إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

الفصل السادس

الطور الثانى

مرحلة النطفة

تمهيد

حديثنا فى هذا الفصل يدور حول «النطفة» بوصفها واحدة من مراحل الخلق الإلهى المعجز. وقد وردت النطفة فى القرآن الكريم فى سياق عديد من الآيات ؛ حيث تكرر ذكرها إحدى عشرة مرة ، فى إشارة واضحة للحيامن والبييضات ، وسميت الواحدة بالنطفة ، مذكرة كانت أم مؤنثة. وسميت البييضة الملقحة بالنطفة الأمشاج ، وذكرت على هذا النحو مرة واحدة فى الآية (٢) من سورة الإنسان.

ولأن القرار المكين للنطفة يكون فى رحم المرأة ، فقد كان ضروريا أن نستهل الحديث عن النطفة بمقدمة ضرورية عن الرحم.

٦١

بدون المرأة لا يكون الإنجاب

فالمرأة هى محل الحرث.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣]

وفى رحم المرأة يكون القرار المكين ؛ الذى يحتضن الحمل.

ومن عجائب الخلق ـ وهى كثيرة ـ أن الأعضاء الجنسية الداخلية والخارجية لدى المرأة تتكون وتكتمل فى الشهر الخامس تماما من عمرها. وتتكون البييضات فى المبيض عند الأنثى فى شهرها الخامس ، فيصبح المبيض محتويا على خمسة ملايين بييضة (!!). وتأخذ هذه البييضات فى التناقص ، من الولادة حتى سن البلوغ ، فيتبقى منها فى المبيض حوالى ثلاثين ألفا. وفى كل شهر تنمو بعض البييضات ، لكنه لا يكتمل منها إلا واحدة فقط ، تكون عادة على استعداد للإخصاب بعد خروجها من المبيض ، لاحتمال ملاقاة الحيوان المنوى فى الجزء الوحشى من قناة الرحم.

ويستمر الرحم فى دورته الشهرية فيحيض كل شهر نتيجة للتغيرات التى تحدث فى الغشاء المبطن وأوعيته الدموية .. فينمو كل يوم من أيام الشهر على أمل أن يأتى اليوم الموعود لاستقبال البييضة الأمشاج (البلاستوسيت). وعند ما لا يحدث ذلك ، تضيع كل هذه الاستعدادات سدى ، ويلفظ الغشاء المخاطى ويحدث الحيض. وتبدأ مرحلة ثانية من النمو بعد ذلك أملا فى أن يحدث حمل ويتقبل النطفة الأمشاج فى الشهر التالى.

وقد أمكن بالتقنية الحديثة (الفحص المجهرى والتصوير بالموجات الصوتية العادية والملونة والدوبلر الملون) دراسة هذه التغييرات ، وأمكن معرفة ما يحدث للرحم

٦٢

وغشائه والأوعية الدموية التى تشكل قرارا مكينا يحافظ على حماية الجنين وتغذيته ونموه بقدرة الله.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨]

وعند ما تحمل المرأة يحدث التغيير الأعظم فى الرحم.

فالغشاء المبطن للرحم يزداد حجمه من نصف مليمتر إلى ثمانية مليمترات. وتنمو الأوعية نموا كبيرا حتى تصير حلزونية الشكل من فرط طولها (شكل ٧). ويزداد عدد الغدد الرحمية وتصبح على شكل أنابيب طويلة. وكل ذلك بفضل السيمفونية الرائعة التى تشارك كل أجهزة الجسم فى عزف نغماتها ، ومنها الهرمونات التى تتحكم فى الأطوار المختلفة أثناء شهور الحمل التسعة ، مثل الإستروجين والبروجسترون وكذا هرمونات الغدة النخامية.

