تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

ولكن الوالي اكتشف خيوط المؤامرة فخشي القائد على نفسه وفرّ في عدد قليل من أصحابه إلى البادية مستجيرا ، ولم يتمكن من الوصول إليها إذ أدركه قوم الوالي قريبا منها فقتلوه مع ذلك العدد القليل من أصحابه. ثم أمر أبو يحيى التنملي بالقبض على جماعة من أجناد ميورقة ممن اتهموا بالتآمر عليه فأودعوا السجن ، ثم لم يلبثوا أن سلبت منهم الأموال وقطعت رؤوسهم.

وأثناء ذلك كانت أخبار العدو تزيد ، فرأى الوالي أن يستطلع تلك الأخبار ، فجهّز قطعة حربية وأرسلها للقيام بتلك المهمة ، ولكن الرياح عصفت عليها ورمت بها إلى بنشكلّة إحدى ثغور شرق الأندلس ، حيث وقعت في أيدي النصارى فأضرموا فيها النار. وفي أثرها أرسل الوالي قطعة ثانية ، وخرجت تستوضح الأنباء حتى انتهت إلى وادي كونة قرب ثغر بنشكلّة فأسرت من النصارى تسعة رهط واقتادتهم إلى ميورقة فسئلوا عن استعدادات العدو فقالوا إنه قد تكامل للنهوض وإنّه على وشك الإبحار إلى الجزيرة. ثم عزز الوالي بقطعة ثالثة لاستجلاء الخبر ، ولكن الريح رمت بها إلى جزيرة سردانية فأغارت في سهلها وأسرت خمسة من أهلها. ولما استنطقهم الوالي أخبره بعضهم أن أهل أرغون قد أجّلوا غزوهم لميورقة إلى فصل الربيع بدل الشتاء ، فاستحسن هذه التوسعة وصدق هؤلاء الرهط ، وأذّن في الناس أن العدو غير قادم وسمح لأهل البادية الذين كان قد استدعاهم من قبل بالعودة إلى مواطنهم وترك المدينة. فكان ذلك غاية في القصور وسوء التدبير.

ولمّا خلا للوالي الجو ، ورجع أهل البادية إلى منازلهم ، واطمأن إلى ما أخبره به أسرى سردانية ، عاد إلى تأجيج الأحقاد ضد أجناد ميورقة والانتقام منهم ، فأمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبرائها فضرب أعناقهم وطرحهم بالعراء. وكان اثنان منهم ابني خالة وخالهما أبو حفص عمر ابن شيري الذي سيقود ذيول المقاومة الإسلامية في الجزيرة بعد سقوط

٤١

ميورقة. وأمام هذه التصرفات الحمقاء للوالي اضطر الكثير من وجوه المدينة وأعيانها إلى الفرار منها واللجوء إلى البادية والاجتماع بابن شيري خال القتيلين وإخباره بما نزل وتحريضه على طلب الثأر.

ولم يكتف أبو يحيى التنملي بتلك الأعمال الشنيعة التي ارتكبها في حق أجناد وأعيان ميورقة ، في وقت كانت حاجة الجبهة الداخلية إلى التماسك والتلاحم شديدة وماسّة لمواجهة العدو ، بل أصبح يوم الجمعة منتصف شوال ٦٢٦ ه‍ والناس من خوفه في أهوال ، فأمر صاحب شرطته أن يأتيه بخمسين من أهل الوجاهة والنعمة ، فانقض عليهم وأحضرهم بين يديه. وبينما هؤلاء سكارى من الذعر ، وعيونهم شاخصة والنوادب عليهم قائمة ، وهم ينتظرون لحظة فراق الدنيا بقطع رؤوسهم ، وإذا بفارس على هيئته النذير دخل على الوالي ، وأخبره بأن أساطيل الملك خايمي صاحب قطلونية وأرغون قد أقبلت ، وأنه عدّ فوق الأربعين من القلوع.

