إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

الفصل الرابع

مراحل الخلق كما وردت

فى القرآن الكريم

تمهيد

سبحانك يا الله ... يا عظيم ..

قرآنك الكريم يحتوى بين صفحاته كل تفاصيل مراحل الخلق البشرى ، بينما كان الجهل يبسط ظلامه على عقول البشرية جمعاء. كلماتك الصادقة تعبر أفضل تعبير عن الحقيقة العلمية ، بينما كان الناس يتخبطون بين مفاهيم ونظريات لا علاقة لها بالحقيقة ولا نصيب لها من الصحة. أما الأمر المثير للخشوع فعلا فهو أن المراحل الصحيحة ، موجودة متكاملة ، بألفاظ وعبارات وصفية دقيقة ، منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، ولم يتمكن العلم الحديث من إيجاد بديل لها ، أو على الأقل معادل لها.

ولا مبرر للدهشة .. فنحن أمام كلمات الله القادر العليم ..

وسوف نستعرض ما لدينا من شواهد وحجج فى هذا السياق.

٤١

علم القرآن الكريم .. فى مواجهة جهل البشرية

منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ، نص القرآن الكريم ـ بكلمات صريحة واضحة ـ على أن خلق البشر يتم على مراحل ، من خلال أطوار متتابعة متلاحقة. واستخدم القرآن فى عرضه لمراحل الخلق مصطلحات علمية دقيقة ، لم يقف العالم على عتبة المعرفة بها إلا منذ مائة عام أو أكثر قليلا.

وفيما عدا علماء المسلمين ، فإن كل هذه الحقائق لم تكن معروفة لدى علماء البشر حتى منتصف القرن الماضى. فمنهم من كان يعتنق النظرة الإغريقية بأن الجنين يتخلق من دماء الحيض. وعند ما اخترع الميكروسكوب فى القرن السابع عشر ، واكتشف الحيوان المنوى ، كان اعتقاد العلماء أن كل خلية منوية تحمل كائنا بشريا كامل الخلق دقيق الحجم ، وهكذا اتجهوا إلى تجاهل الإسهام الوراثى للأنثى فى تخليق الجنين. ثم اكتشفت البييضة فى القرن الثامن عشر ، فاتجه العلماء إلى الاعتقاد بوجود كائن بشرى متكامل التخلق دقيق الحجم فيها ، وهكذا قصرت أفكارهم عن دور الذكر فى التناسل. إجمالا نقول إن محصلة كل هذه المعتقدات والنظريات الخاطئة كان الاعتقاد بأن الحمل منذ بدايته يحتوى على كائن بشرى متكامل الخلق.

أما القرآن الكريم فقد عرض لعملية الخلق من خلال أطوار ومراحل متتالية ، منها السريع ومنها البطىء ، منذ البداية حتى النهاية ، (مثل : سلالة من ماء مهين ـ نطفة ـ علقة ـ مضغة) ، وبتسميات تنطوى على تحديد دقيق للخصائص والوظائف الأساسية (مثل وصف الرحم بأنه «قرار مكين»). بل إن المصطلحات القرآنية تتحدث عن أحجام بالغة الصغر للجنين لا يمكن رؤيتها ولا قياسها إلا تحت الميكروسكوب فقط ، فالنطفة يبلغ قطرها (١ ر ٠ ملم) ، والعلقة يتراوح طولها بين (٧ ر ٠ ـ ٠ ر ٣ ملم) ، والمضغة طولها (٢ ر ٣ ـ ١٣ ملم). أما اختيار حروف العطف فقد جاء متميزا للتدليل على توقيت حدوث المراحل والأطوار الرئيسية الأربعة ، فجاء حرف (ثم) للإشارة إلى المراحل الأساسية ، وجاء حرف (الفاء) للإشارة إلى المراحل الفرعية التى تحدث بتتابع سريع نسبيا.

ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أن هناك وحدة متماسكة. فى الحديث عن الخلق

٤٢

ومراحله وأطواره ، لا تتغير فيها المفاهيم ولا الألفاظ ، مهما تكررت الإشارة إليها فى آيات الذكر الحكيم. فنحن إذن أمام حقيقة علمية صحيحة دقيقة ، لا تختلف مصطلحاتها ولا تتعارض ألفاظها .. وحاشا لله ، فكيف يحدث هذا التعارض والخلاف ، وهناك رب واحد عليم هو قائلها.

