إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

(شكل ٢٤) انغراس النطفة (كيس الجرثومة) فى بطانة الرحم وتتعلق بواسطة خلايا كما تنغرس البذرة فى التربة

(شكل ٢٥) انغراس كيس الجرثومة فى بطانة الرحم بواسطة خلايا تتكون منها المشيمة

٨١

(شكل ٢٦) الرحم (القرار) الذى ينمو حتى يأوى الجنين ويغذيه ويتمدد ليتلاءم مع نمو الجنين وتتوافر الظروف للاستقرار

أى إعجاز هذا فى بلاغة الوصف!!. فالرحم للنطفة ، ولمراحل الجنين اللاحقة سكن لمدة تسعة أشهر. وبالرغم من أن طبيعة الجسم أن يطرد أى جسم خارجى ، فإن الرحم يأوى الجنين ويغذيه. وللرحم عضلات وأوعية رابطة تحمل الجنين داخله. وباعتبار أن الرحم «قرار» فإنه يستجيب لنمو الجنين ويتمدد بدرجة كبيرة ليتلاءم مع نموه (١). ويحاط الجنين داخل الرحم بعدة طبقات بعد السائل الأمينوسى ، وهى الغشاء الأمينوسى المندمج بالمشيمة ، وطبقة العضلات السميكة للرحم ، ثم جدار البطن ، وبذلك تتوافر أفضل الظروف للاستقرار والنمو الجيد. (شكل ٢٦).

هذا عن «القرار» بوصفه تعبيرا جامعا.

أما التعبير الجامع الآخر ، وهو «مكين» ، فيعنى (مثبت بقوة) ، وهذا يشير إلى

__________________

(١) «إذ إن حجم رحم الأنثى البالغة لا يتسع لأكثر من مليلترين ونصف ، بينما يتسع حجم الرحم ذاته فى نهاية الحمل لسبعة آلاف مليلتر». (د. محمد على البار ـ خلق الإنسان بين الطب والقرآن).

٨٢

علاقة الرحم بجسم الأم ، وموقعه المثالى لتخلق ونمو كائن جديد. ويقع الرحم فى وسط الجسم ، وفى مركز الحوض ، وهو محاط بالعظام والعضلات والأربطة التى تثبته بقوة فى الجسم (٢). أى أنه مكين ، كما قرر القرآن الكريم.

وفوق النمو الهائل لحجم الرحم ، والذى يصل إلى ثلاثة آلاف ضعف حجمه الأصلى ، فإن وزن الرحم يزيد من خمسين جراما إلى ألف جرام. كذلك فإن ما يحمله فى طياته يبلغ خمسة آلاف جرام ، منها ٣٥٠٠ جرام وزن الجنين عند نهاية الحمل و ١٠٠٠ جرام وزن السائل الأمينوسى المحيط بالجنين و ٥٠٠ جرام وزن المشيمة.

وهكذا نجد أن كلمتى «قرار» و «مكين» تعبران تعبيرا تاما عن حقيقة الرحم ووظائفه الدقيقة ، وعن العلاقة الحميمة بين الجنين والرحم ، وبين الرحم وجسم الأم. وذلك إعجاز فى التعبير والوصف لا يدرك أهميته إلا المتخصص الذى له علم بحاجات نمو الجنين ، وحاجات الرحم ، لمواكبة هذا النمو حتى يخرج سليما.

الخلاصة :

اختار القرآن الكريم اسم «نطفة» عنوانا على هذا الطور من أطوار التخلق الإنسانى. وهو اسم عربى يعنى القليل من الماء أو قطرة منه.

يبدأ خلق الجنين من قليل من ماءى الأب والأم ، ثم يأخذ شكل القطرة فى مرحلة التلقيح (الزيجوت) ، وقبل التلقيح ينسل الحوين المنوى من الماء المهين فيكون ـ كما قرر القرآن الكريم ـ سلالة من ماء مهين.

وشكل الحوين المنوى يشبه السمكة الطويلة ، وهذا هو أحد معانى لفظ «سلالة» الذى استعمله القرآن الكريم لوصف هذه المرحلة.

