.

ولما بسط الله الدنيا على اليهود والمشركين ، استدراجا ، قال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فأنزل الله تعالى :

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

قلت : النزل ـ ويسكن ـ : ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة ، وانتصابه : على الحال من (جنات) ، والعامل فيه : الظرف ، أو على المصدر المؤكد ، أي : أنزلوها نزلا.

٤٥٤

يقول الحق جل جلاله : (لا يَغُرَّنَّكَ) أيها السامع أو أيها الرسول ، والمراد : تثبيته على ما كان عليه ، كقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) ، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط فى الدنيا ، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات ، وما هم عليه من الخصب ولين عيش ، فإن ذلك (مَتاعٌ قَلِيلٌ) بلغة فانية ، ومتعة زائلة ، وظلال آفلة ، وسحابة حائلة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدّنيا فى الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه فى اليمّ ، فلينظر بم يرجع». فلا بد أن يرحلوا عنها قهرا ، (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي : مصيرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ما مهدوا لأنفسهم.

والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس ، قال تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) وخافوا عقابه ، (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، هيأ ذلك لهم وأعده (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) هذا النزول الذي يقدم للضيف ، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يعبر عنه لسان ، ولذلك قال : (وَما عِنْدَ اللهِ) من النعيم الذي لا يفنى ، جسمانى وروحانى ، (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما ينقلب إليه الفجار. قيل : حقيقة البر : هو الذي لا يؤذى الذر.

الإشارة : لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة ، والفرش الممهدة ، فإن الدنيا متاعها قليل ، وعزيزها قليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، واعتبر بحال نبيك ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

قال أنس رضي الله عنه : دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على سرير مرفل بالشريط ـ أي : مضفور به ـ وتحت رأسه وسادة من أدم ، حشوها ليف ، فدخل عليه عمر ، وانحرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انحرافة ، فرأى عمر أثر الشريط فى جنبه ، فبكى ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عمر»؟ فقال : مالى لا أبكى وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا ، وأنت على الحال الذي أرى ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة». رواه البخاري.

وانظر ما أعد الله للمتقين الأبرار ، الذين صبروا قدر ساعة من نهار ، فأفضوا الى جوار الكريم الغفار فى دار القرار ، (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيّن الحق ـ تعالى ـ رفعة منزل المتقين فى الجنان ، ثم أبهم لطائف العناية بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي : ما عنده من نعيم المشاهدة ، ولطائف القربة ، وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من نعيم الجنة ، وأيضا : صرح فى هذه الآية ببيان مراتب الولاية ، لأنه ذكر المتقين ، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس

٤٥٥

المخالفة ، وذلك درجة الأول من الولاية ، والأبرار أهل الاستقامة فى المعرفة ، وبين أن أهل التقوى فى الجنة ، والأبرار فى الحضرة. ه.

ولمّا عاتب الحق تعالى ، فيما تقدم ، أهل الكتاب ، وكان فيهم من لا يستحق العتاب ؛ لاتباعه الحق والصواب ، أخرجه الحق تعالى بقوله :

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود ، (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) إيمانا حقيقيا ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من التوراة ، حال كونهم (خاشِعِينَ لِلَّهِ) خاضعين مخبتين وافين بالعهد ، (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، كما فعل المحرفون من أحبار اليهود ، (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ما وعدوا به من تضعيف أجرهم مرتين ، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ؛ فيسرع الى توفية أجورهم وإكرام منقلبهم ؛ لأن الله عالم بالأعمال وما تستوجبه من النوال ، فلا يحتاج إلى تأمل ولا احتياط ؛ لأنه غنى عن التأمل والاحتياط.

وقيل : نزلت فى النصارى : أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا. وقيل : نزلت فى النجاشي ، لما نعاه جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وصلى عليه ، فقال المنافقون : انظروا الى هذا ، يصلى على علج (١) نصرانى ، فنزلت الآية. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم ، فتحققوا بولايتهم ، ونالوا شيئا من محبتهم ، لكن لم تساعفهم الأقدار فى صحبتهم ، فظهرت عليهم آثار أنوارهم ، واقتبسوا شيئا من أسرارهم ، فتنورت سريرتهم ، وكملت شريعتهم ، وأظهر عليهم آثار الخشوع ، وأخذوا حظا من التواضع والخضوع ، متخلقين بالقناعة والورع ، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع ، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين : أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام ، وأجر ما اكتسبوا من محبة القوم ؛ «المرء مع من أحب». وبالله التوفيق ، وهو الهادي الى سواء الطريق.

__________________

(١) العلج : الرجل القوى الضخم.

