تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

منه مطلّقة (١) ، ومراجعتها بشرط أخذ الجزيرة معلّقة ، وأنّه إن تمكن من برّها فلا يفارقه حتى يملكها ، أو تصادف نفسه دون ذلك مهلكها ، فلما بلوا ما عنده ، ووعوا أليّته وعهده ، اتفقوا على إسعاده ، وتعاهدوا على ترك مرادّته ومراده ، وبقوا على البحر يرتقبون إجازته ، وينتظرون أن يقطعوا بركائب المراكب مفازته.

__________________

(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلّف الرّاحة بالمرأة التي يقع عليها الطلاق الرّجعي.

١٠١

عاد الحديث عن إطلالهم على البر وإطلاقهم أعنة الشر

/ ٢٥ / ولمّا طاب البحر للمسافر ، واغتنم الكابر الحرد سجاحة الكافر ، فركب بجمعه ، ولجّ حتى لجّج في قطعه ، وحين أتم العبور ، وقصد بنزوله المرسى المذكور ، أخرج الوالي جماعة تسدّ تلك المسالك ، وتمنعهم النزول هنالك ، فباتوا على المرسى في الرّجل والخيل ، وأجفان الرّوم سطور تمنع قراءة سوادها سواد الليل.

وبات المقدّمون على الجماعة وهم من قوم الوالي يتجارون المنكر ، ويتهادون المسكر (١) ، وهم بالمعاقرة (٢) عارفون ، وللمقارعة عائفون ، وقال لهم الناس إنّ هاهنا مرسى آخر (٣) ، ولا نأمن أن يقصده الرّوم فعزمهم ساهر ، والليل لهم ساتر ، وإن جاؤوه ولا حامي له نزلوا بساحته ، وحصلوا على استباحته ، والرأي أن تكون هنالك جماعة تذكي العيون وتمنع هذا المتوقع أن يكون ، فزجرهم أولئك المقدمون ، وقالوا كيف تنصحون وأنتم المتهمون (٤).

فلما جن الليل على النصارى ذهبوا كما قدّر ، وتأتى لهم النزول حيث ذكر ، فنزل منهم تلك الليلة بذلك المرسى خمسمائة فارس وعشرة آلاف راجل ، فأصبحوا هنالك في الثامن عشر من شوال ، وهو يوم الاثنين ، وسار إليهم الجمع ولا رغبة / ٢٦ / لهم في إحدى الحسنيين ، فحين رأوهم

__________________

(١) جناس ناقص بين" المنكر والمسكر".

(٢) العقار : الخمر ، سميت بذلك لأنها عاقرت العقل أي لزمته. يقال : عاقره إذا لازمه وداوم عليه.

والمعاقرة : إدمان شرب الخمر. فلان يعاقر النبيذ أي يداومه ، وأصله من عقر الحوض ، وهو أصله والموضع الذي تقوم فيه الشاربة ، لأن شاربها يلازمها ملازمة الإبل الواردة عقر الحوض حتى تروى. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٥٩٨.

(٣) هو مرسى شنت بوصة (سانتا بونزا) الذي سبق التعريف به ، وسيشهد أول صدام مسلح بين مسلمي الجزيرة والنصارى الغزاة.

(٤) جناس ناقص بين" المقدمون والمتهمون".

١٠٢

تهيّأوا وحاموا ، ثم تهيبوا وخاموا (١) ، فاندفعوا أمامهم ، وقصّروا فركب الرّوم (٢) قصرهم وهامهم ، واتبعوهم أميالا ، وأخذوا لهم خيلا وقتلوا منهم رجالا. وكانت هذه الهزيمة أول البلايا (٣) ، وفاتحة الرّزايا ، وعنوان الشرّ النازل ، وابتداء المرض القاتل ، وخلا للرّوم وجه الساحل فتوافوا عنده ، ونزلت بقيّتهم بقية ذلك اليوم وليلة الثلاثاء بعده (٤).

__________________

(١) خام عنه يخيم خيما وخيمانا وخيوما وخياما وخيمومة : نكص وجبن. وخاموا في الحرب : لم يظفروا بخير وضعفوا. والخائم : الجبان. وخام عن القتال يخيم خيما وخام فيه : جبن عنه. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ١٩٤.

(٢) مجاز مرسل لأن الروم لا تركب ، وإنما جنودها هم الذين يركبون.

(٣) كان هذا أول صدام مسلح بين مسلمي ميورقة ونصارى أرغون في معركة شنت بوصة ، وقد حضرها من الجانب الصليبي كبار القواد وعلى رأسهم نونيو سانشيز كونت (أمير) روسيون ، والأخوان رامون وجلين دي مونكادا ، وبرنارد دي شامبانس قائد فرسان المعبد وغيرهم. ونسجل هنا الفرق بين ما ذهب إليه ابن عميرة من أن المسلمين انهزموا وتراجعوا دون مقاومة ، وبين الرواية المسيحية القائلة بأن انسحاب القوات الإسلامية جاء بعد أن أوقعت خسارة فادحة في صفوف القوات الغازية.

Ferderick Chamberlin. The Balearics and their peoples. P ٦١ ـ ٩١.

(٤) كان تعداد القوات النصرانية التي خاضت معركة شنت بوصة حسب رواية ابن عميرة خمسمائة فارس وعشرة آلاف راجل ، وهو ما يقارب ثلث القوات الغازية مجتمعة. وبانسحاب المسلمين من المعركة المذكورة تجمعت كل القوات النصرانية على طول الساحل الممتد من شنت بوصة إلى مدينة ميورقة ، وقوامها ألف وخمسمائة فارس ، وعشرين ألفا من المشاة ، وستة عشر ألفا من البحارة يتقدمهم الملك خايمي الأول استعدادا لخوض المعركة الكبرى.