وقبل أن ينتهي من كلامه إذا بفارس آخر أقبل من الجهة الأخرى لجزيرة ميورقة فأخبر الوالي بأن أسطول العدو قد ظهر ، وأنه عدّ فوق السبعين شراعا ، ولما صحّ عنده الأمر سمح لهؤلاء المحتجزين عنده بالصفح والعفو وأعلمهم بخبر العدو وأمرهم بالتجهز ، وخرجوا إلى دورهم كأنما قد نشروا من قبورهم. وفي اليوم الموالي وهو يوم السبت جاء من أكد للوالي الخبر وأخبره أن أسطول العدو يتكون من مائة وخمسين قطعة حربية وأنه يقصد مرسى شنت بوصة (سانتا بونزا) الواقع إلى الجنوب الغربي من مدينة ميورقة بحوالي عشرة أميال (ستة عشر كلم).

٦. الصدام المسلح وفرض الحصار على مدينة ميورقة :

ولما أيقن الوالي أن العدو أصبح قاب قوسين أو أدنى من المدينة

٤٢

أخرج جماعة من أهلها لسدّ الثغور القريبة منها ، وأسند قيادتها لبعض قومه الذين انهمكوا في اللهو والمعاقرة وأهملوا شأن العدو ، ولم يأخذ بمشورة الجماعة حين نصحتهم بالرباط في مرسى شنت بوصة وحمايتها تحسبا لنزول العدو فيه ، وذهبوا إلى حدّ اتهامها بالخيانة. وفي صباح يوم الإثنين ١٨ شوال ٦٢٦ ه‍ / ١٠ سبتمبر ١٢٢٩ م نزلت القوة الفرعية الصليبية في المرسى المذكور بقيادة نونيو سانشيز أمير روسيون وغيره ، وقوامها حوالي خمسمائة فارس وعشرة آلاف راجل وكان يحمل رايتها البحّار القطلاني برناردو ريوديما. وتقدمت إليها القوة الإسلامية فوقع أول صدام مسلح بين الطرفين استمر طيلة ذلك اليوم ، وأفضى إلى انهزام المسلمين وانسحابهم من المعركة في المساء. فكانت هذه الهزيمة أول البلايا ، وفاتحة الرزايا ، وعنوان الشر النازل ، وابتداء المرض القاتل كما يقول المؤلف.

وفي الوقت الذي كانت فيه معركة شنت بوصة على أشدّها ، كان الملك خايمي الأول يقود القوة الرئيسية إلى بورتوبي الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة ميورقة بحوالي خمسة كيلو مترات فنزل هناك في صباح يوم الثلاثاء ١٩ شوال أي بعد عودة فلول المسلمين المنهزمة في المعركة السالفة الذكر إلى مدينة ميورقة. ولما كانت التجربة الأولى في لقاء العدو قاسية ، طلب أهل ميورقة من واليهم أن يتأنى قليلا ، ولا يتسرع في خوض معركة أخرى قبل أن يعيد ترتيب الصفوف ويمحي آثار الهزيمة. ولكن الوالي ركب رأسه وتصلّب في مناجزة القوات الصليبية ومشى على غير نظام ولا ترتيب يقود قرابة ألفي فارس وأكثر من عشرين ألف راجل.

وقبل خوض المعركة الحاسمة أشار أهل الرأي على الوالي أبي يحيى التنملي بأن يبني أمر الحرب على رأس الجبلين الصغيرين المطلّين على

٤٣

بورتوبي وهما مرج سرقسطة ومرج الملك (١) ، أو العقبة كما يسميها ابن عميرة ، ولكن الوالي رفض هذا الرأي وأصرّ على النزول. ونشبت المعركة بين الجانبين في السفوح الغربية لتلك العقبة (الجبلين الصغيرين) ، ودارت رحاها بكل شراسة واستبسل فيها الطرفان ، وكان أمير طرطوشة من كبار المتحمسين لهذه المعركة فاستظهر لها بالعدة والقوة وأنذر أنه سوف يموت في جزيرة ميورقة وأنها ستكون من نصيب الصليب ، ولم يكن المسلمون أقل حماسة من أعدائهم حيث أبدوا شجاعة كبيرة في القتال.

