إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

ومع أنه لا يبدأ تكون العظام على نحو موحد فى الجسم كله ، وتظهر الأنسجة العظمية بالتعاقب ، فإن الأسبوع السابع يشهد مرحلة انتشار الهيكل العظمى فى جسم الجنين ويبدأ نمو عظام الأطراف (شكل ٣٤) فى براعم العظام الجنينية من خلايا النسيج الأوسط ، وتظهر مراكز التعظم الابتدائى فى الفخذ خلال الأسبوع السابع ، وفى القص والفك خلال الأسبوعين الثامن والتاسع.

وفى العقود الأخيرة تم تدوين عملية تكون العظام فى الجنين البشرى. كما تمت ـ فى علم الأنسجة ـ دراسة دور كل من النسيج الأوسط ، والجذعات العظمية ، وكاسرات العظام ، والخلايا العظمية.

ومما سهل معرفة مراحل ترسب الغضاريف والتمعدن فى الجنين ، تطبيق إجراءات الاصطباغ الخاصة بالغضاريف والعظام.

وبالرغم من وجود طلائع خلايا (جذوع العضلات) بالقرب من العظام النامية ، فإن التميز على شكل روابط عضلية هيكلية تكسو العظام يحدث بعد بدء عمليات التعظم فى نهايات العظام والساق.

مصطلح العظام

قال الله تعالى : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً)

يبين لنا هذا النص القرآنى أن مرحلة «العظام» تأتى بعد مرحلة «المضغة» ، وأن المضغة قد تكونت لديها عناصر هيكلية. وهكذا فإن القرآن الكريم ، كعادته فى إيراد الكلمات المحددة ، يطلق اسم «العظام» على هذه المرحلة التى تلى المضغة ، حيث يأخذ الجنين شكل العظام بانتشار الهيكل العظمى فى هذه المرحلة.

ونلاحظ أن استعمال حرف (ف) فى الآية الكريمة يشير إلى أن مرحلة العظام تنمو بعد مرحلة المضغة بفترة قصيرة. لأن حرف «الفاء» يفيد الترتيب والتعقيب ، بخلاف حرف «ثم» الذى يفيد الترتيب والتراخى.

١٠١

وحول هذه الأمور روى حذيفة بن أسيد الغفارى رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها».

يتخذ الجنين ـ فى بدء مرحلة العظام ـ المظهر الإنسانى الذى يميزه عن غيره من الأجنة ، وهو ما يصفه الحديث الشريف بكلمة (صورها).

ويصعب ـ قبل اليوم الثانى والأربعين ـ تمييز الجنين البشرى عن أجنة كثير من الحيوانات ، مع أنه يكون مميزا بوضوح فى مظهره ، وتبدأ بعض الخلايا غير المتخصصة للجنين فى التخصص ، وتتحول إلى أجزاء وظيفية متنوعة. وينجم عن هذه العملية تكون الأعضاء وتهيئتها اللازمة للحياة. ويصبح سطح الجسم أكثر استواء فى مرحلة العظام ، ويتخذ فى هذه المرحلة مظهرا أكثر استقامة.

(شكل ٣٤) الأسبوع السابع ـ نمو عظام الأطراف

١٠٢

تكون العضلات

تنشأ معظم خلايا عضلات الهيكل العظمى من الفلقات. ولذلك ينمو الجهاز العضلى على شكل فقرى (مجزأ).

ويشير توزيع الأعصاب الجلدية فى جسم الإنسان البالغ إلى هذا التجزؤ العضلى. كما يشير التجزؤ العضلى بدوره إلى أصل التجزؤ الجنينى.

وعند نهاية الأسبوع السادس من النمو ، تنتقل الخلايا الأولية لهيكل الجسم ، وخلايا الجلد الأولية ، بعيدا عن منطقة الفلقات الأصلية ، ثم تنمو هذه الخلايا وتتصل بالخلايا المجاورة ؛ ويكون نموها فى اتجاه البطن لتتشكل القسيمات العضلية.