١٠٣

حديث الوقعة الكبرى

وعندما انتهى إلى البلد ذلك الفل (١) ، واستقر بجمع الروم ذلك المحل ، عزم الوالي على النهوض لقتاله ، وحشر من غاب وحضر من فرسانه ورجاله ، وخرج وحاله عن المآل تترجم ، وأمره يقضي بنحسه من لا ينجّم. فرغب الناس منه أن يتأنى قليلا ، ويجعل بين البلد وبينه ميلا ، ويتربص بالرّعية نزول نازلها ، وتفرّغ حالبها وناقلها ، وتأتّي الاستظهار بفارسها وراجلها. فتصلب في مناجزة أهل الصليب ، ومشى على غير نظام ولا ترتيب ، ومعه من الفرسان ألفان إلّا مائتين ، قليلون بالمعنى كثيرون (٢) في العين ، فأمّا الرّجالة فكانوا عشرين ألفا ، أكثرهم ما شهد زحفا ، ولا حضر من مصاف القتال صفا.

وبات بهم ليلة الثلاثاء في منزل نزله ، / ٢٧ / وقد ولّى من حاكم الاستبداد ما عزّه ثم عزله ، وركب إثر صلاة الصبح ، وعارضه لا تبدو منه مخيلة النجح (٣) ، فكان دأبه في مشيه أن ينادي قومه المرّة بعد المرّة ، ويستطعم ما عندهم ليوم الكريهة المرّة (٤) ، وإذا لقوا العدو فكيف يجالدون ، وبأي عزم يجاهدون (٥) ، فيجيبونه بأنهم يثبون إليهم ويثبتون لمثليهم ، ويشربون كل جنان حب الحفاظ ، ويشرعون كل سنان إلى تلك الأفئدة الغلاظ ، حتى دنا من عسكر الرّوم ، ومعه ألف الغيران وقفا المهزوم.

__________________

(١) الفلّ : المنهزمون. وفلّ القوم يفلّهم فلّا : هزمهم فانفلّوا وتفلّلوا. وهم قوم فلّ : منهزمون ، والجمع فلول وفلّال. والفلّى : الكتيبة المنهزمة. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٥٣١.

(٢) طباق الإيجاب بين" قليلون وكثيرون".

(٣) النجح والنجاح : الظفر بالشيء. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٦١١.

(٤) كناية عن موصوف وهو يوم الحرب.

(٥) جناس ناقص بين" يجالدون ويجاهدون".

١٠٤

وهنالك جاءه فارس أخبره أن جمع العدو فرق ففرّ ، وذعر فابذعرّ (١) ، فالتفت إلى قومه وقد ساءه انهزام الرّوم بغيرهم ، وذمرهم على التباطؤ في سيرهم ، فتبادروا لتنسب إليهم الهزيمة ، وتكون لهم الغنيمة. وكانت هنالك عقبة عرض عليه الناس أن يقف على رأسها ، ويبني أمر الحرب على أسّها ، فأبى إلّا النزول للنزال ، والهجوم على الليوث في الأغيال (٢) ، واعتمد من سعد يومه ما كان حبلهم المبرم ، وجيشهم العرمرم. ثم إنّه استوقف العسكر ، ونزل فلبس الدّرع والمغفر ، وتقلّد الأبيض (٣) واعتقل الأسمر ، وركب بين الرّجالة ، ومعه صورة الجزالة ، وظهرت للرّوم طلائع أصاب المسلمون فيهم فرصة ، وحاصوا أمامهم فاقتطعوا منهم حصة.

وبرز صاحب طرطوشة وكان قد احتفل لهذه الغزوة ، واستظهر بالعدّة / ٢٨ / والقوة ، وسرّح بكل مارد (٤) مازج ، وسبح في بحر من الحديد مائج. ويزعم النصارى أنّه كان قد أنذر قبل دخول الجزيرة بأنه يموت في وقعتها ، ثم يكون استيلاؤهم على بقعتها ، فحمل بجماعته ، وشد بالعصاة من

__________________

(١) ابذعرّ الناس : تفرقوا. وفي حديث عائشة : ابذعرّ النفاق أي تفرّق وتبدّد. وابذعرّت الخيل وابثعرّت إذا ركضت تبادر شيئا تطلبه. قال زفر بن الحرث :

فلا أفلحت قيس ولا عزّ ناصر

لها بعد يوم المرج حين ابذعرّت

لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٥١.

(٢) مفردها غيل. وهو الشجر الكثيف الملتف الذي ليس بشوك. يقول الشاعر :

أسد أضبط يمشي

بين طرفاء وغيل

والغيل جماعة القصب والحلفاء. والغيل : الأجمة ، وموضع الأسد غيل. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٥١٢.

(٣) يريد السيف.

(٤) المارد : العاتي. مرد على الأمر يمرد مرودا : أقبل وعتا. وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه ذلك الصنف. المارد من الرجال : العاتي الشديد ، وأصله من مردة الجن والشياطين. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٠٠.

١٠٥

أهل طاعته (١) ، فسلّوا السّيوف واستسهلوا الحتوف ، وأبصر الذين شقوا موقف الوالي فشقّوا إليه الصفوف ، وأفرج المسلمون لهم حتى توسطوهم ، ثم ضربوهم بالسيوف حتى فرشوهم على الأرض وبسطوهم (٢). وحمل جماعة من الرعية على ما يليهم من الصف فقرعوا نبعه ، وفرعوا هضبه ، وخسفوا وثيق البنيان ، وكشفوا فريق الصّلبان.

