تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

الكتاب ، بل سكت عن تاريخ التأليف أيضا ، ولم نجد من بين الذين ترجموا له من ملأ هذا الفراغ ، لذلك فلسنا نعلم بالضبط متى ألّف ابن عميرة هذا الكتاب غير أننا متأكدون من أنه قد ألّفه خلال الفترة الممتدة ما بين سنة ٦٢٧ ه‍ تاريخ سقوط جزيرة ميورقة وسنة ٦٥٨ ه‍ تاريخ وفاته. وكما هو معلوم فإن هذه الحقبة الممتدة على ثلاثة عقود وهي المرحلة الأخيرة من حياة المؤلف ، قد قضى العقد الأول منها (٦٢٧ ـ ٦٣٧ ه‍) في شرق الأندلس متنقلا بين قواعده ، وقضى العقد الثاني (٦٣٧ ـ ٦٤٦ ه‍) في حواضر المغرب الأقصى ، وأنهى العقد الأخير (٦٤٦ ـ ٦٥٨ ه‍) في مدن إفريقية.

وإذا استثنينا الفترة التي قضاها المؤلف في شرق الأندلس على اعتبار أنها ليست بدار غربة بالنسبة للميورقي صاحب طلب التأليف ، وإذا أخذنا في الحسبان عبارة المؤلف الواردة في مقدمة الكتاب التي تقول : " وأتيت بالأخبار عن ذلك الأمر الغريب ، وأثبته في الزمن القريب" ، فإنه من المحتمل أن يكون ابن عميرة قد وضع تأليفه في المغرب الأقصى وتحديدا أثناء توليه قضاء الرباط وسلا.

ومما يقوّي هذا الاحتمال أن الفترة التي قضاها المؤلف بالرباط كانت مليئة بالمكاتبات الإخوانية إلى أصدقائه في الأندلس ومراكش وسبتة ، كما أشار هو نفسه إلى كثرة إنتاجه الأدبي في هذا العهد إذ يقول من رسالة بعث بها إلى ابن مفوز : " والأشعار في هذا الوقت كثيرة ، والرسائل في كل فن شهيرة ، والوقت لا يسع تقييد ما أردت أن تقفوا عليه منها ، ولعل ذلك يكون والدار صقب ، والمزار كتب". وقد بلغ من نشاطه الكتابي بالرباط أن استنفذ ما كان معه من ورق فكتب إلى صديقه ابن مفوز الشاطبي يرجوه أن يبعث إليه شيئا من هذا الورق المصنوع في شاطبة فيقول : " والكاغد الذي وعدتم به بلغت منه حدّ الإفلاس ، وتكفف من يضن به من الناس ، فأحسنوا به العون ،

٢١

وأمدّوا منه بما ترون" (١). تلك هي بعض العناصر الفرضية المتعلقة بمكان وتاريخ تأليف تاريخ ميورقة ، فأرجو أن تكون صائبة أو يتاح لغيري تمحيصها.

سادسا : أسلوب الكتاب

يقول ابن عبد الملك في وصف تاريخ ميورقة : " إن أبا المطرّف نحا فيه منحى عماد الدين أبي عبد الله محمد بن محمد الأصبهاني في تأليفه الفتح القسي في الفتح القدسي" (٢). والمعروف أن العماد الأصبهاني (٥١٩ ـ ٥٩٧ ه‍) (٣) ، كان في تاريخ الأدب أحد أركان وأعمدة الكتابة العربية البارزين والمسؤولين في الوقت نفسه عن قيود السجع والمحسنات البديعية التي قيدت النثر العربي بالتصنع عدة قرون ، وله مؤلفات كثيرة في الأدب والتاريخ. وقد أرّخ العماد في هذا الكتاب لفتوحات صلاح الدين الأيوبي ابتداء من حطّين واسترجاع بيت المقدس سنة ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م حتى سنة ٥٨٩ ه‍ / ١١٩٣ م تاريخ وفاة صلاح الدين ، والكتاب مطبوع عدة مرات أولها في ليدن سنة ١٨٨٨ م.

وقد التزم العماد في الفتح القدسي أسلوب السجع وأكثر من المحسنات البديعية ، واستطاع أن يروي أحداث التاريخ بهذا الأسلوب الذي تغلب عليه الزخرفة والتنميق. وممن اعتمد على هذا الكتاب ونقل عنه المؤرخ والفقيه المحدث أبو شامة شهاب الدين المقدسي (٥٩٩ ـ ٦٦٥ ه‍) في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين أي دولة نور الدين محمود بن زنكي ودولة صلاح الدين الأيوبي. وقد علق عليه في المقدمة قائلا : " وصنّف الإمام

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ١٢٨.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٦.

(٣) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، تحقيق إحسان عباس. بيروت : دار الثقافة ، ١٩٧١ ، ج ٥ ، ص ١٤٧ ـ ١٥٣

٢٢

العالم عماد الدين الكاتب أبو حامد الأصبهاني كتابين كلاهما مسجوع متقن بالألفاظ الفصيحة والمعاني الصحيحة ، أحدهما الفتح القدسي والثاني البرق الشامي ، وهو فيهما طويل النفس في السجع والوصف يمل الناظر فيه ، ويذهل طالب معرفة الوقائع عما سبق من القول وينسيه ، فحذفت تلك الأسجاع إلا قليلا منها استحسنتها في مواضعها ولم تك خارجة عن الغرض المقصود من التعريف للحوادث والوقائع" (١). هكذا استثقل المقدسي أسلوب العماد في كتابه واعتبره مملا لمن يريد معرفة أحداث التاريخ والاطلاع عليها ، فاستطاع في مهارة بارعة أن يؤلف كتابه الروضتين الذي يتناول الفترة (٥٤٠ ـ ٥٨٩ ه‍) بشكل متواز وذلك عن طريق جمع مقتطفات حسنة الاختيار من مختلف المصادر المعاصرة في مقدمتها مؤلفات العماد.