٤٥٦

ولمّا كان الصبر من الدّين كالرأس من الجسد ، فلو حصل للناس دائما لم يتوجه العتاب لأحد ، ختم به السورة ، التي عاتب فيها جل العباد ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قلت : المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده. المدار على خلوص النية ، خلاف ما قاله ابن عطية (١) ، وسيأتى صوابه (٢) فى تفسير المعنى ، إن شاء الله.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاق الطاعات ، وما يصيبكم من الشدائد والأزمات ، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات ، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات (وَصابِرُوا) أي : غالبوا الأعداء فى مواطن الصبر ، والثبوت فى مداحض الحرب ، (وَرابِطُوا) أبدانكم وخيولكم فى الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور ، كى تفوزوا بعظائم الأجور ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل (٣) عن صلاته إلا لحاجة ، ومن توفى فى سبيل الله ـ أي : مرابطا فى سبيل الله ـ أجرى الله عليه أجره حتى يقضى بين أهل الجنة وأهل النّار». ومما يلحق بالرباط : «انتظار الصّلاة بعد الصّلاة» ، كما فى الحديث.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فلاحا لا خسران بعده أبدا.

الإشارة : (يا أيها الذين آمنوا) إيمان أهل الخصوص ، (اصبروا) على حفظ مراسم الشريعة ، (وصابروا) على تحصيل أنوار الطريقة ، (ورابطوا) قلوبكم على شهود أسرار الحقيقة ، أو : اصبروا على أداء العبادة ، وصابروا على تحقيق العبودية ، ورابطوا فى تحصيل العبودة ـ أي : الحرية ـ أو : اصبروا على تحقيق مقام الإسلام ، وصابروا على دوام الإيمان ، ورابطوا على العكوف فى مقام الإحسان ، أو : اصبروا على تخليص الطاعات ، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات ، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات ، (واتقوا الله) فلا تشهدوا معه سواه ، (لعلكم تفلحون) ، بتحقيق معرفة الله. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

__________________

(١) قال ابن عطية ـ بعد كلام ـ : فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين.

(٢) فى الأصول : ثوابه.

(٣) انفتل : انصرف.

٤٥٧
٤٥٨

سورة النّساء

مدنية ، وهى ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.

ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الأبدان ، وحفظ الأديان ، وحفظ اللسان ، وحفظ الإيمان. بعد أن قدّم الأمر بالتقوى ، التي هى ملاك ذلك كله ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

قلت : من قرأ : (والأرحام) بالنصب ، فعطف على لفظ الجلالة ، أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض على الضمير من (به) ؛ كقول الشاعر :

فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (١)

وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار ، فيقولون : مررت به وبزيد. وقال ابن مالك :

وليس عندى لازما إذ قد أتى

فى النّظم والنّثر الصّحيح مثبتا.

والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة ، وهذا هو التوجيه الصحيح ، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : جميع الخلق ، اتقوا ربكم فيما كلفكم به ، ثم بيّن موجب التقوى فقال : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعنى آدم ، (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعنى حواء ، من ضلع من أضلاعه ، (وَبَثَ) أي : نشر (مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي : نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي : واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء ، إذ الحكمة تقتضى أن يكنّ أكثر ، وذكر : (كَثِيراً)

__________________

(١) البيت أنشده سيبويه ، انظر : شرح ابن عقيل على الألفية ، باب عطف النسق.

٤٥٩

حملا على الجمع ، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. ه.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : يسأل بعضكم بعضا فيقول : أسألك بالله العظيم ، (وَالْأَرْحامَ) أي : واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فمن قطعها قطعه الله ، ومن وصلها وصله الله ، كما فى الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام ، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بينى وبينك ، أو بالقرابة التي بينى وبينك. ثم هددهم على ترك ما أمروا به فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) حافظا مطلعا شهيدا عليكم فى كل حال.

الإشارة : درجهم فى آخر السورة فى مدارج السلوك حتى زجّهم فى حضرة ملك الملوك ، وأمرهم أن يتقوا ما يخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية ، ثم دلاهم فى أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية ، فى النشأة الأولية ، ليعلّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة ، أو بين الفناء والبقاء.

وقد تكلم ابن جزى هنا على أحكام المراقبة ، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها ، استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثمر حالين. أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه فى جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب ، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفى العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد فى الطاعات ، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة ، التي توجب التعظيم والإجلال لذى الجلال.

وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» ، فقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه» إشارة إلى الثمرة الثانية ، وهى الموجبة للتعظيم ، كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى ، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة ـ التي هى مقام المقربين ـ فاعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى ، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه ، تنزل منه إلى المقام الآخر.

واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة ، فأما المشارطة فهى اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة ، وترك المعاصي ، وأما المرابطة فهى معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة فى أول الأمر تكون المراقبة ... إلخ.

٤٦٠