وبينا بحر الحرب يعبّ ، وريح النصر تكاد تهبّ ، جاء الوالي أحد قومه وقال إن الرّوم قد احتدم ثأرهم ، وزخر تيّارهم ، وقد حدّقوا زرق الأسل ، وحلفوا لأخذ هذا الجبل ، وإن ملكوه سفلنا بصعودهم ، وصرنا نقدا لأسودهم ، فتوقّهم بتوقّله (٣) ، وخذ أعلاه وتخلّ عن أسفله (٤). فراطن قومه أن يستتروا بجنّته (٥) ، ويتقوا وقع القنا بقنّته (٦) ، فأجفلوا إليه كالظلمان (٧) ، وأرادوا الاعتصام به من ذلك الطوفان (٨) ، فانتقضت تلك العزيمة ، وحسب الناس أنها الهزيمة ، فولّوا الدّبر ، وعظم الخطب وكبر ، وكلّ من صعد الجبل لم يمكث

__________________

(١) كناية عن أخذ العزيمة من أهل طاعته الذين لهم الثقة والإخلاص.

(٢) كناية عن انتصار الميورقيين على الكفار وقتل الكثير منهم.

(٣) التوقل : وقل يقل وقلا ووقولا ، وتوقل توقلا في الجبل أي صعّد فيه. والواقل : الصاعد بين حزونة الجبال ، وكل صاعد في شيء متوقل. والتوقل هو الصعود. وفي المثل : أوقل من غفر ، وهو والد الأروية أنثى الوعول. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٧٣٣.

(٤) طباق الإيجاب بين" أعلاه وأسفله".

(٥) الجنّة ، بالضم : ما واراك من السلاح واستترت به منه. والجنة : السترة ، والجمع الجنن. يقال استجن بجنته أي استتر بسترته ، وقيل : كل مستور جنين. والجنة : الدرع ، وكل ما وقاك جنة.

لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٩٤.

(٦) القنة ، بالضم : الجبل الصغير ، وقيل الجبل السهل المستوي المنبسط على الأرض ، وقيل هو الجبل المنفرد المستطيل في السماء. وقنة كل شيء أعلاه مثل القلة. وقنة الجبل وقلته : أعلاه ، والجمع القنن والقلل. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٣٤٨.

(٧) تشبيه تمثيلي حيث شبّه المؤلف قوم الوالي بالظلمان والأداة هي الكاف.

(٨) استعارة مكنية فيها تشبيه لجيش النصارى بالطوفان في قوتهم وجبروتهم.

١٠٦

فيه فواقا ، وانحط عنه فرارا وأزمع له فراقا.

وكان الرّوم قد اتبعوا منهزمتهم / ٢٩ / ليردّوهم ، وأرادوا أن يقطعوهم عن الطريق للهرب ويصدّوهم ، فخلأ الفريقان المعترك ، وهرب الذي هرب وما رهب الدّرك ، ثم إن الرّوم تراجعوا فوجد واردهم المحلأ محلّا ، وأصابوا الجو خاليا والسّلاح مخلّا ، واتبعوا المسلمين على طريق المدينة وهم عنها عائجون (١) ، وإلى الفتن عارجون (٢) ، فلذلك قلّت في هذا الزحف قتلاهم ، وتلاحق في النجاة آخرهم بأولاهم (٣). ولم ينجح منهم أحد إلّا أعزل أكشف ، ولا كان فيهم من أبقى بيده ولا على جسده الدّرع ولا المرهف ، فاحتوى الرّوم على كل ما طرحوا ، وجالوا بقية يومهم هنالك وسرحوا ، ثم ظهروا بالعدة والعدد ، وأقبلوا لحصار البلد.

__________________

(١) عاج بالمكان وعليه عوجا وعوّج وتعوّج : عطف. وعجت بالمكان أعوج أي أقمت به. وفي حديث إسماعيل عليه السلام : هل أنتم عائجون؟ أي مقيمون. يقال عاج بالمكان وعوّج أي أقام. وقيل عاج به أي عطف عليه ومال وألمّ به ومرّ عليه. وفي حديث أبي ذر : ثم عاج رأسه إلى المرأة فأمرها بطعام أي أماله إليها والتف نحوها. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٣٣.

(٢) جناس ناقص بين" عائجون وعارجون".

(٣) طباق الإيجاب بين" آخرهم وأولاهم".

١٠٧

قصّة الحصار وما حفظ فيه من الأخبار

وارتحل النصارى إلى المدينة ، ونزلوا منها على الحريبة (١) الحزينة ، وأحاطوا بها في الكثر والقل (٢) ، ونزلوا عليها من جهة باب الكحل (٣) ، فضربوا الأخبية وضمّوها ، وأكملوا أهبة النّزل وأتمّوها ، ورتبوا فرسانهم ورجّالتهم ، وأقبلوا بالسفن فجعلوها في البحر قبالتهم ، فملأت ذلك المهرق (٤) سطورها ، وأرخيت على وجه الماء ستورها. وكان الشتاء عن نابه قد كشّر (٥) ، والفصل لملاء غيمه قد نشر ، والوقت مظنّة / ٣٠ / ارتجاج البحر العجاج ، وإقبال أفواج

__________________

(١) الحرب : أن يسلب الرجل ماله. حربه يحربه إذا أخذ ماله ، فهو محروب وحريب. وحريبته : ماله الذي يسلب منه. وقيل : حريبة الرّجل : ماله الذي يعيش به. والجمع حرائب. وفي حديث بدر ، قال المشركون أخرجوا إلي حرائبكم. وفي حديث المغيرة : طلاقها حريبة ، أي له منها أولاد ، إذا طلقها حربوا وفجعوا بها ، فكأنهم قد سلبوا ونهبوا. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٣٠٤. وقد جاءت هذه العبارة في النص الذي نقله المقري في النفح على النحو التالي : " الحربية الحزنية" ، وهو تصحيف زاد العبارة غموضا ، وقد استشكلت على شكيب أرسلان فأخطأ في التعليق عليها ، الحلل السندسية ، ج ٢ ، ص ٢٤٦ ، الهامش رقم ١.

(٢) طباق الإيجاب بين" الكثر والقل".