وقد لقي كتاب الفتح القدسي إقبالا كبيرا ليس في الأوساط الأدبية المشرقية فحسب بل وفي نظيرتها بالأندلس والمغرب أيضا. فقد اختصره ابن الأبار بكتاب سماه" الوشي القيسي في اختصار الفتح القسي" (٢) ، وشرحه أو اختصره في مجلد متوسط أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك ابن القطان (٥٦٢ ـ ٦٢٨ ه‍) والد أبي محمد ابن القطان صاحب نظم الجمان ، وأسماه" تقريب الفتح القسي" (٣). أما صاحبنا ابن عميرة الذي كان مولعا بالرد على المشارقة من معاصريه والتعقب عليهم ، فإنه لم يسلك ما سلكه ابن الأبار وابن القطان في شرح الفتح القدسي واختصاره ولكنه عارض هذا الكتاب على اختلاف في الموضوع ، ولعله أراد أن يلفت الأنظار إلى شخصه بهذا التأليف ، سيما وأنه قد ذكر الهدف من تأليفه حين قال في المقدمة : " وهو

__________________

(١) المقدسي شهاب الدين ، الروضتين في أخبار الدولتين. بيروت : دار الجيل ، ١٨٧١ ، ج ١ ، ص ٤.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ٦ ، ص ٢٥٨.

(٣) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ٨ ، القسم الأول ، ص ١٦٧.

٢٣

لأحد الرجلين متعلم لصياغة الكلام ، ومتألم من صناعة الأيام ، هذا يتعوذ من سوء القدر ، وذاك يتعود صوغ الفقر والقوص على الدّرر ، وقد يجتمع الأمران بواحد ، فيحصل من الكلام على فائد ، ومن العلم بما جرى على شيء زائد".

إن ابن عميرة وغيره من كتاب عصره يمثلون حلقة مهمة ومرحلة متميزة في سلسلة تطور النثر الفني في الأدب الأندلسي ، وينتمون إلى مدرسة لها طابعها الخاص ، هي أشبه ما تكون بمدرسة القاضي الفاضل والعماد الأصبهاني المشرقية والموازية لها تقريبا من الناحية الزمنية. ثم إن هذه المدرسة هي التي مهدت لظهور جيل من الكتاب عرفهم القرن الثامن الهجري فكانت قدوة مباشرة ونموذجا حيا لهم أمثال ابن الخطيب والشريف الغرناطي وابن شبرين وعبد المهيمن الحضرمي وغيرهم. والمعروف أن هذه المرحلة التي يمثلها ابن عميرة من مراحل النثر الأندلسي على عهد الموحدين قد اتسمت بالتكلف والإسراف في الصنعة ، وكانت المرحلة التي سبقتها على عهد ملوك الطوائف والمرابطين قد عرفت بصناعتها الدقيقة من سجع وجناس وطباق وغيرها من محسنات البديع وألوان الزخرفة على نحو ما هو موجود في ذخيرة ابن بسام وقلائد ومطمح ابن خاقان.

ولا يختلف أسلوب ابن عميرة في كتاب تاريخ ميورقة عن أسلوبه في رسائله الديوانية والإخوانية الضخمة التي اشتهر بها ، وأن خصائص نثره هي الخصائص ذاتها التي عرفت في النثر الفني منذ القرن الرابع الهجري وظلت تتطور وتتعقد بعد ذلك ، وهي خصائص تقوم على السجع بألوانه ، والجناس بمختلف أشكاله ، وضروب المقابلة والطباق مع متانة العبارة ، وقوة البيان ، ودقة الوصف. ومن خصائص نثره أيضا الإكثار من التلميحات والإشارات والتوريات والاقتباسات واستعمال مختلف المصطلحات والألفاظ الفقهية والمنطقية وغيرها من الألفاظ العلمية التي تتردد في كلامه. وكذلك توظيف

٢٤

الأمثال العربية والاستشهاد بها. وقد وضع ابن عميرة نظرية خاصة به في السجع أشار إليها في كتابه التنبيهات بقوله : " وقصر الأسجاع محتقر مخل ، وطولها المتفاوت مرذول ممل ، فتكون وسطا بين الإفراط والتفريط ، والمساواة بينهما عدل لكن لا كل مساواة بحيث تخرج إلى الأوزان الشعرية" (١).

وعلى العموم فإن أثر ثقافة ابن عميرة الواسعة والمتنوعة في أسلوبه وكتابته الأدبية يبدو واضحا والمسحة العلمية عليه تظهر جلية ، وهذا المعنى هو الذي نبّه إليه أحد المعجبين به وهو الغبريني حين قال : " والناس يتداولون كتبه ويستحسنونه ويؤثرونه على كتب غيره ويفضلونه ، وبالواجب علم الله أن يكون كذلك لسلوكه حسن منهجه الذي هو فيه أول سالك ، وما رأيت من الكتّاب ما أعجبني مثل كتب الفقيه أبي المطرف إلا كتب أبي جعفر بن عطية ، والكتّاب كثير ، وكتب هذين الرجلين عندي مقدم على غيرهما ، والذي أوجب تقدم الفقيه أبي المطرّف في كتابته إنما هو أن الرجل من أهل العلم فكتابته علمية أدبية ، وكتابة غيره مقتصرة على نوع من الأدب ، وهذا المعنى هو الذي تميز به عمن عداه ، وسبق به من سواه" (٢).

سابعا : محتوى الكتاب

١. ميورقة قبل السقوط :

إن الكتاب لا يقدم لنا تاريخا شاملا ومفصلا لجزيرة ميورقة خلال عهودها الإسلامية المتعاقبة حسبما يوحي به العنوان ، ولكنه يؤرخ للعهد الأخير منها (٦٠٦ ـ ٦٢٨ ه‍ / ١٢٠٩ ـ ١٢٣٠ م) ويعالج مرحلة السقوط النهائي

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ٢١٨.