وتعالوا نقرأ سويا نماذج من هذه التعبيرات الإلهية البالغة الدقة :

أولا : عن المفهوم الأساسى فى الخلق : ومفاده أن الله هو الخالق :

(بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٨١]

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [الحجر : ٨٦]

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤]

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر : ٢٤]

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [نوح : ١٣ ، ١٤]

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١]

(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩]

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فصلت : ٤٧]

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨]

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦]

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الشورى : ٤٩ ، ٥٠]

٤٣

ثانيا : مرحلة البداية : فيها الإشارة إلى المنبع والمصدر اللذين بدأ منهما الخلق :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢]

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٧ ، ٨]

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : ٥ ـ ٧]

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [غافر : ٦٧]

(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) [الكهف : ٣٧]

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [فاطر : ١١]

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [الواقعة : ٥٨ ، ٥٩]

ثالثا : مرحلة التخليق : وهى مرحلة المتغيرات المتلاحقة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى العظام ، إلى كسوتها باللحم :

النطفة :

(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المرسلات : ٢١]

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٣]

(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الكهف : ٣٧]

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢]

٤٤

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس : ١٩]

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم : ٤٥ ، ٤٦]

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) [يس : ٧٧]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [غافر : ٦٧]

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [القيامة : ٣٧]

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [النحل : ٤]

العلقة :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ٢]

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) [المؤمنون : ١٤]

(ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [القيامة : ٣٨]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [غافر : ٦٧]

المضغة :

(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) [المؤمنون : ١٤]

(فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥]

العظام :

(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [المؤمنون : ١٤]

(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) [البقرة : ٢٥٩]

رابعا : مرحلة النشأة : وفيها تتم التسوية والخلق :

٤٥

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٧ ، ٨]

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [المؤمنون : ٧٨]

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤]

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧]

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥]

(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧]

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) [فاطر : ١١]

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى : ٢]

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢ ، ٣]

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [القمر : ٤٩]

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٢ ، ٢٣]

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤]

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ٦]

كل هذه النصوص الصريحة والواضحة ، والعلمية الدقيقة ، تشرح لنا الحكمة الإلهية فى خلق الإنسان ، والتى تنتهى بتحديد الهدف المطلوب ، وهو ما يقوله رب العزة فى سورة الحجرات (الآية ٣١) :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)

وبتفصيل أكثر اتساعا نمضى فى رحلتنا مع الآيات القرآنية الكريمة لكى نزداد استيضاحا حول مدى إعجازها فى بيان خلق الإنسان.

٤٦

الفصل الخامس

الطور الأول

البداية

تمهيد

لا بد من أنه توجد نقطة معينة ، عندها يبدأ الخلق.

وذلك هو ما يقدمه لنا رب العزة فى قرآنه الكريم ، إذ يقول : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : ٥ ـ ٧]

أى إعجاز هذا؟! ففى بلاغة ساحرة (ولا غرو فنحن أمام كلام رب عظيم) نجد أن أسرار النشأة الأولى للإنسان مطروحة أمامنا فى هذه الآيات الثلاث.

جدير بنا أن نلاحظ أن رب العزة ، قبل أن يكشف لنا هذه الأسرار ، يؤكدها بذاته بقسم جليل من لدنه : بالسماء ، وهى كل الكون المحيط بنا ، وبالطارق وهو النجم الذى يشكل وحدة بناء الكون ، فيقول الله تبارك وتعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : ١ ـ ٧]

٤٧

التعدد والاختلاف فى خلق الإنسان

وحكمة الله فى ذلك

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢]

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩]

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥]

تلك هى حكمة الله فى التعدد والاختلاف. فلم يكن هذا التعدد والتنوع فى الخلق نسخا مكررة من أصل واحد ، أى استنساخا لفرد معين فى التكوين والأخلاق والطباع والسلوك. وهذا الاختلاف آية من آيات الله الكونية ، فلم يخلق الله عالما واحدا ولكنه خلق عوالم متعددة على أحوال متفاوتة فى التنوع والتعدد. ووجود الإنسان وبقاؤه فى الكون يتوقفان على هذا التعدد والاختلاف. وإن الأمر لا يتوقف عند هذا ، ولكنه يتجاوزه إلى تنوع تضاد. وهذا الاختلاف والتضاد هما الذان يقوم عليه الوجود كله. وليس من المتصور نظريا ولا علميا أن يقوم الوجود على أحد المتضادين دون اعتداد بالآخر (١).