وبالتلقيح بين الحوين المنوى والبييضة يكون الجنين فى شكل نطفة مكونة من

__________________

(٢) «يحفظ الحوض العظمى الرحم بداخله بحيث لا يصله شىء من الكدمات والهزات التى تتعرض لها المرأة. بل لو أصيبت المرأة فى حادث أو سقطت من شاهق وتكسرت عظامها فإننا نجد الرحم ، فى أغلب الأحوال ، سليما لم يمسسه سوء». المصدر السابق

٨٣

أخلاط ماءى الرجل والمرأة ، وما فيهما من أخلاط وراثية. وهذا ما وصفه القرآن الكريم بأنه «نطفة أمشاج» ، فجاء معبرا عن الشكل «قطرة» ، وعن التركيب المفرد «نطفة» وعن الأخلاط المجتمعة فى «نطفة أمشاج».

وأظهر القرآن الكريم أن المرأة هى محل الحرث ، حيث تنغرس النطفة فى العضو الخاص بالحمل عند المرأة ، وهو الرحم. بهذا الانغراس تبدأ النطفة فى التغير لتصبح بعد ذلك «علقة».

وبيّن القرآن أن تلك النطفة تستقر فى جسم المرأة فى مكان وصف بأهم وصفين يتعلقان بالجنين ونموه ، وهذان الوصفان «قرار» و «مكين» ، يعبران أتم التعبير عن أهم خصائص الرحم ومميزاته.

وهكذا ، ومع مراحل الخلق البشرى وأطواره ، نجد أن القرآن الكريم يقدم لهذه المرحلة ، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ، تعبيرات دقيقة تصف كل تطوراتها ، بمظهرها الخارجى وتحوراتها الداخلية ، بما يتفق تماما وما توصل إليه علمنا المعاصر بعد كل هذه المئات الكثيرة من السنين.

ومن مرحلة النطفة ، ننتقل إلى مرحلتى العلقة والمضغة ، فى رحلتنا مع إعجاز الخلق الإلهى.

٨٤

الفصل السابع

التخليق

الطور الثالث

مرحلتا العلقة والمضغة

تمهيد

مرة أخرى نعود للتذكير بمراحل نمو التخلق البشرى ، كما أوردها القرآن الكريم فى محكم آياته :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]

ونحن الآن مع مرحلة جديدة هى مرحلة «التخليق». ويتكون هذا الطور من أربع مراحل هى : العلقة ، المضغة ، العظام ، اللحم. وتمتد هذه المرحلة من بداية الأسبوع الثالث حتى نهاية الأسبوع الثامن ؛ وأهم ما يميزها هو التكاثر السريع للخلايا ونشاطها الفائق فى تكوين الأجهزة. وهنا نجد أن وصف التخليق يأتى وصفا دقيقا معبرا عن طبيعة التغيرات للعمليات الخارجية ، وعن المظهر الخارجى للجنين ، حيث ينتقل من مظهر غير متميز إلى مظهر إنسانى متميز فى الأسبوع السابع نتيجة لانتشار الهيكل العظمى ثم بناء العضلات فى الأسبوع الثامن.

ونظرا لأن العمليات التخليقية للجنين تتم بسرعة كبيرة ، وتتلاحق فيها الأحداث خلال هذه الفترة ، فإننا نلاحظ أن القرآن الكريم قد استعمل حرف (الفاء) للربط والانتقال بين مراحل هذا التطور.

وسنتناول فى هذا الفصل مرحلتين منها ، هما «العلقة» و «المضغة».

٨٥

مرحلة العلقة

«العلقة» ـ فى معناها اللغوى ـ وجمعها «علق» ، لفظة مشتقة من «علق» ، وهو الالتصاق والتعلق بشىء ما. و «العلق» ـ كما أشار المفسرون ـ هو الدم عامة ، والشديد الحمرة أو الغليظ الجامد. وتطلق «العلقة» على «الدم الرطب». والعلقة دودة فى الماء تمتص الدم ، تعيش فى البرك ، وتتغذى على دماء الحيوانات التى تلتصق بها ، والجمع علق.

وسبحان من هذا كلامه. فقد عقد القرآن الكريم تشابها بين دودة العلقة والجنين ، فى مرحلة العلقة ، من حيث إنهما :

* كلاهما متطفل ، بمعنى الاعتماد فى غذائه الجاهز على المصدر الذى يقتات منه.

* وإن غذاء كل منهما هو الدم.

* وإنهما يتعلقان ، تلك على جسد المخلوق ، وهذا على بطانة الرحم.

ومن هنا نجد أن لفظة «علقة» قد جاءت مطلقة فى القرآن الكريم لتشتمل على كل هذه المعانى. كذلك نجد أن كل هذه المعانى التى وردت فى القرآن الكريم قد تجلت فيما توصل إليه العلم الحديث ، على نحو ما سيأتى ذكره.