وبينما الحرب على أشدّها وريح انتصار المسلمين فيها كادت أن تهبّ ، إذا برجل من قوم الوالي جاء إليه وقال إن النصارى قد احتدم ثأرهم وإنهم يسعون للسيطرة على مرتفعات بورتوبي ، التي كان الوالي قد رفض أن يبني عليها أمر الحرب حسب الخطة المعروضة عليه من قبل ، وخوّفه من عاقبة احتلال العدو لتلك المرتفعات وما يترتب عنها من انقلاب ميزان الحرب لغير صالحهم ، فراطن قومه أن يصعدوا إليها ويستتروا بها. ولما شرعوا في الصعود إليها والاعتصام بها ظن غالبية المسلمين أن الهزيمة قد حلّت بهم فولوا مدبرين وفرّ معظمهم إلى المدينة ولحقهم العدو ، وتحول الانتصار إلى انكسار والإقدام إلى إدبار. ولم يكن ذلك مردّه إلى قلّة عدد وعدّة المسلمين ولكن بسبب سوء تدبير الوالي واستعجاله وتصدع جبهته الداخلية.

وارتحلت القوات الصليبية بعد معركة بورتوبي نحو مدينة ميورقة وشرعت في فرض الحصار عليها برّا وبحرا في أواخر شهر شوال ، وأخذت في إنزال الآلات الحربية ونصبت حول أسوار المدينة الأبراج الخشبية التي

__________________

(١) ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ٥٧.

٤٤

أقيمت عليها المجانيق ، وضربت الأخبية وأرست سفن أسطولها في البحر وجعلتها قبالتها ، وقد أتمّت ذلك بسرعة فائقة. ثم أخذ الغزاة في دكّ أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق والقذائف المحرقة ، وكانت القوات الإسلامية تتسلل إليهم بين الحين والآخر وتقاتلهم وتشتبك معهم دون وهن ولا يأس. ولما رأى هؤلاء الغزاة أن ضرب المجانيق لم يحقق الهدف المطلوب رغم ما أحدثه من أثر في أسوار المدينة ، وأن عزائم المسلمين لم تفتر في المقاومة ، لجأوا إلى حفر الخنادق شمال شرق المدينة وغربها للوصول إلى المياه الجوفية ومحاولة تدمير أسس الأسوار بغية الولوج إلى الميدان الرئيسي ، ولكن المحاولة باءت بالفشل.

ولما رأى أهل البادية في الجزيرة ما حلّ بميورقة من حصار وخناق شديد فرضه عليها العدو الصليبي ، أخذتهم الغيرة على مدينتهم ودفعتهم الحمية للدفاع عن الإسلام والمسلمين ، فاستجمعوا عدّتهم وعددهم وتجهّزوا للقتال. وقبل الخروج للعدو أرسلوا إلى الوالي أبي يحيى التنملي أن يبعث إليهم رجلا يأتمرون بأوامره ويكونون طوعه ، فندب لهم واحدا من قومه معروفا بالجبن ليس أهلا لقيادة الجيش وهو الذي كان قد أشار على الوالي في معركة بورتوبي بالصعود إلى المرتفعات فوقعت الهزيمة بسبب ذلك. وما أن رأى جموع الروم حتى هاج به الجبن والخور ففرّ لا يلوي على شيء وكان السبب في تفريق جموع أهل البادية الذين لم ييأسوا وأعادوا على الوالي رغبتهم تلك واقترحوا عليه أن يبعث إليهم أحد أبنائه. ولكن الوالي الذي اشتهر بسوء التدبير أصرّ على أن يرسل إليهم الرجل نفسه رغم تشاؤمهم به وكرههم له ، فجرّ عليهم ذيل الويل بفراره مرّة أخرى أمام العدو الذي أحدث في أهل البادية مقتلة كبيرة وأمطر عليهم من البلاء سحبا غزيرة.

ولم تعدم جزيرة ميورقة وجود خونة باعوا شرفهم وارتموا في

٤٥

أحضان العدو النصراني مرتدين عن دينهم مفارقين لأمتهم ، ومن هؤلاء أحد عمّال الجزيرة وهو ابن عبّاد الذي أقبل على الملك خايمي عارضا عليه ما يريد من خدمة مقابل أن يؤمّره على الجزيرة. وقبل الملك العرض وأحسن وفادته وأحاطه بكل رعاية وتكريم ، فخرج الخائن ابن العباد إلى البادية ينشر روح الهزيمة بين أهلها ويثبط عزائمهم ، ونجح في إقناع الكثير منهم باعتناق النصرانية ومصالحة الروم ، كما ظل يزود المعسكر المسيحي بالمؤن والأغذية طوال فترة الحصار. فجاءت هذه الخيانة ضربة قاصمة لوالي ميورقة ومن معه داخل الأسوار المحاصرة ، ونفسا قويا للملك خايمي الذي أتاحت له الفرصة في إطالة عمر الحصار بما ضمنه له الخائن ابن عباد من ميرة لمعسكره وعلف لحيواناته.

