إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

نصوص بعض الآيات

كثيرة هى الآيات (١) التى تتحدث فى القرآن الكريم عن المراحل الأساسية فى عمليات التطور والتخلق البشرى. لكننا نختار من بينها نصوص بعض هذه الآيات كما وردت فى سبع من سور القرآن العظيم :

يقول المولى عز جلاله :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : ٥ ـ ٧]

ويقول جل جلاله :

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦]

ويقول سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : ٩٨]

ويقول جل جلاله :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]

ويقول تعالى :

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢]

ويقول سبحانه :

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٧ ـ ٣٩]

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب.

١٢١

ويقول تعالى :

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٧ ، ٨]

ما الذى نلحظه فى هذه الآيات؟

نلحظ أن هذه الآيات تتحدث عن مراحل التخلق البشرى ، فتجعله فى أقسام واضحة متمايزة هى :

١ ـ مرحلة البداية : وهى تتناول المنبع الأساسى للعملية من جذورها ، وهو مكان خروج الحيوانات المنوية والبييضات.

٢ و ٣ ـ مرحلة التخلق الأولى (الحميل) : وتشمل النطفة والعلقة والمضغة ، وتخلق العظام ، ثم كسوة العظام باللحم (العضلات).

٤ ـ مرحلة النشأة : وهى مرحلة تالية ، فيها تنشط عمليات النمو والتشكل ، ثم يحدث التطور فى المظهر الخارجى ، فيتخذ الجنين شكلا بشريا مميزا ومعتدلا.

كذلك نلاحظ أن هذه الآيات تتحدث عن مراحل التخلق البشرى فى صورة مصطلحات وصفية ، وفقا للمظهر الخارجى. ثم إن هذه الآيات استخدمت أفعالا وصفية لبعض أهم مراحل الخلق وأطواره.

وفيما يلى جدول توضيحى يبين العلاقة المتقابلة بين نصوص الآيات التى ذكرناها ، ثم جدول يبين المعنى اللغوى لكل تعبير قرآنى وكذلك معناه الاصطلاحى :

١٢٢

١٢٣

كلمات القرآن فى وصف مراحل التخليق البشرى

معانيها اللغوية والاصطلاحية

١٢٤

وقفة للتحليل العلمى والتحليل الموضوعى :

نحن الآن أمام نصوص تتولى وصف مراحل التخلق البشرى ، سواء من خلال الاسم أو الفعل. وهى نصوص تتفق سويا عند الإشارة إلى أى مرحلة ، ولا تختلف حولها مطلقا وهى نصوص تحتوى على حروف عطف تتولى الإشارة إلى المدة الزمنية وتتابع الأحداث.

هذا ما تنطوى عليه هذه الآيات ، وهذا ما نعرض له بشىء من الاستفاضة ، فى هذه الوقفة التحليلية ، علميا وموضوعيا.

أولا : أهمية حروف وأدوات العطف :

هذه الحروف والأدوات تستخدم للدلالة على تتابع التغير فى الشكل أو فى تتابع الأحداث. وأداة العطف (ثم) فى العربية تدل على وجود فاصل زمنى بين حدثين ، بينما يدل حرف (الفاء) على أن الأحداث تتوالى فورا دون فاصل زمنى.

تطبيقا لذلك على سورتى «المؤمنون» و «القيامة» ، نجد أن أداة العطف (ثم) جاءت لتدل على التسلسل البطىء بين مصطلحى النطفة والعلقة ، بينما ورد حرف (الفاء) للدلالة على الترتيب المتتابع السريع فى مراحل الجنين المذكورة فى السورتين.

ثانيا : النطفة والعلقة :

تتوافقان فى التسلسل البطىء ، حيث ورد بينهما حرف العطف (ثم) فى نفس السورتين.