إن الله حينما نوّع الأجناس لم يرد أن تتناكر وتتخالف ، ولكنه أراد أن تلتقى وتتآلف .. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [الحجرات : ١٣].

وإن استمرار الحياة لا يتأتى إلا بوجود الذكر والأنثى. فالخلق من ذكر وأنثى يعنى أن الحياة تنتج من التقاء الأنواع المتضادة. فالذكورة ضد الأنوثة ، وكل من

__________________

(١) دكتور أحمد محمد على (أستاذ بكلية اللغة العربية ـ جامعة محمد بن سعود الإسلامية).

٤٨

الزوجين مضاد للآخر. وليس هذا فى الأنواع الحية من إنسان وحيوان ونبات فحسب ، ولكنه شأن الوجود كله.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩]

وقضية خلق السموات والأرض لا تتوقف دلالتها عند عظمة الخلق التى يستدل بها على عظمة الخالق ، خاصة أن الله يبين لنا أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.

هكذا على الإطلاق ، فالزوجان سر الوجود كله. والتزاوج المنتج هو تزاوج ضدين لا تزاوج تماثل. فالأسرة المكونة من متماثلين ـ لو وجدت ـ رجلين أو امرأتين ، لا تنتج شيئا. ولو تصورنا جدلا أن نظام الأسرة فى الوجود كله قام على متماثلين لفنيت الحياة.

وهذا القانون الإلهى فى الوجود يفهمه الحيوان بالغريزة ، ويفهمه الإنسان العادى بالفطرة ، ويفهمه الأنبياء والمرسلون والمؤمنون بالوحى الإلهى. والإنسان مأمور بأن يحقق الإنسجام بين حركته الحرة المختارة ، وبين سنن الله الكونية.

وبداية خلق الإنسان تعتمد على اتحاد وتزاوج ضدين : الذكر والأنثى ، الحيوان الذكرى من الرجل والبييضة من المرأة ، وينتج منهما باتحادهما حياة جديدة ، وخلق مختلف عن أى منهما ، ذكرا أو أنثى ، وتستمر الحياة ويبقى النوع.

وقد خلق الله سبحانه وتعالى بنى آدم وكرمهم على كثير من المخلوقات ، وجعل نظام بقائهم مرتبطا بارتباطهم بالتزاوج والتناسل.

الخلية هى البداية :

إذا كانت الحياة تبدأ بطرق مختلفة للتكاثر ، فإن الكائنات ـ آدمية أو حيوانية ـ تبدأ بخلية واحدة.

وهذه الخلية (البييضة المخصبة ـ الأمشاج) تحتوى بداخلها على جينات من الذكر والأنثى ، وتؤشر إلى جميع الخصائص المكتسبة للجنين مستقبلا. وهذه الخصائص

٤٩

التى اكتسبت عبر بلايين السنين تستلزم ألا ينجب الإنسان الآدمى إلا إنسانا آدميا ، وتجعل ـ فى نفس الوقت ـ الاختلاف والتباين أمرين قائمين ، إلا فى حالة التوائم المتماثلة. وبذلك يختلف أى شخص عن الآخر اختلافا بينا ، ويستمر هذا الاختلاف على مدى السنوات والقرون إلى أن تفنى الحياة.

وكلما تقدم العلم وارتقت المعرفة ، وأمكن للعلماء دراسة بداية الحياة والخلق ، وبالتقنية الحديثة ، كلما أصبح ممكنا رؤية الوقائع التى تحدث منذ بداية الخلق ، وتصوير مراحلها وأطوارها المتتابعة بدقة متناهية ، منذ إخصاب البييضة حتى تكون الجنين.

وفى غضون ذلك كله ، فى قصة تكوين الجنين ونموه ، يظهر الإعجاز الإلهى لبيان آيات القرآن فى خلق الإنسان.