ولما ضاقت الأحوال بأهل المدينة واشتدت عليهم وطأة الحصار ، أداروا الرأي بينهم ورأوا أن يبعثوا إلى أهل البادية وقائدهم الخائن ابن عبّاد جماعة منهم تعظهم وتنشدهم الله والإسلام ، وتحثهم على ترك التعاون مع النصارى وموالاتهم. وخرجت الجماعة يرأسها خطيب المدينة فلقيت في طريقها من أيأسها مما فيه طمعت وهمّت بالانصراف ، ثم بدا لها أن تقيم الحجة على هؤلاء الخونة فواصلت طريقها حتى انتهت إليهم. وكان أهل البادية قد صالحوا الروم على شروطها وأرادوا توثيق هذا العقد ، وطلبوا من الجماعة التي جاءت تمنعهم ذلك أن تحضر معهم هذا الصلح ليكون عقده أوثق وأصح.

وحاول وفد المدينة إقناع أهل البادية بكل السبل للتخلي عن هذا الصلح لتعارضه مع الإسلام وما يجره على المسلمين من ويل ولكن دون جدوى ، بل إن أعضاء الوفد سيقوا بالقوة إلى الملك خايمي الأول على يد أهل البادية الذين أخبروه بأن البلد في حكمهم. وبعد حبسهم وإذلالهم أمرهم

٤٦

الملك بأن يفاوضوا والي ميورقة المحاصرة وأهلها على الاستسلام ، ولكنهم فشلوا بعد عدّة محاولات بسبب إصرار الوالي على المقاومة ورفض الاستسلام. فاشتد غضب الملك خايمي على الخطيب وجماعته واتهمهم بالتواطؤ مع أهل المدينة فأعادهم إلى السجن ثم صاروا في حكم الرقّ.

وبعد فشل الخطيب وجماعته في إقناع أمير البليار بالاستسلام ، أرسل إليه الملك خايمي عمّ والده الكونت نونة لمفاوضته على تسليم المدينة ولكن الأمير المسلم رفض الصفقة وقرر المقاومة وانقطعت المفاوضات وعاد القتال من جديد بين الطرفين بشكل أعنف ، حيث أضرم النصارى النار تحت سور المدينة فسقط ومعه ثلاثة من الأبراج الغربية في الثالث عشر من شهر محرّم سنة ٦٢٧ ه‍. وتمكنت القوات الإسلامية من مجابهتهم بقوة وردّتهم على أعقابهم وأعادت بناء ما تهدم ولكن إلى حين ، لأن الحصار اشتدّ وطالت أيامه وكثف العدو هجماته على المدينة ، وباءت الخطط المعروضة على الوالي في الدفاع بالفشل بسبب بخله وسوء تدبيره ، وازدادت الأوضاع سوءا وأضحت ميورقة قاب قوسين أو أدنى من السقوط.

٧. سقوط مدينة ميورقة :

ولما رأى أبو حفص عمر بن شيري ، الذي كان الوالي قد قتل ابني أختيه ضمن كبراء المدينة الأربعة ، أن أمر العدو قد استشرى وأن خناقه على المدينة قد اشتد أكثر ، خرج إلى البادية يستنجد أهلها ويسعى في إفساد ما كان بينهم وبين النصارى من وصلة وهدنة ، فجمعهم ووعظهم وأيقظ فيهم الغيرة على الإسلام والمسلمين وألهب حماسهم فأجابوه لما دعاهم وخرقوا الهدنة مع العدو وقتلوا منه من كان بين أظهرهم.

وفي يوم الجمعة ١١ صفر سنة ٦٢٧ ه‍ / ٢٨ ديسمبر ١٢٢٩ م اجتمع

٤٧

النصارى بقيادة ملكهم خايمي الأول وقرروا اقتحام مدينة ميورقة لأن ظروف الحصار لم تعد في صالحهم ، فقد توجّسوا خيفة من أهل البادية الذين نقضوا الصلح معهم ، وازدادت الأحوال الجوية في فصل الشتاء سوءا حيث اشتد البرد وهاج البحر ، ولم يأمنوا ردّ فعل قوي من طرف أهل الجزيرة المحاصرين الذين كان بإمكانهم استغلال الظروف المذكورة لصالحهم وفك الحصار المضروب عليهم.