(٣) باب الكحل : أحد أبواب مدينة ميورقة وكان يقع في الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة ، ومنه كان اقتحامها بعد الحصار من طرف الغزاة. وسمي فيما بعد باسم باب المهاجم ثم الباب المدهون وفي نهاية القرن ١٩ م أطلق عليه اسم باب الركن. هذا وقد كان لسور مدينة ميورقة في نهاية عهدها الإسلامي ثمانية أبواب وهي : باب الكحل ، باب البلياط ، باب الشراجب ، باب الغدر (جمع غدير) ، الباب الجديد ، باب المدى ، باب البلد ، الباب الغربي. ألبارو كامبانير ، تخطيط تاريخ للحكم الإسلامي في جزر البليار. ص ١٨٧.

(٤) المهرق : الصحيفة البيضاء يكتب فيها ، والجمع المهارق ، وهي كلمة فارسية معربة. وقيل : المهرق ثوب حرير أبيض يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه. قال حسان :

كم للمنازل من شهر وأحوال

لآل أسماء مثل المهرق البالي

والمهرق : الصحراء الملساء تشبيها لها بالصحيفة. لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ٣٦٨.

(٥) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الشتاء بالحيوان المفترس كالأسد والذئب وغيرهما ، وقد حذف المشبّه به وترك أحد لوازمه يدل عليه وهو الناب.

١٠٨

الأمواج ، فما لعبت أيدي الرّياح بتلك الرخاخ ، ولا لغبت تلك النعم المعقلة في ذلك المناخ.

ثم إن الرّوم أقاموا المجانيق ، وأحكموا بناءها الوثيق ، وصنعوا منها ثلاثة قائمة في الهواء ، قاصمة بالدّاهية الدّهياء (١) ، مظهرة قطع الجبال طيرا مسخرات في جو السّماء ، ترمي فوق العشرين ربعا ، وتملأ القلوب رعبا ، وكان رميها داخل البلد فأخليت جهة وقع حجارتها ، وتنحّى المزور عن طريق زيارتها ، وعدلوا عنها إلى أقل حجما ، وأقتل رجما ، وأمطر سحابة (٢) ، وأكثر إصابة.

فكملت في الأيام القريبة ، ومني البلد منها بالأيام العصيبة ، والرّزايا المصيبة ، وكان رماتها أخذوا قراءة الرّماية عن القارة ، ورموا منها عن القسي الصقارة ، فاستعملت في تركيب السّور طريق التحليل ، وجاءت بما لا قبل به من الخطب الجليل ، وتمكّن الدّاء من ذلك الجسم المعتل ، واشتكى البناء من الحجر المنهد بالحجر المنهل ، وعزائم المسلمين في القتال ثبتت وما انثنت ، وقوتهم ما وهت ولا وهنت.

وكانت لهم على باب الكحل قنطرة يخرجون عليها إلى العدو ، ويمنعونه من التبسط والدنو ، فرأوا هدمها مكيدة ، وحسبوا زوالها منفعة عتيدة ،

__________________

(١) الداهية الدهياء : من شدائد الدهر وعظائم نوائبه التي تصيب الناس. قال الشاعر :

أخو محافظة إذا نزلت به

دهياء داهية من الأزم

لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٢٧٥.

(٢) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الحجارة الصغيرة التي كانت ترميها المجانيق بالسحابة التي تمطر ماء.

١٠٩

واتفقوا على تعطيل تلك المسلحة (١) ، وغفلوا عمّا كان فيها من المصلحة. فإنهم لما هدموها تعذّر / ٣١ / عليهم الخروج ، وأحاط بهم العلوج (٢) ، وخلا لهم ذلك السبيل فسلكوه ، وأخذوا البناء الذي كان بطرف القنطرة فملكوه.

ولمّا رأوا أنّ ضرب المجانيق وإن هتم (٣) وهتك (٤) ، وفتّ وفتك ، وأنهب أكثر مما ترك ، لا يوصل صلالهم (٥) إلى الوخز ، ولا يمكّن لصوصهم من فك الحرز ، دلفوا إلى البلد بركب الكرب ، وتركوا ظاهر السّور للمرسى وطلبوا باطنه بالنقب ، فحفزوا وحفروا ، وتوافوا على الجدّ وتوفروا ، وأجنّت منهم أطياف الثرى أشباه الجنّة ، وسكنوا بطون التراب أمثال الأجنة ، من كل ضب كضب في مغارته ، وشانئ شانّ تحت الأرض لغارته ، منجحر كالصّلّ في الصرّ ، مستكن في صدر الثرى كالسر ، سار في تلك الظلمات ، ساكن وهو من الأحياء منازل الأموات.

وكان خندق البلد قد أحكم خرقه ، وعظمت سعته وعمقه ، فقدّروا

__________________

(١) يريد القنطرة التي كانت بمثابة ثغر ومرقب يرقب منها المسلمون عدوّهم ويمنعونه من أن يطرقهم على غفلة.

(٢) العلوج ، والمفرد علج والأنثى علجة : وهو الرجل القوي الضخم من كفار العجم. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٢٦.

(٣) الهتم : هتم فاه يهتمه هتما : ألقى مقدّم أسنانه. وهو انكسار الثنايا من أصولها وقيل من أطرافها ، وأهتمته إهتماما إذا كسرت أسنانه. قال جرير :

إن الأراقم لن ينال قديمها

كلب عوى متهتّم الأسنان

الهتامة : ما تكسّر من الشيء. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٦٠٠.

(٤) جناس ناقص بين" هتم وهتك".

(٥) الصّلال ، والمفرد صلّ : وهي الحية التي تقتل إذا نهشت من ساعتها ، ولا تنفع فيها الرقية. ويقال للرجل الداهي المنكر في الخصومة : صلّ أصلال أي حية من الحيّات. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٣٨٥.

١١٠

أنّهم قد نزلوا تحته ، وأخذوا إلى جهة البلد يؤمّون سمته (١) ، فأخطأوا طريق ذلك المغلق ، وأفضى بهم النقب إلى جانب الخندق ، فانبجست به ينابيعهم ، وخنست منه يرابيعهم ، وحينئذ مالوا إلى السّفل بالحفر ، وهوى في تلك الهاوية من كان هنالك من شرذمة الكفر (٢).

