فلا يمكن الالتزام بتسلسل الإضافات والتعلّقات دون العلوم.
وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية ، فلأنّه ـ بعد فرض أنّ علمه تعالى صفة وجودية ـ لم يدرك العقل فرقا بين علمه تعالى ، و [ بين ] (١) علمه بعلمه ، حتّى يقال : إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري ، فإنّ الجميع علمه ، وعلمه صفة وجودية عندهم ، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.
ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ؛ لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته ، وليس هناك إلّا انكشاف المعلومات له ، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.
نعم ، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة ، لأمور غير متناهية ، في مراتب غير متناهية.
وأمّا ما أجاب [ به ] (٢) عن المحال الرابع ، فغير منطبق بكلا شقّي الترديد فيه على مراد المصنّف رحمهالله ، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ؛ لأنّ الذات في نفسها ـ مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات ـ خالية عن مقتضيات الإلهية ، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات ، ولا إله إلّا الله ، كان الله سبحانه مركّبا ، والتركيب ينفي الوجوب ...
مع إنّ القول بإلهية المركّب ـ لا الذات ـ في نفسها كفر بالإجماع والضرورة.
وأمّا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين عليهالسلام بصفات هي غير الذات
__________________
(١) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.
(٢) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.
بالكلّيّة ، فتخصيص بلا شاهد ، مع إنّه إنّما ينفع إذا كان القول بأنّ صفاته ليست عين ذاته ولا غيرها رافعا لإشكال التركيب والخروج عن الوجوب ، وهو بالضرورة ليس كذلك ؛ لأنّه اعتذار لفظي فقط لا يغيّر قولهم بزيادة الصفات على الذات الذي جاء الإشكال من قبله.
هذا ، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين عليهالسلام بكلامه المذكور إلى المحال الثاني ، ويكون حاصله :
من وصف الله سبحانه فقد قرنه بغيره ؛ وهو صفاته ..
ومن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ؛ لما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب ، فتكون واجبة الوجود بنفسها ، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته ، فيتعدّد الواجب ..
ومن عدّده وثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد صيّره ممكنا وجهله.
والله ووليّه أعلم.
وأمّا ما أجاب به عن المحال الخامس ، فحاصله :
إنّ قولنا : « الصفات ليست عين الذات ، ولا غيرها » اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.
وفيه : إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقة ـ كما سمعت بعضها ـ ، فكيف يكون اصطلاحا واعتبارا مجرّدا؟!
وبالجملة : إن أرادوا به الحقيقة ، فهو غير معقول ، كما بيّنه المصنّف رحمهالله.
وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح ، فلا مشاحّة.
لكن ما بالهم يجيبون به عن الأمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!
* * *
البقاء ليس زائدا على الذات
قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :
المبحث التاسع
في البقاء
وفيه مطلبان :
[ المطلب الأوّل
إنّه ليس زائدا على الذات
وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم بالباقي ، وأنّ الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته (٢).
ولزمهم من ذلك المحال ـ الذي تجزم الضرورة ببطلانه ـ من وجوه :
الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال بالضرورة.
بيان الملازمة : إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذا
__________________
(١) نهج الحقّ : ٦٥ ـ ٦٧.
(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ وما بعدها ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٦٤ ـ ١٦٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ، شرح التجريد : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.
يتحقّق في جانب العدم ؛ لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد القسمة مشترك ؛ ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر.
وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار ، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ؛ دار ..
وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر ، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ؛ وهو باطل بالضرورة ..
وإن احتاج أحدهما [ إلى صاحبه ] خاصة ، انفكّ الآخر عنه ؛ وهو ضروري البطلان.
الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ؛ لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر ..
فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر ـ الذي فرض باقيا ـ كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه ؛ وهو عين الدور المحال.
وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره ، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ؛ وهو غير معقول.
أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني ، وهو خطأ ؛ لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا [ مجرّدا ] ، والبقاء لا يعقل إلّا عرضا قائما بغيره.
وأيضا : يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ؛ لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذات محتاجة إليه ..
والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذاتية من
المحتاج ؛ ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء ؛ لعدم اختصاصه بذات دون أخرى.
الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا عن هذا البقاء ، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنيا عنه.
* * *
وقال الفضل (١) :
اتّفق المتكلّمون على إنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟
فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد (٢) إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه [ أي دون البقاء ] كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء (٣).
ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الرازي (٤) ، وجمهور معتزلة
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩.
(٢) منهم : بشر بن المعتمر الهلالي ( ت ٢١٠ ه ) ، وثمامة بن الأشرس البصري ( ت ٢١٣ ه ) ، وأبو جعفر محمّد بن عبد الله الإسكافي ( ت ٢٤٠ ه ) ، وعيسى بن الهيثم الصوفي الخيّاط ( ت ٢٤٥ ه ) ، وأبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي ( ت ٣١٩ ه ).
(٣) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.
(٤) أمّا القاضي أبو بكر فهو : محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلّاني ، المتكلّم ، المالكي مذهبا ، الأشعري اعتقادا وطريقة.