وهكذا تتهيأ التربة الخصبة كى تتلقى الزرع والغرس الجديدين. (شكل ٨)

نعم .. إنها تربة تستعد للحرث والغرس ؛ لكى تنفذ إرادة خالقها القائل (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ.) وتنغرس البذرة الجديدة ، فتعلق بجدار الرحم ، (شكل ٩) لتجد أن غذاءها اللازم لنموها قد توافر فى جدران هذه التربة بالأوعية الدموية وأنابيب الغذاء.

ويستمر النمو الهائل للرحم ، فيزداد وزنه من خمسين جراما ، إلى ألف جرام ، ويبلغ حجم ما يحمله بداخله خمسة آلاف جرام (منها ٣٥٠٠ جرام وزن الجنين عند نهاية الحمل ، و ١٠٠٠ جرام وزن السائل الأمينوسى المحيط بالجنين ، و ٥٠٠ جرام وزن المشيمة). وينمو الغشاء المبطن للرحم مكونا طبقة ثخينة تسمى الساقط ، لأنها تسقط مع الأغشية عقب الولادة.

وما إن ينتهى الحمل ، بالولادة أو السقوط ، حتى يعود الرحم أدراجه خلال فترة النفاس إلى ما كان عليه ، صغير الحجم لا يتسع لأكثر من مليمترين ، خفيف الوزن لا يزيد عن خمسين جراما.

٦٣

(شكل ٧) نمو الغشاء المبطن للرحم وأوعيته وغدده قبل انغراس النطفة الأمشاج

(شكل ٨) الغشاء المبطن للرحم بعد اكتمال نموه حتى يصبح تربة خصبة للغرس

(شكل ٩) مرور البويضة الملقحة (الأمشاج) حتى تصل لموضع انغراسها بجدار الرحم

٦٤

ويبقى أن نتحدث عن الغريزة ، التى يترتب عليها وجود النطفة.

فمنذ بداية الخليقة والحياة تجدد نفسها ، من جيل إلى جيل ، بالعلاقة بين الجنسين : الذكرى والأنثوى.

وقد بدأت هذه العلاقة الغريزية منذ بلايين السنين فى المخلوقات البحرية ، حيث يفرز الحيوان الذكرى خلاياه الذكرية فى المياه لتمتزج بالخلايا الأنثوية. وعلى مر السنين تطورت الحياة لتجد طرقا مختلفة للتكاثر ، بعلاقة أكثر عمقا بين الذكر والأنثى.

إن القوة الغريزية التى تجذب الرجل إلى المرأة ، كما يحدث لدى مختلف المخلوقات على الأرض ، تستجيب إلى شعور بيولوچى داخلى عميق فى الجسم البشرى لا يثور إلا فى ظروف معينة. وهذا الشعور البيولوچى تتحكم فيه مواد كيماوية منشطة ، تسمى «فيرومينا» ، هى التى تدعو إلى الجاذبية الجنسية بين الذكر والأنثى ، يتحكم فيها الاختيار والجاذبية.

بل إن الرحم ، عند الجماع ، يشتد شوقه إلى المنى حتى إن الإنسان يحس فى وقت الجماع كأن الرحم يجذب إحليله إلى داخله. وتلك حقيقة مؤكدة يشعر بها الجميع ، وقالها منذ مئات السنين العلامة الفخر الرازى فى «المباحث الشرقية».

كانت هذه مقدمة ضرورية للدخول فى الحديث عن النطفة.

لفظ النطفة فى القرآن الكريم

تكرر لفظ النطفة (١) فى كثير من سور القرآن الكريم (فى اثنى عشر موضعا). وسنلاحظ فى هذه السور بيانا واضحا بأن بداية خلق الإنسان كانت من تراب ثم من «نطفة» ، بكل وضوح. وفى بعض الأحيان يذكر القرآن الكريم أن خلق الإنسان كان من «نطفة». ويتنوع الخطاب حول النطفة ، فيتوجه الله العزيز الحكيم أحيانا

__________________

(١) راجع الفصل الرابع الخاص بمراحل الخلق لتجد نصوص الآيات التى ذكر فيها لفظ النطفة كاملة.