كانت تلك المقدمة ـ رغم طولها ـ ضرورية للدخول فى الحديث عن نقطة البداية فى الخلق.

ما هو الصلب وما هى الترائب؟

من المعلوم أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ، ومن ثم فإننا نبدأ فى البحث فى كتاب الله نفسه ، ثم فى الحديث النبوى الشريف ، فنجد :

* ذكرت كلمة «الصلب» مفردة مرة واحدة فقط فى تلك الآية.

* وذكرت كلمة الصلب مرة أخرى واحدة ، وبصيغة الجمع ، فى قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣]

* أما فى الحديث النبوى الشريف ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى وصفه للمشركين ـ «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به».

* وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق للجنة أهلا خلقها لهم ، وهم فى أصلاب آبائهم».

٥٠

* وأما كلمة «ترائب» فلم يرد ذكرها مرة أخرى فى الكتاب العزيز.

المعنى اللغوى للصلب والترائب

أجمعت قواميس اللغة ومعاجمها على أن الصلب هو عظم فى الظهر ذى الفقار ، من الكاهل (وهو ما بعد العنق) إلى العجب (أسفل الظهر). جمعه أصلب وأصلاب. والصلب هو الحسب. ويقال : عربى صليب أى خالص العروبة والنسب.

أما الترائب ، وواحدتها تريبة ، فهى عظام الصدر أو ما ولى الرقبة منه ، أو ما بين الثديين والترقوتين ، أو أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة من يسرته ، أو هى موضع القلادة من الصدر.

وقال بعض المفسرين إن الصلب هو صلب الرجل ، وإن الترائب هى ترائب المرأة (ما فوق الثديين وموضع القلادة). وقال البعض الآخر : يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة ، وترائب كل منهما.

فى التحليل النهائى لما أوردته كثير من المعاجم والتفاسير ، نجد أن كلمة «الصلب» ـ وإن كانت مرادفة لمعنى الظهر ـ فمقصود منها جزء مخصوص من الظهر وليس الظهر كله. كما نجد أن المقصود بالترائب ليس كل الأضلاع وإنما هى أضلاع مخصوصة.

الرأى فى المعنى اللغوى

معلوم أن العمود الفقرى يتكون من ٧ فقرات عنقية و ١٢ صدرية و ٥ قطنية و ٥ عجزية ملتحمة و ٥ حرقفية (عصعصية) ضامرة.

ويبدأ الصلب من الكاهل ، الذى هو مقدم أعلى الظهر مما يلى العنق ، أى أن الفقرات العنقية ليست جزءا من الصلب ـ وأما نهايته فهى العجب (العجز).

وعليه فيكون الصلب هو :

٥١

الفقرات الصدرية+ القطنية+ العجزية

أى ما يساوى ١٢+ ٥+ ٥ ـ ٢٢ فقرة

وأما الترائب ، فليست هى أضلاع الصدر على إطلاقها ، وإنما هى ـ على التخصيص ـ أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة من يسرته ، مما يلى الترقوتين فى موضع القلادة.

يخرج من بين

جاء فى الآية الكريمة تعبير «يخرج من بين» ، وذلك قبل الصلب والترائب. وقد ذهب بعض الأقدمين فى تفسيرهم لهذه الآية إلى أن المنى يخرج من صلب الرجل ، وماء المرأة يخرج من ترائبها. وهذا خطأ علمى وخطأ منهجى ، حيث لم يعطوا الآية حقها فحذفوا كلمة «بين» ، ولذلك وقعوا فى الخطأ ؛ فالمفروض أن تؤخذ الآية كلها دون إسقاط لفظ منها.

وأمامنا ـ كنموذج ـ الآية رقم (٦٦) من سورة النحل وفيها نقرأ قوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) [النحل : ٦٦]. فالناتج هنا ، وهو اللبن ، مفرد لكن أصله عديد ، إذ هو الفرث والدم ، وكل منهما له مكونات عديدة مما قد لا يحصى. وكذلك هو الماء الدافق ، هو مفرد ، ولكن أصله عديد وهو الصلب والترائب. فقوله يخرج (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) يفيد بأن اللبن مزيج استخلص استخلاصا من كل مكونات الفرث ومن مكونات الدم ، حتى صار شيئا جديدا. وكذلك هو الماء الدافق ، قد اشتقت مكوناته العديدة واستخلصت استخلاصا من مصادر عديدة ، وهى الصلب والترائب. وترتيبا على هذا الفهم لكل كلمات الآية والمراد منها ، يكون المقصود فى قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أن يخرج من منطقة تقع فى مكان وسط بين الأضلاع والظهر.