ثالثا : المضعة :

فى سورة (المؤمنون) وردت كلمة «مضغة» لوصف المرحلة التى تلى «العلقة» وبيان شكل الجنين فيها. وفى سورة (القيامة) ورد فعل «خلق» تاليا لمرحلة العلقة ،

١٢٥

ومن بين معانيه ـ وهو المقصود هنا ـ إنشاء شىء من شىء آخر. وعليه فإن هذا الفعل جاء هنا ليدل على التحول من مرحلة «العلقة» إلى مرحلة جديدة هى «المضغة». وإذا كان المفهوم من كلمة «خلق» هنا أنها تقترن بعمليات تخلق متميزة ، فإن علم الأجنة يقر بأن بدايات الأجهزة المختلفة تبدأ خلال مرحلة «المضغة» ، وأن عملية «الخلق» سمة خاصة لمرحلة «المضغة».

وحيث إن المظهر الخارجى للجنين يتغير بالتغيرات التى تقع فى داخله ، فإن فعل (سوّى) [الذى يعنى قوّم وجعل الشىء مستويا بدون ارتفاع وانخفاض] يدل على أن مرحلة «المضغة» قد انتهت. وهذا أمر منطقى لأن «المضغة» غير مسوّاة ولا تحوى عظاما أو عضلات ، وبالتالى فليس لها مظهر بشرى.

وعليه فإن مرحلة «التسوية» المذكورة فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) ، والتى يكون فيها السطح الخارجى للجنين سويا دون تعرجات ، تأتى بعد مرحلة «المضغة» ، وتليها مباشرة.

وفى سورة (الحج) وصف للمضغة بأنها «مخلقة وغير مخلقة» ، وعليه فإن بدء عملية تخلق الأجهزة المختلفة للجنين صفة بارزة لما قبل التسوية.

وبمقارنة ما ورد فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) نجد أن الخلق والتسوية يتعاقبان على نحو متسق فيهما.

رابعا : العظام :

يتضح من سورة (الانفطار) أن مرحلة التعديل تلى طور التسوية. ويقع التعديل باقتراب الجنين من المظهر البشرى الذى لا يمكن أن يحدث فى مرحلة العظام. وعليه نخلص إلى أن مرحلة التعديل تبدأ مع بدء مرحلة التكسية باللحم (تكوين العضلات) التى تلى مرحلة العظام (التسوية).

وقد استخدم القرآن الكريم كلمة «عظام» للدلالة على الشكل فى المقام الأول ، والفعل «سوى» لوصف وقوع حدث ؛ حيث يشتمل هذا الفعل على المعانى التالية :

١٢٦

جعل الجنين قائما مستقيما بعد انحناء كان يشبه فيه حرف (C) بالإنجليزية.

إعداد الأعضاء وجعلها ملائمة لأداء وظائفها.

تسوية سطح جسم الجنين وجعله ناعما بلا تعرجات.

خامسا : الكساء باللحم :

تتفق بداية مرحلة الكساء باللحم فى سورة (المؤمنون) مع بداية مرحلة التعديل فى سورة (الانفطار). كما تتفق مع الآية (٣٩) من سورة (القيامة). (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أى أن بداية التذكير والتأنيث فى سورة (القيامة) تتفق مع طور الكساء باللحم فى سورة (المؤمنون).

وهذا هو ما يقع فعلا ، حيث يحدث تمايز للحدبة التناسلية ، وتأخذ شكل المبيض أو الخصية فى هذه المرحلة.

سادسا : النشأة :

فى سورة (المؤمنون) استعمل حرف العطف (ثم) بين مرحلتى الكساء باللحم والنشأة. ولكن سورتى (القيامة) و (الانفطار) لا تذكران هذه المرحلة. ويدل ذلك على أن عملية التذكير والتأنيث تستمر حتى تكتمل ، وهو ما يحدث فعلا ، ويتم تمايز الأعضاء التناسلية الخارجية بين الأسبوعين الحادى عشر والثانى عشر ، وبالمثل تستمر عملية تعديل الأعضاء وتحديد ملامح الصورة البشرية حتى مرحلة متأخرة من الحمل.