وتتجزأ هذه القسيمات العضلية بدورها إلى أجزاء خارجية (Epimeric) وأجزاء داخلية (Hypomeric) ، يزود كل منهما بفرع من العصب الشوكى. وبصفة عامة ؛ فإن الجهاز العضلى للظهر ينشأ من طبقة الأجزاء الخارجية (Epimeric) ، بينما تنشأ عضلات جدران البطن والضلوع من الأجزاء الداخلية. (Hypomeric)

وخلال العقود القليلة الماضية حظيت عملية تكون العضلات ـ على مستوى الخلايا ـ بدراسة جيدة ، اتضح منها أن الخلايا الابتدائية للخلايا العضلية تندمج معا ، وتكون مركبات متعددة النويات ، تتخذ شكل أنابيب عضلية (Myotubes)

ويستمر النمو باندماج كل من الخلايا العضلية والأنابيب العضلية ، ويحدث بعد الاندماج مباشرة أو خلاله تأليف وتنظيم ـ بشكل تدريجى ـ للخيوط العضلية (Myofilaments) الأكتين ، والميوسين ، وغيرهما من البروتينات العضلية) فى هذه الخلايا أو (الألياف) العضلية.

فى البداية يظهر ترتيب الألياف العضلية غير منتظم ، ولكنها تدريجيا تنتظم فى حزم من الألياف العضلية التى يتصف بها التنظيم النسيجى لعضلات الهيكل العظمى ، ثم تتصل هذه الخلايا العضلية بغشاء العظام التى تكونت فى هذا الموضع ، مكونة حول هذه

١٠٣

العظام النسيج العضلى الذى يكسو تلك العظام. ومع نهاية الأسبوع السابع ، وخلال الأسبوع الثامن يمكن ملاحظة تميز واضح لعضلات الجذع والأطراف والرأس ، وقد بدت بصور جلية فى هذه الفترة ، وبهذا يصبح الجنين قادرا على إحداث بعض الحركات.

أىّ إعجاز هذا يا رب؟ فقبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ، نزل كتابك الحق وفيه ذكر واضح لكيفية تكوّن العظام فى جنين الإنسان ، وما يعقبه من كساء العظام باللحم والعضلات. فإنه لقولك الحق (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]

ويتم اتصال الألياف العضلية بالعظام بواسطة أوتار عن طريق تشابك النهايات القصوى للخلايا العضلية بحزم النسيج الضام للوتر المتكون. وهذا النسيج الضام الكثيف يتصل بقوة بالقشرة الخارجية المحيطة بالخلايا العضلية ، كما يتصل كذلك بغشاء العظام الذى سبق تكوينه.

ومع نمو العظام ، فقد تنطمر حزم النسيج الضام داخل العظام على شكل ألياف. ويلاحظ أن تحلل الخلايا العضلية ، وحلول عناصر النسيج الضام مكانها يمكن أن يقدما لنا تصورا عن كيفية تكون الأوتار والصفاقات.

إن علم الحياة النمائية يهتم بدراسة تسلسل عمليات النمو التى تحدث فى تكوين العظام والعضلات. فعند ما تتكون عظام الهيكل فإن الطبقة المتوسطة التى تتشكل منها العضلات تبدأ فى التجمع على هيئة كتل ظهرية أو بطنية ، وتقوم بكساء أجزاء الهيكل العظمى المتكوّن.

تعبير الكساء باللحم

لا تأخذ العظام ولا اللحم (العضلات) شكلها الواضح المعروف فى الأربعين يوما الأولى. وتظهر فى هيئتها المعتادة فى الأسبوع السابع ، ويتشكل الجنين فتتميز لدينا مرحلة محددة مختلفة فى مظهرها وتركيبها عن المرحلة السابقة «المضغة». وتلى مرحلة العظام مرحلة أخرى تتميز عنها بكساء الهيكل العظمى باللحم من

١٠٤

جميع جوانبه ، فتتعدل الصورة الآدمية للجنين ، وتتناسق الأعضاء بصورة أدق ، وبذلك يبدأ الجنين بالحركة فى نهاية الأسبوع الثامن. (شكل ٣٥).

وهذه مرحلة متميزة عن مرحلة العظام فى التركيب والتناسق والصورة ، وقدرة الجنين على الحركة. وتبدأ هذه المرحلة من أواخر الأسبوع السابع إلى تمام الأسبوع الثامن ، وتأتى عقب مرحلة العظام مباشرة.

وهنا نجد أن النص القرآنى يأتى دالا على التتابع السريع بين المرحلتين ، وذلك باستعمال حرف العطف (ف) الذى يفيد تعاقب الأحداث التى يربط بينها.

