تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

الرّوم فافترسوا ذيابهم (١) ، لا بل احترشوا ضبابهم (٢) ، وتمّ لهم الخلوص إلى السّور ، ووجب مهر المحنة بإرخاء تلك الستور.

وكان أحد قسّيسيهم (٣) قد حلف وهو مصرّ على مأثمه (٤) ، مستسرّ في مجثمه (٥) ، أنه لا يبالي من الاختفاء حتى يظهر البلاء ، ولا يصعد حتى ينزل (٦) البناء ، فزعموا وعزموا (٧) ، وعدموا المدافع فنقبوا ودعّموا ، وعلم المسلمون أن النقب قد تمكن ، والإجهاز على جرمح السّور قد أمكن ، فاتخذوا بنية يقف عليها المقاتلة ، وبنوا سورا يخلف الأوّل إذا أودت به علّته القاتلة ، وفرغ النصارى من أسباب هدّه ، وعلموا أن بأيديهم فسخ عقده ، وأنّه قنص علق به فخّهم ، وعقيرة تطاولت إليها فسحهم ، فركبوا السّلاح ، وقربوا للكفاح ، واصطفوا على الخندق ، وأخذوا من البلد بالمخنق.

__________________

(١) استعارة تصريحية حيث شبّه المؤلف جند الوالي بالذئاب والضباب.

(٢) حرش الضب يحرشه حرشا واحترشه وتحرشه وتحرش به أي صاده ، وهو أن يحك الرجل جحر الضب فإذا أحسه حسبه ثعبانا فيخرج إليه ذنبه فيصطاده حينئذ. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٢٨٠.

(٣) كان الملك خايمي الذي اتخذ الصليب شعارا لحملته ضد مسلمي جزيرة ميورقة ، قد استدعى كبار الأحبار والرّهبان للمشاركة في هذه الحملة. وكان هؤلاء الرهبان وعلى رأسهم الراهب الدومنيكي ميجيل فايرا ، وأحبار الكنيسة برئاسة أسقف برشلونة والمندوب البابوي يلهبون مشاعر المقاتلين ويحثونهم على الصمود والقتال.

Clements Markham. The Story of Majorca and Minorca; p ٦٢.

(٤) جناس ناقص بين" مأثمه ومجثمه".

(٥) جثم الإنسان والطائر والنعامة والخشف والأرنب واليربوع يجثم جثما وجثوما فهو جاثم : لزم مكانه فلم يبرح أي تلبّد بالأرض. والجاثم : البارك على رجليه كما يجثم الطير. قال تعالى : (" فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ") ، أي أجسادا ملقاة في الأرض ، وقيل أصابهم البلاء فبركوا فيها فماتوا باركين. والجثوم : الأرنب لأنها تجثم ومكانها مجثم. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٨٢.

(٦) طباق الإيجاب بين" يصعد وينزل".

(٧) جناس ناقص بين" زعموا وعزموا".

١٢١

ولما فرغوا من تعبئتهم ، نادوا من يخرج / ٣٩ / لتلبيتهم ، فخرج الوالي بنفسه ، وضمّ إليه من اختار من أبناء جنسه ، وجاءه عمّ أبي الملك القومط نونة (١) فسلّم ، وأذن له في الكلام فتكلّم ، وقال أنت من خيار قومك ، وما أقل من نراه يلمّ بلومك ، فأسلم البلد وسلّم أهله ، ودع وعر الأمر واركب سهله (٢). فقال وما الذي رأيناه ، حتى نبيح ما حميناه ، ونبيد ما حويناه ، قال إنك إن جعلت الإباية جوابا ، ولم تر في هذه الصفقة (٣) إيجابا ، فإنّا نأخذ البلد عنوة ، ونغتنمها غزوة (٤) ، وآية ذلك أن في هذه الساعة يسقط السّور ، وينكشف السرّ المستور.

ثم أشار بإضرام اللهب ، فيما كان تحت السّور من الخشب ، فظهرت في الوقت علامتها الصادقة ، واستطارت من باطن الثرى تلك الصاعقة (٥) ،

__________________

(١) ورد اسمه في الوثيقة اللاتينية العربية حول تقسيم جزيرة ميورقة المؤرخة برجب ٦٢٩ ه‍ / ماي ١٢٣٢ م. وفي هذا النص بيان كامل بأسماء النبلاء والزعماء الذين اشتركوا مع الملك خايمي الأول في غزو الجزيرة والذين أقطعهم أجزاء من أرضها مكافأة لهم ، وبنصيب كل واحد من هذه الأجزاء. وقد جاء ذكره في الوثيقة تارة باسم القمط ننوا وتارة نونة ، والقمط هو الكونت أي الأمير. عصام سيسالم ، جزر الأندلس المنسية ، الملحق الثاني ، ص ٦١٥ وما بعدها.

(٢) طباق الإيجاب بين" الوعر والسهل".

(٣) يستفاد من كلام ابن عميرة أن الغزاة قد عرضوا على المسلمين صفقة مقابل تسليم الجزيرة ولكن الأمير أبا يحيى التنملي رفضها وقرر المقاومة. ولكن الرواية المسيحية تذكر أن الأمير المسلم هو الذي أرسل إلى الملك خايمي سفارتين يعرض عليه فيهما إجراء المفاوضات من أجل وقف القتال. واستجاب الملك لطلبه وأوفد إليه ممثليه ، ولكن الشروط التي عرضها الأمير المسلم من أجل التسليم ، وإن كانت قد لقيت قبولا لدى الملك خايمي ، فإن كبار القادة والنبلاء والأحبار رفضوا عرض التسليم وشروطه بإصرار. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ٨٠.

(٤) جناس ناقص بين" عنوة وغزوة".

(٥) صعق الإنسان صعقا : غشي عليه وذهب عقله من صوت يسمعه كالهدّة الشديدة. والصاعقة الموت وصيحة العذاب. والصاعقة : القطعة من النار التي تسقط من السماء في رعد شديد لا تأتي على شيء إلا أحرقته وهذا ما يريده المؤلف هنا. لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ١٩٨.