ولأن هذه العمليات تستغرق فترة زمنية طويلة ، فقد ختمت بها الآيات فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) ، لتعبر عن الزمن الطويل الذى تحتاجه هذه المرحلة. أما سورة (المؤمنون) فقد ذكرت فعلين متمايزين هما «الكساء باللحم» و «النشأة خلقا آخر» ، فى نفس الزمن الذى تستغرقه الأحداث فى سورتى (الانفطار) و (القيامة).

١٢٧

خلاصة الوقفة التحليلية :

بعد هذه المقارنات والتحليلات تبرز أمامنا النتائج التالية :

١ ـ اكتمال وصف كل مرحلة من المراحل ، مظهرا وحدثا ، من خلال الاسم الدال على مظهر خارجى ، سورة (المؤمنون) ، أو من خلال الفعل الدال على ما يحدث من عمليات داخلية ، سورتى (الانفطار) و (القيامة).

٢ ـ تتوافق النصوص توافقا دقيقا عند الإشارة إلى المراحل المختلفة ، سواء ذكر الاسم أو الحدث فى تلك الإشارة.

٣ ـ إشارة حروف العطف إلى المدة الزمنية التى يستغرقها الحدث ، من حيث طول الزمن أو قصره ، كما أكدت التوافق بين الآيات المختلفة ، بالإضافة إلى دلالتها على زمن تتابع الأحداث.

١٢٨

الخلاصة :

بكل الخشوع والإجلال ، نقف أمام المصطلحات الواردة فى القرآن الكريم ، والتى جاءت معبرة بكل دقة عن التطورات التى تقع فى المراحل المختلفة للتخلق. فهى تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمنى ، كما تصف المتغيرات التى تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق فى كل مرحلة وصفا دقيقا.

وما كان فى وسع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرف هذه الحقائق عن التخلق البشرى فى القرن السابع الميلادى ، وقت نزول القرآن الكريم على قلبه الشريف ، لأن معظمها لم يكتشف إلا فى القرن العشرين (١).

وحتى تكتمل الوقفة التحليلية والموضوعية والعلمية ، فإننا ننتقل إلى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ، نستزيد منها استيضاحا.

__________________

(١) من بين النماذج البارزة فى هذا المجال تعبير (النطفة الأمشاج) وهى النطقة الناتجة عن اتحاد نطفة الذكر (الحيمن) بنطفة الأنثى (البييضة). فلقد أسمى علماء الطب الحديث النطفة الناتجة عن هذا الاتحاد «البييضة المخصبة». جاء فى كتاب (تشريح جراى) ، وهو أشهر مرجع فى علم التشريح ، أنه يبدو من اصطلاح البييضة المخصبة هذا وكأن ببييضة الأنثى هى الأصل وأن الحيمن لا يلعب إلا دورا هامشيا أى دورا محفزا وحسب فى تكوينها ، ولهذا فإن المرجع قد اعتبر (البييضة المخصبة) اصطلاحا مضللا غير مرغوب فيه. فلننظر هنا ، مرة أخرى ، إلى عبارة (النطفة الأمشاج) ، تعبيرا قرآنيا ، لا يدانيه أى مصطلح وضعى ، فى دلالته على شركة متساوية للذكر والأنثى فى تكوين المخلوق الجديد.

إن (النطفة الأمشاج) سوف تبقى أعلى وأرقى وأبلغ فى الدلالة عما يتداوله العلماء والأطباء فى قولهم (البييضة المخصبة).

١٢٩
١٣٠

الفصل الحادى عشر

الأحاديث النبوية الشريفة

ومراحل الخلق فى الأيام الأربعين الأولى

تمهيد

عند ما يتحدث الرسول ، عليه صلوات الله وسلامه ، فإنه لا ينطق عن الهوى. وعند ما يكون حديثه الشريف عن الحمل ومراحله ، وهو النبى الأمى ، فلا بد من وقفة نتفحص فيها كلامه العلمى الدقيق ، لأنه لا ينطق عن الهوى ؛ ولأنه يصدر عن وحى يوحى إليه من رب السماء والأرض.

