تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

مقدمة المؤلف

/ ٢ / بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم. قال الشيخ الفقيه الأجل ، القاضي الأعدل ، الكامل الأوحد الأفضل ، أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي رضي الله عنه.

الحمد لله مصرف الأقدار على مشيئته ، ومبتلي الإنسان من صرف الحدثان بما هو متقاض لنقده ونسيئته ، وصلّى الله على سيدنا محمد ورسوله طليعة غيب السماء لساكن الأرض وربيئته (١) ، الذي عمّ الأنام حين بعث برسالته ويوم قبض برزيئته (٢).

هذا ذكر من خبر ميورقة وتغلّب الرّوم عليها ، من حين أدارت الرّوم أمرها ، وأرادت (٣) أسرها ، إلى أن محقت حقها ، وملكت رقّها ، وأخرجت الإيمان من قلبها ، وزجرت أغربتها لفل غربها. وهو لأحد الرّجلين متعلم لصياغة الكلام ، ومتألّم (٤) من صناعة الأيام ، هذا يتعوذ من سوء القدر ، وذاك

__________________

(١) الربيئة ، والجمع الربايا ، وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدوّ ، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه. وفي الحديث : مثلي ومثلكم كرجل ذهب يربأ أهله ، أي يحفظهم من عدوهم. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٨٢.

(٢) الرزيئة والمرزئة : المصيبة ، والجمع أرزاء ورزايا. وقد رزأته رزيئة أي أصابته مصيبة. وقد أصابه رزء عظيم. والرّزء : المصيبة بفقد الأعزّة ، وهو من الانتقاص. وقوم مرزّؤون : يصيب الموت خيارهم. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٨٦.

(٣) جناس ناقص بين" أدارت وأرادت".

(٤) جناس ناقص بين" متعلّم ومتألّم".

٦١

يتعود صوغ الفقر (١) والغوص على الدّرر ، وقد يجتمع الأمران لواحد ، فيحصل من الكلام على فائد ، ومن العلم بما جرى على شيء زائد.

والذي بعث على إثبات هذا الخبر ، وندب إلى جمعه على الوجه المختصر ، أحد إخواننا ممّن كان متربا (٢) بتلك التربة ، ثم عاد تربا (٣) في أرض الغربة (٤) ، فإنه / ٣ / حثّ على عمله بجد ، وأشار إلى أنّه عنده كنزل معد ، فقلت قرًى حظ صاحبه منه قراءة ، ومسرّة بالإرضاء هي بالذكرى لتلك الأرزاء مساءة ، ثم انتدبت لرغبته انتداب المجيب ، وأتيت بالأخبار عن ذلك الأمر الغريب ، وأثبته في الزمن القريب ، وعلى الله التوكل وبه أستعين ، وفي كنف فضله ومورد جوده أرغب وأحدهما هو المنيع والآخر هو المعين (٥).

__________________

(١) أي صياغة الشعر والكلام ووضعه وترتيبه ، لأن الفقر مفردها فقرة وهو أجود بيت في القصيدة وسميت كذلك تشبيها لها بفقرة الظهر. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٦٢.

(٢) المترب : الغني إما على السلب ، وإما على أن ماله مثل التراب. والتتريب : كثرة المال. وأترب الرجل : استغنى وكثر ماله فصار كالتراب. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

(٣) الترب : الفقير المحتاج. ترب تربا ومتربة : خسر وافتقر فلصق بالتراب. والمتربة : المسكنة والفاقة.

ويقال للرجل إذا قلّ ماله : قد ترب أي افتقر. وفي حديث فاطمة بنت قيس : وأما معاوية فرجل ترب لا مال له ، أي فقير. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

(٤) طباق الإيجاب بين" المترب والترب".

(٥) جناس ناقص بين" المنيع والمعين" وقد تم بتغيير مواقع الحروف فأدّى إلى تغيير في المعنى.

٦٢

ابتداء أمر الجزيرة بالأخبار عن أميرها

وتوليه لتدبيرها إلى وقت تدميرها

هو محمد بن علي بن موسى وكان في الدّولة المهدية (١) أحد أعيانها الكفاة ، وأحمد من نهض بأعبائها من الولاة ، إلى أن حطّ عن رتبته ، وجووز إلى الأندلس في نكبته ، ثم استقل بعض الاستقلال ، وولي بلنسية (٢) وما إليها من الأعمال ، وبعد ذلك بيسير تبادل هو ووالي ميورقة (٣) محلي الولاية ،

__________________

(١) يقصد بها الدولة الموحدية.

(٢) من قواعد شرق الأندلس ، اشتهرت بأجنتها الخضراء وثمارها الطيبة وهوائها الجميل. وفي ذلك يقول ابن سعيد المغربي : " مطيب الأندلس ، ومطمح الأعين والأنفس ، قد خصّها الله بأحسن مكان ، وحفّها بالأنهار والجنان ، فلا ترى إلا مياها تتفرع ، ولا تسمع إلا أطيارا تسجع ، ولا تستنشق إلا أزهارا تنفح ، وما أجلت لحظا بها في شيء إلا قلت هذا أملح. وجوّها صقيل أبدا ، لا ترى فيه ما يكدّر خاطر ولا بصرا ، لأن الجنات والأنهار أحدقت بها ، فلم يثر بأرجائها تراب من سير الأرجل وهبوب الرياح فيكدّر جوّها ...". ومن أعمالها البديعة الرّصافة ومنية ابن أبي عامر وقرية المنصف وقرية بطرنة ومتيطة وأندة وغيرها. حاصرها الملك خايمي صاحب أراغون في شهر رمضان سنة ٦٣٥ ه‍ / ١٢٣٨ م وشدّد عليها الخناق ، فبعث أميرها أبو جميل زيّان سفيره ابن الأبار إلى الأمير الحفصي مستنجدا فألقى بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي اشتهرت في التاريخ وقد جاء في مطلعها :

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

وهي طويلة تقع في سبعة وستين بيتا ، وقد كان لها أبلغ الأثر في نفس الأمير أبي زكرياء الحفصي الذي بادر بتجهيز أسطول محمل بالمؤونة والسلاح وأرسله إلى الثغر المحاصر ، ولكن المحاولة فشلت نظرا لإحكام السيطرة النصرانية على المدينة التي استسلمت في ١٧ صفر ٦٣٦ ه‍ ، بعد أن حكمها المسلمون أكثر من خمسة قرون. ابن سعيد ، المغرب في حلى المغرب ، ج ٢ ، ص ٢٩٧.