كذلك تشير الآية الكريمة الى أن مرحلة الكساء باللحم تمثل نهاية لمرحلة من مراحل نمو الجنين ، لتبدأ بعدها بفترة من الزمن ، مرحلة أخرى هى النشأة ، وهو ما يدل عليه استعمال حرف العطف (ثم) الذى يفيد الترتيب والتراخى فى الزمن بين الأفعال التى يربط بينها.

سبحانك يا خالق يا عظيم ، ذكرت ذلك كله فى محكم كتابك الكريم بقولك : (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]

الخلاصة

تظهر أمامنا بكل وضوح السمات الرئيسية للأسبوعين السابع والثامن ، من خلال استخدام تعبيرى عظام (الهيكل العظمى) ولحم (العضلات). ونلاحظ أن هذين التعبيرين يصفان هاتين المرحلتين بلغة واضحة بعيدة عن أى غموض. وهكذا يأتى القرآن ـ وهو كلام الله ـ ليسبق بأكثر من ألف عام العلماء فى كل بقاع الأرض ، فيطرح أول وصف تفصيلى لمراحل التخلق وأحداث النمو ، بعبارات جامعة شاملة ومن مرحلة العظام واللحم ننتقل إلى مرحلة النشأة فى رحلتنا مع الخلق الإلهى المعجز ، وبيانه المحكم له فى آياته القرآنية.

ومن مرحلة العظام واللحم ، ننتقل إلى مرحلة النشأة ، فى رحلتنا مع الخلق الإلهى المعجز ، وبيانه المحكم له فى آياته القرآنية.

١٠٥

(شكل ٣٥) تناسق الأعضاء (الأسبوع الثامن) بصورة أدق يبدأ الجنين فى الحركة

١٠٦

الفصل التاسع

الطور الخامس

النشأة

تمهيد

فى نهاية الأسبوع الثامن تظهر على الجنين خواص بشرية ، فتكسى العظام بالعضلات التى يغطيها الجلد ، وتتميز بعد ذلك بشكل واضح كل أعضاء الجسم.

وفى الأسبوع التاسع يبدأ طور «النشأة» ، ويكون معدل النمو بطيئا حتى بداية الأسبوع الثانى عشر ، وحينئذ تبدأ مرحلة جديدة من النمو السريع والتغير الكبير.

وهذا أمر يمكن متابعته من خلال ملاحظة وزن الجنين. والطور الذى نتحدث عنه هو الذى ذكره القرآن الكريم فى قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون: ١٢ ـ ١٤]

١٠٧

تعريف النشأة

كلمة «نشأة» مستقاة من فعل «نشأ» ، ومن معانيها :

* بدأ* نما* ارتفع

كما ورد عن علماء التفسير فى هذه الآية المعنيان التاليان :

* تطور الجنين إلى مخلوق ناطق سميع بصير.

* نفخ الروح فى الجنين.

ويلاحظ فى الآية ورود حرف العطف «ثم» ، ليفيد أن مرحلة «النشأة» تأتى بعد مرحلة «الكساء باللحم» على التراخى فى الزمن بصورة تدريجية.

هذا المعنى الذى يدل عليه حرف «ثم» نجده واضحا فى تاريخ طور النشأة ، حيث تبدأ «المرحلة الجنينية» فى الأسبوع التاسع ، ويظهر نمو بعض الأعضاء فى الأسبوع الحادى عشر ، وتستمر مرحلة النشأة حتى نهاية الحمل ، أى الأسبوع الثامن والثلاثين. (شكل ٣٦).

خصائص مرحلة النشأة :

١ ـ تطور الأعضاء والأجهزة :

تتميز مرحلة الحميل ببداية تكون الأعضاء وظهورها فى حين تتسم مرحلة الجنين اللاحقة لها بتهيئة الأعضاء والأجهزة المختلفة للقيام بوظائفها.

وهذا هو المعنى الذى أشار إليه المفسرون (ويصبح الإنسان كائنا ناطقا سميعا بصيرا).

والحد الفاصل بين مرحلتى الحميل والجنين هو نهاية مرحلة كساء العظام باللحم.

