تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

سبب اختلاف الرّعية الجاني على البلد أعظم البلية

قد تقدّم أن أكثر مدّة هذا الوالي كانت صفوا بلاد كدر (١) ، ونفعا دون ضرر ، وأن أمور الرعية كانت عنده مرعية ، وسياسته لم تزل سديدة مرضية ، وما نقم منه إلّا ازدياد من الدّنيا وحطامها ، وانقياد من الأطماع في خطامها (٢). فلما تمّ على قومه من الخلع بالأندلس ما تمّ ، وورد عليه من الخبر ما انزعج له واهتم ، أوى إليه طرداء منهم آواهم ، ورقّ لبلواهم ، فأشاروا عليه بالاحتراس ، وحملوه على إساءة الظن بالناس ، وانضم كل ذي حي إلى حيّه ، ونقل صاحبه إلى مثل رأيه ، وهم قوم لهم الأفئدة غلاظ (٣) ، وكل منهم على غير صنفه حنق مغتاظ ، وقد وتروا (٤) فهم يعضون الأنامل حسرة ، ويرون / ١٣ / التأثير في أهل الجزيرة ثؤرة. فدبّروا حصول هذه الغاية ، ودبّوا بين الوالي وبينهم بالسعاية ، وقرّروا عنده أنهم يبغضون القبائل ، وينصبون لهم الحبائل (٥) ، وأنهم إن أهملوا أوقعوا بهم في الأموال والأنفس ، وفعلوا بهم ما فعله أهل الأندلس.

__________________

(١) كناية عن الأوضاع الحسنة التي عرفها عهد الوالي أبي يحيى التنملّي.

(٢) الخطام وجمعه خطم ، وهو الحبل الذي يقاد به البعير. والخطام : الزّمام. وخطمت البعير : زممته. والخطام كل حبل يعلّق في حلق البعير ثم يعقد على أنفه. وقيل هو كلّ ما وضع في أنف البعير ليقاد به. وخطام الدّلو : حبلها. وخطام القوس : وترها. وقد استعار المؤلف هنا الخطام في الأطماع كما استعارها بعض الرّجّاز أيضا في الحشرات حين قال :

يا عجبا لقد رأيت عجبا

حمار قبّان يسوق أرنبا

عاقلها خاطمها أن تذهبا

فقلت أردفني فقال مرحبا

لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ١٨٦.

(٣) كناية عن الخلاف بين الميورقيين.

(٤) الوتر والوتر والتّرة والوتيرة : الظّلم في الذحل (الثأر) وقيل هو الذّحل عامّة. وكل من أدركته بمكروه فقد وترته وترا وترة. والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. وفي حديث محمد ابن مسلمة : أنا الموتور الثائر أي صاحب الوتر الطالب بالثأر. وقيل الوتر في الذّحل (الثأر) ، والوتر في العدد. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٢٧٤.

(٥) جناس ناقص بين" القبائل والحبائل".

٨١

وما زالوا يظهرون عنده على ذلك شبها ، ويغرونه بالقوم ظلما وسفها ، وحرصا إلى أموالهم وشرهًا (١) ، حتى غلبوا صبره ، وأوغروا صدره (٢) ، وقالوا له يوما إنّا وترنا أعظم الترة ، وأصبنا بالمصيبة الظاهرة غير المستترة ، فأقر عيون أعياننا ، وأعطنا أجناد الأندلس لنقتلهم بإخواننا ، فقال ليس هذا من شأني ، ولا آخذ البريء بذنب الجاني ، وكيف أجري هذا المجرى ، والله يقول (" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ")(٣).

فأعادوا الرغبة حتى أيأسهم ، وأظهر أنّه يكره مجلسهم ، فقاموا عنه غير راضين ، وما زالوا على الإيحاش له ماضين (٤) ، حتى احتجب عن الناس ، وبالغ في الاحتراس ، وأجلس أحد بنيه للأحكام وهو حدث معجب (٥) ، وعذيق لا مرجّب (٦) ، فساءت الأحوال ، وابتدأ الزلزال (٧) ، ورحل الحاضر

__________________

(١) الشّره : أسوأ الحرص ، وهو غلبة الحرص. شره شرها فهو شره وشرهان. ورجل شره : شرهان النفس حريص. ويقال : شره فلان إلى الطعام يشره شرها إذا اشتدّ حرصه عليه. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٥٠٦.

(٢) كناية عن موصوف لأنّ المقصود هنا قلبه.

(٣) سورة فاطر ، الآية رقم : ١٨.

(٤) جناس ناقص بين" راضين وماضين".

(٥) العجب : الزّهو. ورجل معجب : مزهو بما يكون منه حسنا أو قبيحا ، فهو معجب برأيه وبنفسه.

لسان العرب ، ج ١ ، ص ٥٨٢.

(٦) العذيق تصغير عذق بالفتح ، وهو كل غصن له شعب ، ويطلق على النخلة عند أهل الحجاز. والمرجب من الترجيب وهو أن تدعم النخلة أو الشجرة وتعمد إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثرة حملها. أما بالنسبة للرجل فهو التعظيم. ومن ذلك قول الحباب بن المنذر : " ... أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب". وهذا تصغير يراد به التعظيم والتكبير. وقد صارت كلمة الحباب مثلا يضرب للرجل الذي يستشفى برأيه وعقله. ولكن النص هنا يفيد التعريض والانتقاص من شأن هذا الابن. الميداني ، مجمع الأمثال ج ١ ، ص ٤٥. لسان العرب ، ج ١ ، ص ٤١٢ ، وج ١٠ ، ص ٢٣٨. ابن هشام ، السيرة النبوية ، ج ٤ ، ص ٣١٠.

(٧) كناية عن بداية التصدّع الدّاخلي للميورقيين.

٨٢

وحضرت الأوجال ، ووصله شيطانان دلّاه على أمور ، ودلّياه بغرور ، وقالا إن الرعية قد استضافت أرض المخزن (١) إلى أرضها ، وملكت كل البسائط بتملك بعضها ، ونحن ننقصها من أطرافها (٢) ، وننقضها باستصرامها.