المقري ، نفح الطيب ، ج ١ ، ص ١٧٩. عنان ، عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس ، القسم ٢ ، ص ٤٤٤.

(٣) هو أبو عبد الله محمد ابن السيد أبي حفص عمر ابن الخليفة عبد المؤمن بن علي ، رابع الولاة الموحدين على ميورقة الذي نقله منها الخليفة الناصر إلى ولاية بلنسية للمرة الثانية سنة ٦٠٥ ه‍ أو ٦٠٦ ه‍ أو ٦٠٧ ه‍ حسب اختلاف الروايات المشار إليها في الهامش الموالي. وأقام واليا عليها ـ

٦٣

وأحدهما كفؤ الآخر في الكفاية.

فعبر البحر إليها سنة ست وستمائة (١) (٦٠٦ ه‍) وسار فيها بأحمد السير ، وحماها ممّا كان يتحيّف غيرها من الغير ، وسارت به ميورقة مثلا في العدل الواضح السنن ، أملا لكل نائي الوطر (٢) نابي الوطن (٣) ، وكان يجلس لعامة الناس عامة يومه (٤) ، ويأخذ الحق للضعيف من أقوى قومه ، فأفعم قلب القلوب مودّة ، وأقام على مدّ ظلال العدل / ٤ / مدّة. إلى أن آثر عرض هذا الأدنى على ذلك الغرض ، وعرض له ما يعرض للأبدان الصحيحة من المرض ، فجمع منهوبا بالمآل ، وصار منهوما (٥) لا يشبع من المال ، واقتنى ما بداخل البلد وخارجه من الرباع (٦) والضياع (٧) ، وما علم أن ما كسب فأملك

__________________

= حتى سنة ٦١٠ ه‍ ، ثم نقله الخليفة المستنصر الموحدي إلى ولاية إشبيلية فمات بها. وقد ألف برسمه أبو عبد الله محمد ابن المناصف كتاب الأنجاد في أبواب الجهاد. وكان له ولد اسمه أبو زيد عبد الرحمن تولى هو أيضا ولاية بلنسية ما بين سنتي ٦٢٠ ـ ٦٢٦ ه‍ ، واستعان بالنصارى لاستعادتها من زيان بن مردنيش. ابن سعيد ، اختصار القدح ، ص ٤٢. ابن عذاري ، البيان (قسم الموحدين) ، ص ٢٥٦. ابن خلدون ، العبر ، مج ٦ ، ص ٢٩٢ وص ٢٩٥.

(١) يخالف هنا ابن عميرة رواية ابن خلدون القائلة بأن تاريخ تبادل ولايتي ميورقة وبلنسية بين أبي عبد الله بن أبي حفص وأبي يحيى بن أبي الحسن ، كان سنة ٦٠٥ ه‍ ، ورواية ابن عذاري القائلة بتاريخ سنة ٦٠٧ ه‍. ابن خلدون ، العبر ، مج ٦ ، ص ٢٩٥. ابن عذاري ، البيان (قسم الموحدين) ، ص ٢٥٦.

(٢) نائي الوطر : النأي هو البعد والمفارقة ، والوطر كل حاجة كان لصاحبها فيها همة ، فإذا بلغها البالغ قيل : قضى وطره وأربه. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٢٨٥ ، وج ١٥ ، ص ٣٠٠.

(٣) نابي الوطن : النابئ هو الرجل إذا جاء من بلد إلى أخرى. والفعل هو نبأ بمعنى طرأ ونشط إذا خرج من أرض إلى أخرى. لسان العرب ، ج ١ ، ص ١٦٣. وهنا جناس ناقص بين" الوطر والوطن".

(٤) جناس تام بين عامة وعامة ، فالأولى تدل على الناس البسطاء أما الثانية فتفيد معظم الوقت.

(٥) جناس ناقص بين" منهوبا ومنهوما".

(٦) الرباع : جمع ربع وهو المنزل ودار الإقامة. لسان العرب ، ج ٨ ، ص ١٠٢.

(٧) جناس ناقص بين" الرباع والضياع".

٦٤

من يده له يد الضياع. ثم خلع قومه من الأندلس فكان خبرهم بميورقة بدأة الشر الذي باض وفرّخ (١) ، وماؤه رشح وبلاؤه رسخ ، حسبما يفرغ من بيانه ، ويستوفى إن شاء الله تعالى في مكانه.

__________________

(١) استعارة مكنية حذف المشبه به وترك أحد لوازمه ليدل عليه وهو باض وفرّخ فالذي يبيض ويفرّخ هو الطائر.

٦٥

وصف ما جرى من الجزيرة التي هاجت الرّوم لغزو الجزيرة

احتاج هذا الوالي إلى الخشب المجلوب من يابسة (١) فأنفذ عنه طريدة بحرية (٢) ، وعمّر صحبتها قطعة حربية ، فخرجت على مرأى من تجار للنصارى كانوا هنالك في قارب ، وربّ مسالم تحت أثوابه ضغن محارب (٣) ، فطاروا إلى طرطوشة (٤) بالخبر ، ووعدوا ظفر الكفر إن نشب فيها بالظفر ، فجهز