فلو كان ذلك صحيحا فإنه بالتالى يصبح صحيحا أيضا فى تفسير آية (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً ،) قولنا بأن اللبن يخرج من منطقة تقع فى مكان وسط بين الفرث والدم ، وهو قول ظاهر بطلانه.

وفى قوله تعالى (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وقوله (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ

٥٢

مِنْ بَيْنِنا) [القمر : ٢٥] ـ ليس المقصود بقوله استنكار الكفار أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ظهر فى وسطهم ، بل هو استنكارهم أنه قد اختير من بينهم ، وهم كثير.

وهذا الرأى تؤيده الأحاديث النبوية الشريفة. فقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمته الشهيرة فى كفار مكة «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عزوجل ..». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا». وفى الحديث أيضا «إن الله خلق للجنة أهلا ، خلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم».

نخرج من ذلك كله بأمر واضح ومؤكد ، هو أن الأصلاب هى أصل خلق الإنسان ، لا أنه مخلوق من مكان وسط بين الصلب والترائب.

ما هو الشىء الذى يخرج من الصلب والترائب؟

اتفق الجميع ، قديما وحديثا ، على أن الذى يخرج هو الماء الدافق. لكن مفسرا واحدا انفرد بالذهاب الى أن المقصود هو الإنسان المولود لا الماء الدافق ، لاعتقاده بأننا (إذا أرجعنا ضمير يخرج إلى الماء الدافق كما فعل المسلمون حتى الآن فهذا جائز حسب قواعد اللغة لقربه من الماء الدافق ، ولكن هذا لم يمنع من إرجاع الضمائر الأبعد منه كالهاء فى «رجعه» والهاء فى «فما له» للإنسان الذى ورد ذكره قبل الماء). وقد خلص من ذلك إلى أن (الجنين يكون أثناء الحمل وفى تمامه وحين يخرج ـ أى أثناء الولادة ـ بالضبط بين الصلب والترائب. وأن الله تعالى يلفت نظرنا إلى عملية الولادة المعقدة التى تستحيل حساباتها وترتيباتها على غيره سبحانه).

وأضاف هذا المفسر قائلا بأن (الخط الواصل بين الصلب والترائب ينطبق على محور الجنين فى أكثر من ٩٧ خ من الحالات فى المجيئات الطولانية الرأسية أو المقعدية ويكون أحد قطبيه قريبا من الصلب والآخر قريبا من الترائب. إذن لم يعد هناك شك فى أن ضمير يخرج عائد إلى الإنسان) (١).

__________________

(١) هذا المفسر هو الدكتور مأمون شقفة فى كتابه (القرآن المكين).

٥٣

لكن الرأى العلمى والفقهى الصحيح ، هو ما ذهبت اليه جمهرة العلماء والمفسرين ، وهو أن الصلب والترائب هى مصدر خلق الإنسان.

وما هو الماء الدافق؟

يقول الحق تعالى (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [القيامة : ٣٧] ، ويقول (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم : ٤٥ ، ٤٦] ؛ وهو ما يدلنا على أن المنى هو السائل أو الماء الذى يحمل النطف ، وأنه هو المقصود بالماء الدافق.

وهنا يثور تساؤل : هل هو ماء الرجل وحده؟ أم هو ماء الرجل وماء المرأة؟. والواضح أن الحق سبحانه لم يخص أحدهما بالذكر ، فلا بد من أن يكون المقصود هو ماء الرجل وماء المرأة معا.

وقد روى مسلم فى صحيحه جوابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يهودى سأله عن الولد ، قوله : (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله ، وإذا علا منى المرأة منى الرجل أنث بإذن الله).

وجاء فى القاموس المحيط : المنى .. ماء الرجل والمرأة.