وفي صباح اليوم الموالي أمر الملك خايمي بالهجوم العام والشامل على المدينة التي تمّ اقتحامها من الثغرات المفتوحة في الأسوار ، وانهالت عليها جموع العدو التي ألهب حماسها الأساقفة ورجال الدين ، وكان يوما عصيبا على مسلمي ميورقة وأذكر بهوله هول يوم القيامة كما وصفه المؤلف. وتواصل القتال طوال يومي الأحد والإثنين ١٣ و ١٤ صفر ٦٢٧ ه‍ بكل شراسة وعنف وتكدّست أكوام من الجثث على معابر الثغرات وأزقة المدينة نتيجة للمقاومة العنيفة ، وكان والي ميورقة يقود القتال بنفسه ويحث جنوده على الثبات ، ولكن حدّة الهجوم الشديدة وخيانة المرتد ابن عبّاد الذي أطلع العدو على ثغرات المدينة وطرقها ، لم تجد معها بسالة المدافعين ، وسقطت المدينة بعد قرابة أربعة شهور من الحصار ، حيث تسلّمها الملك خايمي يوم الثلاثاء ١٥ صفر ٦٢٧ ه‍ / ١ يناير ١٢٣٠ م ، وأباحها لغزاته ينهبون ويقتلون. وقد بلغ عدد قتلى مسلمي مدينة ميورقة أربعة وعشرين ألفا وهي مجزرة رهيبة ارتكبها نصارى قطلونية وأراغون في حق هؤلاء بكل قسوة ووحشية.

ووقع أبو يحيى التنملي والي ميورقة وجزر البليار في قبضة العدو الذي سجنه وعذبه عذابا شديدا وعاش خمسة وأربعين يوما في النكال الشديد والهول المذيب للحديد ، حيث طلب منه الكشف عن الكنوز والأموال التي كانت عنده ، كما أحضروا أحد بنيه بين يديه وقتلوه تنكيلا

٤٨

وإرغاما له. ولكنه صبر صبرا جميلا ولم يحصل منه العدو على ما أراد ومات تحت العذاب. وأما أهل ميورقة الذين نجوا من القتل فأغلبهم وقع في الأسر وبيع في سوق الهوان وفرّ بعضهم إلى جبال الجزيرة والتحقوا بابن شيري. وأترك القارئ الكريم يطّلع بنفسه وبأسلوب المؤلف البليغ المؤثر على تلك المشاهد المفجعة والجرائم البشعة التي اقترفها النصارى في حق مسلمي ميورقة قتلا وأسرا وسبيا وقهرا.

ولم تتوقف المقاومة الإسلامية ضد الغزاة النصارى في الجزيرة بعد سقوط ميورقة العاصمة ، بل تواصلت في الجبال بزعامة القائد أبي حفص عمر بن شيري الذي اتخذ من معقل بلانسة الجبلي في شمال الجزيرة إمارة صغيرة لمواجهة العدو. والتحق به الناجون من مذابح النصارى فبلغ تعداد قواته حوالي ستة عشر ألف مقاتل ، وقام بتنظيم شؤون إمارته وعين الولاة والقادة والقضاة. وكان يشرف على شؤون القضاء في إمارة بلانسة الجبلية القاضي أبو علي عمر بن أحمد العمري الذي قال عنه ابن عبد الملك : " وهو من صرحاء ولد عمر بن الخطاب ، كان حافظا اشتهر باستظهار الموطأ والذكر لمسائل الرأي وسرد أقوال الفقهاء ، واستقضي بالجبل بعد انحياز الفلّ الميورقيين إليه إثر تغلب الروم على ميورقة وأعمالها ، توفي بحصن بلانسة سنة ٦٢٨ ه" (١). كما انضوى إلى هذا الجبل الفقيه أبو العباس أحمد بن المواق الذي كان فقيها حافظا عاقدا للشروط ماهرا في المعرفة (٢).

وتمكن ابن شيري من إلحاق خسائر فادحة في صفوف القوات الصليبية التي كان يباغتها في هجمات ليلية متلاحقة ويعود إلى معقله دون أن

__________________

(١) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ٥ ، ص ٤٤٢.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٤٥.