١٢٢

وأظلم الجو من ذلك الإسراج ، وسقط السّور ومعه ثلاثه من الأبراج (١) ، وزحف الرّوم إلى القتال ، وماج عسكرهم بالأهوال ، ووقف المسلمون على بنيتهم ، بصدق من نيتهم ، فأغنوا غناء الكرام ، واستسهلوا صعب ذلك المقام.

ولم تزل الكرّات تتمادى ، والجراح تتهادى ، والحديد للحديد قارع ، والسّيف بين الفريقين واصل وفيهما قاطع ، حتى حجز بينهما المساء (٢) ، وقد أغامت بمثار النّقع السّماء ، وباكروهم القتال ، وخلطوا بالرّجال الرجال ، واستمرّ ذلك يوما بعد يوم ، وأفنت الحرب / ٤٠ / قوما إثر قوم ، وخبايا البلايا تبدو ، والمعاول في المشيد تشدو ، ونعرات المجانيق بركائب الجلاميد تحدو.

هذا ونوء الشتاء قد أمطر ، والخصر (٣) بالبرد الذي أفرط صائم ما أفطر ، حتى ضنيت (٤) الجسوم ، وكثرت الكلوم ، وكلّ المسلمون وتكالت الرّوم ، ووصلوا إلى نقب السّور الجديد ، وصالوا عليه ببأس الحديد الشديد ،

__________________

(١) في يوم السبت ١٣ محرم سنة ٦٢٧ ه‍ / ١ ديسمبر ١٢٢٩ م ، سقطت الأبراج الغربية ، وأصبح الطريق ممهدا لدخول المدينة ، وفي ٤ ديسمبر تمكن الغزاة من فتح ثغرة كبيرة في الأسوار ، ولكن القوات الإسلامية جابهتهم بقوة وردتهم على أعقابهم ، مما أغضب الملك خايمي ودعا جميع الفرسان وأمرهم بمواصلة القتال حتى النهاية ، وقد عاهدوه على ذلك. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ٨٥.

(٢) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلّف المساء بالشيء المادّي الذي يقوم بوظيفة الحجز كالحائط والسدّ وغيرهما.

(٣) الخصر : البرد يجده الإنسان في أطرافه ، وإذا كان معه جوع فهو خرص. والخصر البارد من كل شيء ، يقال : خصرت يدي ، وخصر يومنا : اشتد برده. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٤٣.

(٤) الضّنى : المرض. ضني الرجل يضنى ضنى شديدا إذا كان به مرض مخامر. والضّنى : السقيم الذي قد طال مرضه وثبت فيه. وأضناه المرض أي أثقله. وتضنّى الرجل إذا تمارض. ورجل ضنى وامرأة ضنى ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع لأنه مصدر. لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٤٨٦.

١٢٣

والناس في الأمر المريج غير المريح (١) ، وهم من الصريخ على اليأس الصريح (٢) ، فوقع البناء الذي نقب ، وحان الأمر الذي كتب ، وتكلف المسلمون ليلتهم تلك بناء ما سقط ، والجهد فيهم قد حكم وقسط.

وأصبحوا للقتال الشديد ، والبلاء العتيد ، وكل من الفريقين يكرّ ويقدم (٣) ، والمسلم يبني والكافر يهدم (٤) ، حتى إن الرجل يضع الحجر فيؤخذ من يده ، ويريد ضرب البناء فيقع الضرب في جسده ، فأودى الحيّ والجماد (٥) ، وأسرع في الكائنين الفساد ، وطال بالسيف الجدال والجلاد.

__________________

(١) جناس ناقص بين" المريج والمريح".

(٢) جناس ناقص بين" الصريخ والصريح".

(٣) طباق الإيجاب بين" يكرّ ويقدم".

(٤) مقابلة اثنين لاثنين في المسلم يبني والكافر يهدم.

(٥) طباق الإيجاب بين" الحي والجماد".

١٢٤

وصف ما جرى من الرأي المدار

عند ما شامه الناس من بوارق البوار (١)

ولما رأوا أن الخطب قد أسرف ، والبلد على الهلاك قد أشرف (٢) ، وما آلت الحال إليه من الهزل والأزل (٣) ، والعجز عن شبّ وقود الحرب بالحطب الجزل ، ولم يشكّوا أنّ ما هم فيه فبالعطب يقضي ، وإلى اليأس / ٤١ / من السّلامة يفضي ، كلّموا الوالي في بقايا الأنجاد أن يحصروا ويحصوا ، ويطعموا ويكسوا ، ويفرغوا للقتال ، ويكفوا ما عداه من الأعمال.

فاستقبح هذا الرأي الحسن ، وخشي أن يستسلف منه بعض ما أوعى واختزن ، فجرى بينه وبينهم كلام أحرجه ، وملام إلى الخوف على نفسه أخرجه (٤) ، فدعا أحد كبراء قومه وخرج له عن التدبير ، وأقعده مقعد الأمير ، فاختار الرجل ألف راجل لذلك المعنى ، ولو أتي غنى الوالي لكان قد أغنى ، وطلب منه سلف مال وطعام يصلح لهذا الغرض ، فما أجاب إلى القرض دون قبض العوض.

فتخلّى الرّجل عمّا نيط به ، وردّ الأمر إلى السّاعي في عطب الناس

__________________

(١) البوار : الهلاك. باربورا وبوارا. ورجل بور ورجلان بور وقوم بور وامرأة بور ، ومعناه هالك.

والبائر الهالك. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله : أهلكه. وفي الحديث : فأولئك قوم بور ، أي هلكى. وفي حديث أسماء في ثقيف : كذّاب ومبير ، أي مهلك يسرف في إهلاك الناس. ودار البوار : دار الهلاك. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٨٦.

(٢) جناس ناقص بين" أسرف وأشرف".

(٣) جناس ناقص بين" الهزل والأزل".