(٢) الغبريني ، المصدر السابق ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٢٥

لها على يد الإسبان مع التركيز على الأسباب والعوامل وأطوار السقوط ، لذلك نجد في مصادر ترجمة المؤلف العبارة التالية : " وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلب الروم عليها" ، والكائنة هي الحادثة ، وهي عبارة بليغة تعبر عن المحتوى الحقيقي للكتاب ، وقبل تحليل أحداث السقوط كما رواها المؤلف يجدر بنا أن نقدّم عرضا موجزا لتاريخ الجزيرة قبل أن تؤول إلى ما آلت إليه.

تقع ميورقة كبرى الجزائر الشرقية (جزر البليار) في البحر الزقاقي (المتوسط) ، تسامتها من الجنوب مدينة بجاية في المغرب الأوسط ، ومن الشمال مدينة برشلونة في شرق الأندلس ، ومن الشرق إحدى جزيرتيها وهي منورقة ، وغربيها جزيرة يابسة ، وهي أم هاتين الجزيرتين وهما بنتاها ، بينها وبين الأولى أربعون ميلا ، وبينها وبين الثانية سبعون ميلا ، وطولها من الغرب إلى الشرق سبعون ميلا ، وعرضها من القبلة (الجنوب) إلى الجوف (الشمال) خمسون ميلا (١). وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي ٣٦٤٠ كم (٢) ، وعاصمتها مدينة ميورقة.

قام المسلمون بأول محاولة لغزو جزيرة ميورقة سنة ٩٨ ه‍ بقيادة عبد الله بن موسى بن نصير ، ولم يستطيعوا بسط نفوذهم عليها في محاولات أخرى على عهد الدولة الأموية حتى سنة ٢٩٠ ه‍ / ٩٠٣ م تاريخ فتح الجزيرة بشكل نهائي ومستقر على يد عصام الخولاني زمن الأمير الأموي عبد الله بن محمد (٢٧٥ ـ ٣٠٠ ه‍). وفي ذلك يقول ابن خلدون : " كان فتح ميورقة سنة ٢٩٠ ه‍ على يد عصام الخولاني ، وذلك أنه خرج حاجا في سفينة اتخذها لنفسه ، فعصفت بهم الريح فأرسوا بجزيرة ميورقة ، وطال مقامهم هنالك ، واختبروا من أحوالهم ما أطمعهم في فتحها ، فلما رجع بعد فرضه أخبر الأمير

__________________

(١) الحميري محمد بن عبد المنعم ، الروض المعطار في خبر الأقطار ، تحقيق إحسان عباس. بيروت : مكتبة لبنان ، ط ٢ ، ١٩٨٤ ، ص ٥٦٧.

٢٦

بما رأى فيها ، وكان من أهل الغناء عنده في مثلها ، فبعث معه القطائع في البحر ، ونفر الناس معه إلى الجهاد فحاصرها أياما ، وفتحوها حصنا حصنا إلى أن كمل فتحها ، وكتب عصام بالفتح إلى الأمير عبد الله فكتب له بولايتها فوليها عشر سنين" (١). ثم وليها بعد وفاته ابنه عبد الله حتى سنة ٣١٨ ه‍ ، وخلفه أحمد بن محمد بن إلياس ، ثم تعاقب عليها موالي الأمويين حتى سنة ٤٠٣ ه‍.

وفي سنة ٤٠٧ ه‍ استبد بشؤونها مجاهد العامري أمير دانية وبكل الجزائر الشرقية ، ثم خلفه عليها ابن أخيه عبد الله العامري سنة ٤١٣ ه‍ ، وفي سنة ٤٢٨ ه‍ آل أمرها إلى الأغلب مولى مجاهد العامري وظل على حكمها حتى سنة ٤٥٨ ه‍ ، ثم خلفه عليها صهره سليمان بن مشكيان. وفي سنة ٤٦٣ ه‍ تولى شؤونها عبد الله المرتضى أغلب ، وفي سنة ٤٦٨ ه‍ استقل بحكمها وبكل جزر البليار بعد سقوط مملكة دانية في يد المقتدر بن هود صاحب سرقسطة ، واستمر على ولايتها حتى سنة ٤٦٨ ه‍ تاريخ وفاته ، فتولى إمارتها الأمير مبشر ابن سليمان ناصر الدولة وضبط شؤونها بحزم وكفاية إلى غاية سنة ٥٠٩ ه‍ (٢). وفي هذا التاريخ تعرضت ميورقة للغزو النصراني الذي اتحدت فيه جمهوريتا بيزة وجنوة وإمارة برشلونة وهو أول غزو نصراني لها منذ فتحها (٣).

ولكن سرعان ما استعادها المرابطون في أواخر السنة نفسها وعينوا عليها واليا جديدا من قبلهم ، فأضحت بذلك الجزائر الشرقية جزءا من الدولة المرابطية الكبرى ودخلت في عهد جديد من تاريخها ، سيما بعد تعيين محمد

__________________

(١) ابن خلدون ، كتاب العبر ، بيروت : دار الكتب العلمية ، ط ١ ، ١٩٩٢ ، مج ٤ ، ص ١٩٦.

(٢) عصام سالم سيسالم ، جزر الأندلس المنسية. بيروت : دار العلم للملايين ، ط ١ ، ١٩٨٤ ، ص ١٣٧ وما بعدها.

(٣) ابن الكردبوس ، الاكتفاء في أخبار الخلفاء (قطعة تاريخ الأندلس) ، تحقيق مختار العبادي ، مدريد : المعهد المصري للدراسات الإسلامية ، ١٩٧١ ، ص ١٢٢ وما بعدها.