ولذلك لم يكن غريبا ولا عجيبا أن يتحدث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وصف هيئة الجنين فى الأربعين يوما الأولى ، ثم عن حالته بعد ذلك ؛ محددا معالم كل فترة وتفاصيلها الدقيقة.

وقد كانت لبعض علماء المسلمين آراء فى تأويل هذه الأحاديث ، وهذا ما سنتعرض له كله.

١٣١

الأربعون يوما الأولى

وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالة الحميل فى الأربعين يوما الأولى ، فيما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق الصدوق ، قال :

(إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد) (١).

نخرج من هذا الحديث بحقيقتين أساسيتين :

الأولى : أن جمع خلق الإنسان يتم فى الأربعين يوما الأولى.

الثانية : أن مراحل الخلق الأولى وهى : النطفة والعلقة والمضغة إنما تتكون وتكتمل خلال هذه الفترة ، وهى الأربعون يوما الأولى.

جمع الخلق (المراحل الجنينية الأولى)

هذا الوصف المحكم لحالة الجنين خلال الأربعين يوما الأولى ؛ جاء علم الأجنة الحديث ليقرر كل ما جاء فيه. ففى الأسبوع الخامس يكون جسم الحميل مقوسا شبه دائرى ، ولا يزيد طوله عن سنتيمتر واحد تقريبا ، ويكون نصفه العلوى ثلتى طول جسمه الكلى ، ويكتسب فى هذا الوقت براعم أطرافه ، ويكون له ما يشيه الذيل ، وقلبه فى مرحلة بدائية جدا ويخفق بصورة منتظمة.

وتظهر الأطراف العلوية فى الأسبوع الرابع ، ويكون شكلها فى بداية الأسبوع الخامس متميزا كشكل المجداف. ولكن هذه الأطراف العلوية تتطور فى نهاية الأسبوع الخامس ، وتشاهد عليها صفائح مبتورة لليد ، وإشعاعات إصبعية.

__________________

(١) جاء هذا الحديث فى صحيح البخارى بدون لفظ (فى ذلك).

١٣٢

وعند نهاية الأسبوع السادس ، وقبل اليوم الثانى والأربعين ، لا تكون صورة الوجه واضحة أو شبيهة بصورة الإنسان.

وتكون العين والأذن والأعضاء التناسلية الخارجية فى صورة أولية من مراحل تطورها قبل اليوم الأربعين ، وهى لا تعمل ولا تشبه أعضاء الإنسان ، ومع ذلك فإن العين تبدأ تطورها خلال الأسبوع الرابع مع تولد الحويصلة العينية التى تتغلف لتولد الكأس البصرى ، ويحفز هذا تكون العدسة قبل نهاية الأسبوع الخامس. ويتم بعد ذلك تمايز الشبكية ، وظهور الألياف البصرية التى تصل الدماغ لتكوّن التقاطع البصرى.

وتبدأ الأذن الداخلية تطورها ، فى بداية الأسبوع الخامس ، كصفيحة ثخينة من الأديم الظاهر مكونة الصفيحة الأذنية التى سرعان ما تغطس تحت سطح الصماخ السمعى الظاهر لتكوّن الحويصلة الأذنية التى تفقد اتصالها مع السطح لتوّلد الأذن الداخلية ، ولا يكون للأذن فى هذه المراحل الأولية شكل أذن الإنسان.

يتفق هذا الوصف لتطور الحميل مع تعبير (يجمع خلقه) الواردة فى الحديث النبوى الشريف ليصف المظهر الخارجى المتقوس المتجمع ، وكذلك الناحية التشريحية الداخلية ، حيث تكون الأجهزة والأعضاء متجمعة فى حالتها الابتدائية وهى فى كتلة صغيرة ، فيكون الوصف (يجمع خلقه) معبرا عن الناحية التشريحية بدقة.