/ ١٤ / فأخرج أحدهما لذلك من يومه ، وضمّ إليه ظلوما من قومه ، فدخلت على الناس أعظم داخلة ، وحاروا بين أعمال من الجور متداخلة ، ورفعت إليه هذه الظلامة فنجه (٣) الرّافع ، ووجّه الوعيد الرّابع ، فيئس الناس من الإشكاء ، وكانت لهم أموال وضنّوا في خالصها على الشركاء.

__________________

(١) المخزن : مصطلح كان يطلقه المغاربة والأندلسيون على السلطة بمفهومها الواسع ، وبعبارة جامعة كان المخزن سيفا وقلما. العروي ، مجمل تاريخ المغرب ، ج ٢ ، ص ٢٠٩.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب". سورة الرعد ، الآية ٤١.

(٣) من النجه بالفتح : استقبالك الرجل بما يكره وردّك إياه عن حاجته بأقبح ردّ. وقيل هو الزجر والرّدع. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٥٤٧.

٨٣

حديث ما كان بالجزيرة من النظر

حين ورد بحركة الرّوم صحيح الخبر

وفي سنة ست وعشرين وستمائة (٦٢٦ ه‍) اشتهر أمر هذه الغزوة ، وتواترت الأنباء بها من الأندلس والعدوة (١) ، فتحرّك الوالي للاستعداد ، وأخذ أهل الجهات بأهبة الجهاد ، فعرض وكتب ، ودبّر ورتب ، وميّز من قومه ومن فئة الأجناد نيفا على ألف فارس ومن فرسان الحضر والرعية مثلهم ومن الرجّالة ثمانية عشر ألفا ، فكمل ذلك على الحال الحسنة ، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة (٢).

ثم استدعى أهل البوادي في شعبان (٣) ، ولم يرخص في التخلف لأحد كائن من كان ، فنفروا إليه جميعا ، وأمرهم بنقل الأطعمة إلى البلد فنقلوها سريعا. ثم ضبط المراسي بالرّجال ، وأذكى العيون بمرابض السّواحل ومرابئ (٤) الجبال ، وقدّم على كل جزء قائدا وناظرا ، وجعل كل ما يحتاج عند / ١٥ / حضور القتال حاضرا.

فانتظر الناس عدوّهم في تعبئة تسرّ الناظرين (٥) ، ورجوا نصر الله وهو

__________________

(١) يريد العدوة المغربية (بلاد المغرب) التي تقابلها العدوة الأندلسية.

(٢) يريد سنة ٦٢٦ ه‍ / فبراير ١٢٢٩ م.

(٣) جويلية ١٢٢٩ م.

(٤) مفردها مربأ ، أي أعالي الجبال. يقول غيلان الربعي :

قد أغتدي والطير فوق الأصواء

مرتبئات فوق أعلى العلياء

لسان العرب ، ج ١ ، ص ٨٢.

(٥) إشارة إلى قوله تعالى على لسان بني إسرائيل حين أمرهم بذبح بقرة : (" قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"). سورة البقرة ، الآية رقم ٦٩.

٨٤

خير الناصرين ، وقومه يريشون ويبرون (١) ، ويستغشون ولا يبرّون (٢) ، ويغلون في الأمر أشد الغلو ، ويغلّون يده عن الإعداد للعدو ، ويقولون إنّ ما تسمع من حركته محال لا يكون ، والخطب فيه مع ذلك يهون. إنما الدّاء أعداء منهم لك مكتنفون ، وبدون دمك لا يكتفون ، فبادر الرّمي قبل أن تغلب على نشابك ، وتغدّ بمن يريد أن يتعشى بك (٣).

وكانت الجماعة الأندلسية سخنة (٤) أعينهم ، ومضغة ألسنهم ، فطلبوا من الوالي أن يحظر عليهم حمل السيوف ، ويأمر بتقلّدها أهل القعود بداره والوقوف (٥) ، فخرج بذلك أمره ، وظهر من خلل الرّماد جمره ، وأوحشت تلك الحالة ، وكثرت في ثقالى الفريقين القالة.

__________________

(١) يبرون النبال والسهام ويجعلون لها ريشا. ويقال : فلان لا يريش ولا يبري أي لا يضر ولا ينفع. وفي حديث عمر قال لجرير بن عبد الله وقد جاء من الكوفة : أخبرني عن الناس ، فقال : هم كسهام الجعبة منهم القائم الرائش ، أي ذو الريش إشارة إلى كماله واستقامته. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٣٠٩.

(٢) يقال استغشى ثيابه وتغشى بها ، بمعنى تغطى بها كي لا يرى ولا يسمع. ولا يبرون من البر بمعنى لا يصدقون. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٥٢ ، وج ١٥ ، ص ١٢٧.

(٣) ويقال : " تغدّ بالجدي قبل أن يتعشى بك". مثل عربي يضرب في أخذ الأمر بالحزم. الميداني مجمع الأمثال ، ج ١ ، ص ١٩٠.

(٤) سخنة العين : نقيض قرّتها ، وقد سخنت عينه تسخن سخنا وسخنة وسخونا. وسخنت هي نقيض قرّت. لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ٢٠٧.

(٥) طباق الإيجاب بين" القعود والوقوف".

٨٥

ذكر الثورة التي كانت باكورة البطشة الكبيرة

وأوّل بلاء نزل من السّماء على الجزيرة

لما ارتاع هؤلاء الأجناد ، وسعى في صلاحهم الفساد ، وهالهم ما بينهم وبين طائفة الوالي من الخلاف ، وتقرّر عندهم ما يراد بهم من الإتلاف ، اجتمعوا إلى قائدهم وكان سمح الخليقة ، حسن الطريقة ، وشكوا إليه / ١٦ / ما دهم ودهى ، وقالوا إن أمد الصّبر قد انتهى ، وإنما نحن مصبّحون أو ممسّون (١) ، وكيف تخفضنا السفلة ونحن الأعلون. فلم يقبل مقالهم أولا ، وقال لعل فيما بلغ متأولا ، وما زالوا يحذرونه الغوائل (٢) ، ويأتونه على الأمر بدلائل ، حتى خاف على نفسه ، وعاد يومه خلاف أمسه ، وبدت البغضاء ، وزال الإغضاء (٣) ، وتمّ القضاء.