تلتصق «النطفة التامة التكوين» ، والتى تسمى فى هذه المرحلة «المتكيسة الجرثومية» (BLASTOCYST) بجدار الرحم فى اليوم السادس فى بداية مرحلة «الحرث» (الانغراس)(IMPLANTATION) ، حتى تنزرع تماما. (شكل ٢٧).

٨٦

(شكل ٢٧) تنزرع النطفة التامة التكوين (Blastocyst) بجدار الرحم فى اليوم السادس (مرحلة الحرث)

وتستغرق هذه العملية أكثر من أسبوع حتى تلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد هى الحبل الصرى. (شكل ٢٨ و ٢٨ أ).

وفى أثناء عملية الحرث تفقد «النطفة» شكلها لتتهيأ لأخذ شكل جديد هو «العلقة» والذى يبدأ بتعلق الجنين بالمشيمة ، وهو ما أسماه القرآن الكريم «العلقة» ؛ وهو ما يتفق مع معنى «التعلق بالشىء».

أما إذا أخذنا المعنى الحرفى للفظ «العلقة» ، وهو «دودة عالقة» ، فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير ، ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة. (شكل ٢٩).

ثم يبدأ فى التغذى من دماء الأم ، مثلما تفعل الدودة العالقة إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى ، ويحاط الجنين تماما بمانع مخاطى ، مثلما تحاط الدودة بالماء.

٨٧

١ ـ الحبل الصرى ٢ ـ جدار الرحم ٣ ـ الحويصلة ٤ ـ الامينوس ٥ ـ الرأس ٦ – القلب

(شكل ٢٨ ـ ٢٨ أ) بعد مرور أسبوع تلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة ساق تصبح الحبل الصرى (العلقة)

٨٨

وهكذا نجد أن اللفظ القرآنى «علقة» يبين هذا المعنى بوضوح طبقا لمظهر الجنين وملامحه فى هذه المرحلة.

وطبقا لمعنى (دم جامد أو غليظ) للفظ «العلقة» ، نجد أن المظهر الخارجى للجنين وأكياسه يتشابه مع الدم المتخثر الجامد الغليظ ، لأن القلب الأولى وكيس المشيمة ومجموعة الأوعية القلبية ، تظهر فى هذه المرحلة. (شكل ٣٠).

وتكون الدماء محبوسة فى الأوعية الدموية ولو كان الدم سائلا ، ولا يبدأ الدم فى الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث ، وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم الجامد أو الغليظ مع كونه دما رطبا.

وجميع هذه الملامح تندرج تحت المعنيين اللذين سبق ذكرهما" للعلقة" وهما (دم جامد) أو (دم رطب).

وعند ما نتحدث عن الفترات الزمنية ، فإننا نجد أن الجنين خلال مرحلة الانغراس يتحول من مرحلة النطفة ببطء ، إذ يستغرق نحو أسبوع منذ بداية الحرث (اليوم السادس) إلى مرحلة العلقة ، حتى يبدأ فى التعلق فى اليوم الرابع عشر أو اليوم الخامس عشر. ويستغرق بدء نمو الحبل الصرى حوالى عشرة أيام (اليوم السادس عشر) حتى يتخذ الجنين مظهر «العلقة». (شكل ٢٩).

ونلاحظ هنا أن حرف العطف (ثم) الوارد فى آيات القرآن الكريم يوفر دلالة واضحة على الفترة التى تتحول فيها «النطفة» إلى علقة ، حيث يدل هذا الحرف على انقضاء فترة زمنية حتى يتحقق التحول إلى المرحلة الجديدة. لأن حرف (ثم) يفيد الترتيب والتراخى.

ويتسع اسم «علقة» فيشمل وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة ، كما يشمل الأحداث الداخلية كتكون الدماء والأوعية المقفلة.

كما يدل لفظ «علقة» على تعلق الجنين بالمشيمة.

وهكذا نجد أن التعبير القرآنى «علقة» يعتبر وصفا متكاملا عن المرحلة الأولى من الطور الثانى لنمو الجنين ، ويغطى بكل دقة الملامح الأساسية الخارجية والداخلية.

٨٩

(شكل ٢٩) العلقة ـ يفقد الجنين شكله المستدير ويستطيل ويأخذ شكل الدودة.