وهل يخرج الماء من صلب الرجل وترائب المرأة أم إنه يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، وصلب المرأة وترائبها؟. انقسم المفسرون إلى طائفتين ، إحداهما قالت بأن الماء يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة ، وقالت طائفة أخرى إن ماء الرجل يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، وماء المرأة من بين صلبها وترائبها. والرأى الأخير هو الصحيح.

هل الصلب والترائب كناية؟

هناك رؤية جديدة خرج بها الدكتور داود سلمان السعدى ، فى كتابه الرائع (أسرار خلق الإنسان. العجائب فى الصلب والترائب) ، مؤداها أن الصلب والترائب قد جاءت كناية مقصودة ، والكناية فى هذه النقطة غير جديدة فقد ذهب

٥٤

الشيخ حسنين مخلوف فى كتابه (صفوة البيان فى تفسير القرآن) إلى أن الصلب والترائب «كناية عن البدن كله».

تذهب هذه الرؤية إلى أن التعبير بالكناية ـ أو الاصطلاح ـ قد جاء لأن الناس لم يكونوا عارفين أو متهيئين لمعرفة حقائق التناسل والوراثة ، مما قد انكشفت عنه الحجب بعد ذلك آيات من الله تعالى للناس. فإذا كان الأمر كناية فلا بد من أنه ينحصر فى أشياء مما نعرفه الآن على وجه اليقين.

فى ضوء ذلك نجد أن كل خلية من خلايا جسم الإنسان تنمو ثم تشيخ ثم تموت ، وهى ـ من أجل البقاء ـ تتكاثر بالانقسام إلى خليتين اثنتين ، تحمل كل منهما العدد الأصلى من الكروموسومات ، أى ٢٣ زوجا منها ، وهذا يسمى بالانقسام الاعتيادى (الكروموسومات ـ أو الجسيمات الملونة أو الصبغيات) (شكل ٤). على أن هناك انقساما من نوع آخر ، لا يحدث إلا للخلايا الجنسية ، فى الخصيتين والمبيض ، وهو ما يسمى بالانقسام الاختزالى (شكل ٥) الذى ينتصف فيه عدد الكروموسومات الموجودة فى كل خلية ناتجة فيصبح ٢٣ كروموسوما فقط ؛ والغرض من ذلك طبعا هو التكاثر.

فعند اتحاد خلية للذكر من هذا النوع (نطفة الذكر) بأخرى للأنثى (نطفة الأنثى) تنتج خلية جديدة هى النطفة الأمشاج ، والتى تعود مرة أخرى فتحتوى على العدد الأصلى نفسه الموجود عند الإنسان من الكروموسومات وهو ٢٣ زوجا (١).

وعند الطفل الذكر تحتوى الخصية على خلايا نطفية ابتدائية (شكل ٦) تحتوى كل منها على ٤٦ كروموسوما مرتبة فى ٢٣ زوجا ، وكل زوج يتكون من كروموسومين متشابهين تماما فى شكليهما الخارجيين ، إلا الزوج الثالث والعشرين ، فإنه يتشابه فى النطفة الأنثى ويرمز له بالحرفين (XX) ، ولا يتشابه فى النطفة الذكر ، ويرمز له بحرفى (XY) وقد اصطلح على كتابة التركيب الذكرى للكروموسومات كما يلى (٦٤ XY) وللأنثى منه (٦٤ XX).

__________________

(١) فى هذه النقطة يقول د. أحمد شوقى إبراهيم : يبتدئ خلق الإنسان فى الدنيا نطفة فى رحم أمه ، وتحمل هذه النطقة عوامل الوراثة من كل من الأب والأم ، ففى كل من البويضة من الأم ، والحيوان المنوى فى الأب ، ثلاثة وعشرون كروموسوما تحمل عوامل الوراثة ويتحدان معا ، ويكونان النطفة التى تحمل ستة وأربعين كروموسوما تحمل عوامل الوراثة من الأب والأم.

٥٥

(شكل ٤) الكروموسومات البشرية والجنسية (X ـ Y)

وعند اتحاد نطفة الرجل المذكرة (٣٢ Y) بنطفة المرأة (٣٢ X) ينتج (٦٤ XY) أى ولد ذكر. أما عند اتحاد نطفة الرجل المؤنثة (٣٢ X) بنطفة المرأة (٣٢ X) فينتج (٦٤ XX) أى وليدة أنثى.