وعزموا مع القائد أن يطوّقوا واليهم السّيف ، ودبّروا أين وكيف ، ثم اتبعوا رأي مشيرهم المشيح (٤) ، وعزموا أن تكون الرّاحة منه في صلاة الترويح (٥). فلم يقض الله لحيلتهم أن تكون متوجهة ، ولعلّه لم يرض أن تكون قتلته بالقتلة الفاروقية (٦) متشبّهة ، فإنهم لما عيّنوا اللّيلة والساعة ، وقدّروا لفنكة

__________________

(١) طباق الإيجاب بين" مصبّحون وممسّون".

(٢) واحدتها غائلة وهي الحقد الباطن. يقال فلان قليل الغائلة والمغالة أي الشرّ. والغوائل الدّواهي.

والغيلة : الخديعة والاغتيال ، وهي إيصال الشر والقتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٥١٢.

(٣) جناس ناقص بين" البغضاء والإغضاء".

(٤) المشيح : الحذر والجاد في الأمر. الفيروز أبادي ، القاموس المحيط ، ص ٢٠٦.

(٥) قيام رمضان وتؤدى بعد صلاة العشاء وقبل الوتر. والتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة ، سميت بذلك لاستراحة المصلين بعد كل أربع ركعات. السيد سابق ، فقه السنة ، ج ١ ، ص ٢٠٥. ويستفاد من النص أن محاولة اغتيال والي ميورقة أبي يحيى بن أبي الحسن كانت في شهر رمضان سنة ٦٠٦ ه‍ / أوت ١٢٢٩ م.

(٦) يريد مقتل الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي قتله أبو لؤلؤة النصراني ـ

٨٦

الجامع الجماعة ، خرج منهم إلى أحد بطانة الوالي من سرى إليه بالسرّ ، وكشر له عن ناب الشر (١) ، فرفع إلى الوالي الخبر ، وقال له الحذر الحذر ، وانتشر الأمر فماج الناس ، وهاج الوسواس ، وقيل للقائد قد افتضحت القصة ، وبصحة الأمر عليك لا تكون لك في الحياة حصّة ، وليس أوان أناتك ، فاحتل بالنجاة (٢) لنجاتك.

فركب بحد فليل ، في عدد قليل (٣) ، وخرج يعثر في ذيل الويل (٤) ، وأتبعه الوالي قطعة من الخيل ، وكان قصد البادية مستجيرا ومستجيشا (٥) ، ولو بلغهم لكان غيمه مرشّا وجناحه مريشا ، لكن / ١٧ / أدرك وبينه وبينهم فرسخ ، وباشر عند حياته قاضي الحمام فقال يفسخ ، وعفّي ذلك الرّبط ، وعفّر ذلك الرّهط ، وحطّت رؤوسهم عن الأجساد ، ورفعت فوق الصّعاد ، وطيف بها في الشوارع ، وتطاول قوم الوالي لإنزال القوارع.

__________________

ـ غلام المغيرة بن شعبة ، وهو في صلاة الصبح ليلة الأربعاء ٢٧ ذي الحجة سنة ٢٣ ه‍. عن هذا الحادث انظر الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، ج ٥ ، ص ١٢.

(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الشر بالحيوان المفترس الذي يكشر عن أنيابه كالأسد والذئب والكلب وغيرهم.

(٢) النجاة : السرعة في السير. وهو ينجو في السرعة نجاء ، وهو ناج : سريع. ونجوت نجاء أي أسرعت وسبقت ، وفي الحديث : إنما يأخذ الذئب القاصية والشاذة الناجية أي السريعة ، وناقة ناجية ونجاة : سريعة. قال الأعشى :

تقطع الأمعز المكوكب وخدا

بنواج سريعة الإيغال

أي بقوائم سراع. واستنجى أي أسرع ، وفي الحديث : إذا سافرتم في الجدب فاستنجوا أي أسرعوا. لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٠٦.

(٣) جناس ناقص بين" فليل وقليل".

(٤) استعارة مكنية حيث جعل المؤلف للويل ذيلا.

(٥) أي قصدها طالبا من أهلها جيشا.

٨٧

وقبض على جماعة من الجند حصلوا في السجون مودعين ، وبالمنون موعدين (١) ، وجاءهم اليوم العبوس (٢) ، وحيزت منهم الأموال ثم حزت الرؤوس ، وسحبوا إلى السّور ونصبوا عليه ، وسلبوا حتى من ستر ما يحرم النظر إليه. وكان فيهم واحد من أعيان البلد وفضلائهم صلّى بما صلّوا ، وحصل حيث حصلوا. ثم إن الوالي أخبر أنه قد اكتفى فكف ، وأظهر أنه عفا وعن الدّماء عف ، فأهدى الأمان ، وأهدر ما كان ، ولم تكن لأزمنة أمانه عدّة محسوبة ، بل ولا مدّة محسوسة (٣) ، إنما كان ينبذ به الاحتيال على الاغتيال (٤) ، وينسخه قبل التمكن من الامتثال ، فقتل ناسا ، وأظهر من الفظاظة أجناسا.

وأتي برجل نجار ، وكان بينه وبين القائد علقة جوار ، وكان قد اطّلع على سرّه ، وأراد الناس قتله خيفة شرّه ، ولم يأمنوا أن يسم بريا بظلمه ، أو يسمّي أحدا فلا تعمل الرّقى في سمّه ، فحين حضر عند الوالي واستنطقه ، تكفل له بالصدق إن هو أطلقه ، فقال تكلّم فأنت طليق ، وأقبل عليه وهو بالاختلاق في ذلك الموقف خليق (٥) ، فأطال نجواه ، / ١٨ / ومعه مداد ودرج كتب به كل ما أملاه ، فحينئذ ساءت الظنون ، وانتظر ما يكون ، وانهل وبل البلاء ، وسال غيم الغماء (٦) ، وبلغت القلوب الحناجر (٧) ، واتهمت العيون

__________________

(١) جناس ناقص بين" مودعين وموعدين".

(٢) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف اليوم بالإنسان الذي له صفة العبوس.

(٣) جناس ناقص بين" محسوبة ومحسوسة".

(٤) جناس ناقص بين" الاحتيال والاغتيال".

(٥) جناس ناقص بين" طليق وخليق".

(٦) مجاز مرسل ، فالمطر هو الذي يسيل من الغيم.