__________________

(١) ثالثة جزر البليار من حيث المساحة التي تبلغ ٥٤١ كلم مربع ، طولها ٤٠ كلم وعرضها ٢١ كلم ، تقع إلى الجنوب الغربي من جزيرة ميورقة وتبعد عنها بحوالي ٨٠ كلم وعن ساحل شرق الأندلس بحوالي ٩٦ كلم. وقد أجمعت المصادر الإسلامية على أهمية هذه الجزيرة وشهرة منتجاتها كالفواكه والملح والأخشاب ، وكان لأخشاب الصنوبر شهرة واسعة لأهميتها القصوى في بناء السفن. وفي ذلك يقول الزهري : " وهي جزيرة كثيرة الثمار والزرع ، ومنها يجلب الزبيب واللّوز والتين إلى ميورقة ، وتجلب الملح والخشب إلى بلاد إفريقية ...". ويضيف صاحب الروض المعطار قائلا : " يابسة جزيرة حسنة كثيرة الكروم والأعناب ، أرضها تنبت الصنوبر الجيّد العود لإنشاء السفن وعدد المراكب وبها ملاحة لا ينفذ ملحها". وقد أسهمت يابسة إلى جانب جزر البليار الأخرى بدور كبير في تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر المتوسط الغربي. استولت عليها قوات خايمي الأول في سنة ٦٣٣ ه‍. الزهري ، كتاب الجغرافية ، ص ١٢٨. الحميري ، الروض المعطار ، ص ٦١٦. الحموي ، معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٤٢٤.

(٢) الطريدة : مركب صغير سريع يشبه البرميل الهائل ، وهي مفتوحة المواخر بأبواب تفتح وتغلق ، وتستعمل غالبا في حمل الخيول للحرب ، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا. وقد ورد ذكرها في القصيدة التي مدح بها ابن أبي حجلة السلطان المريني :

أبا فارس عمّر طرائدك التي

يبيت بها الشيطان وهو طريد

محمد ياسين الحموي ، تاريخ الأسطول العربي ، ص ٣٣. المنوني محمد ، ورقات عن حضارة المرينيين ، ص ١١١.

(٣) طباق الإيجاب بين" مسالم ومحارب".

(٤) تقع طرطوشة قرب مصب نهر الإبره في البحر المتوسط على مسافة تبلغ حوالي ٢٠٠ كلم إلى الجنوب الشرقي من سرقسطة. جاء عنها في معجم البلدان أنها" مدينة بالأندلس شرقي بلنسية قريبة من البحر متقنة العمارة ، لها ولاية واسعة وبلاد كثيرة ، تحلّها التجار وتسافر منها إلى سائر ـ

٦٦

المثلثة (١) لها ثلاثا من القطع صغارا ، وقرنوا بها واحدا من الكبار استظهارا ، فخرجت لذلك المقصد ، وجاءت حتى قعدت من طريق الإلفين بالمرصد ، فانفصلا بحاجتهما من يابسة ، وقصدوا ميورقة البائسة ، ومرّا بالعدو الكامن ، ولا علم عند رجالهما من الأمر الكائن (٢) ، فخرجت عليهم القطع الأربع دفعة ، وفاتها غراب (٣) المسلمين سرعة ، فطردت / ٥ / الطريدة حتى اقتنصتها ، وخلصت إليها واستخلصتها.

وجاء الغراب ميورقة خزيان بإسلام الحليلة ، لهفان على منعها بالقوة أو الحيلة ، فعظم على الوالي ما حدث ، وحدّث نفسه بغزو الروم وليته ما حدّث ، ووجّه إلى ملكهم وهو جاقمه بن بطر بن أدفونش (٤) يطلبه بردّ

__________________

ـ الأمصار. واستولى عليها الإفرنج في سنة ٥٤٣ ه‍. ينسب إليها أحمد بن سعيد الغفاري (ت ٣٢٢ ه‍) وأبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفقيه المالكي الطائر الذكر (ت ٥٢٠ ه‍) ". الحموي ، معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٣٠.

(١) يريد النصارى.

(٢) جناس ناقص بين" الكامن والكائن".

(٣) يريد القطعة الحربية التي أنفذها الوالي صحبة الطريدة ، وهو سفينة سوداء مقدمتها على شكل رأس الغراب ، وجناحاها بيضاوان ، وهي تسير بالقلع والمجاذيف ، منها ماله ١٨٠ مجذافًا وأقل من ذلك ، وتستخدم لحمل الغزاة ، اشتهرت بالبأس الشديد وإنزال الرّعب في قلوب الأعداء. وجاء في قصيدة ابن أبي حجلة الآنفة الذكر :

وغربانه في البحر فيها جوارح

كأنهم العقبان حين تصيد

المنوني محمد ، المرجع السابق ، ص ١١٠. النخيلي درويش ، السفن الإسلامية على حروف المعجم ، ص ٣٧.

(٤) هو الملك خايمي الأول ابن بيدر والثاني صاحب مملكة قطلونية وأرغون. قتل والده بيدرو في حربه ضد الكونت سيمون دي مونفور سنة ٦١٠ ه‍ / ١٢١٣ م ، وبقي خايمي رهينة تحت رحمة الكونت المذكور. وتدخل البابا أنوسنت الثالث من أجل إطلاق سراحه في العام الموالي ، ولكن عمه الطموح سانشو قام باعتقاله في حصن مونزون ، واستولى على السلطة سنة ـ

٦٧

الطريدة ، ويتوعده بالنكايات الشديدة ، والاغترار بزمامه آخذ ، وحكم الله ماض وقضاؤه نافذ.