(٤) إن رفض والي ميورقة للخطة المعروضة عليه في الدفاع عن المدينة كان سببه البخل وخشية الإنفاق حسب ابن عميرة ، وهذه الصفة الذميمة التي اشتهر بها الوالي أكدها ابن سعيد أيضا بقوله : إلى أن أخذ النصارى ميورقة من أبي يحيى بن عمران التنملي ، وكان بخيلا غير حسن التدبير سامحه الله. ابن سعيد ، المغرب في حلى المغرب ، ج ٢ ، ص ٤٦٧.

١٢٥

وعطبه ، ومنع من جمع الرجالة شحّا على النفقة ، وصيانة للإثمد (١) بإتلاف الحدقة ، وكان إذا تكلّم معه في أمر الناس ، وإشرافهم على اليأس ، يخبر بقرب الفرج ، ويعد بسلامة البلد والمهج ، اتكالا على والي إفريقية (٢) أن ينهد (٣) لإغاثته ، فانظر إلى هذا العقد ورثاثته والقول وغثاثته (٤) ، وقيل إن كتاب هذا المنجد جاء بعد شهرين من دخول البلد بالسيف ، يعد بالنّصرة عند إقبال زمان الصّيف.

__________________

(١) الإثمد : حجر يتخذ منه الكحل ، وقيل : ضرب من الكحل ، وقيل : هو نفس الكحل ، وقيل شبيه به. يقال للرّجل يسهر ليله ساريا أو عاملا : فلان يجعل الليل إثمدا أي يسهر فجعل سواد الليل لعينيه كالإثمد لأنه يسير الليل كلّه في طلب المعالي. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ١٠٥.

(٢) هو مؤسس الدولة الحفصية بإفريقية الأمير أبو زكرياء يحيى بن عبد الواحد بن أبي بكر بن أبي حفص عمر الهنتاتي ، ولد بمراكش سنة ٥٩٩ ه‍ ، وبويع بالقيروان في رجب سنة ٦٢٥ ه‍. وفي سنة ٦٣٤ ه‍ بويع البيعة الثانية وذكر اسمه في الخطبة واقتصر على لقب الأمير الذي كان لا يريد أن يحمل أي لقب آخر سواه ، فاستقل منذ ذلك التاريخ بإفريقية واستبد بشؤونها في أيام الخليفة الموحدي الرشيد بن المأمون. وفي سنة ٦٣٥ ه‍ وصلت إليه بيعة زيان بن مردنيش صاحب شاطبة ، وفتح تلمسان سنة ٦٣٩ ه‍ ، ثم وصلت إليه في السنوات الموالية بيعة سبتة والمرية وإشبيلية وغرناطة. كان من الصالحين والعلماء العاملين ، فقيها ، أديبا ، جمعت دولته من رؤساء العلماء والشعراء وأهل الصلاح ما لم يجتمع لغيره. توفي سنة ٦٤٧ ه‍ تاركا وراءه سبعة عشر بيتا من المال ، ومن الكتب ستة وثلاثين ألف مجلد. ابن أبي دينار ، المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ، ص ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٣) نهد ينهد إلى العدو نهودا : نهض. والمناهدة في الحرب : المناهضة. نهد القوم لعدوّهم إذا صمدوا له وشرعوا في قتاله. والنّهد : العون. وطرح نهده مع القوم : أعانهم وخارجهم. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٣٠.

(٤) جناس ناقص بين" الرّثاثة والغثاثة".

١٢٦

فرار ولد الوالي

وكان له ولد ينافس بعض إخوته (١) ، ويحسده / ٤٢ / على مكانته عند الوالد وحظوته ، وكان يدلّ بالخلق الرّضي ، ويدلي بولادة لم يكن فيها حظ لهذا الحظي ، ولم يزل ينطوي من هذا الأمر ، على أحرّ من الجمر ، ويرصد الغوائل (٢) لأبيه ، ويخطر بخاطره من المنتصر أمر الشاب الشبيه.

فلمّا رأى حال البلد ، وقدّر التشفي من الوالد والولد ، ركب جنح الظلام (٣) ، وارتكب جناح (٤) الأثام ، وخرج إلى الرّوم فأكرموا مثواه ، وذمّوا له أباه الذي أباه (٥) ، وأصبح الناس من خبره مرتاعين ، ولأمر أبيه مراعين ، فأدناهم وجمعهم ، وأخذ في البراءة منه معهم ، وأخبرهم أنه منذ عقل ما صدرت عنه

__________________

(١) جاءت الإشارة في المخطوط إلى أبناء وبنات والي ميورقة أبي يحيى التنملي في عدّة مواضع ، فمنهم الابن الذي أجلسه والده للأحكام حين احتجب عن الناس وبالغ في الاحتراس خوفا من الجماعة الأندلسية. والثاني وهو هذا المرتد الذي فرّ إلى النصارى. والولد الثالث ابن الستة عشر ربيعا الذي قتله النصارى بين يدي والده وهو تحت التعذيب تنكيلا له وإرغاما. والابن الرابع الذي تنصر خوفا من إلحاقه بأخيه. أما البنات فقد صرن في حكم الأسر والرق بعد سقوط ميورقة.

(٢) والمفرد غائلة : الحقد الباطن والشر والدواهي. والغيلة : الخديعة والاغتيال. يقال : قتل فلان غيلة أي خدعة ، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع ، فإذا صار إليه قتله وقد اغتيل. والغيلة في كلام العرب إيصال الشر والقتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٥١٢.

(٣) كناية عن فرار ولد الوالي إلى معسكر النصارى في ظلمة الليل.

(٤) الجناح : الميل إلى الإثم ، وقيل : هو الإثم عامة. قال تعالى : (" وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ") ، أي الجناية والجرم. وقيل : لا إثم عليكم ولا تضييق. وفي حديث ابن عباس في مال اليتيم : إني لأجنح أن آكل منه ، أي أرى الأكل منه جناحا وهو الإثم. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٣٠.