٦٥

بالخطاب مباشرة إلى الإنسان (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الكهف : ٣٧] ، وفى موضع من القرآن يتحدث المولى عز جلاله بصيغة الخبر (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] وفى موضع آخر يأتى الحديث بصورة عامة (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [النحل : ٤].

تعريف «النطفة» لغويا

بمراجعة قواميس اللغة العربية ومراجعها (مثل لسان العرب ، وتاج العروس) نجد أن «النطفة» فى اللغة العربية تطلق على عدة معان منها :

ـ القليل من الماء والذى يعادل قطرة.

ـ صغار اللؤلؤ ، وواحدتها نطفة ، ونطفة شبهت بقطرة الماء.

ـ عند ما تنظف آذان الماشية أى تبتل بالماء فتقطر.

ـ وجاء فى حديث شريف «فلم نزل قياما ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطف رأسه ماء».

ـ وفى حديث آخر «جاء رجل يهودى يمتحن نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : يا محمد مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا يهودى من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة».

أنواع النطفة

النطفة أنواع ثلاث :

١ ـ النطفة المذكرة : وهى الحيوانات المنوية الموجودة فى المنى والتى تفرزها الخصية.

٢ ـ النطفة المؤنثة : وهى البييضة التى يفرزها المبيض كل شهر.

٣ ـ النطفة الأمشاج : وهى النطفة المختلطة من الحيوان المنوى الذى يلقح البييضة ، أى البييضة الملقحة.

٦٦

ورد لفظ المنى فى القرآن الكريم فى ثلاثة مواضع. ويطلق لفظ المنى على الإفرازات التناسلية للرجل والتى تفرزها الخصية والبروستاتا والحويصلة المنوية. والمنى مكون من شيئين :

الأول : هو الحيوانات المنوية التى تتكون من القنوات المنوية فى الخصية .. وهى ذاتها المسماة بالنطفة.

والثانى : هو السائل المنوى الذى يحمل هذه الحيوانات ويغذيها والذى تسبح فيه حتى تصل إلى الرحم (١).

وتعالوا بنا نتجول مع النطفة فى رحلة تطوراتها ، التى تبدأ من الحوين المنوى والبييضة وتنتهى بالحرث والانغراس.

يقول سبحانه فى سورة الطارق (٦) (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ.) وتلك حقيقة علمية مؤكدة وهى أن ماء الرجل يخرج متدفقا. سبحان الله الذى خلق وقال فى وصف الماء بأنه دافق ، أسند التدفق للماء نفسه ، وهو ما يعنى أن للماء قوة دفق ذاتية.

ومن الأمور المعروفة والثابتة أن الدفقة الواحدة من المنى تحمل مائتى مليون حيوان منوى ، (شكل ١٠) وأن الذى يلقح البييضة هو واحد فقط من كل هذه الملايين من الحيوانات المنوية.

وكما أن هناك اختيارا واصطفاء للحيوان المنوى ، فهناك أيضا اختيار واصطفاء للبييضة. فنجد أن مبيض الطفلة ، وهى جنين فى بطن أمها ، يحتوى على ستة ملايين بييضة ، يموت الكثير منها عند خروج الطفلة إلى الحياة. ويتواصل اندثار هذه البييضات إلى أن تبلغ الفتاة المحيض فلا يتبقى لديها سوى ثلاثين ألفا. ولا يزيد عدد ما ينمو منها ويخرج من المبيض عن أربعمائة بييضة فى حياة المرأة كلها.

وقد احتاج العلم الحديث إلى قرون طويلة لكى يثبت فى النهاية ما قاله القرآن ، وهو أن المنويات التى يحتويها ماء الرجل لا بد أن تكون حيوية متدفقة متحركة كشرط أساسى للإخصاب. وأثبت العلم أيضا أن ماء المرأة الذى يحمل البييضة

__________________

(١) خلق الإنسان بين الطب والقرآن. د. محمد على البار.