(شكل ٣٠) المظهر الخارجى للجنين وتكون القلب الأولى وكيس المشيمة ومجموعة الأوعية القلبية

٩٠

وعن الغشاء المشيمى نقول إنه يتكون من خلايا خارجية ، بواسطتها يتعلق الجنين وينغرس فى جدار الرحم وبواسطتها يتغذى. وهذه الخلايا تتمايز إلى نوعين هما الخلايا المخلاوية الآكلة ، والخلايا الآكلة.

مرحلة المضغة

«المضغة» ـ فى اللغة ـ تأتى بمعان متعددة منها : شىء لاكته الأسنان ، وفى قولنا مضغ الأمور أى صغارها ، وحجم المضغة هو ما يمكن مضغه.

وقد استعمل القرآن الكريم لفظ «مضغة» ليصف بها الجنين فى هذه المرحلة ، حيث يبدو كقطعة لحم حجمها بمقدار ما يمضغ. وهذه اللفظة الواحدة تصف لنا بإيجاز معجز ساحر شكل الجنين بالنسبة إلى : ١ ـ حجمه ، ٢ ـ شكله ، ٣ ـ قوامه.

فإذا ألقينا نظرة على الجنين ؛ فإننا نجده يكون فى اليومين ٢٣ ـ ٢٤ فى نهاية مرحلة «العلقة».

ثم يتحول إلى مرحلة «المضغة» فى اليومين ٢٥ و ٢٦ ، ويكون هذا التحول سريعا جدا. ويبدأ خلال آخر يومين من مرحلة «العلقة» فى اتخاذ بعض خصائص المضغة ، فتأخذ الفلقات (SOMITES) فى الظهور لتصبح معلما بارزا لهذه المرحلة.

ويصف القرآن الكريم هذا التحول السريع للجنين من طور «العلقة» إلى طور «المضغة» باستخدام حرف (الفاء) الذى يفيد التتابع السريع للأحداث.

٩١

الجدول : الصفات الرئيسية للجنين فى نموه من مرحلة العلقة إلى مرحلة المضغة. وتتكون الفلقات بسرعة فى الأيام الأخيرة من مرحلة العلقة ويكون التحول إلى مرحلة المضغة سريعا.

(*) تظهر انتفاخات وأخاديد وفلقات تعطى علامة طبع الأسنان ؛ لتمثل أول ظهور بارز لشكل المضغة.)

(**) يصعب عند هذه المرحلة والمراحل التالية تحديد عدد الفلقات ، ويكون هنا العدد غير مفيد كمقياس.)

٩٢

وقد أوضح علم الأجنة الحديث مدى دقة اختيار القرآن الكريم لتسمية «مضغة» ، من حيث ارتباطها بالشكل الخارجى للجنين ، وتركيباته الداخلية الأساسية. فقد وجد أنه بعد تخلق الجنين والمشيمة فى هذه المرحلة ، فإن الجنين يتلقى الغذاء والطاقة ، وبذلك تتزايد عملية النمو بسرعة ، ويبدأ ظهور الكتل البدنية المسماة فلقات ، والتى تتكون منها العظام والعضلات.

ونظرا لتعدد الفلقات التى تتكون ، فإن الجنين يبدو وكأنه مادة ممضوغة عليها طبعات أسنان واضحة ، فهو «مضغة». وهنا يتفق معى الزميل الدكتور محمد على البار فيقول : «وقد كان المفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم ، ولكنى بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن أن وصف المضغة ينطبق تمام الانطباق على مرحلة الكتل البدنية .. إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسنانا انغرست فيه ولاكته ثم قذفته».

وهذه مجموعة من النقاط التى تبين لنا مدى تطابق تعبير «مضغة» لوصف العمليات الجارية فى هذه المرحلة :

* ظهور الفلقات التى تعطى مظهرا يشبه مظهر طبع الأسنان فى المادة الممضوغة ، وتبدو أنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان فى شكل مادة تمضغ حين لوكها ، وذلك للتغير السريع فى شكل الجنين ، ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة. فالجنين يتغير شكله الكلى ، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى. وكما أن المادة التى تلوكها الأسنان يحدث بها تغضن وانتفاخات وتثنيات ، فإن ذلك يحدث للجنين تماما.

* تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات فى مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة ، ويشبه ذلك تغير وضع المادة وشكلها حين تلوكها الأسنان.

* وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع ، فإن ظهر الجنين ينحنى ويصبح مقوسا شبه مستدير مثل حرف (C) بالإنجليزية. (شكل ٢٨)

* ويكون طول الجنين حوالى (١) سم فى نهاية هذه المرحلة ، وهو ما يتطابق مع المعنى الآخر لكلمة «مضغة» وهو (الشىء الصغير من المادة). وينطبق هذا المعنى

٩٣

على الحجم الصغير للجنين ؛ لأن جميع أجهزة الإنسان تتخلق فى مرحلة المضغة ولكن فى صورة «برعم». كذلك فإن المعنى الآخر للمضغة ، وهو (حجم ما يمكن مضغه) ، ينطبق على حجم الجنين فى نهاية هذه المرحلة (١ سم) وهذا تقريبا هو أصغر حجم لمادة يمكن أن تلوكها الأسنان.

أما المرحلة السابقة للعلقة فقد كان الحجم صغيرا (٥ ر ٣ ملم) طولا ، وهو حجم لا يتيسر مضغه. وينتهى طور «المضغة» بنهاية الأسبوع السادس.

ولا تتمايز الفلقات فى البداية ، ولكنها سرعان ما تتمايز إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة ، وبعض هذه الأعضاء والأجهزة تتكون فى مرحلة المضغة ، والبعض الآخر فى مراحل لاحقة ، وهو ما تشير إليه ـ فى رأى البعض ـ الآية القرآنية الكريمة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥]

ونتوقف هنا عند «النطفة غير المخلقة». معروف أن بطانة الرحم تنمو وتكتسب الأوعية الدموية اللازمة لتكون ملائمة للتغذية السليمة والنمو المطلوب للعلقة حتى تصبح «مضغة مخلقة». والمضغة غير المخلقة هى التى لم يتم نموها فى حالة طبيعية نتيجة لخلل فى تكوين النطفة الأمشاج أو لقصور فى التغييرات المطلوبة ونمو الغشاء المبطن للرحم ؛ فيعجز عن تقديم التغذية الكاملة للعلقة. وتكون النتيجة أن تفقد العلقة النمو السليم ، ويطردها الرحم ، فإذا حدث ذلك فى بداية الانغراس مجتها الأرحام دما ، وإذا حدث فى مرحلة متأخرة نوعا يقع الإجهاض. (شكل ٣١)

٩٤

(شكل ٣١) نتيجة الإجهاض

وهذا جدول يوضح ظهور الكتل البدنية مقارنة بعمر الجنين ، بالأيام :

٩٥

وبعد مرحلة «المضغة» ـ كما يقرر القرآن الكريم ـ تبدأ مرحلة تكوّن العظام ، ثم تكسية العظام بالعضلات. وهو ما يقرره علم الأجنة الحديث.

الخلاصة :

فى هذا الطور من أطوار التخلق البشرى ، انتهينا من مرحلتين هما «العلقة» و «المضغة».

تبدأ مرحلة «العلقة» بتعلق الجنين بالمشيمة ، ويأخذ فى تعلقه واستطالته شكل العلقة.

وتنتهى هذه المرحلة بالنمو السريع لخلايا الجنين فى عدة اتجاهات ، وتبدأ «العلقة» فى أخذ شكل «المضغة» ، الذى ينتهى بدوره بانتشار الهيكل العظمى فى أوائل الأسبوع السابع.

أى إعجاز هذا الذى نجده أمامنا؟ : مراحل محددة بداياتها ونهاياتها ، وأسماء تعبر فى الوقت ذاته عن المظهر الخارجى وعن أهم الأحداث الداخلية ، وحروف عطف مناسبة تشير بكل الدقة إلى الفوارق الزمنية فى التحول.

وسبحان من هذا كلامه ..

ثم ننتقل من العلقة والمضغة ، إلى المرحلة التالية من الخلق.

٩٦

الفصل الثامن

الطور الرابع

مرحلتا العظام واللحم

تمهيد

فى بيان رائع ودقيق يستعرض القرآن الكريم مراحل وأطوار الخلق البشرى ، خلال عملية الحمل كلها بأسلوب سهل واضح ، فيقول جل جلاله :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]

وقد تحدثنا ـ فى طور التخليق البشرى ـ عن مرحلتى العلقة والمضغة. ونواصل الآن الحديث عن بقية مراحل هذا الطور وهى مرحلتا تكون العظام ، وتكون العضلات فى الجنين.