ثم أطاع الطمع ، وجهّز القطع ، وأرسل منها العاديات سبحا ، لا العاديات ضبحا (١) ، وحاول عين الخسارة وهو يظنها ربحا (٢) ، وهناك حال عن سننه المعروف ، وتعرض لهيج الحروب وهو لا يحسن من علمها تهجي الحروف (٣). فجاءته قطعه بأجفان رومية ، وما صاب سهمها تلك الصّائفة عن رمية ، وممّن حصّلته في قبضة الإسار ، نصراني مشهور بالثروة واليسار ، فاحتفظ به الوالي عند حفيظ ، وطلبه بمال غليظ ، ثم نزل معه إلى عشرة آلاف. وفسح له أن يبعث عنها من يأتي بها من غير إخلاف ، فبعث إلى أهله في الظاهر أن يؤدّوا ويدفعوا ، ولحن (٤) لهم أن يردّوا ويمنعوا ، ففهموا ما أراد

__________________

٦١٤ ه‍ / ١٢١٧ م. وما أن تخلص خايمي الأول من عمه سانشو بعد جهود مضنية ، حتى برز عمه الثاني فرناندو إلى الميدان ، واستولى على السلطة ، وظلت مملكة قطلونية وأرغون تعاني من الحرب الأهلية حتى عام ٦٢٤ ه‍ / ١٢٢٧ م ، حيث تمكن الملك خايمي الأول من توطيد دعائم حكمه في مملكة قطلونية وأرغون بعد استسلام عمه فرناندو وقواته ، وأخذ يتطلع منذ ذلك الحين إلى الاستيلاء على جزر البليار. يوسف أشباخ ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ، ج ٢ ، ص ١٦٥ ـ ١٧٤.

(١) إشارة إلى قوله تعالى وهو يقسم بالخيل إذا أجريت في سبيله : " والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا". سورة العاديات ، من الآية الأولى إلى الخامسة.

(٢) طباق الإيجاب بين" الخسارة والرّبح".

(٣) جناس ناقص بين" الحروب والحروف".

(٤) لحن له يلحن لحنا : قال له قولا يفهمه عنه ويخفى على غيره لأنه يميله بالتورية عن الواضح المفهوم. ولحن الرجل فهو لحن إذا فهم وفطن لما لا يفطن له غيره. قال الشاعر :

وأدّت إليّ القول عنهنّ زولة

تلاحن أو ترنو لقول الملاحن

٦٨

فأيأسوه ، وأنسوا لقوله فأظهروا أنهم نسوه.

__________________

ـ واللّحن : التعريض والإيماء. ومنه قول النبي وقد بعث قوما ليخبروه خبر قريش : " الحنوالي لحنا" ، وهو ما روي أنه بعث رجلين إلى بعض الثغور عينا فقال لهما : " إذا انصرفتما فالحنالي لحنا" ، أي أشيرا إليّ ولا تفصحا وعرّضا بما رأيتما ، أمرهما بذلك لأنهما ربّما أخبرا عن العدو ببأس وقوة ، فأحبّ أن لا يقف عليه المسلمون. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٣٧٩.

٦٩

قصة المسطّح والمركب

واتصل بالوالي في أخريات ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين وستمائة (٦٢٣ ه‍) أن مسطّحا من برجلونة (١) ظهر على يابسة / ٦ / وقعد عليها مخيفا ، وأقام حواليها مطيفا (٢) ، وأنّ مركبا من طرطوشة انضم إليه في ذلك المكان ، وفيه من المال ما يخرج حصره عن الإمكان. فأغذ حركة زهوه ، وأعدّ قطع غزوه ، وملأها بكماة الهياج (٣) ، وحماة سرح الأثباج (٤) ، وجعل أحد بنيه ، ووسمه بالتسمية لهذا الوجه النبيه ، فخرج حتى نزل بمرسى (٥) يابسة ووجد فيه لأهل جنوة (٦) مركبا كبيرا ، فأنشأ فيه تدبيرا ، وعزم أن يعمره

__________________

(١) برشلونة قاعدة قطلونية ، تحدها من الشمال الشرقي مقاطعة جيرندة ومن الغرب لاردة ومن الجنوب طركونة. والناظر إلى برشلونة اليوم يجدها مكونة من ثلاث مدن : الأولى برشلونة الأصلية وهي التي على سيف البحر ، وبرشلونة المحدثة في القرون الوسطى وهي التي تتألف منها المدينة العظمى اليوم ، وبرشلونة الحديثة التي أحدثت في هذا العصر واتصلت بالضواحي والقرى. وقد فتحها المسلمون في أواخر القرن الأول الهجري. وفي سنة ١٨٥ ه‍ / ٨٠١ م قامت فتنة بين الأمير الأندلسي الحكم بن هشام (١٨٠ ـ ٢٠٦ ه‍) وبين عمّيه ، فاغتنم العدو النصراني الفرصة وقصد برشلونة فملكها ، ولم تنجح القوات الإسلامية التي بعثها الحكم بقيادة حاجبه ابن مغيث في استرجاعها. وكان ضياع هذه القاعدة الهامّة بعد أن بقيت تسعين سنة في أيدي المسلمين. المقري ، نفح الطيب ، ج ١ ، ص ٣٣٩. شكيب أرسلان ، الحلل السندسية ، ج ٢ ، ص ٢٧٢.

(٢) جناس ناقص بين" مخيفا ومطيفا".

(٣) الكماة جمع كمي وهو الشجاع المقدم الجريء المتكمّي في سلاحه أي المستور بالدّرع والبيضة. والهياج والهيجاء هي الحرب. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ، وج ١٥ ، ص ٢٣٢.

(٤) جمع ثبج وهو معظم الشيء ووسطه وأعلاه. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٢١٩.

(٥) جاء في الروض المعطار أن بجزيرة يابسة عشرة مراسي وبها أنهار جارية. الحميري ، الروض المعطار ، ص ٦١٦.

(٦) من الجمهوريات الإيطالية التي كانت تتمتع بقوة بحرية ونفوذ تجاري في حوض البحر المتوسط الغربي خلال العصر الوسيط. وعن مدينة جنوة يقول الحميري : مدينة في بلاد الروم على ساحل بحر الشام ، وهي مدينة قديمة البناء حسنة الجهات ، شاهقة البناء وافرة البشر كثيرة

٧٠

بالرجال ، ويستظهر به في القتال.