٢٧

ابن غانية المسوفي واليا عليها سنة ٥٢٠ ه‍ من قبل الأمير علي بن يوسف. واستطال حكمه لتلك الجزائر زهاء ثلاثين عاما ، أي إلى ما بعد سقوط المرابطين وزوال حكمهم نهائيا في المغرب والأندلس سنة ٥٤٣ ه‍. فعمل على توطيد سلطانه هناك واستقل بشؤونها وجعل منها ملجأ ومثوى للوافدين والفارين من فلول المرابطين ، كما اتخذ من جزر البليار حصنا منيعا لمواجهة الموحدين والأساطيل الصليبية. وبعد وفاته سنة ٥٥٠ ه‍ خلفه على ولاية ميورقة وجزر البليار ابنه إسحاق بن محمد حتى سنة ٥٨٠ ه‍ ، ثم وليها بعده ابنه الأمير علي بن إسحاق حتى سنة ٦٠٠ ه‍ تاريخ استيلاء الموحدين عليها. ولكن هذا الأمير كان منشغلا خلال هذه الفترة بصراعه الدامي مع الموحدين في إفريقية ، فأناب عنه في حكم ميورقة عمه الزبير ما بين ٥٨٠ ـ ٥٨٤ ه‍ ، ثم أخاه عبد الله ما بين ٥٨٤ ـ ٦٠٠ ه‍ (١).

وكان الفتح الموحدي لجزيرة ميورقة ضربة شديدة لبني غانية ، قضت نهائيا على سلطانهم في الجزائر الشرقية ، وكان لهذا الفتح وقع عميق أيضا لدى الممالك النصرانية القريبة ، سيما مملكة أراجون في شرق الأندلس ، وهذا ما تشير إليه رسالة الفتح التي بعثها الخليفة الناصر من إنشاء كاتبه ابن عياش حين تقول : " ولأخذ ميورقة على صاحب أراغون وبرشلونة أشدّ من رشق النبل ، وأهول من وقع السّيف ، وأوحش من القطع بحلول الممات" (٢). وكان أول الولاة الموحدين على ميورقة هو أبو محمد عبد الله بن طاع الله الكومي ، ثم وليها السيد أبو زيد بن أبي يعقوب يوسف عم الخليفة الناصر ،

__________________

(١) عصام سيسالم ، المرجع السابق ، ص ٢٦٨ وما بعدها.

(٢) ليفي بروفنسال ، مجموع رسائل موحدية (الرسالة السادسة والثلاثون) ، باريس ، ١٩٤٢ ، ص ٦٨.

٢٨

فالسيد أبو عبد الله بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن (١). وفي سنة ٦٠٦ ه‍ وليها رابع وآخر الولاة الموحدين فهو الذي أخذها منه النصارى وبه استهل ابن عميرة الحديث في الكتاب.

٢. والي ميورقة أبي يحيى التنملّي :

فبعد الحمدلة والتصلية وذكر الهدف من وضع الكتاب والباعث على تأليفه ، شرع المؤلف في الكلام عن والي ميورقة وجزر البليار ، مشيرا إلى مكانته في الدولة الموحدية ونهوضه بأعبائها وتأخيره عن الوزارة ، ثم تعيينه واليا على بلنسية فترة يسيرة ، انتقل بعدها إلى ولاية ميورقة سنة ٦٠٦ ه‍ حيث استمرت ولايته أكثر من عشرين سنة. تلك هي إشارة المؤلف باقتضاب عن حياة هذا الوالي قبل توليه ميورقة ، وهي تحتاج إلى مزيد من التوضيح اعتمادا على مصادر أخرى.

إن الاسم الكامل لهذا الوالي هو أبو يحيى محمد بن أبي الحسن علي ابن أبي عمران موسى التنملي ، وكانت تربطه قرابة ببني عبد المؤمن ، لأن الخليفة الموحدي الأول عبد المؤمن بن علي أيام كان بتينملّل رفقة المهدي ابن تومرت تزوج امرأة حرّة اسمها زينب وهي بنت أبي عمران موسى الضرير جد الوالي المذكور ، وكان موسى الضرير هذا من شيوخ تينملّل وأعيانهم من ضيعة يقال لها أنسا. وكان عبد المؤمن يستخلفه على مراكش إذا خرج عنها ، وكانت مصاهرته إياه برأي ابن تومرت. وقد خلف موسى الضرير من الولد الذكور ثلاثة هم إبراهيم ومحمد وعلي والد والي ميورقة ، وبنات منهن زينب المذكورة التي أنجبت للخليفة عبد المؤمن ولدين وهما أبو يعقوب يوسف الخليفة من بعده وأخوه أبو حفص عمر وكانا من نبهاء أولاده ونجبائهم

__________________

(١) ابن خلدون ، كتاب العبر ، مج ٦ ، ص ٢٩٢.

٢٩

وذوي الرأي والغناء منهم (١).

وفي عهد الخليفة الموحدي الرابع أبي عبد الله محمد الناصر (٥٩٥ ـ ٦١٠ ه‍) تولى أبو يحيى التنملي الوزارة بعد كل من أبي زيد عبد الرحمن بن يوجان ، وأخي الخليفة الناصر إبراهيم بن يعقوب المنصور. وفي ذلك يقول صاحب المعجب : " ثم عزل أبو عبد الله الناصر أخاه إبراهيم وولى بعده أبا عبد الله محمد بن علي بن أبي عمران الضرير جد يوسف بن عبد المؤمن لأمه ، وكناه أبا يحيى. فكان هذا الوزير من أحسن الوزراء سيرة وسريرة ، وكان يحضه على فعل الخير بجهده ، ونشر العدل حسب طاقته ، والإحسان إلى الرعية والأجناد ، رأى الناس في أيام وزارته من الخصب وسعة الأرزاق وكثرة العطاء مثل الذي رأوا في أيام أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن أو قريبا منه. ثم عزله وولى بعده أبا سعيد عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن جامع" (٢).

يستفاد من نص المراكشي الذي يتحدث فيه عن أبي يحيى التنملي حديث العارف به أن كنيته الحقيقية كانت أبا عبد الله ، وهو المشهور لمن كان اسمه محمد ، ولكن الخليفة الناصر هو الذي أطلق عليه كنية أبي يحيى. كما شهد له المراكشي بحسن السيرة والعدل بين الناس وغيرها من الخلال التي يؤكدها ابن عميرة حين يتناول حكمه لجزيرة ميورقة. ولكن صاحب النص بخل علينا بذكر تاريخ تولية أبي يحيى منصب الوزارة وعزله عنه.