(٥) جناس تام بين" أباه الاسم وهو الوالد وأباه الفعل".

١٢٧

يمين ، كانت ممّا يصدق أو يمين (١).

ثم حلف لهم أن القصة كانت عنه محجوبة ، ولو علمها لما أخر عن ولده العاق عقوبة ، وبكى حتى أبكى ، وتولى من أفلح وتزكّى ، ونفى من أضرم نار ولهه وأذكى. ومن الاتفاق أن يوم خروجه وقع حجر المنجنيق في مقعد الوالد ، فكاد يقتله لو لا تأخر الأجل الوارد ، فقيل إنّ الولد أطاع غوايته ، وعيّن المكان فسوى عليه الرّامي رميته.

__________________

(١) جناس تام بين" يمين الاسم وهو الحلف والقسم ويمين الفعل".

١٢٨

خروج أبي حفص بن شيري من البلد

وتمام الأخبار عن مفارقة روح الإيمان لذلك الجسد

ولما رأى ابن شيري أن العدو قد استشرى ، وطمس على / ٤٣ / المسلمين طريق البشرى ، ولم يشك أن حامل الدّاهية تطلق (١) ، وأن المدينة بأكبر الرزايا تصبّح أو تطرق ، خرج إلى البادية بنجدة يعدّها ، ونصرة يستجدّها ، وليسعى في إفساد ما كان بين أهلها وبين النصارى من وصلة قاطعة ، وهدنة خارقة غير رافعة ، عائدة بكل قارعة. فجمعهم ووعظهم ، ومن سنة تلك الجهالة أيقظهم ، وتولّى أمرهم على ألّا يتولى أحد منهم كافرا ، وأن يكون له بقلبه ووجهه منافيا منافرا.

فأجابوه لما شرط ، وقبضوا من الرّوم ما كان انبسط ، وأجمعوا على الانقطاع من معسكرهم ، وقتلوا من كان منهم بين أظهرهم. فأوجس الرّوم منهم خيفة (٢) ، ورأوا الشدائد بهم مطيفة ، وقالوا إن احتبست المدينة ، وانقطعت عنّا الميرة المعينة ، والبرد قد خشن جانبه ، والبحر قد خشي راكبه ، وهدنة الرّعية قد انتقضت ، وأيام إرفادها وإرفاقها قد انقضت ، فنحن في قبضة الهلك ، وطريق النّجاة عويصة السلوك على الخيل والفلك.

ولم يبق إلّا أن نقاتل البلد (٣) بجملتنا ، ونصدمه بسيل حملتنا ،

__________________

(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الشدائد وعظائم النوائب التي أصابت أهل ميورقة بسبب الحصار المفروض عليهم ، بالمرأة الحامل حين يأتيها الطّلق وهو وجع الولادة.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام : (" فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ"). سورة هود ، الآية ٧٠. وإلى قوله تعالى أيضا (" فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ"). سورة الذاريات ، الآية ٢٨.

(٣) مجاز مرسل لأن القتال لا يكون للبلد بل لأهلها.

١٢٩

ونتساقط على ناره كالفراش (١) ، ونوسد (٢) على موصد بابه كلاب (٣) الهراش (٤) ، وإنما هو الظفر أو المنون ، وإذا أخذنا البلد فما بعده يهون ، وكان هذا يوم الجمعة الحادي عشر لصفر ، (١١ صفر ٦٢٧ ه‍) ، وقد وطن على الموت من أزمع السفر إلى سقر.

فلما كان يوم السبت / ٤٤ / قاتلوا البلد كما عزموا وزعموا (٥) ، وملأوا دلاء البلاء وأفعموا ، وساورت اللّيوث المغتالة ، وتسوّر مواضع الهدم الرّجالة ، وكان يوما أيأس من السلامة ، وأذكر بهوله هول يوم القيامة (٦) ، وقاتل أهل الأحد في يومهم وهو الثاني ، وتذامروا على التواني ، ووسّعوا ما تثلم من تلك المباني ، وزحفوا عن آخرهم ، وتحملوا الحديد في باطنهم وعلى ظاهرهم ، وشدّوا على المشيد فهشموه ، وكرّوا على ما دعّموا فأعدموه ، وعارضوا من صدّهم فصدموه ، ووصلوا القتال بالّليل ، وتطاردوا تحته كالسيل ، وتطارحوا على البلد رجّالة وعلى الخيل.

__________________

(١) الفراش : دواب مثل البعوض تطير ، واحدتها فراشة. وقيل : الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. قال تعالى : (" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ") ، شبه الله عز وجل الناس يوم البعث بالجراد المنتشر وبالفراش المبثوث لأنهم إذا بعثوا يموج بعضهم في بعض. وهو تشبيه تمثيلي شبّه فيه المؤلف حملة النصارى على المدينة بهذه الدواب. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٣٣٠.

(٢) أوسد الكلب : أغراه بالصيد. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٦٠.

(٣) تشبيه بليغ للمقاتلين النصارى بكلاب الهراش مع حذف أداة التشبيه ووجه الشبه الذي يتعلق بشدّة المقاتلين وإقبالهم على الحرب.

(٤) الهراش والاهتراش : تقاتل الكلاب. والهراش والمهارشة بالكلاب وهو تحريش بعضها على بعض. والتهريش : التحريش ، وكلب هراش. وفي المثل : إنك لا تهرش كلبا. يضرب لمن يحمل الحليم على التوثب. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٣٦٣. الميداني ، مجمع الأمثال ، ج ١ ، ص ١٠٢.

(٥) جناس ناقص بين" عزموا وزعموا".

(٦) كناية عن هول ذلك اليوم ومقدار الخوف الذي تركه في النفوس.