٦٧

(شكل ١٠) جيش من الحيوانات المنوية فى دفعة واحدة تتجه للبييضة

(شكل ١١) خروج البييضة متدفقة إلى قناة الرحم

٦٨

يخرج متدفقا إلى قناة الرحم (فالوب) ، وأن اندفاعة البييضة لا بد أن تكون حيوية متدفقة حتى يتم الإخصاب. (شكل ١١)

ولما كان لفظ «نطفة» يعنى الكمية القليلة من السائل ، فإن هذا المعنى ينسحب على تلك الكميات من السوائل المتدفقة التى تخرج من الرجل والمرأة :

* فمن المعروف أن ماء الرجل يحتوى ، بالإضافة إلى المنويات عناصر أخرى تشارك وتساعد فى عملية الإخصاب ، منها البرستاجلاندين ، التى تحدث تقلصات فى الرحم مما يساعد فى نقل المنويات إلى موقع الإخصاب.

* والتى تجعل الحوين المنوى قادرا على الإخصاب ، وذلك بإزالة البروتين السكرى من رأسه. وتعمل هذه الأنزيمات ، بالإضافة إلى ذلك ، على إطلاق الخلايا المحيطة بالبييضة وكشف غطائها الواقى أمام الحوين المنوى.

السلالة

يقول الخالق جل جلاله فى سورة السجدة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨]. والمراد بالماء المهين هنا (أى فى طور السلالة) ماء الرجل.

(شكل ١٢) صورة مكبرة للحوين المنوى ويظهر على شكل السمكة الطويلة

٦٩

ولفظ «السلالة» ـ من الناحية اللغوية ـ يأتى بمعان منها :

* انتزاع الشىء وإخراجه فى رفق.

* ويعنى أيضا السمكة الطويلة.

وبنظرة فاحصة إلى الحوين المنوى نجد أنه «سلالة» تستخلص من ماء الرجل ، وعلى شكل السمكة الطويلة (شكل ١٢) ، ويستخرج برفق من الماء المهين.

والتسلل هو التحرك فى خفاء ، والسلالة هى ما يحرك فى خفاء. والخفاء قد يتعلق بالشىء ذاته ، وقد يتعلق بالحركة ، وقد يكون كلاهما خفيا. والشىء يكون خفيا حين يكون مفرطا فى الصغر أو مفرطا فى الشفافية أو فى البعد أو حين يتخفى وراء غيره أو فى ثناياه. والحركة تكون مفرطة فى السرعة ، أو مفرطة فى البطء ، أو حين تحدث وراء ستار ، أو فى الظلام ، ولا تكون مصحوبة بما ينم عليها كالجلبة وشدة التأثير. وحين يكون التخفى بسبب بطء الحركة وانخفاض الصوت والتأثير فإنه قد يسمى (تلطفا).

تحركات عجيبة تشهدها عملية الإخصاب

تتحرك نطفة الرجل فى منيه صعودا وهبوطا من المهبل فعنق الرحم فالرحم نفسه ثم البوق (قناة المبيض) (شكل ١٣) ، وحتى الثلث الخارجى منه ، أما صيوان البوق ، وهو نهايته الخارجية المتسعة ، فإنه يقترب من المبيض ويتلقف الماء الدافق (منى المرأة) الذى يحوى نطفة المرأة ، وتسير هذه إلى الثلث الخارجى من البوق حيث تتم عملية المشج (الإلقاح) باتحاد نطفتى الذكر والأنثى وتكوين النطفة الأمشاج (البييضة المخصبة) ؛ التى تسير نحو الرحم فى رحلة عكسية أمدها ثلاثة أيام ، حيث تكون بطانته مهيأة تمام التهيؤ لا نغراس النطفة الأمشاج فيه ، حيث إنها تحفر لنفسها حفرة فيه ثم تنغلق عليها ؛ متمتعة بالتغذية المؤمنة والحماية الكاملة. والأمر اللافت للنظر أن فى البوق أهدابا تتحرك فيه نحو الجهة البرانية (الخارجية) حتى تسوق أنطاف الذكر نحو نطفة الأنثى (شكل ١٤) ، وأهدابا تتحرك فيه نحو الجهة الأنسية (الداخلية) منه لتسوق النطفة الأمشاج حيث قرارها المكين. وسبحان