(٧) إشارة إلى قوله تعالى : (" إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا"). سورة الأحزاب ، الآية رقم ١٠. نزلت هذه السورة تصور مشهد حصار المسلمين في غزوة الخندق (الأحزاب) ، من طرف قريش وغطفان في ذي القعدة سنة ٥ ه‍ ، وقد عانوا فيها أهوالا كبيرة واشتد عليهم الخوف والرعب.

٨٨

المحاجر (١) ، وبعد أن أسمعه النجّار ما أسمعه ، قتله وثلاثة معه ، وكان وجد بدار القائد عيدان منجورة ، ظنّ أنها للثورة مدخورة ، وقدّر في النجار لسوء بخته ، أنّها من عمله ونحته ، فقتل بها ضربا وشدخا (٢) ، واقتدح منها زند المنية فكانت عفارا ومرخا (٣).

__________________

(١) محجر العين : بفتح الميم وكسرها وكسر الجيم وفتحها ، وهو ما دار بالعين من العظم الذي في أسفل الجفن. وقيل هو ما يظهر من نقاب المرأة وعمامة الرجل إذا اعتم. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ١٦٩.

(٢) الشدخ : الكسر في كل شيء رطب ، وهو التهشيم الذي يعني كسر اليابس. وقيل هو كسر الشيء الأجوف كالرأس ونحوه. لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٢٨.

(٣) المرخ والعفار : شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر ، ويسوّى من أغصانها الزناد (جمع زند) التي يقتدح بها. والزند والزندة هما العودان اللذان تقتدح بهما النار ، ويسمى الزند العود الأعلى ويكون من شجر العفار ، وتسمى الزندة العود الأسفل ويكون من شجر المرخ. وكانت العرب تضرب بهما المثل في الشرف العالي وفي تفضيل بعض الشيء على بعض فتقول : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. أي أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا وزنادهما أسرع الزناد وريا (اتقادا واشتعالا). وفي المثل أيضا : اقدح بعفار في مرخ ثم شدّ بعد أو أرخ. يضرب في حمل رجل فاحش على رجل فاحش فلم يلبثا أن يقع بينهما شرّ. وقيل يضرب للكريم الذي لا يحتاج أن تكده وتلح عليه.

لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٥٣ وص ١٩٥ ، وج ٤ ، ص ٥٨٩. الميداني ، مجمع الأمثال ، ج ٢ ، ص ٣١ وص ٦٣.

٨٩

قصّة الغراب وتجهيزه بالحث وتوجيهه في البحر للبحث

وأثناء ما ذكر كانت أخبار العدو تزيد ، وقضاء الله ينفذ كما يريد ، فرأى الوالي أن يجهز غرابا يصل غدوّه بمسراه ، ويذهب حتى يعاين مجتمع العدو في مرساه. فزجر منه أشأم طائر (١) ، وزجّى منه واردا غير صادر ، فإنه بعد أن شارف المجتمع ، وقارب أن يرى وأن يسمع ، عصفت عليه ريح ردّته ، ولو لا كمال عدّته لأردته ، وما زالت تقلبه ظهرا لبطن ، وتغلبه على اختياره وهو من أمر العطب على غير أمن ، حتى انتهت به إلى غايته الشقية ، ورمت به بنشكلّة (٢) قاصية الثغور الشرقية. وهنالك تورّط في الساحل ، وعنّى جوابا على السائل ، وأخذ أهل / ١٩ / بنشكلّة جميع عدده ، وجاء النصارى فأضرموا النار في جسده ، وكان صحيفة استعجمت وعهدت مقروءة ، وعينا (٣) لميورقة أصبحت مفقودة مفقوءة (٤).

__________________

(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف السفينة السوداء (الغراب) بالطائر الذي يزجر أي ينهر. والزجر للطير هو التيمن والتشاؤم بها والتفاؤل بطيرانها كالسّانح والبارح ، وهو من الطّيرة. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٣١٩.

(٢) بنشكلة (Peniscola) : من ثغور شرق الأندلس ، تقع على ضفة البحر جنوب طرطوشة وهي واحدة من حصونها وقلاعها المنيعة. وصفها الحميري بأنها عامرة وآهلة ولها قرى وعمارات ومياه كثيرة وبها عين ثرّة تريق في البحر. ويقابل مرساها من برّ العدوة مرسى جزائر بني مزغنة كما يقول البكري. وهي التي أنجبت واحدا من أغرب شخصيات التاريخ الأندلسي الذي حمل لواء الصراع الشهير ضد الموحدين ، يتعلق الأمر بأبي عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد بن مردنيش الجذامي (٥١٨ ـ ٥٦٧ ه‍ / ١١٢٤ ـ ١١٧٢ م). وكان سقوطها في أيدي نصارى أراجون مع حصون وقرى أخرى سنة ٦٣٢ ه‍ / ١٢٣٤ م ، تمهيدا لسقوط الثغر الإسلامي العظيم وهو مدينة بلنسية سنة ٦٣٦ ه‍ / ١٢٣٨ م. البكري ، المسالك والممالك ، ص : ٨٢. الحميري ، الروض المعطار ، ص ١٠٤. ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٧ ، ص ١٣١.

(٣) استعارة مكنية شبه فيها المؤلف السفينة الحربية (الغراب) بالكائن الحي الذي له جسد وحواس كالعين وغيرها.

(٤) جناس ناقص بين" مفقودة ومفقوءة".

٩٠

وفي أثر الغراب أرسل الوالي سلّورة (١) منجحة ، نفضت على فضاء البحر أجنحة (٢) ، وخرجت تستوضح الأنباء المشكلة ، حتى انتهت إلى وادي كونة المجاور ثغر بنشكلّة. وعدم ذلك الساحل الحياطة فاعتمدته بحطّ ، وأسرت فيه من الرّوم تسعة رهط (٣) ، ثم انصرفت بتسعتها (٤) ، تقتادهم بنسعتها (٥) ، وسئلوا بميورقة عن الجمع فقالوا قد تكامل للنهوض لمرساكم ، وكأن به قد صبّحكم أو مسّاكم (٦).

ثم عزّز الوالي من صغار القطع الحربية بثالث ، وأمره بالاستجلاء لحقيقة كل حديث حادث ، فصادفت ريحا حرج البحر بحرجفها (٧) ، وقطع القطعة عن طريق تعرّضها وتعرفها ، ورمت بها سردانية (٨) فأغارت في سهلها ،

__________________

(١) جمعها سلالير ، وهي مركب متوسط الحجم ، يستخدم في الحرب والسّلم ، وله ثلاثة أشرعة وأربعون مجذافا ، وقد سمي بهذا الاسم لأن شكله يشبه شكل السلار وهو نوع من الطيور. المجالي سحر ، تطور الجيش العربي في الأندلس ، ص ٢٥٥.