١٣٠

وأصبحوا يوم الاثنين والحمام (١) عابث في تلك المهج الصابرة ، والسّهام طائرة إلى القلوب الطائرة (٢) ، والحمى يمنع ويطرق ، والثلم (٣) ترقع وتخرق ، وغشيهم من الرجّالة أمثال الدّبا ، ملأوا الوهاد والرّبا (٤) ، وقيل قد بلغ الماء الزّبا (٥) ، وكلّ صارم الجد ونبا. لكنهم ردّوا وأردوا ، وصدموا وصدّوا ، وأمداد الرّوم في الزيادة ، وبإزائهم صبر من المسلمين أكرمهم الله بالشّهادة.

ولما رأوا رجالتهم يعنّون ولا يغنون ، ويدانون بالردّ إذا يدنون ، حملوا بالخيول وقد درّعوها ، وركضوا الصافنات (٦) إلى تلك الصّفاة (٧) فقرعوها

__________________

(١) الحمام ، بالكسر : قضاء الموت وقدره ، من قولهم حمّ كذا أي قدّر. والحمم : المنايا ، واحدتها حمّة.

وقد ورد ذكر الحمام بمعنى الموت في الحديث كثيرا. وحمة المنية والفراق منه : ما قدّر وقضى. يقال : عجلت بنا وبكم حمّة الفراق وحمّة الموت أي قدر الفراق ، والجمع حمم وحمام. ونزل به حمامه أي قدره وموته. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ١٥١.

(٢) استعارة مكنية شبه فيها المؤلف قلوب الميورقيين بالطائر من شدة ما أصابهم من الرّعب.

(٣) ثلم الإناء والسيف ونحوه يثلمه وثلمه فانثلم وتثلم : كسر حرفه. يقال في الإناء ثلم إذا انكسر من شفته شيء ، وفي السيف ثلم. والثلمة : الموضع الذي قد انثلم ، وجمعها ثلم ، وقد انثلم الحائط وتثلم. والثلمة : الخلل في الحائط. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٧٨.

(٤) طباق الإيجاب بين" الوهاد والربا".

(٥) الزبا جمع زبية : هي الحفرة تحفر للأسد إذا أرادو صيده. وأصلها الرابية يعلوها الماء ، فإذا بلغها السيل كان جارفا مجحفا. وهو مثل يضرب لما جاوز الحد. الميداني مجمع الأمثال ، ج ١١ ، ص ١٢٤.

(٦) الصافنات : الخيل. جاء في القرآن الكريم : (" إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ") سورة ص الآية رقم ٣١. وصفنت الدابة تصفن صفونا : قامت على ثلاث وثنت سنبك يدها الرابع. وصفن الفرس إذا قام على طرف الرابعة. وصفن يصفن صفونا : صفّ قدميه. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٢٤٨.

(٧) الصفاة : الصخرة الملساء. وقيل : هي الحجر الصّلد الضخم الذي لا ينبت شيئا ، والجمع صفوات وأصفاء وصفي ، يقال : لا تقرع لهم صفاة أي لا ينالهم أحد بسوء. والصّفا اسم أحد جبلي المسعى بالحرم المكي الشريف. لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٤٦٤.

١٣١

وفرعوها (١). وتقدم أحدهم فأقحم فرسه في تلك الثلمة ، وأضرم قبسه في تلك الظلمة ، وكان / ٤٥ / على الفرس درعان غديرهما (٢) يبرد حرّ الطعان ، وحديدهما يجدع مارن المرّان (٣). فنكل عنه الناس وانتقضت الأساس ، وحقّ اليأس ، ثم دخل ثان وثالث ، وحدث معضل واعضل حادث ، وخلص الرّجالة إلى السّور المتشعث فتمكنوا من هدمه ، وصدقهم الشيطان في زعمه ، ونفذ حكم الله ولا معقب لحكمه (٤).

ولاقوا في أول الشارع من كرام المسلمين جماعة ، حبسوهم هنالك ساعة ، وثبت معهم الوالي زمنا ، وأبلى بلاء حسنا ، ودخل اللّعين ابن عبّاد ، المحتقب من ردّته شرّ عتاد ، فعدل بهم عن تلك الطريق إلى أخرى ، وتمّت بقضاء الله البطشة الكبرى ، ورجفت الرّاجفة (٥) ، وجالت في البلد الخيول الجارية بل السّيول الجارفة (٦) ، وذهبوا بتلك النضارة ، وأحالوا السيف على المقاتلة والنظارة.

__________________

(١) جناس ناقص بين" قرعوها وفرعوها".

(٢) الغدير : مستنقع الماء ماء المطر ، صغيرا كان أو كبيرا. والغدير : السيف ، على التشبيه ، كما يقال له اللّج. والغدير : القطعة من النبات ، على التشبيه أيضا ، والجمع غدران لا غير. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٩.

(٣) المارن : الأنف ، وقيل : طرفه ، وقيل : المارن ما لان من الأنف ، وقيل : ما لان من الأنف منحدرا عن العظم وفضل عن القصبة ، وما لان من الرمح. والمرّان ، بالضم : الرماح الصلبة اللدنة ، واحدتها مرّانة. وقيل هو نبات الرّماح. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٤٠٣.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ"). سورة الرعد ، الآية ٤١.

(٥) إشارة إلى قوله تعالى : (" يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ"). سورة النازعات الآية ٦.

(٦) جناس ناقص بين" الخيول والسيول ، والجارية والجارفة".

١٣٢

فكم ثغر (١) كلح (٢) بعد الابتسام ، ورضيع فطم بالحسام ، وغرّ (٣) ما جرى عليه القلم (٤) ، سال بجاري دمه اللّقم (٥) ، وأعزل وجاه رامح ، وجزع فاجأه بالقرح قارح ، ومصونة عفر جبينها ، وحامل تبعها في إفاتة الحياة جنينها ، ومطرت سحب الدماء سحابة ذلك اليوم ، وسميت السابحات بالسّبح الذي هو بمعنى العوم ، وقطعوا الوالي عن قلعة البلد (٦) ، وفاجأوه وهو في عصبة قليلة العدد ، فدخل أحد الدّيار ، وأحاط به شرذمة الكفار ، ودخلوا إليه واكتنفوه ، أنكروه ثم عرفوه (٧) ، / ٤٦ / وسأل حضور القومط نونة فحضره في مجلسه ، وسار معه إلى محبسه (٨).