__________________

(١) السّمت : الطريق. وسمت الطريق : قصده ، والسّمت : السّير على الطريق بالظن ، وقيل : هو السير بالحدس والظن على غير طريق. قال أعرابي :

سوف تجوبين بغير نعت

تعسّفا أو هكذا بالسّمت

يريد السير على غير علم ولا أثر. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٤٦.

(٢) إن رواية ابن عميرة عن حفر الخنادق العميقة حول المدينة قد أكدتها الرواية المسيحية نفسها ، إذ أشرف الملك خايمي بنفسه على حفر خندق جوفي أمام باب الكحل شمال شرقي السور. كما أشرف الكونت أمبورياس على حفر خندق آخر في الجانب الغربي من السور على مقربة من الباب الغربي (بورتوبي). وكان الهدف من حفر الخنادق هو الوصول إلى المياه الجوفية ومحاولة تدمير أسس الأسوار من أجل الدخول إلى الميدان الرّئيسي للمدينة ولكن المحاولة باءت بالفشل. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ص ٦٥ ـ ٦٨.

قد أكثر المؤلف في كلامه عن حفر الخنادق من التشبيهات التي شبه فيها النصارى وهم يحفرون بالضب والحيّة واليربوع وغيرها.

١١١

حديث اجتماع أهل البادية لإصراخ

الحاضرة ومناجزة فئة الكفر الحاصرة

/ ٣٢ / وثابت إلى الرعية سكينتهم ، وأنفوا من أن تحصر مدينتهم ، وقالوا أنسلمها للعدو ولنا القوة والجلد ، وفينا العدّة والعدد؟ ولو قرعناه لقلعناه (١) ، ومتى أردناه طردناه ، وجمعوا وحشروا ، وطووا ونشروا ، وانظموا والتأموا ، وتلبّبوا واستلأموا (٢) ، وأرسلوا إلى الوالي أن ابعث لنا رجلا نكون طوعه ، ونأمن من روعه ، فندب لهم من قومه مشهورا بسوء البخت (٣) ، مشهودا له عند البحث بالجبن البحت (٤).

فلمّا دنا بهم من عسكر الرّوم هاج به الخور (٥) ، وهاله قبل الخبر الخبر (٦) ، وفرّ عن القصد المروم بالقلب المروع ، وفرّق تلك الجموع بفرقه المجموع. وهذا الشخص هو الذي أشار على الوالي يوم الوقعة الكبرى

__________________

(١) جناس ناقص بين" قرعناه وقلعناه".

(٢) من اللأمة وهي الدّرع وتطلق على السلاح أيضا. وقد استلأم الرجل إذا لبس ما عنده من عدّة رمح وبيضة ومغفر وسيف ونبل. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٥٣٢.

(٣) البخت : كلمة فارسية تكلّمت بها العرب ومعناها الجدّ والحظوة والحظ والرّزق. يقال فلان ذو جدّ في كذا أي ذو حظ. قال صلى الله عليه وسلم : " قمت على باب الجنّة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجدّ محبوسون" ، أي ذو الحظ والغنى في الدنيا. ورجل بخيت : ذو جدّ. والمبخوت : المجدود. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٩ ، وج ٣ ، ص ١٠٧.

(٤) جناس ناقص بين" البخت والبحت".

(٥) الخور : الضعف. وخار الرجل يخور خؤورا وخور خورا وخوّر : ضعف وانكسر. ورجل خوّار : ضعيف. وكل ما ضعف فقد خار. والخوّار : الضعيف الذي لا بقاء له على الشدة. وفي حديث عمر : " لن تخور قوى ما دام صاحبها ينزع وينزو" ، أي لن يضعف صاحب قوة يقدر أن ينزع في قوسه ويثب إلى دابته. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٦٢.

(٦) الخبر ، بالفتح : ما أتاك من نبأ عمن تستخبر وهو جمع أخبار. والخبر ، بالضم : هو العلم بالشيء أيضا. يقال : لأخبرن خبرك أي لأعلمن علمك. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٢٧.

١١٢

بالإسناد في الجبل ، والاستبداد بذلك العمل ، وكان ذلك سبب الكسرة الخاصة بالبلد ، الحاصّة (١) أجنحة المدد ، وبقيت الرّعية على نصرة البلد حراصًا ، ورجت أن تجد له من أسر الحصر خلاصا.

فأعادت على الوالي رغبتها تلك ، واقترحت من بنيه من ينظم ذلك السلك ، فأبى غير ذلك المشؤوم ، وأخرجه ثانية لمناجزة الرّوم ، فلما رأوه تشاءموا بوجهه ، وهمّوا بنجهه (٢). وطلبوا من الوالي غيره فما أسعفهم ، وأعادوا الرّغبة عليهم فعنّفهم ، ولمّا برز بهم / ٣٣ / هذا القائد الواهي ركنه ، المجرّب شؤمه وجبنه ، مشى بأنكد جدّ ، وأنكل حد (٣) ، ودنا من العسكر في العدد الأكثر ، والجمع الأوفر ، ونذر بهم الرّوم فركبوا تلقاءهم ، وقصدوا لقاءهم.

فلمّا أطلّوا من بعيد ولّاهم قفاه ، وأطاع مصرّفيه الجبن والشؤم فما استوقفاه ، وفرّ قبل لف الخيل بالخيل (٤) ، وجرّ على المسلمين ذيل الويل ، فإنهم بفراره انتقضت عراهم ، وأعداهم ما عراه من الوهل (٥) فعراهم ، واتبعهم النصارى فقتلوا منهم مقتلة كبيرة ، وأمطروا عليهم من البلاء سحبًا غزيرة (٦).