٧٠

(شكل ١٣) تحرك نطفة الرجل من المهبل فعنق الرحم فالرحم نفسه ثم إلى البوق

(شكل ١٤) الأهداب فى البوق التى تتحرك وتدفع الحوين المنوى إلى الجهة الخارجية نحو نطفة الأنثى

٧١

الذى خلق كل شىء فأحسن خلقه ، فجعل أهدابا تتحرك فى هذا الاتجاه وأخرى تتحرك عكسه.

خلال هذه الرحلة ، لا يصل من ماء الرجل إلا القليل ، حيث يخترق حوين منوى واحد البييضة ، ويعقب ذلك مباشرة حدوث تغير سريع فى غشائها يمنع دخول بقية الحيوانات المنوية. وصلاة وسلاما عليك يا سيدى يا رسول الله يا من عرفت ـ وأنت النبى الأمى ـ وأبلغت الناس بأن الإخصاب لا يحدث من كل ماء الذكر ، فقلت «ما من كل الماء يكون الولد» [صحيح مسلم]. صلاة وسلاما عليك يا من لا ينطق عن الهوى ، فعرفت أن الخلق من الماء من خلال اختيار خاص ، فحددت بكل دقة هذه المعانى التى لم يتوصل إليها العلم الحديث إلا من بضع عشرات من السنين.

هكذا تكون يد القدرة قد تدخلت واختارت واحدا من هذه الأعداد الهائلة من الحيوانات المنوية لتفتح له البييضة كوة فى جدارها (شكل ١٥) ، فى حين تفشل كل الحيوانات المنوية الأخرى فى الدخول. وتشير بعض الأبحاث أخيرا إلى أن الحيوان المنوى والبييضة يحتاجان لعدة ساعات حتى يكتسبا القدرة على التلاقح والتزاوج.

وهنا قد يثور تساؤل هو : لماذا البييضة كبيرة الحجم بينما الحيوان المنوى متناه فى الصغر؟ (شكل ١٦) ، وردا على ذلك تقول الحقائق العلمية إن البييضة هى أكبر خلية فى جسم الإنسان ، فهى تبلغ فى قطرها ٢٠٠ ميكرون ، بينما لا يزيد الحيوان المنوى عن خمسة ميكرونات. ومع هذا فإن الحيوان المنوى يسهم بنصف مكونات الجنين تماما بنفس قدر إسهام البييضة. وتفسير هذه الظاهرة هيّن ، فالبييضة هى المسئولة عن تغذية هذه النطفة الأمشاج المكونة من كروموسومات الحيوان المنوى (الأب) وكروموسومات البييضة (الأم) ؛ وهى المسئولة عن تغذية النطفة الأمشاج حتى تبلغ مرحلة العلوق بجدار الرحم. وكلمة أمشاج ـ من الناحية العلمية ـ دقيقة تماما ، فهى صفة جمع تصف كلمة «نطفة» المفردة ، والتى هى عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف والأحفاد لكل جنين. ثم تواصل نموها ، وتحتفظ بشكل النطفة ، ولكنها تنقسم إلى خلايا أصغر فأصغر تدعى قسيمات جرثومية (Blastomeres). (شكل ١٧ ، ١٨ ، ١٩).

٧٢

(شكل ١٥) انفتاح كوة فى جدار البييضة ينجح واحد فقط من الحيوانات المنوية فى اختراقها

(شكل ١٦) يبين صغر الحوين المنوى بالنسبة لحجم البييضة الكبير

٧٣

(شكل ١٧) النطفة الأمشاج بعد نموها وانقسامها إلى خليتين (ثلاثون ساعة)

(شكل ١٨) النطفة الأمشاج وانقسامها إلى أربع قسيمات جرثومية (يومان)

(شكل ١٩) انقسام النطفة إلى أكثر من أربع قسيمات

٧٤

وبعد أربعة أيام تتكون كتلة كروية من الخلايا تعرف ب «التوتية» (Morula) (شكل ٢٠).