وتخلص رؤية د. السعدى إلى احتمال جديد وهو أن يكون الصلب هو الكروموسومات الجسدية ، وتكون الترائب هى الكروموسومات الجنسية. فهل قصد الحق سبحانه إلى أن الماء الدافق قد استل من الكروموسومات الجسدية ، وهى متشابهة لدى الذكر والأنثى ، ومن الكروموسومات الجنسية ، وهى مختلفة لديهما؟

بعد هذا التساؤل تتجه الرؤية الجديدة إلى أن الصلب معناه ـ لغويا فى القواميس ـ ما كان على شكل خطين متقاطعين ، وأن المتصالب هو المتقاطع ، وهو ما يجىء بالشكل الذى يمثله حرف.X ولو أننا نظرنا إلى صورة للعمود الفقرى للإنسان

٥٦

(شكل ٥) الانقسام الاختزالى للكروموسومات

(شكل ٦) شكل يبين انقسام خلايا الخصية والمبيض حتى تتكون النطفة الذكرية والأنثوية

٥٧

لوجدنا أن كل ٤ نتوءات مستعرضة تعطينا شكلا هو) (ومجموعها هو ٢٢ شكلا لها الصورة نفسها. على ذلك يكون لدينا ٢٢) (وهو عدد شكل الكروموسومات الجسدية فى نطفة الإنسان. ويمكن أن يكون هذا العدد هو ٢٢X متصالبا.

وأما الترائب ـ أو الأضلاع ـ فهى موجودة بصورة زوجية ، إذ إن لكل ضلع ضلعا آخر يقابله ويماثله. والترائب ـ باعتبارها الأضلاع العليا الأربعة من كل جهة ، تتصل مع بعضها من خلال عظم القفص فى وسط الصدر ، لتكون ـ كما يقول التعريف اللغوى ـ موضع القلادة من الصدر. وضلعان عن اليمين ، مع ما يقابلهما عن اليسار ، يرسمان شكلا قريبا جدا إلى شكل الكروموسوم ، بل هو أقرب إليه جدا من الشكل الآخر ، الذى هو شكل حرف (X).

فإذا كانت الترائب زوجية وعديدة (والصلب واحد) فلا بد من أن تكون الترائب هى الكروموسومات الجنسية.

أى أن الصلب يدل على الكروموسومات الجسدية لنطفة الذكر أو الأنثى ، وعددها (٢٢). والترائب تدل على الكروموسومات الجنسية ، وعددها (واحد) فى كل من نطفة الذكر والأنثى.

وفى حين تحتوى كل نطفة من المرأة دائما ، على الكروموسوم المؤنث (X) ولا تحتوى على النوع (Y) منه ، فإن نطفة الرجل قد تحوى الكروموسوم المذكر (Y) أو على الكروموسوم المؤنث X أى أن كروموسوم نطفة الرجل ، فى كونه إما من النوع (Y) أو (X) ، هو الذى يحدد جنس الجنين.

فالكروموسومات الجسدية نوع واحد ، وكذلك هو جسم الإنسان ، ذكرا كان أم أنثى. وأما الكروموسومات الجنسية فهى من نوعين اثنين ، وكذلك هو جنس الإنسان ، فى ذكورته وأنوثته.

وقل لى ـ رحمك الله ـ (كما يقول د. السعدى) ما الذى يميز الحيوان المنوى لأى رجل عن الحيوان المنوى لأى رجل آخر ، أو أى بييضة أنثى عن أية بييضة أخرى ، وتحت أقوى المجاهر؟ لا يوجد فيها أى فرق إلا فيما تحويه من الكروموسومات. إن الحيوان المنوى أو البييضة ما هى إلا وسيلة نقل ، أو عربة ،

٥٨

مجرد عربة ، الغرض منها توصيل الكروموسومات ، التى تحتوى ٥٠ ألف مورث (جين) ، من الآباء إلى الأبناء.