ولد سنة ٣٣٨ ه ، وسكن بغداد وتوفّي بها سنة ٤٠٣ ه ، من تصانيفه : إعجاز القرآن ، الملل والنحل ، وهداية المسترشدين في الكلام ، وتمهيد الأوائل ، والإنصاف.
انظر في ترجمته : ترتيب المدارك ٢ / ٥٨٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٦٩ رقم ٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٩٠ رقم ١١٠ ، شذرات الذهب ٣ / ١٦٨ ، هديّة العارفين ٦ / ٥٩.
البصرة (١) ، وقالوا : البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني ، لا أمر زائد عليه (٢).
ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري ، فنقول : أورد عليه ثلاث إيرادات :
الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ... إلى آخر الدليل.
__________________
وأمّا إمام الحرمين فهو : ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، الفقيه الشافعي.
ولد سنة ٤١٩ ه ، قدم بغداد ثمّ سافر وجاور مكّة والمدينة ، ورجع إلى نيسابور يدرّس العلم ، ويعظ ، إلى أن توفّي بها سنة ٤٧٨ ه ؛ من تصانيفه : الإرشاد في علم الكلام ، البرهان في الأصول ، غياث الأمم ، نهاية المطلب.
انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٣ / ١٦٧ رقم ٣٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨ رقم ٢٤٠ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٥ / ١٦٥ رقم ٤٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ٣٥٨ ، هديّة العارفين ٥ / ٦٢٦.
وأمّا الرازي فهو : أبو عبد الله فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن ، الفقيه الشافعي ، المعروف بابن الخطيب.
ولد بالريّ سنة ٥٤٣ ه أو ٥٤٤ ه ، وتوفّي بمدينة هراة سنة ٦٠٦ ه ، له تصانيف كثيره في فنون عديدة ، منها : تفسير القرآن الكريم ، المطالب العالية ، نهاية العقول ، الأربعين في أصول الدين ، المحصّل ، إبطال القياس.
انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٤ / ٢٤٨ رقم ٦٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢١ / ٥٠٠ رقم ٢٦١ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٨ / ٨١ رقم ١٠٨٩ ، شذرات الذهب ٥ / ٢١ ، هديّة العارفين ٦ / ١٠٧.
(١) منهم : واصل بن عطاء ( ت ١٣١ ه ) ، وعمرو بن عبيد ( ت ١٤١ ه ) ، وأبو بكر الأصمّ ( ت ٢٠٠ ه ) ، وإبراهيم النظّام ( ت ٢٣١ ه ) ، وأبو الهذيل العلّاف ( ت ٢٣٥ ه ) ، وأبو علي الجبّائي ( ت ٣٠٣ ه ) ، وأبو هاشم الجبّائي ( ت ٣٢١ ه ).
(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.
والجواب : إنّ البقاء عني به استمرار الوجود ، لا الاستمرار المطلق حتّى يلزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ، فاندفع ما قال.
الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ...
ثمّ ذكر أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ...
وهذا الجواب افتراء عليهم! (١).
بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه ، وما قيل [ من ] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به ، ممنوع ؛ غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلّا مع البقاء ، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق (٢).
فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.
الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا ، كان في الثاني كذلك.
والجواب : إنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني ، غنيّ عنه في الزمان الأوّل ، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتيّين ..
وهو حسب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد ، وفي الزمان الثاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!
__________________
(١) بل حكاه الفخر الرازي في : الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٣.
(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٨.
وأقول :
ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء ، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء ، ضروري البطلان ؛ لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجدّدة.
ولو سلّم ، فلا يدلّ على كونها وجودية ، بل يجوز أن تكون اعتبارية ـ كما هو الحقّ ـ كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحوادث.
وذكر شارح « المواقف » الجواب الأخير وعلم به الخصم (١) ، فإنّ ما ذكره من كيفية الخلاف قد أخذه من « المواقف » وشرحها (٢) ، فكان الأحرى به تركه.
وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الأوّل ، ففيه :
إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار ، لكن إذا كان البقاء صفة للوجود ، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد ، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود ، فإنّه لا يدّعيه عاقل ، وذلك نظير الوجود ، فإنّه عبارة عن الثبوت ، فإذا كان وصفا لزيد ، كان عبارة عن ثبوته ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ؛ فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.
__________________
(١) شرح المواقف ٨ / ١٠٧.
(٢) المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.
وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني ، ففيه : إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء ، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق ، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ؛ وهو غير معقول ؛ لا من طرف الذات ؛ لاستلزامه جواز أن لا تبقى ، فتكون ممكنة ؛ ولا من طرف البقاء ؛ لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.
وأيضا : لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقيا ، لكان البقاء مستغنيا في نفسه عن الذات ، فيكون جوهرا ، وهو غير معقول ؛ ويكون واجبا إن استغنى عن غيرها أيضا ؛ أو ممكنا إن احتاج إليه ؛ ولا بدّ أن ينتهي إلى واجب آخر ، فيكون مع الذات واجب آخر ، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجوب.
وأيضا : لو استغنى البقاء عنها ، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء ، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.
فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة ـ وإن كان بعض ما زدناه واردا أيضا على ما نقله المصنّف عنهم ـ فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!
لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير « المواقف » ، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب ، على إنّ جواب « المواقف » وشرحها ـ الذي ذكره ـ مشتمل على ما نقله المصنّف ؛ لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقيا ، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.
وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث ، فأجنبيّ عن الإشكال .. لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنيا عن البقاء ، وفي الزمن الثاني محتاجا إليه ..
وقد تخيّل أنّ مراد المصنّف هو اختلاف أفراد الوجود ، فبعضها غني عن البقاء في الزمن الأوّل ، محتاج إليه في الزمن الثاني ، والبعض الآخر ليس كذلك ، فأشكل عليه بعدم اختلاف أفراد الوجود بالغنى والاحتياج.
نعم ، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود : أحدهما : الوجود في الزمن الأوّل ، وثانيهما : الوجود في الزمن الثاني ..
فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء ، وبعض أفرادها مستغنيا عنه ، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ؛ لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتا (١) ، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.
ولو بنى المصنّف رحمهالله الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد ، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر ، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفا بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.
وقد كان الأولى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كلا الوجهين.
* * *
__________________
(١) انظر مؤدّاه في شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧.
إنّه تعالى باق لذاته
قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ (١) :
المطلب الثاني
في أنّ الله تعالى باق لذاته
الحقّ ذلك ؛ لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا ؛ للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء (٢).
وهو خطأ لما تقدّم (٣) ؛ ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع إنّ ذاته محتاجة إلى البقاء ، فيدور.
وإن قام بغيره كان وصف الشيء حالّا في غيره ؛ ولأنّ غيره محدث.
وإن قام البقاء بذاته كان مجرّدا.
وأيضا : بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ؛ ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ، فيكون له بقاء آخر ، ويتسلسل.
__________________
(١) نهج الحقّ : ٦٧.
(٢) شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.
(٣) راجع : المبحث التاسع ، الصفحة ٢٨٥ وما بعدها.
وأيضا : صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.
* * *
وقال الفضل (١) :
قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل ..
قوله : « لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ».
قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا.
قوله : « ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ».
قلنا : لا يلزم التكثّر ؛ لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة.
قوله : « احتاج البقاء إلى ذاته ، وذاته محتاجة إلى البقاء ، فيلزم الدور ».
قلنا : مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان معا كما سبق (٢) ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه ، بل هما متحقّقان معا.
قوله : « بقاؤه باق ».
قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، كاتّصاف الوجود بالوجود.
قوله : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ».
قلنا : ممنوع ؛ لأنّا قائلون بقدمه.
قوله : « يكون له بقاء آخر ، ويتسلسل ».
قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء.
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٥٢.
(٢) تقدّم في الصفحة ٢٩٠ من هذا الجزء.
قوله : « صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ».
قلنا : قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّيّة ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ، وتبقى الصفات ببقاء الذات ، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.
وأقول :
ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم : إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّيّة.
وقد عرفت أنّه لا طائل تحته ، إذ لا يرجع إلّا لإصلاح لفظي ، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود ، فتغاير الذات بالكلّيّة ، فيلزم إمكان الذات ، لحاجتها في الوجود إلى غيرها ، وهو البقاء ، ويلزم التكثّر.
وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور ، من عدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق ، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « بقاؤه باق » ، من أنّ بقاء البقاء عينه ، ففيه :
إنّه لو ساغ ذلك فلم لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع إنّه باطل على مذهبهم ؛ لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض (١) ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالما لا علم له ، وقادرا لا قدرة له ، وباقيا لا بقاء له ، وهكذا ...
فإذا قالوا : إنّ بقاء البقاء عينه ، كان البقاء باقيا لا بقاء له ، وهو باطل بزعمهم (٢).
__________________
(١) المواقف : ٢٨٠.
(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.
وأيضا : دليلهم السابق الذي استدلّوا به على إنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الذات وارد مثله في بقاء البقاء ..
فيقال : تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء ، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء ، فيلزمهم أيضا أن يكون بقاء البقاء أيضا صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء ، لا أنّها عينه.
وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث » ..
فهو دالّ على إنّه لم يفهم مراده ، فإنّه لم يدّع أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه ، بل أراد أن يستدلّ على قوله : « بقاؤه باق » بأمرين :
الأوّل : امتناع طرق العدم إلى صفاته.
الثاني : إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء ، لكان البقاء حادثا ؛ لأنّ ما يجوز عدمه حادث ، ولو كان البقاء حادثا لكان الواجب محلّا للحوادث ، فلا بدّ أن يكون البقاء باقيا ، وهكذا .. ويتسلسل.
وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات ، وهو ليس بمحال ؛ لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعا وإن خالفه اعتبارا.
وفيه : إنّه مستلزم لكون البقاء أيضا اعتباريا ، فلم قالوا : إنّه صفة وجوديّة؟! (١) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.
__________________
(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٦.