فتمّ له ذلك في أقرب مدّة ، وفرغ ممّا كان بقي عليه من إكمال عدد وعدّة ، وسار في تعبئة سارة ، ونهض في جوار للمركب جارّة ، حتى طلع على المركب والمسطح ، وهما مرتبعان في ذلك الأبطح (١) ، فدنا السّواد من السّواد (٢) ، وكان لما حضر من جياد الماء حضر الجياد. وبرز المركب للمسطح فقابله وهو مصمم إليه ، وقاتله وهو مشرف عليه ، فظهر المسلمون عليه ظهورا بيّنا ، وقدّروا الظفر به هنيّا هيّنا (٣).

وكشفوا النصارى عن ظهر المسطح حتى أخلوه ، ولم يشكوا في علو الأيدي إذا علوه. فجدّوا في حملتهم ، ومالوا إلى جانب المركب بجملتهم ، ولم تكن أحكمت أسباب جريته ، ولا أصلحت أداة توصيله إلى بغيته ، فأحجم عن طلقه ، وكاد يغرق بقلقه ، وبعد لأي ما استقل ، ووجد المسطّح فترة فنسل وانسل.

ولما علم أهل المركب أنّه قنص قد أفلت من مخالبهم (٤) ، وقبس أظلم في عين طالبهم ، عطفوا على / ٧ / مركب النصاري وريحه هابّة ، وظهره لا

__________________

ـ المزارع والقرى والعمارات ، وهي على قرب نهر صغير وأهلها تجار مياسير يسافرون برا وبحرا ويقتحمون سهلا ووعرا. ولهم أسطول ومعرفة بالحيل الحربية والآلات السلطانية ، ولهم بين الروم عزة أنفس. الحميري ، الروض المعطار ، ص ١٧٣.

(١) الأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصى ، وسمّي كذلك لأن الماء ينبطح فيه أي يذهب يمينا وشمالا. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤١٣.

(٢) السوّاد : يقال رأيت سواد القوم أي معظمهم. وسواد العسكر : ما يشتمل عليه من المضارب والآلات والدواب وغيرها. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٢٢٥.

(٣) جناس ناقص بين" هنيّا وهيّنا".

(٤) استعارة مكنية شبّه الكاتب فيها أهل المركب بالأسد أو كل ما له مخلب ، لكن المشبه به ههنا جاء محذوفا ، دلّ عليه أحد لوازمه وهو قوله" من مخالبهم".

٧١

ترمحه من تلك القطع دابة (١) ، فحين دنا منه يئس من الخلاص ، وأيقن أنّه في يد الاقتناص. فطلعه المسلمون من كل جانب ، واقتسموه بين قاتل وناهب ، ثم رفعوا القتال ، وجمعوا بين يدي الوالي المتمول والمال ، وكان فيهم أربعة من جنوة ، هم أشهر أهلها يسارا وثروة ، فقتل من ساعته من ذكر من أهل السّعة ، وكان مرباعه (٢) مال هؤلاء الأربعة ، فأودعه عند بطانته ، وجعل أمناء على ما لم يدخل تحت خيانته. وعاد إلى ميورقة وهو يرى أنه غالب لملوك الزمن ، بالغ بسيفه ويزنيّه (٣) مالم يبلغه سيف ابن ذي يزن (٤) ، وغاب عنه أنّه أشأم من عاقر الناقة (٥) ، وأن طليعة عمله ستلحقها من الساقة ما ليس في الطاقة (٦).

فإن الرّوم حين بلغهم الخبر قالوا خطب كبار ، وأمر ليس عليه قرار ، وكيف نقابل رفع هذه الفتوق بالفتور (٧) ، أو ننام وليس بنائم ليل الموتور ، وقد

__________________

(١) جناس ناقص بين" هابّة ودابة".

(٢) المرباع : ما يأخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم قبل إسلامه : " إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك". لأنهم كانوا في الجاهلية إذا غزا بعضهم بعضا وغنموا ، أخذ الرئيس ربع الغنيمة خالصا دون أصحابه. لسان العرب ، ج ٨ ، ص ١٠١.

(٣) نسبة إلى ذي يزن ملك من ملوك حمير ، وأصله يزأن ، والمراد هنا الرمح ، ويقال رمح يزني وأزني وأزأني وأيزني. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ١٩٣.

(٤) هو أبو مرة سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور الحميري من ملوك اليمن. ذهب إلى كسرى ملك الفرس يستنجزه في النصرة على ملك الحبشة فمات هناك. ابن خلدون ، العبر ، مج ٢ ، ص ٧٣.

(٥) مثل عربي يضرب في الشؤم ، ويقال أيضا : أشأم من أحمر عاد. وهو قدار بن سالف ، ويقال له أيضا قدار بن فديرة نسبة على أمه. وهو الذي عقر ناقة نبي الله صالح عليه السلام ، فأهلك الله بفعله قوم ثمود. الميداني ، مجمع الأمثال ، مج ١ ، ص ٥٢٨.

(٦) جناس ناقص بين" الساقة والطاقة".

(٧) جناس ناقص بين" الفتوق والفتور".

٧٢

كان لأميرها أبي إبراهيم إسحاق بن محمد (١) فينا أيام تشيب النواصي ، وغارات تبلغ الأقاصي ، حتى قطع عن البحر والساحل القاطع والقاطن ، وأعاد مواطئ لخيله تلك المواطن. والآن بذلك الكيل تكال ، ففيما التلكؤ وعلام الاتكال؟

واجتمعوا إلى ملكهم الذي سمّيناه (٢) فقالوا قد خامر الأمر الفظيع (٣) ، وإن ضعنا فأنت هو المضيع ، وكيف ترضى بخطة الخسف ، أو تقنع لجبالهم وبحارهم / ٨ / بدون النسف والنزف (٤) ، وإنما هي خطتان إمّا سلم نقبلها كرها ، أو حرب (٥) لا ندع فيها من وجوه النظر وجها ، فإن اخترت الحرب ففينا العدة والعدد ، ومنا مع المدد البعوث والمدد (٦) ، ونحن نجهز بأموالنا جيشا يتلوه