__________________

(١) الثّغر : الفم ، وقيل : هو اسم الأسنان كلها ما دامت في منابتها قبل أن تسقط ، وقيل : هي الأسنان كلها كنّ في منابتها أو لم يكنّ ، وقيل : هو مقدّم الأسنان. وثغره : كسر أسنانه. وثغر الغلام ثغرا : سقطت أسنانه الرواضع فهو مثغور. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ١٠٣.

(٢) الكلوح : تكشّر في عبوس. وقيل : بدوّ الأسنان عند العبوس. كلح يكلح كلحا وكلاحا وتكلّح. والكالح الذي قد قلصت شفته عن أسنانه نحو ما ترى من رؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمّرت الشفاه. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٥٧٤.

(٣) الغرّ ، بالكسر : الشاب الذي لا تجربة له ، والجمع أغرّاء وأغرّة ، والأنثى غرّ وغرّة وغريرة ، ورجل غرّ وغرير أي غير مجرّب. والغرّة الجارية الحديثة السن التي لم تجرب الأمور ولم تكن تعلم ما يعلم النساء من الحب. قال الشاعر :

إن الفتاة صغيرة

غرّ فلا يسرى بها

في حديث ابن عمر : إنك ما أخذتها بيضاء غريرة ، أي هي الشابة الحديثة. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٦.

(٤) جناس ناقص بين" القلم واللقم ، وقد تمّ بتغيير مواقع الحروف بين الكلمتين".

(٥) اللقم : معظم الطريق أو وسطه. الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، ص ١٠٤٥.

(٦) يريد القصر المطل على البحر فوق تلّة عالية ، وهو قصبة المدينة وقلعتها الحصينة داخل الأسوار وكان آخر ما استولى عليه الغزاة في المدينة. عصام سيسالم ، جزر الأندلس المنسية ، ص ٤٣٠.

(٧) طباق الإيجاب بين" أنكروه وعرفوه".

(٨) يستفاد من رواية ابن عميرة أن والي المدينة أبا يحيى التنملي قد فوجئ مع عدد قليل من رجاله خارج القصر حيث ألقي عليه القبض في أحد الديار فسيق إلى محبسه. وهو عكس ما تذهب ـ

١٣٣

هذا والحدمة (١) محرقة ، والحطمة مستغرقة ، (والأعضاد تنصّف ، والأعضاء تقصّف ، والصدور تشهق) (٢) ، والنفوس تزهق ، والهام بشادخ الصّخر تحصب ، والدّوائب بقاني الدّم تخضب. واحتبست القلعة بمن فيها من الخلق ، ورجوا أن يخرجوا عن حكم أهل البلد في القتل والرّق ، وجاءهم ملك أرغون فوعدهم بالإحسان ، وكتب لهم بالأمان ، واشترطوا النفقة عليهم حتى يظعنوا بسلام ، ويلحقوا ببلد الإسلام.

ثم تؤوّل عليهم في الإيمان ، وبيعوا بسوق الهوان ، وجمع الأسارى فامتلأت بهم الأرض ، وكأنما جمعهم العرض ، مولهون حيارى ، سكارى وما هم بسكارى (٣) ، والنّساء في أيديهن الأطفال ، والرّجال في أعناقهم الحبال ، فمن كبير يحرم القوت ولا يرحم (٤) ، وصغير (٥) يستطعم أمّه وأين المطعم ، وفعل الحال للماضي ينسي ، والبطون على الطوى تصبح وتمسي (٦) ، والحياة كلا حياة ، وذوات النعمة عدن ذاويات.

__________________

ـ إليه الرواية المسيحية القائلة بأنه كان محاصرا داخل القصر فأرسل إلى الملك خايمي الأول لمفاوضته في التسليم ، ثم وقع في الأسر بعد اقتحام الغزاة للقصر. ألبار وكامبانير ، تخطيط تاريخي لجزر البليار ، ص ١٨٨.

(١) حدمة النار : صوت التهابها وشدة احتراقها. يوم محتدم : شديد الحرّ. والاحتدام : شدّة الحر. احتدم صدر فلان غيظا وتحدّم : تحرّق. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ١١٧.

(٢) كتبت هذه العبارة من طرف الناسخ في الهامش وليس في المتن.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى في وصف الساعة : (" يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ"). سورة الحج ، الآية الثانية.

(٤) جناس ناقص بين" يحرم ويرحم ، وقد تمّ بتغيير مواقع الحروف بين الكلمتين".

(٥) طباق الإيجاب بين" كبير وصغير".

(٦) طباق الإيجاب بين" تصبح وتمسي".

١٣٤

وكان جمد البرد على نقيض وقدة الحزن ، وكانون الثاني يثني على غير الكنّ (١) ، وليس على القوم إلا ما يواري ، وقد كبا الزند الواري ، وتفقأت القلع السواري ، فجاءهم من الأجل ما كانوا يريدون ، ومات منهم في تلك الأيام مثل من قتل أو يزيدون (٢).

وقيل إن القتلى حين جمدت بسفك دمائها الصّيبة ، وأنتنت جثثها / ٤٧ / بفقد أرواحها الطيبة ، جمع النصارى من القسّيسين أكبرهم ، وذكّرهم بنعمة الله التي ليست في الآخرة تذكرهم ، وشرع من عند نفسه ما يقضي العجب من قائله ، وقال من أخرج من البلد قتيلا فله مثل أجر قاتله ، وأمر الملك بإحصائهم فبلغوا أربعة وعشرين ألفا ، قتلوا على دم واحد رضّا (٣) وحطما وقصفا.