١٠٨

٢ ـ نفخ الروح :

لدينا فى هذه النقطة نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تشير إلى أن الروح قد تنفخ فى مرحلة الجنين (١). ومعنى ذلك أن الحياة التى تكون قبل ذلك حياة من نوع آخر أطلق عليها علماء المسلمين «الحياة النباتية».

ففى سورة «المؤمنون» يقول الحق تعالى فى قرآنه الكريم (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤].

وفى صحيح مسلم يروى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الصادق الصدوق ، قال : «إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد».

ويكاد جمهور العلماء والفقهاء يجمعون على أن نفخ الروح يتم فى نهاية الأربعين الثالثة (حديث ابن مسعود ، وحديث حذيفة) أى ١٢٠ يوما. ويذهب البعض إلى أن هذه الفترة بالذات أو ما يقرب منها (أربعة أشهر وعشر) هى فترة (العدة) التى لا بد أن تنقضى قبل أن تتزوج المرأة المطلقة أو الأرملة ، حيث يعنى مرور هذه الفترة أنه ليس فى بطنها جنين قد دخلت فيه الروح.

وبعد ذلك لا بد لنا من وقفة عند الروح وهى فى البدن ، لنجد أن النصوص الشرعية تدل على أن الروح تغادر البدن وقت النوم وتعود إليه باليقظة.

ففى سورة الزمر يقول الحق تعالى فى قرآنه الكريم (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر : ٤٢].

__________________

(١) يعتبر وقت نفخ الروح علامة هامة للغاية ، حيث يحرم قتل هذا الجنين بعد نفخ الروح قولا واحدا.

وقد جعل ابن حزم جريمة قتل الجنين بعد نفخ الروح (إذا أمكن التيقن من حياة الجنين) مساوية لقتله بعد الولادة وفيها القصاص لا الدية.

١٠٩

(شكل ٣٦) اكتمال تكوين الجنين (الأسبوع ٣٨)

(شكل ٣٧) اتخاذ ملامح الوجه. المقاييس البشرية المعروفة

١١٠

وفى سورة الأنعام يقول جل جلاله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٦٠].

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند استيقاظه (الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).

٣ ـ التغيرات فى مقاييس الجسم واكتساب الصورة الشخصية :

توجد أمامنا الآيتان (٧ ـ ٨) من سورة الإنفطار ، واللتان تحددان لنا كيفية حدوث هذه العمليات ، إذ يقول الحق جل جلاله" (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٧ ، ٨].

وتعالوا نحلل مضمون هاتين الآيتين الكريمتين بشىء من التفصيل :

فكلمة «سواك» تعنى جعل الشىء مستويا ومستقيما ومهيأ لأداء وظائفه.

وقد انتهينا الى أن التسوية تبدأ خلال مرحلة «العظام».

وتعنى كلمة «فعدلك» تغير الشكل والهيئة لتكوين شىء محدد.

أما الحرف (ف) قبل كلمة «عدلك» فيشير إلى التسلسل المباشر. وبذلك يكون المعنى (وبعد ذلك عدل هيئتك) لأن «عدلك» بينتها الآية التى تليها وهى «فى أى صورة ما شاء ركبك».

وخلال طور النشأة تتغير مقاييس الجسم ، وتتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة. (شكل ٣٧).

فتنتقل الأذن ـ مثلا ـ من الرقبة الى الرأس ، وتتحرك العينان إلى مقدمة الوجه ، ويصبح الطرفان السفليان أكثر طولا بالمقارنة بالجسم.

وهذا ما يشار إليه بكلمة «تعديل» وتعنى : التقويم.

وتعنى كلمة «صورة» ـ فى الآية الثانية ـ «هيئة أو شكل» فالآية ـ إذن ـ تعنى أنه عقب بدء عملية التسوية مباشرة يطرأ تغيير على الجنين ، فيتخذ المقاييس الطبيعية

١١١

(التعديل) ، ويحدث اكتساب الصورة الشخصية (التصوير) ، وتستمر عمليات التعديل والتصوير حتى الولادة ، بل وبعدها.

٤ ـ تحديد الجنس :

حسبما جاء فى القرآن الكريم والحديث النبوى ، فإن هناك ثلاث خطوات تحدد نمو الخصائص النوعية (التذكير والتأنيث) :

الخطوة الأولى :

وتحدث فى مرحلة النطفة (التقدير فى النطفة)

الخطوة الثانية :

وهى تمايز غدتى التناسل على شكل خصيتين أو مبيضين ، فتحدث خلال مرحلة الكساء باللحم ، فى الأسبوع التاسع.