(٢) استعارة مكنية فيها تشبيه للسلّورة بالطائر الذي ينفض أجنحته.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى عن قوم ثمود : (" وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ"). سورة النمل ، الآية رقم ٤٨.

(٤) جناس ناقص بين" تسعتها ونسعتها".

(٥) النسع : سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشد به الرحال والجمع أنساع والقطعة منه نسعة. والأنساع هي الحبال واحدها نسع. لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٣٥٢.

(٦) طباق الإيجاب بين" صبّحكم ومسّاكم".

(٧) الحرجف : الريح الباردة. وإذا اشتدت الرّيح مع برد ويبس فهي حرجف. وليلة حرجف : باردة الرّيح. قال الفرزدق :

إذا اغبرّ آفاق السماء وهتّكت

ستور بيوت الحيّ نكباء حرجف

لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٤٥.

(٨) من جزر حوض البحر المتوسط الغربي ، وصفها صاحب الروض المعطار بأنها جزيرة على طرف من البحر الشامي ، كبيرة النظر كثيرة الجبال قليلة المياه. طولها ٢٣٠ ميلا وعرضها من الغرب إلى الشرق ١٨٠ ميلا. سكانها أهل نجدة وحزم لا يفارقون السلاح. بها معادن الفضة الجيدة التي تخرج إلى كثير من بلاد الروم. دخلها مجاهد العامري صاحب جزر البليار سنة ٤٠٩ ه‍ ـ

٩١

وأخذت خمسة من أهلها. ولما استفهمهم الوالي أحال بعضهم في الشهادة على النفي ، واعتذر بالانقطاع والنّأي ، وبعضهم قال إنّ أهل أرغون (١) في هذه السنة لا يتفرّغون ، وهم ببلدهم شاتون ، وفي الربيع المقبل آتون.

فقبل الوالي هذه التوسعة ، واستخشن الهيجاء واستحسن الدّعة ، وأذّن في الناس (٢) أنّ العدو غير وارد ، والمثلثة في القعود على رأي واحد ، وسارّ أهل البادية وسرّهم ، وبرّأهم من / ٢٠ / مسألة القائد وبرّهم ، وأذن لهم في الرّجوع بقضّهم وقضيضهم (٣) ، وخلا منسك الإمساك من منفضّهم ومفيضهم ، وإنما أراد أن يفرق الرّعايا ، ويظهر ما خبّأ من البلايا.

__________________

ـ وافتتح أكثرها وجدّد إحدى مدنها ، ثم خرج عنها في العام الموالي بسبب الجوع والوباء الذي أصاب المسلمين فيها. الحميري ، الروض المعطار ، ص ٣١٤.

(١) قامت مملكة أراجون الكبرى باتحاد أراجون وقطلونية في سنة ٥٣٢ ه‍ / ١١٣٧ م على يد الكونت رامون برنجير الرّابع أمير برشلونة ، وبعد وفاته سنة ٥٥٨ ه‍ / ١١٦٢ م خلفه على العرش ولده ألفونسو الثاني الذي بدأ غزواته في الأراضي الإسلامية مبكرا ، فراح يكرّرها على شرق الأندلس منذ سنة ٥٦٦ ه‍ / ١١٧٠ م. وبعد وفاته سنة ٥٩٣ ه‍ / ١١٩٦ م خلفه في مملكة أراجون وقطلونية ابنه الصبي بيدر والثاني الذي بدأ حكمه تحت وصاية أمّه دونيا سانشا. وانشغل بيدرو الثاني وقتا بشؤون أملاكه فيما وراء البرنيه ، ولكنه لم يغفل العناية بغزو الأراضي الإسلامية ، وهي مهمة من مهام السياسة الأرجونية الأساسية ، فخرج في حشوده سنة ٦٠٧ ه‍ / ١٢١٠ م صوب بلنسية واستولى على بعض حصون منطقة شنتمرية الشرق. ومات سنة ٦١٠ ه‍ / ١٢١٣ م تاركا ولده الوحيد دون خايمي الذي أصبح يعرف بالملك خايمي الأول أو الفاتح وهو الذي استولى على جزيرة ميورقة. عبد الله عنان ، عصر المرابطين والموحدين في الأندلس ، ج ٢ ، ص ٦٠١.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى مخاطبا نبيه إبراهيم عليه السلام : (" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ"). سورة الحج الآية ٢٧.

(٣) تقول العرب في أمثالها : " جاء بالقض والقضيض". والقضيض ما تكسر من الحجارة وصغر ، والقض ما كبر. والمعنى جاء بالكبير والصغير. ويقال : جاء القوم قضهم بقضيضهم ، أي كلهم. ويقال أيضا : جاؤوا قضّا وقضيضا ، أي وحدانا وزرافات. فالقض عبارة عن الواحد ، والقضيض عبارة عن الجمع. الميداني ، مجمع الأمثال ، ج ١ ، ص ٢٢٣.

٩٢

بيان ما أحدثه الوالي ممّا أضرم نار الحرقة وأبرم أسباب الفرقة

وعند خلاء الجو ، وجلاء أهل البدو ، ثارت أراقم (١) ضغنه ، وكرّ بالأبطال على نصّ أمنه ، وأمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر فساقهم ، وحين حضروا عنده ضرب أعناقهم ، فطرحوا بالعراء ، ثم أخرجوا على هيئة فرطهم من الإعراء. وكان فيهم ابنا خالة ، كانا في البلد على أحسن حالة ، وخالهما أبو حفص بن شيري ذو المكانة الوجيهة ، والموطّن لنفسه الكريمة على الكريهة (٢) ، وسيأتي ذكره في حصار الجبل ، وما كان له فيه من سداد الرأي والعمل. فأما أحدهما فجزع عند قتله ، وأما الآخر فصبر صبرا ما عهد من مثله ، وكان لا يخلو عن طهارة الحدث ، فاستقبل القبلة غير مكترث ، ودخل في صلاته وقرّ ، وضربته السّيوف حتى خرّ.