وهو التاريخ الذي أشار إليه ابن عذاري بقوله : " وفي سنة ٦٠٥ ه‍ قدّم الناصر بعض الولاة على أعماله وأخر آخرين عن أشغاله ، فأخّر أبا يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران عن الوزارة وألزمه في داره ، وقدّم للوزارة أبا سعيد

__________________

(١) المراكشي عبد الواحد ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ، تقديم العريان والعلمي ، الدار البيضاء : دار الكتب ، ١٩٧٨ ، ص ٣٤٥.

(٢) المراكشي عبد الواحد ، المصدر السابق ، ص ٤٤١.

٣٠

ابن أبي إسحاق بن جامع ، وبعد أيام من ترتيب ما رتب لخدمته ووزرائه جدّد نظره في أمور البلاد وما يجب لها من التفقد بالصلاح والسداد ... فأنهض أبا يحيى إلى بلنسية وثقف أشغالها وأصلح أحوالها" (١).

كان الخليفة الناصر كثير التغيير والتبديل للولاة ورجال الدولة ، عاكفا على معالجة الشؤون الإدارية والنظر في أعمال الولايات ، ومنها هذه الحركة التي أجراها سنة ٦٠٥ ه‍ ومسّت أبا يحيى التنملي حين أخّره عن الوزارة وألزمه أن يبقى في داره ، ولم تخبرنا المصادر عن سبب ذلك التأخير. ولكن بعد مدة يسيرة وفي نفس السنة عيّن الخليفة الناصر أبا يحيى التنملي واليا على بلنسية ، ثم نقله في السنة الموالية إلى ولاية ميورقة.

بقيت الإشارة إلى صفة ذميمة تتعلق بشخص الوالي أبي يحيى التنملي وهي صفة البخل ، فعلى الرغم مما اشتهر به من عدل وحسن السيرة أيام تقلده منصب الوزارة ، وكذلك خلال توليه جزر البليار مدة طويلة ، إلا أنه لم يستطع التخلص من هذه الصفة ومفارقة هذه الشهوة التي لازمته حتى وفاته. وهذا ما أجمله ابن سعيد في العبارة التالية : " وكان بخيلا غير حسن التدبير سامحه الله" (٢). وذكرها ابن عميرة في أكثر من موضع من هذا الكتاب ، فقد نعته بأنه كان منهوما لا يشبع من المال ، وانه كان كثير الازدياد من الدنيا وحطامها والانقياد من الأطماع في خطامها. وأن هذا المال الجمّ الذي جمعه لم يخرجه في وجه من وجوه البرّ والإثم ، مصداق ذلك الخطة التي عرضت عليه أثناء الحصار للدفاع عن المدينة فرفضها بدافع البخل وخشية الإنفاق.

__________________

(١) ابن عذاري المراكشي ، المصدر السابق ، ص ٢٥٣.

(٢) ابن سعيد المغربي ، المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٤٦٧.

٣١

٣. بوادر العدوان الصليبي على ميورقة :

ومما يؤسف له أن ابن عميرة قد قفز في حديثه عن جزيرة ميورقة من سنة ٦٠٦ ه‍ تاريخ تولية أبي يحيى التنملي عليها إلى سنة ٦٢٣ ه‍ تاريخ بداية التحرشات النصرانية على جزر البليار ، فحرمنا بذلك من توضيح الأحداث الداخلية وتطوراتها التي عرفتها ميورقة خلال هذه الفترة ، واكتفى بالقول إن الجزيرة قد نعمت بالعدل في عهد أبي يحيى. وإذا كان المؤلف قد أهمل الكلام عن الفترة المشار إليها لأن هدفه من الكتاب كان التأريخ لسقوط الجزيرة ، فإننا نضيف عاملا آخر وهو بقاء ميورقة وجزر البليار بمعزل عن مملكة قطلونية وأرغون بمأمن من عدوان أساطيلها خلال تلك الفترة التي كانت تعيش فيها هذه المملكة حربا أهلية بين المتنافسين على العرش بعد مقتل بيدرو الثاني سنة ٦١٠ ه‍ / ١٢١٣ م ، فنعمت ميورقة بالأمن ولم تتعرض لأي خطر خارجي.

إن الحرب الأهلية التي نشبت في مملكة قطلونية وأرغون بعد مقتل ملكها بيدرو الثاني كانت بين ولده الوحيد خايمي الأول أو جاقمه كما يسميه ابن عميرة وبين عمّيه فرناندو وسانشو المطالبين بالعرش. كما أعلن الكثير من الأشراف استقلالهم وأخذوا يحاربون بعضهم بعضا وعمت الفوضى ، واستطاع أنصار الملك خايمي أن ينتزعوه من وصيّه أستاذ الدّاوية ، وكان قد بلغ التاسعة من عمره ، واحتدم الصراع عندئذ بين حزب خايمي وبين خصومه.

وبعد أعوام من النزاع والحروب استطاع الملك خايمي أن ينتصر على خصومه وينتزع عرشه نهائيا سنة ٦٢٤ ه‍ / ١٢٢٧ م (١). وأخذ الملك الشاب

__________________

(١) أشباخ يوسف ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ، ترجمة محمد عبد الله عنان ،

٣٢

منذ ذلك الوقت يتطلع إلى الاستيلاء على جزر البليار ، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من الأراضي الإسلامية في شرق الأندلس.

وفي صائفة سنة ٦٢٣ ه‍ / ١٢٢٦ م ظهرت بوادر العدوان الصليبي على جزر البليار الموحدية ، وذلك أن والي ميورقة أبا يحيى التنملي لما احتاج للأخشاب لبناء سفن جديدة تحسبا للأخطار المحتملة ، أرسل طريدة بحرية لجلب تلك الأخشاب من جزيرة يابسة بحراسة قطعة حربية ، فعلم بعض التجار النصارى بالخبر وأرسلوا إلى أمير طرطوشة يعلمونه بذلك ، فقام على الفور بإرسال حملة بحرية تمكنت من أسر الطريدة البحرية بحمولتها من الخشب. ونجا الغراب (القطعة الحربية) من قبضة النصارى وعاد إلى ميورقة فأخبر الوالي بما حدث ، فثارت ثائرته وقام بردّ فعل سريع حيث جهّز حملة بحرية إلى شواطئ مملكة قطلونية وأرغون ، وكانت نتيجة هذه الحملة الخاطفة الاستيلاء على بعض الأجفان الرومية وأسر رجل نصراني مشهور بالثروة واليسار.