__________________

(١) الحاصّة : هي العلة التي تحصّ الشعر وتذهبه. والحصّ : حلق الشعر ، حصّه يحصّه حصا. وقيل : هو إذهاب الشعر عن الرأس بحلق أو مرض. ويقال : طائر أحص الجناح ، أي منتوف الجناح. وتحصّص الحمار والبعير سقط شعره ، والحصيص اسم ذلك الشعر. والحصيصة ما جمع مما حلق أو نتف. لسان العرب ، ج ٧ ، ص ١٤.

(٢) جناس ناقص بين" وجهه ونجهه".

(٣) جناس ناقص بين" جدّ وحدّ".

(٤) كناية عن الحرب ولقاء العدو.

(٥) الوهل : الفزع. وهل وهلا : ضعف وفزع وجبن ، وهو وهل ، ووهّله : أفزعه. ووهل يوهل فهو وهل ومستوهل. ووهلت إليه إذا فزعت إليه ، ووهلت منه إذا فزعت منه. والوهلة : الفزعة. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٧٣٤

(٦) استعارة مكنية فيها تشبيه للبلاء النازل على أهل البادية بالأمطار الغزيرة.

١١٣

ذكر ابن عبّاد ومصيره إلى ارتداء الخزي بالارتداد

هذا الرجل (١) كانت له في الجزيرة نباهة ، وعند رعيتها وجاهة ، وما عرفت منه سفاهة ولا جربت عليه إلّا مروءة ونزاهة ، إلى أن برئ منه القرآن (٢) ، وانسلخ من آياته فأتبعه الشيطان (٣) ، وخرج إلى الروم مرتدّا وادّعى أن يرهب لهم حدّا ، ودعا للرحمن من الولد ما تكاد تخر له الجبال هدّا (٤) ، وطلب منهم إمارة البلد ، والتزم إسلامه إليهم في أقرب المدد.

فتلقوا بالقبول ردته وإرادته ، وعاونوه على الشقاوة التي محقت سعادته ، فطلب منهم للناس عهودا بالأمان ، وكتبا بالإحسان ، وصدّر كل كتاب / ٣٤ / ببسملة ، وأودعها ما يليق بكل شخص من مسألة ، وخرج بها وقلبه على جرمه جريء ، والله من عمله بريء ، وجاء حيث جال بالتلابيس الإبليسية ، ودعا الناس بالدعاية المسيحية ، وأعدى القلوب مرضا فأزالها عن الهيئة الصحية ، وأقبل بالكتب إلى تلك الكثب فانهالت وانهال عارض شره

__________________

(١) تدعوه المصادر القطلانيةBenahabet ، وتذكر أنه كان عاملا على بلانسة أحد الأقاليم الخمسة عشر التي تتكون منها ميورقة الإسلامية. وقد ارتد عن دينه ودخل في خدمة الملك المسيحي خايمي الأول وطلب منه راية وشارة حتى لا يعترضه الجنود المسيحيون ، فاستجاب الملك لطلبه ، وأرسل معه ضابطين للتأكد من صدق ولائه. وقد ظل هذا الخائن يعمل لصالح النصارى حتى سقطت جزيرة ميورقة في أيديهم. وقد سكتت تلك المصادر عن مصير ابن عباد ، ولكنها تحدثت عن حفيدته ليونور ابنة ناصر التي ورثت عن جدّها بلدة الخابية في جزيرة ميورقة وتزوجت من أحد نبلاء قطلونية. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ص ٧٠ ـ ٧١.

(٢) كناية عن ردّة ابن عبّاد عن الإسلام.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ"). سورة الأعراف ، الآية ١٧٥.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (" وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا"). سورة مريم ، الآيات : ٨٨ ـ ٨٩ ـ ٩٠.

١١٤

على تلك الأودية ، فسالت وحقق ما كان فيها من الأمل ، واستفزّ باسم الله فيها من سبق له الشقاء في الأزل ، وقالوا ليس بين الدّينين تضاد ، والمسيء من نصادفه وهو عن القبول صاد.

فصالحوا الروم على أداء ما كان يلزمهم ، وأمضوا من هذا الرأي ما اتفق عليه أعجزهم وأحزمهم ، وفتنوهم بما أظهروا لهم من كرامة يستحل قبولها الضعاف ، ويستحلى طعمها وهو السمّ الزعاف ، وهذا أعظم بلاء رمي به الناس ، وحق به البأس. فإن هؤلاء أعانوا النصارى بالأقوات والعلف ، ورفعوا عنهم ما كان أزعجهم وأعجزهم من الكلف ، واتخذوا منهم رجالا أنسوا منهم الإقبال ، فناطوا بهم الآمال ، وجلبوا لهم ألطافا ، وهزوا منهم أعطافا ، فاطمأنت بهم الدّار ، وتمكن لهم الحصار. ولو لا أنهم هادوهم وهادنوهم ، وسكنوا إليهم وساكنوهم ، وأمروهم فأطاعوا ، وماروهم بما استطاعوا ، لانفضوا بسبب الإنفاض من الميرة (١) ، وكان إعسارهم بالنفقة موجبا مفارقة الجزيرة (٢).

__________________

(١) الميرة : الطعام يمتاره الإنسان ، وهي جلب الطعام للبيع. وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا. وقد مار عياله وأهله يميرهم ميرا وامتار لهم. والميّار : جالب الميرة. ويقال للرّفقة التي تنهض من البادية إلى القرى لتمتار : ميّارة. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٨٨.

(٢) تذكر الرواية المسيحية أن ابن عباد حين ارتد ودخل في خدمة الملك خايمي الأول ، قدم للمعسكر الصليبي عشرين فرسا محملة بالحبوب ولحوم الجديان والدجاج والعنب ، وقد حفظت هذه الميرة في أكياس. وظل ابن عباد رفقة من تنصر معه من أهل البادية يزودون المعسكر المسيحي بالمؤن والأغذية طوال فترة الحصار. فكانت هذه الخيانة من أسباب ضياع الجزيرة. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ص ٧٠ ـ ٧١.