وعند ذلك ضاق الرّحب ، وعظم الرّعب (٣) ، وتعاور (٤) جثث القتلى من الحركات الجرّ والنصب ، فضاق الذرع بالمكروه ، وفرّ إلى البادية كثير من الأعيان / ٢١ / والوجوه ، واجتمعوا بابن شيري فأخبروه بما نزل ، وعزّوه فيمن قتل. وقالوا هذا أمر لا يطاق ، ونحن كل يوم إلى الموت نساق ، فإن تداركنا الأمر ببقية الذّماء ، أو شك أن نخلص من هذه الغماء ، وإلّا فزرعنا حصيد ، وما منّا إلّا من هو بشرك الشر مصيد (٥) ، وكيف لا نثقف في الرأي أحسن تثقيف ،

__________________

(١) ومفردها الأرقم ، وهو من الحيّات الذي فيه سواد وبياض. يقال للذكر أرقم ، ولا يقال حيّة رقماء ، ولكن رقشاء. والرّقم والرّقمة : لون الأرقم. قال رجل لعمر رضي الله عنه : مثلي كمثل الأرقم إن تقتله ينقم وإن تتركه يلقم. وقيل : الأرقم أخبث الحيّات وأطلبها للناس. والأرقم إذا جعلته نعتا قلت أرقش ، وإنما الأرقم اسمه. لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٢٤٩.

(٢) جناس ناقص بين" الكريمة والكريهة".

(٣) جناس ناقص بين" الرّحب والرّعب".

(٤) اعتوروا الشيء وتعوّروه وتعاوروه : تداولوه فيما بينهم. وفي الحديث : " يتعاورون على منبري أي يختلفون ويتناوبون كلما مضى واحد خلفه آخر. يقال : تعاور القوم فلانا إذا تعاونوا عليه بالضرب واحدا بعد واحد. لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٦١٨.

(٥) استعارة مكنية فيها تشبيه للشر بالصائد الذي ينصب شركه للصيد.

٩٣

ولا بقاء لكوفة كفاتنا مع مبيد ثقيف (١) ، وعاهدوه على طلب الثأر ، وعاقدوه على الإنجاد بأهل الأنظار ، وبات الوالي تلك الليلة يقلّب يديه (٢) ، وينظر فيما لديه ، ويرى أنّه قد توسّط من الشر لجّة (٣) ، وناظر بحجّة السّيف وحاذر مثلها حجّة.

__________________

(١) تشبيه لوالي ميورقة بأبي محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي (ت ٩٥ ه‍) نسبة إلى القبيلة العربية ثقيف التي كانت بالطائف. اشتهر بولائه للأمويين وحكم ولاية العراق عشرين سنة. عرف بالظلم والسطوة والشدة في تسيير الأمور ، كما اشتهر بفن الخطابة أيضا. ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

(٢) كناية عن الحيرة التي ألمت بالوالي جرّاء ما وقع.

(٣) لجة البحر : حيث لا يدرك قعره ، ولجّ البحر الماء الكثير الذي لا يرى طرفاه ، ولجّة الأمر : معظمه. واستعار حماس بن شامل اللّج للّيل فقال :

ومستنبح في لجّ ليل دعوته

بمشبوبة في رأس صمد مقابل

يعني معظمه وظلمه. ولجّ الليل : شدّة ظلمته وسواده. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٥٤.

٩٤

حديث مفاجأة الأسطول وإطلاله على الساحل للنزول

وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال ، والناس من خوفه في أهوال ، ومن أمر العدو في إمهال ، فدعا بصاحب شرطته المنزوع الحياء والرّحمة ، وأعطاه بطاقة بخمسين من أهل الوجاهة والنعمة ، وأمره بإحضارهم ، وعرّفه بأنه في انتظارهم. فانقض عليهم بذئابه العادية ، وكلابه العاوية (١) ، وحشرهم وهم سكارى (٢) من الذعر (٣) ، أسارى في يد القهر (٤) ، قد نزلت بهم النوائب ، وقامت عليهم النوادب ، فاليوم عصيب والرّيق عاصب (٥) ، وخصاب الحياة ناصل / ٢٢ / وهمّ فراقها ناصب ، وحضروا بدار الوالي وقومه قرمون (٦) للحومهم ، منتقمون من كرمهم بلومهم. حدّث بعضهم أنّه كان يرقب عين المنية متى تنظره (٧) ، ويروم قراءة آية من القرآن فلا تحضره.

__________________

(١) استعارة تصريحية فيها تشبيه من طرف المؤلّف لجنود الوالي وصاحب شرطته بالذئاب والكلاب.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى في وصف الساعة : (" يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ"). سورة الحج الآية الثانية.

(٣) كناية عن الخوف والرّعب الذي أصاب الأسرى.

(٤) استعارة مكنية فيها تشبيه للقدر بالإنسان الذي له يد.

(٥) عصب الفم يعصب عصبا وعصوبا : جف ويبس ريقه. قال ابن أحمر :

يصلي على من مات منا عريفنا

ويقرأ حتى يعصب الرّيق بالفم

وقال ابن بشامة الحنظلي :

وإن لقحت أيدي الخصوم وجدتني

نصورا إذا ما استيبس الريق عاصبه

لسان العرب ، ج ١ ، ص ٦٠٧.

(٦) قرم يقرم قرما وهو شدة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه. الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، ص ١٠٣٥.

(٧) استعارة مكنية فيها تشبيه للمنية (الموت) بالكائن الذي له عين كالإنسان وغيره.

٩٥

وبينا العيون شاخصة ، وظلال العيش قالصة ، وأيدي المنون قابضة قابصة (١) ، وعين الرّدى حارسة ، وشجاجه (٢) باضعة وحارصة ، أقبل فارس على هيئة النذير العريان (٣) ، وظن الناس أنه يحدّث من عصيان الرعية عن العيان ، ودخل من ساعته على الوالي فسأله ما الخبر المزعج ، ولم هذا العدوّ المرهب المرهج (٤)؟ فقال قد جاءكم الرّوم ، وهذه طيور مراكبهم على الساحل تحوم ، وما جئت بالقلب المروع ، حتى عددت فوق الأربعين من القلوع.