__________________

(١) هو أبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن علي بن غانية المسّوفي ، حكم الجزائر الشرقية (جزر البيليار) مدة ثلاثين سنة (٥٥٠ ـ ٥٨٠ ه‍ / ١١٥٥ ـ ١١٨٤ م) ، تمكن خلالها من بناء أسطول بحري قوي ، ولجأ إليه الكثير من المرابطين بعد سقوط دولتهم على يد الموحدين. وقد وصل مسلمو جزر البليار في عهده ذروة قوتهم العسكرية وقمة جرأتهم ، وحققوا انتصارات بحرية باهرة في حوض البحر المتوسط الغربي ، وحصلوا على مغانم كثيرة. وفي ذلك يقول المراكشي صاحب المعجب : " وأقبل على الغزو ، وصرف عنايته إليه ، فلم يكن له هم غيره ، فكان له في كل سنة سفرتان إلى بلاد الروم ، يغنم ويسبي وينكي في العدو أشد نكاية ، إلى أن امتلأت أيدي أصحابه أموالا ، فقوي بذلك أمره". وهذا ما تؤكده المدونات الفرنجية نفسها. المراكشي ، المعجب ، ص ٣٨٨. ابن خلدون ، العبر ، مج ٦ ، ص ٢٨٧. ابن عذاري ، البيان (قسم الموحدين) ، ص ٢٣٩. ألبار وكمبانير ، تخطيط تاريخي للحكم الإسلامي في جزر البليار ، ص ١٤٠ وما بعدها. عصام سالم سيسالم ، جزر الأندلس المنسية ، ص ٣٢٤ وما بعدها.

(٢) يريد الملك خايمي الأول صاحب قطلونية وأراغون.

(٣) كناية عمّا أصاب النصارى على أيدي المسلمين.

(٤) النسف : القلع ، وانتسفت الشيء : اقتلعته. والنزف : يقال نزفت ماء البئر أي نزحت وذهب ماؤها. وأنزف القوم إذا ذهب ماء بئرهم وانقطع. لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٥) طباق الإيجاب بين" السلم والحرب".

(٦) جناس ناقص بين" العدد والمدد".

٧٣

جيش ، ولا ترضى أن يدوم لنا على الضيم عيش. وهذا النصراني المأخوذ بميورقة نأخذ من ماله جملة ، ونجعل ذات أيدينا للانتصاف من أعادينا وصلة.

فأخذ عليهم بذلك العهود ، وأشهد على مقالتهم الشهود (١) ، وأنفذ إلى ميورقة كبيرا من النصارى ، وطلب الوالي برد المركب والمال والأسارى ، على أن يكف عن المسلمين ، ويصالحهم عشر سنين ، وإن أصرّ على اللجاجة (٢) ، وصار إلى الرّد في الحاجة ، فإنه يغزوه لا محالة ، ويصدّق بفعاله هذه المقالة. فوصل الرّسول ونزل ، وأدّى عن صاحبه ما طلب وبذل ، فاستعظم الوالي هذه الغرامة ، وقال لا ولا كرامة (٣) ، وأعاد عليه الكلام فلم ينتفع بإعادة ، وعاد إلى الاقتصار على الأسارى دون زيادة ، والوالي قد استخف بالأحوال المخيفة ، ومثل نفسه بصادق الحنيفية (٤) مع كذاب حنيفة.

فلما علم الرّسول أن يده لا تسمح بما أرعت ، وأذنه لا تقبل على ما وعت ، أحال إلى الكدر كبوه ، وأبلغه مقالة الملك وأنّه أجمع غزوه ، فأبرق

__________________

(١) جناس ناقص بين" العهود والشهود".

(٢) لجّ في الأمر : تمادى عليه وأبى أن ينصرف عنه. وفي الحديث : إذا استلجّ أحدكم بيمينه فإنّه آثم له عند الله من الكفّارة. ومعناه أن يحلف على شيء ويرى أن غيره خير منه فيقيم على يمينه ولا يحنث. وقيل : هو أن يرى أنّه صادق فيها مصيب فيلجّ فيها ولا يكفرها. ويقال رجل لجوج ولججة مثل همزة ، والأنثى لجوج ، والملاجّة : التمادي في الخصومة. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٥٣.

(٣) جناس ناقص بين" الغرامة والكرامة".

(٤) صادق الحنيفية : هو الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وكذاب حنيفة هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة الشهير بمسيلمة الكذاب لا دعائه النبوة. وكان من أهل الردة الذين قاتلهم الخليفة أبو بكر حين وجه إليه خالد بن الوليد في اليمامة ، وكان مقتله على يد وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب ، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ١٢ ه‍. ابن هشام ، السيرة النبوية ، ج ٤ ، ص ٢٤٦. عبد الوهاب النجار ، الخلفاء الراشدون ، ص : ٥٩.

٧٤

وأرعد (١) ، وأحفظه ما به توعد ، وقال أو بلغ من حداثة الخبيث ، أن يحدّث نفسه / ٩ / بهذا الحديث (٢) ، قل له للبلوغ سنّ لو كان يدركها ، لكان يدع هذه الدّعوى ويتركها ، ولو كان لنا أجفان تكفينا لركبنا إليه ثبج هذا البحر ، ونزلنا من سرارة (٣) أرضه بين السّحر والنحر.

ولم يعلم أن من الاعتزاز ما يهب هوانا (٤) ، وأنّ ربّ كلمة هاجت حربا عوانا (٥). فقام الرّسول وهو يقول قد زل لسانك وستزل قدمك ، وستندم على ما فرط منك حيث لا يغني عنك قدمك ، وما تغني أضغاث الأحلام (٦) ، إذا هاجت أضغاث الكلام ، وخرج حتى ركب ظهر مطيته ، وعاد بما انطوى عليه إلى طيّته (٧).

__________________

(١) أبرق وأرعد : تهدد وأوعد. ومن الأمثال العربية : رعدا وبرقا والجهام جافر. وهو مثل يضرب لمن يتزيا بما ليس فيه. الميداني مجمع الأمثال ، ج ١ ، ص ٤٣٤.

(٢) جناس ناقص بين" الخبيث والحديث".