١١٥

نظر أهل البلد في بعث النذر لتلافي هذا الأمر النّكر

/ ٣٥ / ولما انتهى إليهم من تلك الموافقة غير الموافق ، وعلموا ما تجلبه الرعية إلى النصارى من الأقوات والمرافق ، أحسوا بالعذاب الواقع (١) ، ويئسوا من الدّواء النافع لهذا السّم الناقع (٢) ، وقالوا الآن علمنا أن الإسلام مخذول وأن البلد مدخول (٣) ، وكيف البقاء ومنا الدّاء ، وبجيرتنا اجترأ علينا الأعداء ، ثم أداروا الرّأي في هذا الخطب الذي يتدارس ذكره ، كيف يتدارك أمره؟

فرأوا أن يبعثوا إلى الرعية جماعة من وجوههم (٤) تسمعهم الملام ، وتنشدهم الله والإسلام ، وتعظهم وطاغيتهم (٥) الجامح في طلق الغواية ، الطامح إلى الرئاسة القاتلة بالسّراية ، فخرجت الجماعة المندوبة ، وأملها أن تصفو الحالة المشوبة ، وتسكن النار المشبوبة (٦) ، فلقوا في طريقهم من استطلعوه الخبر ، واستملوا منه ممالأة من آمن لمن كفر ، فقال لهم إنكم منذ

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الطور : ("إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ"). الآيتان ٧ و ٨. وفي سورة المعارج : ("سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ") الآيتان ١ و ٢.

(٢) جناس ناقص بين "النافع والناقع".

(٣) الدّخل : ما داخل الإنسان من فساد في عقل أو جسم ، وقد دخل دخلا ودخل دخلا فهو مدخول أي في عقله دخل. والدّخل : العيب والغش والفساد. وداء دخيل : داخل ، وكذلك حبّ دخيل. وقوله تعالى : ("تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ"). أي لا تتخذوا أيمانكم غشا بينكم وغلّا وخديعة ومكرا. والمدخول : المهزول والدّاخل في جوفه الهزال. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٢٤١.

(٤) كناية عن موصوف ، وهم الرجال الأعيان الذين لهم صيت ونفوذ وكلمة مسموعة.

(٥) يريد ابن عباد السابق الذكر.

(٦) شبّ النار والحرب : أوقدها ، يشبّها شبّا وشبوبا. وشبّت النّار تشبّ شبّا وشبوبا فهي مشبوبة أي مشتعلة. وشبّة النار : اشتعالها. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٤٨١.

١١٦

برّزتم من السّور ففي أرض الحرب (١) أنتم سائرون ، ولأولياء أهله أنتم مسافرون ، فهالهم ما سمعوا ، ويئسوا ممّا فيه طمعوا ، وهمّوا بالانصراف ، وقالوا لا تلافي لما سبق القدر أن يكون سبب التلاف.

ثم إنهم قالوا أردنا أمرا ، ولا بدّ أن نبلي فيه عذرا ، ونبلو منه وفاء أو غدرا (٢) ، ومشوا بتلك النية ، وانتهوا إلى / ٣٦ / مجتمع الرّعية فتلقّوهم بأريحية ، وحيّوهم أحسن تحية ، وقالوا لقد جئتمونا في وقت الحاجة ، وقد أنضجنا من الرأي ما لا ينسب إلى الفجاجة (٣) ، وأردناكم لمباشرته فدعونا من اللّجاجة (٤) ، إنّا صالحنا الرّوم على شروط ، ولا بد معهم من عقد مربوط ، ونريد أن تحضروا معنا الصّلح ، ليكون عقده أوثق وأصح ، فقال القوم لهم معشر المسلمين لا تشكوا بعد يقينكم ، واتقوا الله في مدينتكم ودينكم ، أتخذلون إخوانكم وتولّون عنهم؟ وتتولّون الكافرين ومن يتولّهم فإنّه منهم (٥) ، فكيف ترضون بهذه القطيعة الفظيعة ، أولا ترون ما يؤول الأمر إليه من الخطوب الشنيعة ، فقالوا لا بد من مشيكم معنا مكرمين إن أطعتم ، أو مكرهين إن تمنعتم (٦).

ثم حملوهم مستحلّين لظلمهم ، وقالوا للملك هؤلاء في حكمك

__________________

(١) ويقال دار الحرب ويراد بها بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين. وهو يقصد أن أهل البادية في الجزيرة قد دخلوا في طاعة النصارى ولم تبق سوى مدينة ميورقة دار إسلام.

(٢) طباق الإيجاب بين "الوفاء والغدر".

(٣) يقال : رجل فجفج وفجافج وفجفاج : كثير الكلام والفخر بما ليس عنده. وقيل : هو الكثير الكلام والصّياح والجلبة. وقيل : هو الكثير الكلام بلا نظام. والرجل الفجفاج : المهذار المكثار من القول. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(٤) جناس ناقص بين" الفجاجة واللّجاجة".

(٥) إشارة إلى قوله تعالى : (" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"). سورة المائدة ، الآية ٥١.

(٦) مقابلة اثنين لاثنين بين" مكرمين ومكرهين وأطعتم وتمنّعتم".

١١٧

والبلد في حكمهم ، فحبسوا في خباء ، وحبوا شرّ حباء (١) ، وكان فيهم خطيب المدينة (٢) فأمروا جميعا بالكلام مع أهلها ، وأن يعرض عليهم الخروج بقطيعة يقرّرون على بذلها ، فمشوا إلى البلد المحصور ، ووقفوا موقف القصور ، ونادوا من وراء السّور ، وقرعوا للإصاخة (٣) بابا ، وتكلموا وانتظروا جوابا ، واستومرت المدينة قبل الاقتراع فصمتت (٤) وما حصل رضاها ، واقتضيت التمكين من نفسها فمنعت من اقتضاها.