الخطوة الثالثة :

وهى تميز الأعضاء التناسلية الخارجية ، وتحدث خلال طور النشأة.

وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف الذى رواه مسلم فى صحيحه (عن حذيفة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها ، وخلق سمعها ، وبصرها ، وجلدها ، وعظامها ، ثم قال يا رب أذكر أم أنثى ، فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك).

ويتحقق هذا بخلق الأعضاء التناسلية الخارجية التى يتم بها التمييز النهائى للذكورة والأنوثة ، وتكتمل بها مراحل وأطوار تحديد النوع. ويتم ذلك فى الأسبوع الثانى عشر.

وجدير بالذكر أن نسجل هنا هذه الملاحظات :

أن الأعضاء التناسلية الخارجية تكون متماثلة إلى الأسبوع التاسع.

أنه يمكن التمييز بسهولة بين الأعضاء التناسلية الخارجية للجنسين فى الأسبوع الثانى عشر ، ويصعب قبل ذلك.

١١٢

هذا مع العلم بأن التطور النوعى لمستقبل الجنين ، والمتمثل فى الغدد والأعضاء التناسلية الخارجية ، قد تحدد سلفا وفقا لجنس الكروموسوم. إلا أنه يحدث أحيانا أن تتطور الأعضاء التناسلية الخارجية فى وضع مغاير للوضع الجينى السابق بالنسبة لتحديد نوع الجنس.

مراحل طور النشأة :

يتكون طور النشأة من عدة مراحل وتطورات ، هى :

١ ـ النشأة خلق آخر :

يبدأ هذا الطور فى الأسبوع التاسع ، ويستمر حتى الأسبوع الثانى والعشرين. وتتضح فى الجنين الصفات التالية :

أ ـ النمو السريع :

فالجنين ينمو ببطء بعد طور اللحم (الأسبوع التاسع) مباشرة ، وحتى الأسبوع الثانى عشر ، ثم يتسارع النمو جدا.

ب ـ تغيير طبيعة الجنين وتطور أعضائه :

فالهيكل العظمى يتطور من عظام غضروفية لينة إلى عظام صلبة متكلسة ، وفى الأسبوع الثانى عشر من الحمل تظهر مراكز التعظم فى غالب العظام ، وتتمايز الأطراف. ويصبح ممكنا رؤية الأظافر على الأصابع ، وتتوازن أحجام الرأس والجسم والأطراف ، لا سيما بين الأسبوعين التاسع والثانى عشر. ويظهر الشعر الزغبى على الجلد ، الذى يتمايز فى هذه المرحلة إلى بشرة وأدمة. ويزداد حجم الجنين بسرعة بصورة عامة. ويتم التمييز بين الأعضاء التناسلية الخارجية بصورة واضحة فى الأسبوع الثانى عشر. وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية ، ويظهر فى هذه المرحلة بعض الحركات العادية الذاتية ، وكذلك بعض التقلصات العضلية الانعكاسية إذا ما تعرض لمنبه خارجى.

وبصورة عامة فإن التطور الوظيفى للجهاز العصبى يتوازى مع تطور الدماغ والحبل الشوكى ، وتظهر الحركات البدائية والغريزية كالمص والقبض بعد ذلك بفترة طويلة.

١١٣

ومع نهاية هذا الطور تكون أعضاء الجنين قد اكتملت وأصبحت مؤهلة للقيام بوظائفها ؛ وهو ما جاء وصفه ببالغ الإحكام فى القرآن الكريم (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ)

أقل مدة للحمل :

مدة الحمل العادية هى تسعة أشهر. لكن الجنين ـ بعد مرحلة النشأة ـ يصبح خلقا آخر قادرا على الحياة أو البقاء خارج الرحم ، عند تمام الشهر السادس من تخلقه.

ويتفق هذا مع معانى عدة آيات من القرآن الكريم هى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] ، (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] ، (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣]. وبالحساب الدقيق ـ وفقا لهذه الآيات ـ وبما توصل إليه العلم ، نجد أن أدنى مدة للحمل هى ستة أشهر. وهذا هو ما أفتى به أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ وأقره على ذلك الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وبه قال المفسرون. وقد أثبت العلم ما قرره المفسرون من حيث استحالة قدرة الجنين على التنفس قبل نهاية الأسبوع الرابع والعشرين نظرا لعدم اكتمال قدرته على ذلك.