٩٧

تكون العظام

أثبت العلم الحديث أن العظام لا تتطور معا فى آن واحد فى الجسم ، وإنما هناك برنامج أو جدول زمنى لتكونها. فأول عظام يكتمل تكوّنها ـ على سبيل المثال ـ هى عظيمات الأذن الداخلية (خلال المرحلة الجنينية) ، بينما لا تكتمل مراكز النمو للعظام الطويلة للأرجل إلا بعد سن العشرين من الولادة أو أكثر.

ومع ذلك فمن الممكن تحديد مرحلة مميزة للعظام ، وذلك عند ما يدخل الجنين مرحلة انتشار الهيكل العظمى حين يتكون الهيكل الغضروفى (العظم الأولى) فى الأسبوع السابع.

وبهذا ينتقل شكل الجنين من مرحلة «المضغة» التى لا تحمل شكلا آدميا إلى مرحلة «العظام» التى يغلب عليها شكل الهيكل العظمى المميز للإنسان. (شكل ٣٢ و ٣٣).

وتتضمن عملية تكون العظام ، مجموعة طلائع خلايا الأنسجة الوسطى (النسيج الجنينى الضام) لكل من العظام الغشائية والعظام الغضروفية. فحين تتكون العظام بين الأغشية (كعظام الفك السفلى والفك العلوى) تتكاثف خلايا النسيج الأوسط مكونة أكداسا من الخلايا ، وتتميز على شكل خلية تعظم أو بدائية عظمية ، تفرز بدورها حول نفسها منبتا عضويا للعظام ، يكون غنيا بالغراء.

وعند ما يحيط منبت العظام بالخلايا ، تسمى خلايا عظمية ، ويتمعدن (بترسب الكالسيوم) منبت العظام العضوى مع تعظمه.

وتتكون العظام العضروفية على نحو مماثل ، باستثناء الخلايا المتكثفة فى الطبقة الوسطى فإنها تتميز أولا ، على شكل جذعة غضروفية تكون المنبت العضوى لعظام الغضروف. فيتكون الهيكل العظمى الأولى من الغضروف ، ثم يحل العظم محل

٩٨

(شكل ٣٢) مرحلة العظام ـ يأخذ الجنين الشكل العظمى المميز للإنسان

(شكل ٣٣) عظام الرأس (العظام الغشائى)

٩٩

الغضروف ، وتحيط طبقة من الأنسجة الضامة (تسمى غشاء الغضروف) بنموذج الغضروف (أو «السمحاق» الذى يغلف العظام) ، ويكون بمثابة خزان للخلايا الأصول (الجذعات الغضروفية أو الجذعات العظمية) عند نمو هذه الأنسجة.

وبالرغم من أن طلائع خلايا العضلات والعظام قد تتجاور (فى الفلقات مثلا) فإن تاريخها يبدأ بالاختلاف عند ما تبدأ الخلايا فى الانتقال إلى أماكن مختلفة فى الجنين ، إذ إنها لا تنتشر فى الجسم لتكسو العظام إلا بعد تكون الهيكل العظمى الغضروفى.

وتنبثق عظام الجسم الطويلة عن النسيج الأوسط الجنينى.

وتتكاثف خلايا هذا النسيج فى الأطراف ، فتتجمع فى المنطقة التى تتكون فيها العظام.

ومن تلك الكتلة الكثيفة من الخلايا تبدأ عملية تكون الأنسجة ؛ التى يتميز فيها النسيج الوسط على شكل جذعات غضروفية.

وتفرز هذه الجذعات بدورها حول نفسها المنبت العضوى للغضاريف.

وينجم عن عملية التغضرف ظهور نموذج غضروفى يعطى الجنين هيكله العظمى وشكله الإنسانى.

وتنفصل الخلايا عن النسيج الضام ، وتشكل قلادة عظمية حول ساق النموذج الغضروفى.

وينفصل النسيج الغضروفى اللاوعائى نتيجة لذلك عن المواد المغذية المنتشرة ، ويصبح نخريا ، وتموت الخلايا الغضروفية.

ويعقب ذلك انتشار خلايا الأنسجة الضامة ، والعناصر الوعائية من الأنسجة الضامة المجاورة.

وتجتمع بعض هذه الخلايا المنتشرة على شكل جذعة عظمية وتحيط نفسها بمنبت غضروفى عظمى عضوى حديث الإفراز ، وبذلك تتكون الخلايا العظمية للعظم الحديث النمو (الذى كان قبل ذلك نموذجا غضروفيا).

١٠٠