وعاد المذكورون وما سمح لهم بلفظة ، ولقوا من / ٣٧ / النصارى أشدّ غلظة ، وقالوا لهم أنتم لحنتم لأهل البلد بما شجّعهم بعد الجبن ، وقوّاهم في حال الوهن ، وكان حردهم (٥) على الخطيب أشد ، وظنوا أنّه لو أراد لردّ عن

__________________

(١) جناس ناقص بين" خباء وحباء".

(٢) هو أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم بن هارون العبدري ، من أهل ميورقة. روى عن أبي عبد الله محمد بن خلف البنيوني ، وأبي عبد الله بن المعز ، وأبي محمد بن حوط الله ، وأبي عبد الله بن غيداء وغيرهم ، وروى عنه جمهور أهل بلده. كان مقرئا مجودا مشاركا في علوم العربية. تصدر لإقراء القرآن وتدريس النحو وخطب بجامع مدينة ميورقة نحو عشرين سنة. استشهد يوم الاثنين ١٤ صفر ٦٢٧ ه‍ حين اجتاح النصارى مدينة ميورقة. ابن الأبار ، التكملة ، ج ٣ ، ص ٨٥. ابن عبد الملك ، الذيل والتكملة ، السفر الخامس / القسم الأول ، ص ١٢.

هذا وتشير ذات المصادر إلى خطيب آخر كان يناوب في الخطبة أبا مروان المذكور ، يتعلق الأمر بأبي الحسن المطرقة علي بن أحمد العبدري ، من أهل ميورقة روى عن ابن حوط الله وابن شعبة والشكاز وغيرهم. رحل حاجا فسمع من جماعة وعاد إلى بلده وأقرأ به القرآن وناوب في خطبة الجمعة أبا مروان الخطيب السالف الذكر. توفي مأسورا في نفس اليوم الذي توفي فيه والي المدينة أبي يحيى التنملي أي بعد خمسة وأربعين يوما من تاريخ سقوط مدينة ميورقة في يد النصارى. ابن الأبار ، نفس المصدر ، ج ٣ ، ص ٢٣٥. ابن عبد الملك ، نفس المصدر ، ص ١٨٣.

(٣) أصاخ له يصيخ إصاخة : استمع وأنصت لصوت. وفي حديث يوم الجمعة : وما من دابة إلا وهي مصيخة أي مصغية ومستمعة منصتة. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٣٥.

(٤) مجاز مرسل لأن المدينة لا تصمت بل أهلها هم الذين يصمتون.

(٥) الحرد : الغيظ والغضب. ورجل حرد وحارد : غضبان. يقال : حرد الرجل إذا اغتاظ فتحرش بالذي غاظه وهمّ به. قال الشاعر : ـ

١١٨

التوقف وصدّ ، فهمّوا به وبهم مرارا ، وفرّ منهم من استطاع فرارا ، وأعيد الخطيب إلى الكلام ثانية وثالثة ، وحذر من أيدي الشرك عائثة عابثة (١) ، وقال للوالي إن قبلت نصيحتي فاقبل من الكافر ما طلب ، وسلّم الناس فكأن بالشر قد بلغ وبالشرك قد غلب ، فأمره بأن يخزن لسانه ، ولا يسمع أحدا ما أبانه ، ولو علم الناس خفة تلك القطيعة المضروبة ، لأوشك أن يغلبوه على السلم المطلوبة ، لكن كانت ملحمة كتبها الله على أولئك الخلق ، وقولا حقّ عليهم بمشيئة الواحد الحق ، وصار من بقي من أولئك الأشياخ مع الخطيب في حكم الرّق.

__________________

ـ

أسود شرى لاقت أسود خفية

تساقين سمّا كلهن حوارد

لسان العرب ، ج ٣ ، ص ١٤٥.

(١) جناس ناقص بين" عائثة وعابثة".

١١٩

رجع الحديث إلى أمر الحصر

وما أخطأ أهل البلد بإصابة القدر من النّصر

ولم يزل الأمر في شدّة ، والرّعية في رداءة وردّة ، والسّور يخرق بكل هدّة (١) ، وبلاء الضرب يبلى منه كل جدّة ، حتى قنط الرّاجي ، وكان باليأس من النجاة التناجي ، وحذر الهول وهال المحذور ، واتسعت النّقوب وضاقت (٢) الصّدور ، وتجلد المسلمون للخطب ، / ٣٨ / وأخذوا من جهتهم في النقب ، فخبطوا في ظلمة الأرض خبط عشواء (٣) ، وصادفوا مغارات الرّوم فشنّوا فيها الغارة الشّعواء ، وقتلوا عدّة من رجالهم ، وصدّوهم عن مجالهم.

وقعدوا هنالك مقاعد للسّمع (٤) ، وحكموا في جناية النباش بعقوبة القطع ، ورتبوا رجالا على كل فوهة ، وأقاموا هنالك في أهبة غير ذات أبّهة ، ولو أنّهم متّعوا بالقوت لمنعوا ، ولو حفظوا لما ضيعوا ، وما زالوا هناك في ضيق من العيش والقرار ، وعضاض (٥) مع ضباع ذلك الوجار (٦) ، حتى غلبهم

__________________

(١) جناس ناقص بين" ردّة وهدّة".

(٢) طباق الإيجاب بين" اتسعت وضاقت".

(٣) تضمين لقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلّقته الشهيرة :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم

الزيات أحمد حسن ، تاريخ الأدب العربي ، ص ٦٤.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (" وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً"). سورة الجن ، الآية ٩.

(٥) عضاض ، بالكسر : يقال فلان عضاض عيش أي صبور على الشدة. واشتد عضاض القوم أي اشتد عيشهم. الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، ص ٥٨٢.

(٦) الوجار : والجمع أوجرة ووجر ، وهو جحر الضبع والأسد والذئب والثعلب ونحو ذلك ، وهناك من يقصره على الضباع فقط. جاء في حديث الإمام علي كرم الله وجهه : وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٢٨٠.

١٢٠