٤٩

تتعرض له تلك القوات في الشعاب الجبلية الوعرة. واستمرت المقاومة بعد سقوط مدينة ميورقة أكثر من سنة. ورغم النجاح الذي حققته إلا أنها كانت تفتقر إلى مزيد من الدعم وهو ما لم تتمكن من الحصول عليه سيما بعد قطع النصارى لخط الإمداد الذي كان يتزود عبره الثوار من جزيرة منورقة. وازدادت الأحوال سوءا واشتد الجوع بهؤلاء المقاومين حتى دفعهم إلى أكل جثث قتلى النصارى حسب المؤلف ، وثبت ابن شيري في أغلب الوقائع مع أصحابه إلى أن جاءته الشهادة في آخرها حيث استشهد في ضحى يوم الجمعة عاشر ربيع الثاني من سنة ٦٢٨ ه‍ / ١٢٣١ م ، واختل الأمر بعد وفاته وتفرق أتباعه فمات أغلبهم ، وأما الحصون الثلاثة الأخيرة فقد امتنع أصحابها مدة ثم صالحوا الروم على مغادرة الجزيرة في شهر شعبان من السنة نفسها ، وباستخلاص هذه المعاقل الثلاثة خلصت الجزيرة لأهل التثليث.

وفي مطلع شهر شعبان ٦٢٩ ه‍ / أوائل جويلية ١٢٣٢ م وبعد القضاء النهائي على كل معاقل وحصون المقاومة الإسلامية في جزيرة ميورقة ، أصدر الملك خايمي الأول كتابا بتقسيم أراضي الجزيرة إلى إقطاعات له ولكبار قادة حملته الصليبية. ويتألف هذا الكتاب ، المعروف بالمخطوط اللاتيني العربي حول تقسيم جزيرة ميورقة ، من جزئين : أحدهما باللغة اللاتينية والآخر باللغة العربية. وقد نشر المؤرخ الميورقي الأستاذ خايمي بوسكيتس موليت النص اللاتيني في مجلة جمعية القديس رايموند لوليو للدراسات الأثرية في بالما سنة ١٩٥٣ م ، ونشر النص العربي ضمن مجموعة من الدراسات بمناسبة تكريم الأستاذ ملياس فاليكروسا في برشلونة سنة ١٩٥٤ م ، ثم جمع كلا النصين في كتاب واحد وكتب تعليقا عليهما بالإسبانية (١).

__________________

(١) صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية ، مج ٤ ، ص ٢١٨.

٥٠

والنصان يكمل أحدهما الآخر ويتناول كلاهما تقسيم جزيرة ميورقة بعد انتزاعها من حكم المسلمين ، ومن الأرجح أن يكون النص العربي قد كتب قبل اللاتيني وأن الأخير ترجم عنه. وللنص العربي قيمة كبرى في توضيح عمارة ميورقة وقت استيلاء النصارى عليها وما كان فيها من مزارع وأرض وديار عامرة وغير ذلك ، وكذلك الأعلام الجغرافية العربية الواردة في النص التي ما زال الكثير منها باق إلى اليوم. كما وردت في النص ألفاظ ميورقية خاصة مثل الرّحل والحوز والزوج وغيرها (١).

تلك هي رواية ابن عميرة المخزومي التي ساقها عن سقوط جزيرة ميورقة بأسلوب بياني مسجوع ، وحاولت هذه الدراسة شرح وتحليل بعض جوانبها وتفسير الغامض منها قدر الإمكان ، وهي رواية رجل عاصر تلك الكارثة واستقى أحداثها ممن عايشوا أطوارها ورووا تفاصيلها. لذلك فليست الرواية المسيحية بأكثر غنى وثراء من نص ابن عميرة في هذا الباب فضلا عما يشوبها من تحريف وتناقض وتعصب وتحيز مما يجعلها غير جديرة بالثقة والاعتماد.