__________________

(١) الكنّ والكنّة والكنان ، بالكسر : وقاء كل شيء وستره. والكنّ : البيت أيضا. والجمع أكنان وأكنة. والكن : ما يردّ الحرّ والبرد من الأبنية والمساكن. والكنّ : كل شيء وقى شيئا فهو كنّه وكنانه ، والفعل من ذلك كننت الشيء أي جعلته في كنّ. وكنّ الشيء يكنّه كنّا وكنونا وأكنّه وكنّنه : ستره. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٣٦٠.

(٢) جناس ناقص بين" يريدون ويزيدون".

(٣) الرّض : الدّق الجريش. رضّ الشيء يرضّه رضّا فهو مرضوض ورضيض : كسره ، ورضاضه : كساره وفتاته. وارتض الشيء : تكسر. لسان العرب ، ج ٧ ، ص ١٥٤.

١٣٥

خبر الوالي بعد انقضاء حربه إلى أن صار إلى جزاء ربّه

هذا الرجل كان بالجزيرة قد استبدّ بإمارتها ، واحتوى على فلاحتها وتجارتها ، وعني بجمع المال الجمّ ، ولم يخرجه في وجه من وجوه البرّ والإثم ، وفارق شهواته غير هذه الشهوة (١) ، وظن أنه جمع من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة (٢). والنصارى أهل جزاف يقبلون محالا ، ويقولون إن المسلمين أكثر أهل الأرض مالا ، فلما حصل عندهم لم يشكّوا أن في ورقه وعينه وفاء بوسق مراكبهم ، وأن المشاهد منهما والغائب يصل إلى شاهدهم وغائبهم (٣).

فقالوا له أين الكنوز ، وجوّزوا من كثرتها ما يحكم العقل بأنه لا يجوز ، ولم يجدوا له من ذلك العدد الدّثر (٤) ، إلّا مقدار الثمن فيما باع مدّة الحصر ، فأسلموه إلى العذاب المهين ، وظنّوه / ٤٨ / بالعين عين الضّنين ، وجمعوا له عداوة المنع إلى عداوة الدّين. وعاش خمسة وأربعين يوما في

__________________

(١) يريد صفة البخل الذميمة التي اشتهر بها والي ميورقة أبو يحيى التنملي وأشار إليها المؤلف في مواضع أخرى من المخطوط.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى عن قارون : (" إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"). سورة القصص ، الآية ٧٦.

(٣) طباق الإيجاب بين" شاهدهم وغائبهم".

(٤) الدّثر : المال الكثير ، ولا يثنى ولا يجمع ، فيقال : مال دثر ومالان دثر وأموال دثر. وقيل هو الكثير من كل شيء قال امرؤ القيس :

لعمري لقوم قد ترى في ديارهم

مرابط للأمهار والعسكر الدّثر

يعني الإبل الكثيرة. وعسكر دثر أي كثير. وفي الحديث : وابعث راعيها في الدّثر أي الخصب والنبات الكثير. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٧٧.

١٣٦

النكال الشديد ، والهول المذيب للحديد ، وسيم أنواع البلاء في ليله ونهاره (١) ، وحمّل من ثقل السطوة به ما لعلّه يخفف من أوزاره (٢).

ومن جملة ما طرأ له في هذه الأيام أن حمل إلى أحد معاقل الجزيرة وأهله به ممتنعون ، وللذب عن حماه مجتمعون ، فأمر أن يكلّمهم في النزول والتسليم ، وأطمع أن يخفّف عنه من العذاب الأليم ، فدعاهم فما لبّوه ، وأمرهم بالانقياد فعصوه. فأحضر النصارى له ولدا سنّة ستة عشر عاما ، ضربوا بين يديه عنقه تنكيلا له وإرغاما ، ثم أحضروا آخر ليقتلوه فتنصّر ، وبذلك كفّ عنه قاتله وأقصر.

ثم إنه ردّ إلى البلد ، وأبقي في العذاب الذي لا بقاء عليه للجلد ، فما بضّ (٣) لهم بقطرة من البحار المظنونة (٤) ، ولا أباحهم ما قيل من الأموال المصونة ، فقضى العجب من أمره ، وتحدّث من شاهده بجميل صبره ، ومات

__________________

(١) طباق الإيجاب بين" ليله ونهاره".

(٢) وهو عكس ما تدّعيه بعض المصادر المسيحية بان الملك خايمي الأول تقبّل استسلام أبي يحيى التنملي بكل مراسيم التكريم في قاعة القصر الكبرى بالمدينة ، وقد أمّنه على حياته ، ووعد بإطلاق سراحه وكلّف اثنين من النبلاء بمرافقته.

Clements Markham. The Story of Majorca and Minorca; p ٤٣.

هو ادعاء عار من الصحة كذبته إلى جانب الرواية الإسلامية بعض المصادر المسيحية نفسها وفي مقدمتها ألبار وكامبانير ، تخطيط تاريخي لجزر البليار ، ص ١٨٨.

(٣) بضّ الشيء : سال. وبض الحسي وهو يبض بضيضا إذا جعل ماؤه يخرج قليلا. وبضت العين : دمعت. ويقال للرجل إذا نعت بالصبر على المصيبة : ما تبض عينه. وبض الماء سال قليلا قليلا. وبض الحجر ونحوه يبض : نشغ منه الماء شبه العرق. وفي المثل : فلان لا يبض حجره أي لا ينال منه خير ، يضرب للبخيل. لسان العرب ، ج ٧ ، ص ١١٨.

(٤) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الأموال والكنوز التي كان يظن النصارى أنها في خزائن الوالي بالبحار.

١٣٧

تحت العذاب ، ولحق بمن عنده أم الكتاب (١) ، وأذن ملك الرّوم لأهله في غسله وقبره ، وأخبرهم بأن ما جرى عليه لم يكن من رأيه ولا عن أمره ، واصطفى من بناته من اختار ، وسائر أهله قاسوا مع الأسارى الإسار.

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ..."). سورة آل عمران ، الآية ٧. وإلى قوله تعالى : (" يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ"). سورة الرعد ، الآية ٣٩.