وبعد خمسة أيام من الإخصاب يطلق على النطفة اسم «كيس الجرثومة» (Blastocyst) (شكل ٢١) ، مع انشطار خلايا التوتية إلى جزأين.(شكل ٢٢ و ٢٢ أ)

وبالرغم من انقسام النطفة فى الداخل إلى خلايا ، فإن طبيعتها ومظهرها لا يتغيران عن النطفة ، لأنها تملك غشاء سميكا يحفظها ويحفظ مظهر النطفة فيها.

وخلال هذه الفترة ينطبق تعبير «نطفة أمشاج» بشكل مناسب تماما على النطفة فى كافة تطوراتها ، إذ تظل كيانا متعددا :

* فهى إلى هذا الوقت جزء من ماءى الرجل والمرأة ،

* وتأخذ شكل القطرة فهى نطفة ،

* وتحمل أخلاطا كثيرة فهى أمشاج.

الشىء اللافت للنظر حقا هو أن هذا الاسم للجنين فى هذه الفترة شامل من كل النواحى ، فهو يغطى الشكل الخارجى من ناحية ، وكذلك حقيقة التركيب الداخلى من ناحية أخرى. هذا فى الوقت الذى لا يسعفنا فيه بهذه المعانى مصطلح مثل «توتية» ، ولا تلك الأرقام المستعملة الآن لمحاولة التعبير عن هذه المعانى.

تطورات النطفة الأمشاج

بعد أن تتكون النطفة الأمشاج تنتج عنها التطورات التالية :

أ ـ الخلق : وهو البداية الحقيقية لوجود الكائن الإنسانى.

فيوجد فى الحوين المنوى (٢٣) حاملا وراثيا ، ويوجد نفس العدد وهو (٢٣) حاملا وراثيا أيضا فى البييضة.

ويندمج الحوين المنوى فى البييضة لتكوين الخلية الجديدة التى تحوى عددا من الصبغيات (الكروموسومات) مساويا لما يوجد فى الخلية الإنسانية (٤٦).

وبوجود الخلية التى تحمل هذا العدد من الصبغيات يتحقق الوجود الإنسانى ،

٧٥

(شكل ٢٠) الثوتية وهى كتلة كروية من الخلايا بعد أربعة أيام

(شكل ٢١) كيس الجرثومة (خمسة أيام)

٧٦

(شكل ٢٢ ـ ٢٢ أ) انشطار الخلايا الجرثومية إلى جزأين

٧٧

ويتقرر به خلق إنسان جديد ، لأن جميع الخطوات التالية ترتكز على هذه الخطوة وتنبثق منها ، فهذه هى الخطوة الأولى لوجود المخلوق الجديد.

النطفة الأمشاج :

يذكر القرآن الكريم هذه المرحلة فى قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] ومعنى «نطفة أمشاج» : قطرة مختلطة من ماءين.

وتأخذ البييضة الملقحة شكل القطرة ، (شكل ٢٣) وهو ما يتفق مع المعنى الأول للفظ «نطفة» أى قطرة.

وهذه «النطفة الأمشاج» تعرف علميا عند بدء تكونها ب «الزيجوت».

ولنتوقف لغويا أمام هذا التعبير ، لنجد أن كلمة «نطفة» هى اسم مفرد ، بينما كلمة «أمشاج» هى صفة فى صيغة الجمع ، فى حين أن المفروض أن تكون الصفة تابعة للموصوف فى الإفراد والتثنية والجمع. وكان هذا التعبير واضحا عند مفسرى القرآن الكريم الأوائل الذين قالوا إن النطفة مفردة لكنها فى معنى الجمع.