ثامنا : المخطوط وطريقة التحقيق

ترددت طويلا قبل الإقدام على تحقيق هذا المخطوط ، لأن التحقيق على أصل وحيد تجربة قاسية حافلة بالمصاعب. ولكني ، نظرا لأهمية الكتاب وقيمته التاريخية والأدبية العظيمة وما يضمّه من معلومات لا نجدها في أصل آخر ، مضيت أبحث عن أصول أخرى ، فاتصلت بالقائمين على أقسام

__________________

(١) المرجع نفسه ، ص ٢١٩. وعن النص العربي كاملا انظر الملحق الثاني من كتاب جزر الأندلس المنسية ، مرجع سابق ، ص ٦١٥ وما بعدها.

٥١

المخطوطات داخل الجزائر وخارجها في المشرق والمغرب راجيا البحث عن نسخ أخرى ، فتفضلوا بالبحث والاستقصاء ولكن دون جدوى. وكانت الحصيلة من كل الجهد الذي بذل في هذا الشأن هو الظفر بنسخة مصورة عن النسخة الأصلية الموجودة بخزانة زاوية سيدي بلعمش بمدينة تندوف التي زودني بها مشكورا الأخ الفاضل أمانة الله صاحب الخزانة ، فلم يبق إلا الاعتماد على هذا الأصل الوحيد لأن إخراج الكتاب إلى النور أجدى من الانتظار زمانا قد يطول.

ويعود اتصالي بالمخطوط إلى صائفة سنة ٢٠٠١ م عند ما وقع بين يدي قرص مضغوط يحتوي على مجموعة من المخطوطات المصورة من خزانة زاوية سيدي بلعمش ، كان مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي قد قام بتصويرها ووضعها في أقراص مضغوطة خلال جولته التي قام بها إلى دور وخزائن المخطوطات بالجزائر في السنة نفسها. ولما فتحت القرص واطلعت على عناوين الكتب لفت انتباهي مخطوط بعنوان تاريخ ميورقة لابن عميرة المخزومي فرأيته جديرا بالاهتمام وشرعت في قراءة محتواه. فتبين لي بعد القراءة الأولية أن العنوان لا يتناسب مع مجموع المخطوط الذي يتألف من ١٢٦ ورقة حسب البطاقة الفنية التي وضعها مفهرس مركز جمعة الماجد ، لأن الذي يناسب العنوان هو ٢٦ ورقة الأولى من المخطوط ، أما المائة الأخرى فهي تعالج موضوعا آخر وهو رسائل ابن عميرة. ولعل السّهو الذي وقع فيه المفهرس يعود إلى خلط بعض الأوراق داخل المخطوط ، ومنها الورقة الأخيرة من تاريخ ميورقة الواردة في نهايتها عبارة نسخ وقوبل من خط مؤلفه التي وضعت في آخر المخطوط ، سيما وأن المجموع المخطوط قد نسخته يد واحدة.

وقد استعصت علي قراءة بعض الكلمات والعبارات غير الواضحة في

٥٢

النص المصور على القرص المضغوط ، فاتصلت بالأخ الفاضل أمانة الله صاحب الأصل المخطوط وطرحت عليه المشكلة ، ولم يتردد في تزويدي بنسخة مصورة على الورق ، فتمكنت بفضلها من قراءة كل ما استشكل علي لوضوحها. ولما استقر عندي أن المخطوط جدير بالتحقيق والنشر ، عقدت العزم على القيام بهذه المهمة ، فأعدت قراءته عدة مرات ، ثم جاءت فرصة انعقاد الملتقى المغاربي الثاني للمخطوطات الذي نظمه مخبر البحوث والدراسات في حضارة المغرب الإسلامي بجامعة قسنطينة في شهر نوفمبر ٢٠٠٤ م ، فقدّمت المخطوط ورقة علمية في هذا الملتقى. كما عرّفت به في مقالة نشرتها مجلّة التراث العربي التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق في عددها ٩٨ جوان ٢٠٠٥ م.

وفيما يلي جملة من النقاط المتعلقة بحالة النسخة الوحيدة من المخطوط المعتمدة في التحقيق :

١. إن المخطوط خال من أي ذكر لاسم الناسخ وتاريخ ومكان النسخ واكتفت اليد المجهولة التي خطّته بالإشارة في نهايته إلى أنه نسخ وقوبل من خط مؤلفه.

٢. ورد عنوان المخطوط واسم مؤلفه الكامل على وجه الورقة الأولى وظهرها.

٣. يقع المخطوط في ٢٦ ورقة بوجهين (٥٢ صفحة).