وفي أواخر ذي الحجة من السنة المذكورة وصلت الأنباء إلى والي ميورقة أن مسطحا من برشلونة ظهر على جزيرة يابسة ، وأن مركبا من طرطوشة انضم إليه ، فجهّز حملة بحرية واسند قيادتها لأحد بنيه وأمره بالتوجه لردّ العدو. وخرج أسطول ميورقة حتى نزل مرسى يابسة فوجد مركبا لأهل جنوة فأخذه وسار حتى أشرف على مسطح برشلونة فقاتله وظهر عليه المسلمون ولكنه اهتبل فرصة انشغالهم عنه فأفلت من قبضتهم ، فمالوا إلى مركب طرطوشة واستولوا على ما فيه ، وكان فيه أربعة من أثرياء جنوة ومن أهل الثروة واليسار فيها. وعاد قائد الأسطول إلى ميورقة بعد هذه

__________________

= القاهرة : مكتبة الخانجي ، ط ٢ ، ١٩٩٦ ، ج ٢ ، ص ١٦٥ وما بعدها.

٣٣

الحملة البحرية الناجحة وهو يظن أنه غالب الملوك ، ولم يكن يدري أنه بعمله هذا قد فتح جبهة خطيرة مع النصارى.

٤. الاستعداد للحرب :

يقول المؤلف إن نصارى مملكة قطلونية وأرغون قد ثارت ثائرتهم بعد هذه الاشتباكات البحرية الأولى مع المسلمين ، فأخذوا يحرّضون ملكهم خايمي الأول على غزو جزر البليار ، ويغيرون صدره على الإسلام والمسلمين ، ويذكّرونه بما فعله بهم ابن غانية المرابطي. ولما رأى حماسهم الشديد ، أراد أن يقيم الحجة على والي ميورقة فبعث إليه بأحد رجاله يطلب منه ردّ المركب والمال والأسارى ويعرض عليه الصلح والهدنة. ولكن الوالي ركب رأسه واستخف بما عرضه عليه الملك خايمي وتطاول عليه وعامله بكل صلف واحتقار. وعاد الرسول إلى ملكه فأخبره بما سمع ورأى ونقل إليه تهديدات الوالي الموحدي وتحدّيه للنصارى.

إن الملك خايمي الأول الذي كان قد نجح آنذاك في إخماد الحرب الأهلية التي عصفت بمملكته طيلة خمسة عشر عاما ، قد وجد الظروف مواتية لخوض معركته الحاسمة ضد ميورقة ، فالوالي المسلم قد رفض عروضه ، وإن هذه الحرب سوف تشغل نبلاء مملكته عن المنازعات الداخلية ، وترضي في الوقت نفسه تجار قطلونية الذين كانوا يتطلعون دوما إلى توسيع نطاق تجارتهم وضمان سلامة سفنهم المهددة من قبل أساطيل جزر البليار ، لذلك عقد مجلسه النيابي في برشلونة في شهر صفر ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٩ م ، واقترح عليه القيام بحملة عسكرية ضد ميورقة ، فوافق أعضاء المجلس بالإجماع على هذا الاقتراح وتحمسوا له.

وبعد حصوله على موافقة المجلس النيابي (الكورتيس) شرع الملك

٣٤

خايمي في إعداد العدة ، ويقول المؤلف بهذا الصدد أنه أمر جنوده بإحضار الدروع والترسة والجياد والحراب العظيمة النصل وغيرها من لوازم الحرب وعتادها ، كما أمر أهل سواحل قطلونية بإنشاء السفن اللازمة لذلك. فجمع من الفرسان ألفا وخمس مائة فارس ، ومن المشاة عشرين ألف راجل ، ومن رجال البحرية وعسكر الماء ستة عشر ألفا. وأمر أن تحشد هذه القوات في مرفأ مدينة سالو القريب من طركونة على ساحل قطلونية ابتداء من شهر جمادى الأولى ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٩ م استعدادا للإبحار باتجاه جزر البليار.

هذا ولم تكن هذه الاستعدادات على الجبهة النصرانية في مملكة قطلونية وأرغون بخافية على والي الجزائر الشرقية أبي يحيى التنملي ، فقد كان على علم بذلك ، وقام بدوره بالاستعداد لمواجهة هذا العدوان المرتقب ، وشرع في شهر ربيع الأول سنة ٦٢٦ ه‍ في حشد قواته العسكرية ، فجمع أكثر من ألفي فارس ومن المشاة حوالي ثمانية عشر ألفا. واستدعى أهل البادية وأمرهم بنقل الأطعمة سريعا ، وضبط المراسي بالرجال ، وبث العيون في كل مكان تحسبا لأي طارئ.

٥. تصدع الجبهة الداخلية الميورقية عشية العدوان الصليبي :

بعد هذه الاستعدادات اللازمة للحرب وحشد القوات ودعم الأساطيل التي قام بها الطرفان الإسلامي والمسيحي ، وفي وقت كانت فيه الجبهة الداخلية في ميورقة أشد ما تكون إلى التماسك وتوحيد الكلمة لمواجهة العدو ، فإن العكس هو الذي حصل ، إذ انقسمت هذه الجبهة وسادها الخلاف وظهر طرفان متنازعان متخاصمان يتعلق الأمر بالوالي أبي يحيى التنملي وقومه من جهة وأجناد الأندلس من جهة أخرى. تلك هي صورة الوضع الداخلي في ميورقة عشية العدوان الصليبي عليها كما يقدمه لنا ابن عميرة ويجعله من أهم العوامل وأبرز الأسباب التي عجلت بسقوط الجزيرة.