(شكل ٢٣) البييضة الملقحة تأخذ شكل القطرة (نطفة)

٧٨

هذا المعنى الذى بينه المفسرون الأوائل ، أصبح ممكنا للعلم الحديث اليوم أن يوضحه.

ب ـ التقدير (البرمجة الجينية):

يأتى التقدير ـ من الناحية اللغوية ـ بمعنى :

* التروية والتفكير فى تسوية أمر وتهيئته ،

* تقديره بعلامات يقطعه عليها ،

* أن تنوى أمرا بعقدك ، فتقول : قدرت أمر كذا وكذا أى نويت وعقدت عليه.

(لسان العرب).

والتقدير ، بعد الخلق ، ذكرهما القرآن الكريم بوصفهما عمليتين متعاقبتين فى أول تطورات النطفة الأمشاج ، فى قوله تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس : ١٧ ـ ١٩].

وهذا هو ما يحدث بالضبط .. فبعد ساعات من تخلق إنسان جديد فى خلية إنسانية كاملة ، تبدأ عملية أخرى ، تتحدد فيها الصفات التى ستظهر على الجنين فى المستقبل (الصفات السائدة).

كما تتحدد فيها الصفات المتنحية التى قد تظهر فى الأجيال القادمة. وهكذا يتم تقدير أوصاف الجنين وتحديدها.

ج ـ تحديد الجنس :

فى إطار عملية التقدير التى تحدث فى النطفة الأمشاج ، يتم تحديد الذكورة والأنوثة. وهذا ما يشير إليه قول الحق تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم : ٤٥ ، ٤٦].

فإذا كان الحوين المنوى الذى نجح فى تلقيح البييضة يحمل الكروموسوم (Y) كانت النتيجة ذكرا ، وإن كان ذلك الحوين المنوى يحمل الكروموسوم (X) كانت النتيجة أنثى.

٧٩

د ـ الحرث :

تبقى النطفة متحركة ، وتظل كذلك حين تصير أمشاجا ، وبعد ذلك ـ وبالتصاقها ـ تبدأ مرحلة الاستقرار التى أشار إليها الحديث النبوى «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين يوما ..».

وفى نهاية مرحلة النطفة الأمشاج ينغرس كيس الجرثومة فى بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة فى التربة فى عملية حرث الأرض ؛ وإلى هذه العملية تشير الآية فى قوله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣]

وبهذا الانغراس يبدأ طور الحرث ، ويكون عمر النطفة حينئذ ستة أيام.

وتنغرس النطفة (كيس الجرثومة) فى بطانة الرحم بواسطة خلايا تنشأ منها ؛ تتعلق بها فى جدار الرحم ، والتى ستكون فى النهاية هى المشيمة ، كما تنغرس البذرة فى التربة. (شكلا ٢٤ و ٢٥)

اللافت للنظر أن علماء الأجنة يستخدمون مصطلح (انغراس) فى وصف هذا الحدث ، وهو يشبه كثيرا فى معناه كلمة (الحرث) فى اللغة العربية.

ومرحلة الحرث هى آخر مرحلة فى طور النطفة ، وبنهايتها ينتقل الحميل من شكل النطفة ، ويتعلق بجدار الرحم ، لتبدأ مرحلة جديدة ، وذلك فى اليوم الخامس عشر.

الرحم أو القرار المكين

ولم يبق فى هذه المرحلة من مراحل الخلق الإنسانى ، إلا الحديث عن المكان الذى تستقر فيه النطفة فى جسد المرأة.

سبحان من هذا كلامه ، فقد أعطى الله لهذا المكان وصفين جامعين فى قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٣].

فالرحم هو مكان لاستقرار الجنين ، ومعنى «القرار» فى قواميس اللغة (استقر واستراح) وهو أيضا (مكان يستقر فيه الماء ويتجمع). ولهذا اختار القرآن الكريم تعبير «القرار» وصفا للمكان الذى تستقر فيه النطفة وهو الرحم.

٨٠