٢ ـ الحضانة الرحمية :

عرفنا من الآيات السابقة أن أدنى مدة للحمل هى ستة أشهر ، وأن هذه الأشهر كافية لبقاء الإنسان على قيد الحياة بعد خروجه من الرحم. وحيث إن الولادة تتم عادة بعد تسعة أشهر ، فيمكن اعتبار الأشهر الثلاثة بعد نهاية الشهر السادس وبين الولادة بمثابة فترة حضانة رحمية.

ولا بد لنا هنا من وقفة نتذوق فيها عظمة الخالق عزوجل ، وهو يحدد لنا فى آياته المحكمات ، بكل دقة ، أقل مدة للحمل.

٣ ـ المخاض أو الولادة :

تنتهى الحضانة الرحمية بولادة الجنين. وهنا تبرز أمامنا آية رائعة يقول فيها الحق تعالى (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس : ٢٠].

١١٤

ومن معانى هذه الآية تيسير طريق الجنين لتيسير الولادة ، حيث تبدو قناة الولادة ـ وهى فى وضعها الطبيعى ـ ممرا يصعب مرور الجنين منه ؛ إلا أن هناك عوامل كثيرة تسهل عملية الولادة.

واستنادا إلى المعلومات العلمية المتوفرة ، فإننا نعرف الآن الدور الذى تؤديه العوامل التالية :

(أ) هورمون ريلاكسين : وهو هورمون يفرزه المبيضان والمشيمة ، ويؤدى إلى تراخى أربطة مفاصل الحوض ، وتليين عنق الرحم.

(ب) تقلصات الرحم : وهى تبدأ فى الجزء العلوى من الرحم ، الذى يتكون من نسيج العضلات المتقلصة المتحركة النشطة ، والذى يؤمّن القوة اللازمة لدفع الوليد خلال الجزء السفلى الساكن الرقيق من الرحم.

(ج) أغشية السلى : وهى عبارة عن كيس الماء الأمينوسى الذى يحيط بالجنين ويسهل انزلاقه.

وتبرز هذه الأغشية الممتلئة بالسائل الأمينوسى على شكل كيس مائى من خلال عنق الرحم مع كل تقلص من تقلصاته ، وتعمل على تسهيل تمدده. وتؤمّن هذه الأغشية ـ بعد أن تتمزق ـ سطحا لزجا ناعما ينزلق عليه الجنين.

ميكانيزم (آلية ـ هندسة) المخاض

يتغير وضع الجنين عند مروره عبر تجويف الحوض الذى له شكل غير منتظم. وهذه التغيرات ـ التى تطرأ على الوضع العكسى ـ هى على سبيل المثال النزول والانثناء والدوران الداخلى والتمدد ، واسترجاع الوضع الطبيعى ، والدوران الخارجى.

وصدق الله تعالى فى قوله (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ،) فقد هيأ للجنين كل هذه السبل لتسهيل مروره عبر قناة الولادة.

١١٥

الخلاصة :

أى إعجاز هذا؟!

سبحانك يا الله .. تقول فى قرآنك الكريم لفظ «أنشأناه» ، فإذا به يشتمل على أوضح التطورات الخارجية والداخلية فى الملامح خلال هذا الطور من أطوار التخلق البشرى.

ولقد عرفنا أن لفظ «نشأ» يعنى (بدأ) و (نما) و (ارتفع وربا) ، فإذا بكل هذه المعانى تنطبق بشكل جلى مفهوم على كافة مراحل هذا الطور.

فما ورد بمعنى (بدأ) يصف لنا بداية عمل الأعضاء والأجهزة المختلفة ، حيث نجد أن الكلية قد بدأت فى تكوين البول ، وبدأ مخ العظام فى تكوين خلايا الدم ، وبدأت حويصلات الشعر فى الظهور فى الأسبوع العاشر ... الخ.

وأما معنى (نما) فإنه يبين النمو السريع والتطور الشامل فى أعضاء وأجهزة الجسم خلال هذا الطور.

وأما معنى (ارتفع وربا) فإنه يصف تلك الزيادة الواضحة والبالغة السرعة فى طول الجنين ووزنه ، والتى تبدأ فى الأسبوع الثانى عشر.