(٣) والجمع سرائر وهي أوسط الأرض وأكرمها. ويقال : أرض سرّاء أي طيبة. ويقال : سرّ بين السّرارة ، وهو الخالص من كل شيء. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٣٥٨.

(٤) جناس ناقص بين" هوانا وعوانا".

(٥) والجمع العون. والعوان من الحيوان السنّ بين السنّين لا صغير ولا كبير. والعوان النّصف في سنّها من كل شيء. والعوان من النساء التي قد كان لها زوج ، وقيل هي الثيب ، والحرب العوان أي المتردّدة التي كان قبلها حرب. قال الشاعر :

حربا عوانا لقحت عن حولل

خطرت وكانت قبلها لم تخطر

وفي حديث الإمام علي كرم الله وجهه : كانت ضرباته مبتكرات لا عونا. أي وقعت مختلسة فأحوجت إلى المراجعة. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٢٩٩.

(٦) إشارة إلى قوله تعالى : (" قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ"). سورة يوسف ، الآية رقم ٤٤.

(٧) الطيّة : وجمعها طيات ، وهي الناحية ، والوطن ، والمنزل ، والوجهة. لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٢٠.

٧٥

حديث ملك الرّوم حين عاد إليه رسوله من مراده مخفقا

وللخبر المثير لأحقاده محققا

ولما انصرف صاحب الرّسالة ، وجاء على آخر المقالة ، تملك الملك الغضب ، وقال عند القراع يعلم أيّنا النبع وأينا الغرب (١). وتهيّأ للعبور ، وأقام لتلك الأمور ، واستنجز طائفة الشرك موعودها ، وأشهد على نفسه عابد الكنائس ومعبودها ، وكتب أهل النجدات على اختياره ، وميّز الفارس والرّاجل باختباره ، وأمر كلّ واحد من جنده أن يحضر من الدّروع الفارسية والفرسيّة بأحصنها ، ومن / ١٠ / التّرسة الذهبية بأحسنها ، ومن الجياد بأفرهها (٢) ، ومن الصّعاد (٣) بأشهرها وأشرهها (٤).

وكانت هذه فريضة رباعية عني بحصرها ، ولم ير السفر مظنة المشقة فيرخص في قصرها ، واستكمل من عدة خيله التي انتقاها هذا الانتقاء ، وكلف أشقياءها هذا الشقاء ، ألفا وخمس مائة فارس ، من كل محام ممارس ، صابر

__________________

(١) النبع والينبوع وجمعه ينابيع ، وهو العين والجدول الكثير الماء. والغرب بفتح الغين وسكون الراء وجمعه غروب هو الدلو الكبيرة التي تتخذ من جلد ثور. وإذا فتحت الرّاء فهو الماء السائل بين البئر والحوض. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٦٤٢ ، وج ٨ ، ص ٣٤٥.

(٢) فره الشيء يفره فراهة وفراهية فهو فاره. يقال : دابّة فارهة أي نشيطة حادّة قوية. يقول عدي بن زيد في صفة فرس :

فصاف يفرّي جلّه عن سراته

يبذّ الجياد فارها متتايعا

والفاره : الحاذق بالشيء. والفروهة والفراهة والفراهية : النشاط. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٥٢١.

(٣) جمع صعدة وهي الحربة العظيمة النصل ، وتسمى الآلة أيضا والجمع ألّ وإلال ، والفرق بينهما أن الألّة كلها حديد ، والحربة بعضها خشب وبعضها حديد. ويراد بالآلة أيضا السلاح وجميع أداة الحرب. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٢٥٥. ج ١١ ، ص ٢٤.

(٤) جناس ناقص بين" أشهرها وأشرهها".

٧٦

على كل جهد ، ناهد على أقبّ نهد (١). فأما الرجالة فكانت عدّة أهل البلاد منهم عشرين ألف راجل ، بين رامح ونابل ، وحام حامل ، وخاتر حاتل (٢) ، وأكمل لمراكب البحر من جوارحه (٣) ، وسراحين (٤) مسارحه (٥) ، ستة عشر ألفا شرط عليهم حمل السلاح ، وأن يحضروا معه حومة الكفاح.

وأمر أهل السّواحل بما شاء من الإنشاء ، وفرّغهم لنتاج الحاملات لعسكر الماء ، ووظف عليهم من أنواعها عددا ، وضرب لهم في الوفاء بها أمدا ، ووعد الجميع مرسى شلوط (٦) وهو أقرب المراسي للجزيرة ، وأخصّها

__________________

(١) النهد هو الفرس الضخم القوي والأنثى نهدة. ويقال : قبّ بطن الفرس فهو أقبّ ، إذا لحقت خاصرتها بحالبيه. والخيل القبّ : الضوامر. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٦٥٩ ، وج ٣ ، ص ٤٢٩.

(٢) خاتر وختار وختّير وختور والمصدر هو الختر ويعني الغدر والخديعة ، وقيل : هو أسوأ الغدر وأقبحه. والحاتل هو المثل من كل الشيء. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٢٩ ، وج ١١ ، ص ١٤١.

(٣) واحدتها : جارحة. وجرح الشيء واجترحه : كسبه. ويقال لإناث الخيل جوارح لأنها تكسب أربابها نتاجها. والجوارح من الطير والسّباع والكلاب : ذوات الصّيد لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم. فالبازي جارحة ، والكلب الضاري جارحة. وهو تشبيه من المؤلف لرجال البحرية النصارى بهذه الحيوانات. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٢٣.

(٤) واحدها سرحان. وتجمع أيضا سراح على وزن ثمان ، وسراحي بغير نون. والسرحان هو الذئب ، والأنثى سرحانة. وقيل هو الأسد. ومن الأمثال العربية : سقط العشاء به على سرحان. وأصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء فوقع على ذئب فأكله. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٨١.