٤. مقاسه ٢٤ سم طولا و ١٨ سم عرضا وهو غير مرقم. وعدد الأسطر في كل صفحة ٢٣ سطرا.

٥. والخط مغربي واضح ولون الحبر أسود.

٥٣

٦. المخطوط خال من أي بياض أو بتر أو خرم وحالته متوسطة.

٧. في الحالات التي كان الناسخ ينسى كتابة كلمة أو عبارة في المتن أو يخطئ في كتابتها ، يستدرك ذلك بكتابتها على الهامش ويضع فوقها كلمة" صح".

٨. لغة الناسخ سليمة لانعدام الأخطاء الإملائية والنحوية بالمخطوط.

٩. انعدام التعقيبات والتعليقات في هوامش المخطوط باستثناء الورقة الأولى التي كتبت عليها بخط مغاير الفقرة التالية : " الحمد لله وحده ، صلى الله على سيدنا محمد ، استودع الكاتب هذه الشهادة ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله. محمد الأمين بن محمد المختار بن بلعمش كان الله له وليا ونصيرا آمين والحمد لله رب العالمين".

ومحمد الأمين هذا كان عالما جليلا كبيرا القدر كما يصفه المختار السوسي في كتابه المعسول ، له رسائل في الحض على صون النساء ، مات في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، وهو من آل بلعمش. والده هو محمد المختار الذي يصفه نفس المؤلف بأنه كان عالما جليلا يدوي صيته في جهات غرب الصحراء الكبرى ، وأنه فريد في العلوم وفي القراءات. وهو الذي أشار على أخواله من قبيلة تاجا كانت المعروفة ببناء مدينة تندوف في سنة ١٢٧٠ ه‍ / ١٨٥٣ م ، فكان أول ما بني فيها المسجد الأعظم ثم شرعوا في بناء الدّور. توفي سنة ١٢٨٥ ه‍ / ١٨٦٨ م.

وبعد اقتناعي بفائدة تحقيق هذا المخطوط وعزمي على ذلك رغم عدم حصولي على نسخة ثانية ، لأنه عزّ علي نص مخطوط كهذا على جانب

٥٤

كبير من الأهمية يظل حبيس خزانة الزاوية ، وبعد قراءته عشرات المرات مستفيدا ومحققا ومراجعا ومقارنا ومصححا وحدي ومع غيري خرجت بما يلي :

١ ـ قسمت المتن إلى فقرات يقتضيها المعنى وسياق الكلام.

٢ ـ نبّهت على الانتقال من صفحة إلى أخرى في أصل المخطوط وذلك بإثبات رقم الصفحة بين خطين مائلين هكذا (//).

٣ ـ كل العناوين الواردة في المخطوط من وضع المؤلف ، وقد جاءت مسجوعة على الطريقة نفسها التي كتب بها النص ، واحتفظت بها كلها ولم أضف إليها أي عنوان.

٤ ـ جميع الهوامش من عملنا. وقد عرّفت فيها بجميع أسماء الأعلام والأماكن الواردة في المخطوط.

٥ ـ حاولت شرح الكلمات الصعبة والغامضة في النص والتعريف بها ما أمكنني ذلك معتمدا على لسان العرب والقاموس المحيط ، كما استخرجت الصور البيانية والمحسنات البديعية ، وهو ما تفرضه خصوصية الكتاب الذي دوّن أحداث التاريخ بأسلوب أدبي رفيع ، تقوم خصائصه على السجع بألوانه ، والجناس بمختلف أشكاله ، وضروب المقابلة والطباق ، وقوة البيان ، واستعمال التلميح والإشارة والتورية والاقتباس وغير ذلك من المحسنات البديعية.

٦ ـ وضعت للكتاب الفهارس الضرورية ، كما زودته بقائمة بيبليو غرافية تتعلق بمصادر ومراجع التحقيق.

ولا يفوتني في ختام هذا التقديم أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى الأخ

٥٥

الفاضل أمانة الله صاحب زاوية سيدي بلّعمش بتندوف ومالك أصل المخطوط الذي زودني بالنسخة المصورة المستعملة في هذا التحقيق.

وأدعو الله أن يعدّ جهدي هذا من صالح العمل وهو الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.

د. محمد بن معمر

جامعة وهران

٥٦

٥٧

٥٨

تاريخ ميورقة

٥٩
٦٠