وللتدليل عن رؤيته ، يستشهد د. السعدى بقول الحق : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] ، أى من كروموسوماتكم الجسدية ، والله تعالى أعلم. إذ ليس هناك اليوم ، أقوى وأدق من فحص الشفرة الوراثية فى تثبيت بنوة الولد لأبيه. كما يستشهد بقوله تعالى : (أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] ، ولم يقل أبناءكم الذين من صلائبكم وترائبكم ، لأن الولد إذا كان صلب أبيه (أى من كروموسوماته الجسدية) فهو ولده كائنة ما كانت الأم ، التى لا يهم من تكون فى هذه الحالة.

وبعد ..

فهذه رؤية جديدة فى تفسير مصطلح «الصلب والترائب» ، حاول صاحبها أن يجتهد فيها بأسانيد علمية حديثة ، تحتمل الصحة والصواب. وقد حرصت على أن أوردها فى هذا الفصل لما تنطوى عليه من أهمية واضحة. وكل ما آمله ألا أكون قد أجحفت صاحبها حقه بهذا الاختصار والإيجاز الشديدين.

ويبقى لى فى هذا المجال أن أضيف بعضا من المعلومات الهامة التى أراها مكملة لهذه الرؤية التى عرضتها ؛ دونما حاجة إلى تكرار المعلومات العلمية الدقيقة التى وردت فى سياق العرض ، والتى أتفق معها تماما فيما يتعلق بالكروموسومات ، وبالخلايا ، وبالانقسام العادى لهذه الخلايا والانقسام الاختزالى لها.

وأقول ـ فى هذه الإضافة ـ إن الكروموسومات ، أو الصبغيات ، لم يصل العلم الحديث إلى اكتشافها هى وبعض أسرارها إلا فى القرن العشرين (١). إن هذه ال ٢٣ زوجا من الكروموسومات تحمل كل أسرار التكوين والوراثة وتقود عمل الخلية ، ورغم ذلك فإن حجمها بالغ الدقة (واحد على المليون من المتر) لا تدركه إلا أكبر الميكروسكوبات الإلكترونية. (شكل ٤).

__________________

(١) البروفسورMorgan مكتشف دور الكروموسومات والجينات عام ١٩١٢.

٥٩

ولم يستطع العلم الحديث التوصل إلى التركيب الكيميائى DNA (د. ن. أ.) لهذه الجسيمات إلا فى منتصف هذا القرن (١). واتضح أن هذا التركيب مكون من أربع قواعد نيتروجين هى : أدنين ـ جوانين ـ سامتوزين ـ ثايمين. ويتصل كل واحد من هذه القواعد الأمينية بإحدى السكريات الناقصة الأوكسجين.

ويقوم الDNA بالتحكم فى نشاط أى خلية وتوجيهها لتنفيذ ما يجب عليها بأمر خالقها ، ملتزمة ومبرمجة ، بحيث لا يمكن أن تقوم بأى عمل آخر ، وذلك فى وقت وزمن محددين لا تحيد عنهما ، وذلك عن طريق رسول معين. ويتكفل الDNA بصنع ما يسمى بتنفيذ هذه الأوامر بصنع مختلف الأنزيمات والبروتينات حسب الأوامر والشفرات التى يحملها إليها الرسول. وتتحكم هذه الأوامر فى صناعة عشرين حمضا أمينيا ، وتصوغ منها آلاف المركبات الأمينية المعقدة.

ولا أظننى فى حاجة إلى تكرار الحديث عن قضية حسمها القرآن الكريم بإعجاز علمى ساطع ، ألا وهى من الذى يحدد نوع الجنين وجنسه ذكرا أم أنثى. فالحيوان المنوى للرجل هو الذى يحدد ـ بإرادة المولى ـ هذا القرار ؛ إذ إنه يحمل شارة الذكورة (Y) وشارة الأنوثة (X) ، فإذا لقح الحيوان المنوى المذكر البييضة (Y) كان الجنين ذكرا ، أما إذا لقح البييضة حيوان منوى يحمل شارة الأنوثة (X) ، فإن نتيجة الحمل هى أنثى ، بمشيئة الله.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم : ٤٥ ، ٤٦] (أى نطفة الرجل)

والآن ، وبعد أن عرفنا نقطة البداية فى الخلق ، ومن أين فى الجسم تنطلق إشارة البدء ، من بين الصلب والترائب ، نتابع رحلتنا مع الخلق فى أطواره المتتابعة.

__________________

(١) البروفسورCrick c.Watson عام ١٩٥٣.

٦٠