وما فرغ من إعلامه ، ولا انقضى آخر كلامه ، حتى جاء آخر من جانب آخر (٥) ، وقال إنّ أسطول العدو قد تظاهر ، وأنّه عدّ سبعين شراعا ،

__________________

(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف المنون بالكائن الذي له يد كالإنسان وغيره.

(٢) الشجاج : مفردها شجّة وهي الجرح الذي يكون في الوجه والرّأس فلا يكون في غيرهما من الجسم. وهي عشر : خمس ليس فيها قصاص ، وخمس فيها قصاص. أما الخمس التي ليس فيها قصاص فهي الحارصة والباضعة والدامية والدامعة والسمحاق. وأما التي فيها قصاص فهي الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة والدامغة ، ولكل شجّة منها مقدار من الإبل يتراوح ما بين خمس من الإبل وثلث الدّية. الإمام مالك ، الموطأ ، ص ٦١٨. عبد القادر عودة ، التشريع الجنائي في الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٣) النذير العريان : هو رجل من خثعم ، حمل عليه يوم ذي الخصلة عوف بن عامر بن أبي عوف بن مالك بن ذبيان بن ثعلبة بن عمرو بن يشكر فقطع يده ويد امرأته وكانت من بني عتوارة بن عامر ابن ليث بن بكر بن كنانة. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه قال : " إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أنذر قومه جيشا فقال : أنا النذير العريان أنذركم جيشا". خصّ العريان لأنه أبين للعين وأغرب وأشنع عند المبصر ، وذلك أن ربيئة القوم وعينهم ، يكون على مكان عال ، فإذا رأى العدو وقد أقبل نزع ثوبه وألاح به لينذر قومه ويبقى عريانا. لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٤٨.

(٤) الرّهج : الغبار. وأرهج الغبار : أثاره. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٢٨٤.

(٥) عند ما أبحر الأسطول الصليبي بقيادة خايمي الأول ملك أرغون من ساحل قطلونية في طريقه إلى ميورقة في العاشر من شوال سنة ٦٢٦ ه‍ / سبتمبر ١٢٢٩ م ، كان عدد سفنه ١٥٠ سفينة كبيرة من مختلف الأنواع ، وهو ما يؤكده ابن عميرة في نهاية هذه الفقرة. وبينما كانت سفن الأسطول تتجه إلى ثغر بلانسةPollensa في أقصى شمال شرق جزيرة ميورقة ، هبت ريح عاتية دفعتها قبالة الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة حيث اتجه قسم منها إلى جزيرة صخرية تدعى ـ

٩٦

ورأى السفن لجانب البر سراعا ، فصحّ الأمر عنده بما انضمّ من القرائن إلى الأنباء ، وبقي مترددا في الجماعة بين القتل والإحياء (١). ثم عزم على استبقائهم ، وأمر باستدعائهم ، فسمح لهم بالصّفح والعفو ، وعرّفهم بخبر العدو ، وأمرهم بالتجهز للغزو ، فخرجوا إلى دورهم ، وكأنما أنشروا من قبورهم (٢). وتقدّم الوالي بالتنوير في البرج المنيف ، وجعله في استنفار الرعية علامة هي مناط التكليف ، فقال الناس نار وراءها جندلة المراجم (٣) ، / ٢٣ / ووافدها وافد البراجم (٤). وإنما أراد أن يوقع في شرك شررها ، وتتم له حيلة تبسّطنا من

__________________

ـ بانتالوPantaleu وهي القوات التي خاضت أول معركة مع المسلمين في سانتا بونزا ، وذهب القسم الآخر إلى ميناء بوراساPorrasa حيث التقى بالمسلمين في معركة بورتوبي الواقعة على بعد ٥ كلم من مدينة ميورقة في الثامن عشر من شهر شوال. يوسف أشباخ ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين ، ج ٢ ، ص ١٧٢.

Clements Markham. The Story of Majorca and Minorca pp ٣١ ـ ٦١.

(١) طباق الإيجاب بين" القتل والإحياء".

(٢) كناية عن الوضع الصعب الذي كان يعاني منه الأسرى.

(٣) الجندل : الحجارة والواحدة جندلة. والمراجم جمع مرجام وهو الذي ترجم وترمى به الحجارة.

قال أمية الهذلي :

تمرّ كجندلة المنجنيق

يرمي بها السور يوم القتال

الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، ص ١٠٠٢. لسان العرب ، ج ١١ ، ص ١٢٨.

(٤) إن الشقي وافد البراجم : مثل عربي يضرب لمن يوقع نفسه في هلكة طمعا. والقائل هو عمرو بن هند الملك ، والسبب هو أن سويد بن ربيعة التميمي قتل أخاه وهرب ، فنذر الانتقام وأحرق به مائة من تميم وتسعة وتسعين من بني دارم وكلهم من النساء والصبيان ، ولم يقتل سوى رجلا واحدا من البراجم يسمّى عمارا. وكان عمرو بن هند الملك قد أعدّ ذات يوم نارا ليحرق بها عجوزا تميمية ، فلما رأى عمار الدخان يسطع قصده ظنا منه أنه طعام ، فوجد عنده عمرو بن هند في رجاله. وبعد أن سأله عن سبب قدومه قال له : إن الشقي وافد البراجم ، وأمر به فألقي في النار ، وذهبت كلمته مثلا وفي ذلك يقول جرير :

وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم

وأدرك عمارا شقي البراجم

٩٧

تبصّرها ، فما عشي إليها عاش (١) ، ولا بات أحد إلّا وقد غشيه من الذّعر غاش.

ثم جاءهم ثقاتهم في الخبر بالثبت ، وذلك في اليوم الثاني الذي هو يوم السبت (٢) ، وفيه وصل بعض الأجراء الساحلية ، فحققوا أنهم عاينوا العدو فيما يليهم من البحر مارا ، ولكتائبه البحرية الحربية جارّا ، وانّهم عدّوا من القلوع مائة وخمسين ريحها رخاء (٣) ، وعدوها في تلك الأرجاء إرخاء (٤) ، فدلّ طريقهم أنهم يؤمّون جهة مخصوصة ، ويقصدون المرسى المعروف بشنت بوصة (٥).

__________________

= كما عيرت تميم ينقب الطعام بسبب ما لقي عمار هىذا. الميداني مجمع الأمثال، ج ١، ص ١٧ وص ٥٤٨.