وسبحانك عز من قائل ، من اخترت لفظ «نشأ» لينطبق بصورة دقيقة ومناسبة للغاية على وصف مرحلة الجنين.

١١٦

مسار عملية التخلق فى طور النشأة

١١٧
١١٨

الفصل العاشر

إعجاز الآيات القرآنية

فى الحديث عن مراحل التخليق البشرى

بعد أن أنتهت رحلتنا مع الخلق الإلهى ، لا أجد ما أقول سوى : سبحانك ربى سبحانك ، سبحانك ما أعظم شأنك.

أى إعجاز هذا يا رب يا قادر!!

منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، وقرآنك الكريم يضم بين جنباته تفردا وعظمة ، وسبقا لما اكتشفه العلم الحديث الذى لم نتوصل إلى أطرافه إلا من عشرات قليلة من السنين ، عند ما يتحدث القرآن بكل الاقتدار الإلهى عن كيفية ومراحل الخلق البشرى.

وقبل أن تعرف الإنسانية الأجهزة والآلات المعقدة الحديثة بقرون طويلة ، وقف القرآن شامخا ، يتحدث وحده ـ بكل الثقة والاقتدار ، عن مراحل الخلق البشرى ، بأوصاف معجزة ، ومنهجية علمية ، وترتيب دقيق ، لم يتوصل البشر إلى معرفته إلا منذ سنين قلائل.

حقا إنه كلام رب مقتدر ، وحديث خالق مبدع.

يقول جل جلاله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] ، وذلك فى إشارة واضحة إلى أن الناس فى زمن التنزيل لم تكن لهم معرفة بحقائق العلوم التى كشفها تعالى لنا فى هذا العصر الراهن من معجزات فى خلق الكون والإنسان.

١١٩

اللافت للنظر أن هذه العبارات التى يفهمها الناس ويتقبلونها ، هى فى نفس الوقت ، عبارات تحمل المعنى الأصلى المراد منها فى تعبير دقيق عن الحقيقة. فهى صيغ يسترعى انتباهنا منها أنها دقيقة جدا ومقصودة ، إذ إن كلا من منها اصطلاح لا يضارعه أى اصطلاح مما قد يخطر فى بال أى عالم من علماء اللغة فى دقته ودلالته. ثم هو إلى جوار ذلك ، اصطلاح جميل ورفيع ، ويوحى بالسمو المعنوى إضافة إلى السمو المادى ، تأنس إليه الأذن ويرتاح له الفؤاد ، ويعتقد به الشخص العالم ، الآن كما فى القديم.

ومعروف أن العلماء قد اتفقوا على أسس وضع المصطلحات العلمية لعلم الأجنة ، بحيث يتحتم أن تكون هذه المصطلحات :

١ ـ واصفة للمظهر.

٢ ـ أن تعكس عمليات التطور التى تحدث فى كل طور وكل مرحلة.

٣ ـ أن تتحاشى وقوع أى تداخل أو التباس فى بداية كل مرحلة ونهايتها.

ومن خلال دراسة كل المصطلحات المتعلقة بتكوين الجنين الإنسانى فى القرآن الكريم ، نجد أنها تستوفى كل الشروط الضرورية اللازمة للتسميات المثالية ، إذ يبرز فيها التطابق والوضوح بالنسبة لكل مرحلة من مراحل تطور الجنين.

ولهذا السبب فإنه لا يمكن أن يعزى تفسير وصف الجنين البشرى الوارد فى القرآن الكريم إلى المعرفة العلمية التى كانت سائدة وقت نزوله فى القرن السابع الميلادى. والاستنتاج المنطقى الوحيد ، والذى لا جدال فيه ـ فى هذا الصدد ـ هو أن الله سبحانه أوحى بذلك إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبى الأمى الذى لم يمارس فى حياته نشاطا علميا قط فى هذا المجال أو غيره.

وبعد أن قطعنا سويا رحلتنا مع مراحل الخلق الإلهى ، واحدة تلو الأخرى ، فقد يكون مفيدا أن نتوقف لكى نمعن الفكر ونتدبر ، كما أمرنا الله ، لنرى كيف أبدعت آيات القرآن الكريم فى بيان إعجاز هذا الخلق الإلهى.

١٢٠