٣٥

يذكر المؤلف أن أكثر مدة الوالي أبي يحيى التنملي أثناء حكمه لميورقة وجزر البليار كانت نافعة وأمور رعيته مرعية وسياسته سديدة مرضية ، إلى أن خلع قومه من الأندلس فأوى إليه طرداء منهم آواهم وتأثر لحالهم ، فكان هؤلاء بدأة الشر الذي باض وفرّخ. فقد أشاروا عليه بالاحتراس وحملوه على إساءة الظن بالناس وطلبوا منه أن يمكّنهم من الجماعة الأندلسية من أهل ميورقة لينتقموا منهم ثأرا لما حل بهم في الأندلس من طرد وخلع. وظلوا يغرونه بهم ظلما ، ويغيرون صدره عليهم ، ويدفعونه إلى أعمال الجور حتى أفسدوا أمره ، فساءت الأحوال ، وأطلت الفتنة برأسها ، وانضم كل ذي حي إلى حيه ، وأصبح كل طرف يتوجس خيفة من الطرف الآخر ، إلى أن وصلت الأمور إلى حدّ التآمر والتصفية الجسدية كما سنبينه في حينه ، بعد أن نوضح موضوع خلع قوم الوالي من الأندلس الذي أشار إليه المؤلف إشارة عابرة.

من المعلوم أنه في منتصف شهر صفر سنة ٦٠٩ ه‍ / جويلية ١٢١٢ م قد حلت بالمسلمين في الأندلس نكبة مروّعة وهزيمة كبيرة في معركة العقاب على يد قوات الممالك الإسبانية المسيحية وحلفائها من أهل الصليب الذين حشدتهم البابوية. وكانت خسائرهم فادحة جدا ، وهلك معظم الجيش الموحدي ، ولم ينج الخليفة الموحدي الناصر مع عدد قليل من حرسه إلا بأعجوبة. وخلفت هذه الهزيمة في النفوس آثارا لا تمحى ، واستقر في معظمها شعور بأن الأمر قد ضاع ولا سبيل إلى تلافيه. وفي أيام المستنصر خامس الخلفاء الموحدين (٦١٠ ـ ٦٢٠ ه‍) تلاشت بقية الأمل في الموحدين ، فقد نجم لهم بنو مرين وبدأوا معهم صراع المصير في المغرب ، وكان عليهم أن يتجرعوا نفس الكأس التي جرّعوها للمرابطين من قبل (١).

__________________

(١) ابن الأبار ، الحلة السيراء ، ج ١ ، ص : ٢٢.

٣٦

ولم يعودوا بيتا متحدا تجمعه رابطة واحدة ولكنهم تحولوا إلى أمراء وأشياخ استأثر كل منهم بقاعدة من قواعد الملك الموحدي أو بوظيفة من وظائفه الرئيسية ، وظهرت آفة الصراع والتطاحن على عرش الخلافة الموحدية ، وأصبح كل واحد منهم يمني نفسه به ويتمنى في ذات الوقت فساد الأمر على من تولاه. فبعد الخليفة المستنصر قام بالأمر أبو محمد عبد الواحد ولكن سرعان ما خرج عليه الخليفة العادل وبويع بالخلافة ، ثم قام أبو العلى إدريس المأمون بالأندلس وخرج على أخيه العادل أيضا وكان ذلك ما بين (٦٢٠ ـ ٦٢٤ ه‍).

إن انتثار الخلافة الموحدية وتصدع أركانها كان له أبلغ الأثر في العدوة الأندلسية التي أصبحت مكشوفة للعدو ولا يدفع عنها أحد. وأخذ ذلك الصراع الطويل بين الإسلام والنصرانية حول مصير الأندلس يتحدد بصورة حاسمة ، إذ سار التقدم النصراني في ذلك الوقت ابتداء من العقد الثالث من القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي في ثلاث مناطق : الأولى وجهتها غرب الأندلس ويسيطر على مصيرها ملك ليون ألفونسو التاسع ، والثانية وجهتها وسط الأندلس ويسيطر على مصيرها ملك قشتالة فرناندو الثالث بينما اختص ملك قطلونية وأراجون بمصير الوجهة الثالثة وهي شرق الأندلس. ورغم ما كان يسود هذه الممالك من خلاف وما يقع بينها من حروب إلا أنها كانت تنبذ ذلك وتقف صفا واحدا إذا تعلق الأمر بحرب مع المسلمين.

وفي تلك الآونة التي انشغل فيها البلاط الموحدي بالمغرب بخلافاته وحروبه الأهلية ، وتخاذل السادة والحكام الموحدون عن تأدية واجبهم الأول في شبه الجزيرة الأندلسية التي سرى إليها دبيب التفكك ، وتطلعت اسبانيا النصرانية إلى السيطرة على ذلك التراث المنهار ، اهتزت الأندلس لهذه

٣٧

الأحداث والتطورات الخطيرة واضطرمت فيها سلسلة جديدة من الثورات القومية على غرار ما حدث في أواخر العهد المرابطي ، ورغم ما كان يسود هذه الثورات والحركات من تنافس وخصام إلا أنها كانت تجمع بينها غاية تحرير الأندلس من الموحدين والتصدي للعدوان الصليبي.