(١) عشا يعشو إذا أتى نارا للضيافة. وعشا إلى النار وعشاها عشوا وعشوّا واعتشاها واعتشى بها : رآها ليلا على بعد فقصدها مستضيئا بها. قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك. وعشوت إلى النار أعشو إليها عشوا إذا استدللت عليها ببصر ضعيف. والعرب تقول : عشوت إلى النار أعشو عشوا أي قصدتها مهتديا بها ، وعشوت عنها أي أعرضت عنها ، فيفرّقون بين إلى وعن موصولين بالفعل. لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٥٧.

(٢) أي السادس عشر من شهر شوال / الثامن من سبتمبر.

(٣) الريح الرّخاء : الريح اللينة السريعة لا تزعزع شيئا. قال تعالى عن نبيه سليمان : (" فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ"). سورة ص ، الآية ٣٦. وحيث أصاب أي حيث قصد. لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٣١٥.

(٤) الإرخاء : شدة العدو. وقيل : هو فوق التقريب. قال امرؤ القيس :

له أيطلا ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٣١٥.

(٥) شنت بوصة أو سانتا بونزاSanta Ponza : يقع هذا المرسى في الجنوب الغربي من مدينة ميورقة ويبعد عنها بحوالي ستة عشر كيلومترا (١٠ أميال). وفيه جرت أول معركة بين المسلمين والنصارى. عصام سيسالم ، جزر الأندلس المنسية ، ص ٤٢١.

٩٨

خبر الرّوم حين تأهّبوا بالمرسى

المذكور وتهيّأوا من عبره للعبور

لما اصطفت هنالك الكتائب ، واصطافت القطع والمراكب ، وآن أن ينزل الفارس ويركب الرّاكب ، وذلك في آخر شهر رمضان من السّنة (١) ، ورائد الأنواء (٢) يشكّك في الأمنة ، ويقضي بما يكون في المستقبل قضاء الكهنة ، رأى الرّوم الرياح متخالفة ، ورجّة (٣) البحر لسكونه خالفة ، وقالوا شهور القيظ قد انقضت ، ومدّة سكون البحر قد مضت ، وبروق هيجانه قد أو مضت ، ولا يخفى أن الفصل مخيف ، وكيف الإقدام على سفر بحري خفيره الخريف ، وما من مجتهد إلّا وبحظر / ٢٤ / هذا السفر قد أفتى ، وإذا

__________________

(١) شرع نصارى أرغون بقيادة ملكهم خايمي الأول في الإعداد والاستعداد لخوض الحملة الصليبية ضد جزيرة ميورقة ابتداء من شهر جمادى الأولى سنة ٦٢٦ ه‍ / أفريل ١٢٢٩ م. وفي آخر رمضان / أوت من نفس السنة أنهى الصليبيون استعداداتهم على ساحل قطلونية ، فأبحر الأسطول في العاشر من شهر شوال / سبتمبر باتجاه جزيرة ميورقة ، ليشتبك مع قواتها في الثامن عشر من نفس الشهر. عصام سيسالم ، جزر الأندلس المنسية ، ص ٤١٥ وما بعدها.

(٢) الأنواء : جمع نوء ، والنوء هو سقوط نجم في المغرب وطلوع آخر في المشرق ، فالساقطة في المغرب هي الأنواء ، والطالعة في المشرق هي البوارح. وكانت العرب تقول مطرنا بنوء كذا ، أي مطرنا بطلوع نجم وسقوط آخر. جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : من قال سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم وكفر بالله ، ومن قال سقانا الله فقد آمن بالله وكفر بالنجم. والأنواء ثمانية وعشرون نجما هي : الشرطان ، والبطين ، والنجم ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والخراتان ، والصرفة ، والعوّاء ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، والحوت. لسان العرب ، ج ١ ، ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) الرّجّ : التحريك. وارتجّ البحر وغيره : اضطرب. وفي الحديث : من ركب البحر حين يرتجّ فقد برئت منه الذّمة ، يعني إذا اضطربت أمواجه وتحركّت بشدّة. ورجّة القوم : اختلاط أصواتهم. ورجّة الرّعد : صوته. لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٢٨٢.

٩٩

لم يتأت الآن فنتركه إلى أن يتأتّى.

فمشوا إلى ملكهم على أن يطلبوه بأحد الأمرين : إرجاء السّفر إلى الرّبيع إذا جاء (١) ، أو الانصراف بالغزو إلى أي بلاد البرّ شاء ، فلمّا دخلوا عليه سبر معوّلهم ، وسبق بالكلام أوّلهم ، وقال حضرتم على غير وعد ، وقد أردتكم لما أعهده إليكم من عهد. ثم قال إني لوجهي هذا ماض ، وبرضّ المشاق فيه راض ، ولست آمن من الاخترام ، قبل الظفر بهذا المرام ، وخرّج إن مات على أولياء الطاغوت (٢) ، أن يضعوا جثته في التابوت (٣) ، ثم يركبوا السفين ، ويحملوا معهم الدّفين ، ويرحلوا به عند الرحيل ، ويقدّموه وقت القتال في أوّل الرّعيل (٤) ، فإذا أخذ البلد واروه في تربته ، وقضوا بذلك ذمام صحبته ، وقال هذا عهدي إليكم فأنفذوه إن كان التثليث معتقدكم ، وليت تماثيل أهل الإنجيل متعبدكم.

ثم حلف بالولد والوالد ، والمتكثر غير الواحد (٥) ، إن عاش فالرّاحة

__________________

(١) لما كان الأسطول الصليبي على أهبة الإبحار قاصدا ميورقة ، ساءت الأحوال الجوية وعصفت الرياح الجنوبية الغربية وعلت أمواج البحر واشتد اضطرابه ، فتقدم قبطان سفينة القيادة نيقولا بونيه Nicolas Bonet إلى الملك خايمي الأول ونصحه بالتريث والانتظار حتى تتحسن الأحوال الجوية ، ولكن الملك رفض هذا الاقتراح بشدة وصمم على الإبحار.

Frederick Chamberlin. The Balearics and their peoples. PO ٨.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (" اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ"). سورة البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٣) جناس ناقص بين" الطاغوت والتابوت".

(٤) جناس ناقص بين" الرّحيل والرّعيل".

(٥) طباق الإيجاب بين" المتكثر والواحد".

١٠٠