١٣٨

قصة الجبل

/ ٤٩ / هذا الجبل (١) يمنع من سكنه ، وله من الجوانب الوعرة ما حصّنه ، وفيه من الخصب والفواكه ما طيبه وحسّنه ، وحين غلب الرّوم على الجزيرة سنة ثمان وخمس مائة (٥٠٨ ه‍) أنجى أهله من عدوانهم ، وعصم من أوى إليه من طوفانهم (٢).

فلمّا تمّ على البلد ما تمّ ، وخصّ الرّزء باليوم الأشنع والخطب الأفظع وعمّ ، نجا إليه الفلّ وهم ألوف ، ورجوا أن يشمخ بأنفه الشامخ منهم أنوف (٣) ، فأنجدهم حين استنجدوا ، واحتضنهم كأنه حضن وهم قد أنجدوا ، وأصبحت فجاجه وهي بهم قد غصّت ، وطاروا إليه وأجنحتهم من القوت قد قصّت (٤). فجمعهم ابن شيري وكتبهم ، وانتقى الأنجاد وانتخبهم ، وبلغ عددهم عنده في بدء الأمر ستة عشر ألف راجل ، بين أصلي وواصل.

__________________

(١) جاء في وصف جزيرة ميورقة عند الزهري : " وفي وسطها (جزيرة ميورقة) جبل يهبط منه نهر يشق هذه الجزيرة ويسقي جميع أرضها ، ويشقّ فضله على مدينة ميورقة". الزهري ، الجغرافية ، ص ١٢٩.

(٢) كانت جزيرة ميورقة في ذلك التاريخ تحت حكم مبشر بن سليمان ، حيث تعرضت لأول غزو نصراني منذ فتحها ، وهو الغزو الذي اتحدت فيه جمهوريتا بيزة وجنوة وإمارة برشلونة. وضرب الغزاة على مدينة ميورقة حصارا شديدا ، وقاسى المسلمون أهوالا من الجوع والحرمان ، ولجأت منهم إلى الجبال المنيعة جموع غفيرة. وتم اقتحام المدينة في أواخر سنة ٥٠٨ ه‍ / ١١١٦ م وعاث فيها النصارى تخريبا ونهبا وسلبا. وكان في تلك الأثناء قد تلقى الأمير المرابطي علي بن يوسف على يد البحار عبد الله بن ميمون صريخ مبشر بن سليمان قبيل وفاته ، فلبت القوات المرابطية نداء الجهاد وحررت الجزيرة من يد النصارى في أواخر ٥٠٩ ه‍. ابن الكردبوس ، الاكتفا في أخبار الخلفا ، ص ١٢٢ وما بعدها. ابن خلدون ، العبر ، مج ٤ ، ص ١٩٨. الحميري ، الروض المعطار ، ص ٥٦٧.

(٣) استعارة مكنية شبه فيها المؤلف الجبل الشاهق الطويل بالإنسان حين يرفع أنفه عزا وتكبرا وترفعا.

(٤) استعارة مكنية شبه فيها المؤلف الميورقيين الفارين من النصارى بالطيور.

١٣٩

فأما عدد الرؤوس فيه فكانوا يقدّرون بخمسين ألفا ، سقطوا عجفا (١) وضعفا ، ونسف الحمام والحسام أرواحهم نسفا ، فنزلوا عند رأيه ، وأطاعوه في أمره ونهيه ، وحصّن الحصون الثلاثة ، ومنّاهم المعونة والإغاثة ، وتعاهد المصالح ، وجعل على المسالك مسالح (٢) ، فكانوا مع القوة يهبطون إلى السّهل لطلب الميرة ، ويجدون حاجتهم من الأطعمة الكثيرة ، وربّما تلاقوا مع الرّوم فظهروا عليهم ظهورا مستغربا ، وأخذوا من خيلهم مغربا ، ومن رجالهم مغرّبا.

ولقد هابهم الرّوم أوّل الحال ، / ٥٠ / ونادى إمام ضلالهم عند وابل وبالهم ألا صلّوا في الرّحال ، لكن هؤلاء يقاتلون ووراءهم القوة والنجدة ، والعدد والعدّة ، وهؤلاء يجالدون والرّبا فيهم قد فشا ، والقرّ لا يكسر سورته حرّ الحشى ، والجوع قد قعد بمن مشى ، وعدم المنتاش فتوهمه الناظر أنه قد انتشى.

وكتبوا إلى أهل منورقة (٣) أن يمدّوهم بالطعام ، ويعينوهم على المقام ،

__________________

(١) العجف : ذهاب السّمن والهزال. والتعجيف : سوء الغذاء والهزال. وقد عجف وعجف فهو أعجف وعجف ، والأنثى عجفاء وعجف والجمع عجاف. قال تعالى : (" يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ") ، هي الهزلى التي لا لحم عليها ولا شحم ضربت مثلا لسبع سنين لا قطر فيها ولا خصب. والعجفاء هي المهزولة من الغنم وغيرها. لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٣٣.

(٢) المسلحة : القوم الذين يحفظون الثغور من العدو ، سمّوا مسلحة لأنهم يكونون ذوي سلاح ، أو لأنهم يسكنون المسلحة وهي كالثغر والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غفلة ، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. واحدهم مسلحي. والمسلحي أيضا : الموكل به والمؤمّر. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٨٧.

(٣) ثانية جزر البليار من حيث المساحة التي تبلغ حوالي ٧٠٠ كلم مربع ، ويصل طولها إلى حوالي ٤٨ كلم ومتوسط عرضها حوالي ١٦ كلم. وهي تبعد عن جزيرة ميورقة بحوالي ٤٠ كلم. وقد اشتهرت بخصوبتها وكثرة الزرع والكروم والأبقار ، وهو ما يشير إليه الزهري قائلا : " ومما يلي هذه الجزيرة (ميورقة) في الشرق جزيرة منورقة ، وهي صغيرة كثيرة الزرع والكرم وليس في ـ

١٤٠