وكان أهل شرق الأندلس ، الذين اشتهروا بنزعتهم الانفصالية في تاريخ الأندلس منذ الخلافة الأموية ، أول من جاهر بالخروج على الموحدين والثورة ضدهم. فظهر بينهم زعيم من بيت عريق في الزعامة والرياسة وهو الأمير أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود الجذامي سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام الطوائف الأولى ، وكان ظهوره في مدينة مرسية حيث اتخذها قاعدة لإمارته التي استمرت من سنة ٦٢٥ ه‍ إلى سنة ٦٣٥ ه‍. وقد رأى فيه الأندلسيون يومئذ الرجل الذي كانوا ينتظرونه لجمع كلمتهم والدفاع عن بيضتهم ومصداق ذلك شعر من مدحه من الشعراء كابن مرج الكحل وغيره. وجاء عنه في أعمال الأعلام أنه" كان شجاعا ، كريما حييّا وفيا ، متوكّلا عليه ، سليم الصدر ، قليل المبالاة بالأمور ، محدودا لم ينصر به جيش ، ولا وفق له رأي لغلبة الخفة عليه واستعجاله الحركات ونشاطه إلى لقاء الأعداء من غير كمال واستعداد" (١). ولعل استخفاف ابن هود بالأمور واستعجاله في لقاء العدو هو الذي دفع ابن سعيد إلى الحكم عليه بأنه" كان عاميا جاهلا ، مشؤوما على الأندلس ، كأنما كان عقوبة لأهلها ، فيه زويت محاسنها وطوي بساطها ، ونثر سلكها" (٢).

ويضيف ابن الخطيب أن ابن هود ملك مرسية وقرطبة وإشبيلية

__________________

(١) ابن الخطيب لسان الدين ، أعمال الأعلام ، تحقيق ليفي بروفنسال. بيروت : دار المكشوف ، ١٩٥٦ ، ج ٢ ، ص ٢٧٨.

(٢) ابن سعيد المغربي ، المصدر السابق ، ج ٢ ، ص : ٢٥١.

٣٨

وغرناطة ومالقة والمرية وغيرها ، بحال اجتماع وافتراق ، وانتزاء من أهلها عليه وشقاق. وتلقب بالألقاب السلطانية كأمير المسلمين والمتوكل على الله ومعز الدين ، ودعا للخلافة العباسية استرضاء للعامة ، فبعث إليه الخليفة العباسي بالخلع والمراسيم وسماه مجاهد الدين (١).

وكان ابن هود حين شعر بقوة جمعه وأتباعه في أول أمره زحف على مدينة مرسية وطرد أميرها الموحدي الذي كان يدّعيها لنفسه وهو السيد أبو العباس بن أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن وذلك في شهر رجب سنة ٦٢٥ ه‍ / ١٢٢٨ م. وعلى إثر ذلك خرج إلى لقائه والي بلنسية السيد أبو زيد عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن فهزمه ابن هود واستولى على محلته ولكنه لم يحاول دخول بلنسية وعاد على مرسية. ولما ازدادت قوته وكثر أتباعه جدّ في محاربة الموحدين وأعلن أنه سوف يحرر الأندلس من سلطانهم.

هذا وقد أجمل ابن عذاري محاربة ابن هود للموحدين في الأندلس ومطاردته إياهم في النص التالي : " وأول من طاع لابن هود من بلاد الأندلس أهل مرسية فخرج إليه المأمون في سنة ٦٢٥ ه‍ كما تقدم فقابله وقاتله فوقعت الهزيمة على ابن هود ، وبعد انصراف المأمون عنه إلى إشبيلية قام بدعوته ابن الرّميمي بمدينة المرية ثم طاعت له غرناطة ومالقة فضعف المأمون عن مصادمته لما كان قد أهمّه من أمر الموحدين بمراكش. فلما استقر المأمون بمراكش واشتغل فيها بما اشتغل ، اتقد نار الفتنة بالأندلس واشتعل ، وطاعت لابن هود أكثر بلادها ورؤسائها وأنجادها وخلعوا طاعة الموحدين عنها ، وقتلوهم في كل بلد منه ، وأجلوهم واستأصلوهم إلا من ستره الله منهم

__________________

(١) ابن الخطيب ، المصدر السابق ، ص ٢٧٧ وما بعدها.

٣٩

وأخفاه في ذلك الوقت عنهم". (١) هكذا كانت نهاية الموحدين في الأندلس على يد ابن هود وأمثاله من ثوار الأندلس من جهة وعلى يد النصارى من جهة أخرى.

وقد دفعت هذه الأحداث أغلب الموحدين إلى ترك الأندلس والهجرة إلى العدوة المغربية ، بينما فضل البعض منهم الارتداد عن دينه والارتماء في أحضان النصارى كما فعل السيد عبد الله البيّاسي صاحب جيّان ، والسيد أبو زيد صاحب بلنسية الذي لجأ إلى ملك أرغون. في حين لجأت مجموعة منهم إلى جزيرة ميورقة حيث آواها الوالي أبو يحيى التنملي وقرّبها ، فكانت السبب في إثار الفتنة بين أهل الجزيرة وانقسام جبهتها الداخلية غداة العدوان النصراني عليها. هذا ما تقوله رواية ابن عميرة ويؤكده نص ابن المستوفي الذي يقول : " لما استولى ابن هود على الأندلس ، خاف صاحب ميورقة أبو يحيى على ميورقة من أجنادها ، وكانوا في الأندلس فقتل منهم خلقا وهرب من هرب إلى الجبال والحصون وخلت المدينة من كثير من أهلها ، فنزل عليها البرشنوني (خايمي الأول) وحاصرها في شوال ٦٢٦ ه" (٢).

ولما اشتد الخلاف بين طائفة الوالي وبين أجناد ميورقة الأندلسيين وخشي كل طرف على نفسه من غدر الطرف الآخر ، اجتمع هؤلاء الأجناد إلى قائدهم ، الذي بخل علينا ابن عميرة بذكر اسمه ، وراحوا يحذرونه من الغوائل ويخوفونه أشد تخويف ويحرّضونه على التآمر ضد الوالي والتخلص منه. ورغم تردد القائد ورفض الفكرة في أول الأمر إلا أن الأجناد أقنعوه وأتوه على الأمر بدلائل فاستجاب لهم ، واتفقوا على المؤامرة وعلى أن يكون قتل الوالي في صلاة التراويح أي في شهر رمضان ٦٢٦ ه‍ / أوت ١٢٢٩ م.

__________________

(١) ابن عذاري المصدر السابق ، ص ٢٨٨.

(٢) ابن المستوفي ، نباهة البلد الخامل بمن ورده من الأماثل ، ج ١ ، ص : ٤٣٠.

٤٠