اختلاف فى فهم الحديث النبوى

فى محاولة فهم الحديث النبوى الشريف السالف ذكره ، وقع خلاف بين علماء المسلمين القدامى فى تحديد مدة النطفة والعلقة والمضغة ، هل هى أربعون يوما لكل منها ، أم أربعون يوما لها جميعا.

فسر بعض هؤلاء العلماء هذا الحديث على أنه يعنى أن النطفة والعلقة والمضغة تتم على التوالى فى فترات طول كل منها أربعون يوما. وفهموا أن عبارة (مثل ذلك) تشير إلى الفترة الزمنية (أربعون يوما) واستنتجوا من ذلك أن المضغة لا تتم إلا بعد (١٢٠) يوما.

١٣٣

وهذا القول غير صحيح ، لما يأتى :

١ ـ يختلف نص الحديث فى رواية مسلم عن البخارى ، من حيث إن رواية مسلم تزيد لفظ (فى ذلك) فى موضعين قبل لفظ (علقة) ولفظ (مضغة). وهى زيادة صحيحة تعد من أصل المتن جمعا بين الروايات.

٢ ـ إذا كان القرآن الكريم قد ذكر أن العظام تتكون بعد مرحلة المضغة ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حدد فى حديث حذيفة أن بدء تخلق العظام يكون بعد الليلة الثالثة والأربعين من بدء تكوّن النطفة (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث إليها ملك ..).

وإذن فالقول بأن العظام يبدأ تخليقها بعد مائة وعشرين يوما يتعارض تعارضا بيّنا مع ظاهر الحديث الذى رواه حذيفة.

٣ ـ أثبتت الدراسات الحديثة فى علم الأجنة أن تكوّن العظام يبدأ بعد الأسبوع السادس مباشرة ، وليس بعد الأسبوع السابع عشر.

وعلى هذا يتضح أن معنى تعبير (مثل ذلك) ـ فى حديث ابن مسعود ـ لا يمكن أن يكون مثله فى الأربعينات من الأيام.

وإنما يكون معنى الحديث (إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما ثم يكون فى ذلك ـ أى فى ذلك العدد من الأيام ـ علقة (مجتمعة فى خلقها) مثل ذلك (أى مثلما اجتمع خلقكم فى الأربعين يوما) وقوله (ثم يكون علقة مثل ذلك) معناه أنه يكون فى الأربعين المذكورة علقة تامة الخلق ، متقنة محكمة ، الإحكام الممكن لها ، واللائق بنعمة الله سبحانه وتعالى.

بيان الإعجاز فى الأربعين يوما الأولى :

١ ـ جمع خلق الإنسان :

ظاهر من الحديث الشريف أن خلق الإنسان (يجمع) فى أربعين يوما.

ويقرر الأطباء ـ بعد رحلة طويلة من الدراسات والتشريح الدقيق لجسم الجنين فى الأيام الأربعين الأولى ، أن جميع الأعضاء الرئيسية للإنسان ، تتخلق واحدا بعد الآخر ، فلا تمر الأربعون يوما الأولى إلا وقد اجتمعت جميع الأجهزة ، ولكن فى صورة براعم.

١٣٤

وتكون مجموعة فى حيز لا يزيد عن سنتيمتر.

كما يكون الجنين مجموعا حول نفسه بالتفاف فى شكل قوس ، أو ما يشبه حرف (C) بالإنجليزية.

٢ ـ ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك :

ويقرر العلم الحديث أن الجنين ـ فيما بين اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين ـ يأخذ صورة العلقة التى تسبح فى البرك ، وتتعلق بالمشيمة.

٣ ـ ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك :

وهذا إعجاز آخر فى دقة الاسم الذى أطلقه القرآن الكريم والأحاديث النبوية على المرحلة التالية لمرحلة العلقة وهو المضغة ؛ حيث تتطور المضغة تدريجيا فتأخذ شكل المضغة المستديرة المميزة بعلامات تشبه طبع الأسنان عليها ، وبسطح غير منتظم.