(٥) واحدها المسرح : وهو المرعى والموضع الذي تسرح إليه الماشية بالغداة للرّعي. وفي حديث أم زرع : له إبل قليلات المسارح. قيل : تصفه بكثرة الإطعام وسقي الألبان أي أن إبله على كثرتها لا تغيب عن الحي ولا تسرح في المراعي البعيدة خوفا من أن ينزل به ضيف وهي بعيدة عازبة. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٧٨.

(٦) هو مرفأ مدينة سالوSalou الواقعة على ساحل إمارة قطلونية ، ويبعد عن مدينة طركونة بحوالي ١٣ كيلومترا جنوبا. ومن هذا الثغر شرع النصارى في حشد قواتهم وأساطيلهم لغزو ميورقة ابتداء من شهر جمادى الأولى سنة ٦٢٦ ه‍ / أفريل ١٢٢٩ م. شكيب أرسلان ، الحلل السندسية ، ـ

٧٧

بالمصالح الكثيرة ، فإنه مرسى ترفأ إليه السفن ، وتدنو منه العمائر والمدن ، برّه سهل فسيح ، وبحره لا تهيجه ريح ، فهو مجمع لشاة تسام ، وتاجر يستام (١) ، ووارد يسافر ، وصادر كافر جاء به الكافر.

__________________

ـ ج ٢ ، ص ٢٧٠. يوسف أشباخ ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ، ج ٢ ، ص ١٧١.

(١) مصدره السوم وهو عرض السلعة على البيع. ويقال ساومته سواما واستام علي ، وتساومنا. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٣١٠.

٧٨

وصف ما نشأ أثناء هذا التدبير من تهيب الرّوم لهذا المرام الكبير

/ ١١ / وبعد أن عزم النصارى على هذا الرأي ، وشاهدوا ما لملكهم فيه من الجد والسعي ، تعقبوا النظر ، واستشعروا الحذر ، وقالوا يجب أن نتبيّن أقوم الطرق ، والشروع في العمل قبل تدبير الغاية من الخرق. وميورقة على ضم الرجال مبنية ، وهي للبعيد والقريب أمنية ، فهي بالمقاتلة طافحة (١) ، ثم هي لكبش السماء مناطحة ، وليمين الثريا مصافحة (٢) ، وركوب البحر إليها ركوب الغرر ، وورودها مظنة لسوء الصدر ، والملك قد ركب رأسه ، ووعد بها نفسه ، وظنّ أنّها أخيذة لشرك (٣) شركه ، وأنّ بهذا المسلك تنتظم في سلكه.

فمن الرّأي أن نقوم الآن من مجلسنا ، وننهض إليه بأنفسنا ، ونأتي عنده في هذه العلة بقول شاف ، ونبين عليه ما نتخوفه وهو عليه خاف. ولقد كانت ميورقة فوق ما هالهم ، وأعظم مما راع علمه جهالهم ، وأعزّ من أن تطرد سرحها ذئابهم ، أو يطير إلى شهدها ذبابهم (٤). ولكن قدر سبق ، وقضاء من

__________________

(١) طفح الإناء والنهر يطفح طفحا وطفوحا : امتلأ وارتفع حتى يفيض. وطفحه طفحا وطفّحه تطفيحا وأطفحه : ملأه حتى ارتفع. ورأيته طافحا أي ممتلئا. والطافح : الممتلئ المرتفع. ومنه قيل للسكران : طافح أي أن الشراب قد ملأه حتى ارتفع. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٥٣٠.

(٢) كناية عن تخوف النصارى وتهيبهم من الحصانة الحربية والمناعة العسكرية لمدينة ميورقة ، وتحسبهم لقوة أهلها واستعدادهم الكبير وحماسهم القوي في الدفاع عن مدينتهم ومواجهة العدو.

(٣) الشّرك : حبائل الصائد وكذلك ما ينصب للطير. واحدته شركة وجمعها شرك ، وشرك الصائد : حبالته يرتبط فيها الصيد. لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

(٤) الشّهد والشّهد : العسل ما دام لم يعصر من شمعه. واحدته شهدة ، ويكسّر على الشهاد. وقيل : الشهد العسل ما كان. والذباب الأسود الذي يكون في البيوت ويسقط في الإناء والطعام. والذباب أيضا : النحل. وفي حديث عمر رضي الله عنه : " كتب إلى عامله بالطائف في خلايا العسل وحمايتها ، إن أدّى ما كان يؤدّيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له ، فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء". يريد بالذباب النحل وأضافه إلى الغيث على

٧٩

الخالق فيمن خلق ، ومدّة انقضت ، ومشيئة نقضت عرى تلك المدينة الحصينة فانتقضت.

فجاؤوه بالقصة مخاطبين ، ولهدي الهدون خاطبين ، وقالوا غزوك ميورقة طمع في غير مطمع ، وهذه بلاد الإسلام (١) منك بمرأى ومسمع ، وأيها غزوت أمكنك فيه عمل ، وتمّ لك منه أمل ، فراجع نظرك ، واقبل ممّن حضرك ، وإن أنت على رأينا عزمت ، وطلبت / ١٢ / عوضا من المال في الوجوه التي التزمت ، اجتمع من ذلك لك المال الجم ، وانصرفت به إلى غزو (٢) ما هو أقرب وأهم. فزجرهم عن هذا الرأي ، ونهاهم أن يتكلموا به أشدّ النهي ، ومضى على عزمه في الاستعداد الذي لم يفتر عنه ساعة ، ولا أخرج عن فرضيه العيني والجملي واحدا لا جماعة ، حتى استوفى النخبة من الرّجال والأجناد والزعماء ، وتمّ له ما أراد من جيش البرّ وعسكر الماء (٣).

__________________

ـ معنى أنّه يكون مع المطر حيث كان ، ولأنه يعيش بأكل ما ينبته الغيث. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٣٨٢ ، وج ٣ ، ص ٢٤٣.

(١) كتبت في المتن المسلمين ثم صححها الناسخ في الهامش.

(٢) نسي الناسخ كتابة هذه الكلمة في المتن فاستدركها في الهامش.

(٣) طباق الإيجاب بين" البرّ والماء".

٨٠