وكما علمنا من قبل فإن الأعضاء الأساسية فى الداخل تبدأ فى التمايز وتنتج الفراغات بين الكتل شكلا أشبه بالمادة الممضوغة ، وبالتدريج يأخذ الجنين شكل المضغة.

٤ ـ يدل الحديث على أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة تتم خلال الأربعين يوما الأولى ، بالرغم من أن حجم الجنين فى هذه الفترة يكون صغيرا جدا ، وأن الفترة الزمنية بين هذه المراحل قصيرة.

وقد كان تقدير عمر الجنين أمرا بالغ الصعوبة قبل اكتشاف البييضة وارتباط دورة الحيض بها. كما أن التحديد حينئذ كان عرضة للخطأ بزيادة أو نقص فى تقدير عمر الجنين يصل إلى واحد وعشرين يوما ، لأن الذى يقدر العمر لا يعلم متى بدأ العمل من أول الشهر أم من آخره. ثم إن كل هذه الأطوار للنطفة والعلقة والمضغة ، التى ذكرها القرآن الكريم لم تكن معروفة أصلا فى تلك الأيام.

ولا مجال للعجب ، فهذا ـ كما قلنا ـ حديث رسول كريم ، لا ينطق عن الهوى ، وإنما هو وحى يوحى إليه من رب السماء والأرض.

١٣٥
١٣٦

خاتمة

الحمد لله رب العالمين ..

بحمد الله أختم كتابى ، بعد أن بدأته باسم الله ..

الحمد لله أن وفقنى إلى طريق الإيمان به ، بعد أن وفقنى ـ بنعمته ـ إلى طريق العلم الحديث .. فكان هذا الكتاب إحدى محاولات التعبير عن الشكر والامتنان للخالق الواحد المنان.

وبعد .. فيا قارئى العزيز ..

لقد انتهت رحلتنا سويا عبر إعجاز الخالق سبحانه فى إبداع الخلق البشرى ، مرحلة مرحلة ، وطورا بعد طور ، ومع بلاغة آيات القرآن فى بيان هذا الإبداع والإعجاز.

وليس لدى من كلمات أضيفها فوق ما قلت ؛ سوى أن أسألك يا رب الرضى .. فقد كان رضاك هو الهدف والمبتغى.

والحمد لله رب العالمين ..

د. محمد فياض

١٣٧
١٣٨

أهم المراجع

* القرآن الكريم.

* الجامع لأحكام القرآن ـ لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ـ مطبعة دار الكتب ، ١٣٥٤ ه‍.

* فتح البارى بشرح صحيح البخارى ـ لابن حجر العسقلانى ـ المطبعة البهية المصرية ، ١٣٤٨ ه‍.

* علم الأجنة فى ضوء القرآن الكريم ـ هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ـ رابطة العالم الإسلامى ـ مكة المكرمة.

* أسرار خلق الإنسان ـ العجائب فى الصلب والترائب ـ الدكتور داود سلمان السعدى ـ دار الحرف العربى ـ بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٤.

* خلق الإنسان ـ دراسة علمية وقرآنية ـ الجزء الأول ـ من سلالة من طين ـ الدكتور عبد الفتاح محمد طيره ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٨٨.

* أطوار الخلق فى تاريخ الإنسان ـ سلسلة القرآن والعلم ـ الكتاب الأول ـ الدكتور أحمد شوقى.

* خلق الإنسان بين الطب والقرآن ـ الدكتور محمد على البار ـ الدار السعودية للنشر والتوزيع ، ١٩٥٥.

* حياة آدم ـ محمود شلبى ـ دار الجبل ـ بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٢.

* الارتباط الزمنى والعقائدى بين الأنبياء والرسل ـ الدكتور محمد وصفى ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة ـ ١٩٦٥.

* رياسة الدولة فى الفقه الإسلامى ـ الدكتور محمد رأفت عيمان.

* فن الولادة فى مصر القديمة ـ الدكتور محمد فياض ـ دار الشروق ، ١٩٩٥.

١٣٩
١٤٠