دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: ٤٥٤

وثالثا : إنّ عدم تسليم كون العرفان الحاصل بالنظر دافعا للخوف ، لاحتمال فساد النظر ، خطأ ثالث ؛ لأنّ كلّ قاطع لا يتصوّر حين قطعه أنّه مخطئ ، ولا يحتمل فساد نظره ، إذ يرى أنّه قد انكشف له الواقع ، وإلّا لم يكن قاطعا (١) ، فكيف لا يرتفع خوفه وإن كان مخطئا في نفس الأمر والواقع؟!

بل عرفت في المبحث السابق (٢) أنّ النظر دافع للخوف وإن لم يؤدّ إلى القطع ؛ لأنّه غاية المقدور.

فإن قلت :

المقصود : إنّ من يريد النظر يحتمل أنّه على تقدير قطعه يكون مخطئا ، فلا يكون الإقدام على النظر مؤمّنا من الخطأ ودافعا للخوف حتّى يجب.

قلت :

إنّه وإن احتمل ذلك ، إلّا أنّه يعلم بانتفاء الخوف معه ، لعلمه بكون القاطع معذورا وإن أخطأ ، فالإنسان بدون النظر في خوف ، ومع النظر يحصل له الأمان ، لعلمه بأنّه إمّا أن يحصل له القطع ، أو لا.

وعلى التقديرين يكون معذورا آمنا ؛ لأنّ ذلك غاية مقدوره.

وأمّا ما ذكره في دفع الدور ، فلا ربط له بمقدّمتي الدور اللتين

__________________

(١) انظر : كفاية الأصول : ٢٥٨.

(٢) انظر الصفحة ١٤٨.

١٦١

ذكرهما المصنّف ..

لأنّ الأولى قائلة : إنّ معرفة الإيجاب متوقّفة على معرفة الموجب.

والثانية قائلة : إنّ معرفة الموجب متوقّفة على معرفة الإيجاب.

وصريح ما ذكره الفضل منع توقّف وجوب المعرفة على معرفة الإيجاب ، وهو أجنبي عن المقدّمتين.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى تكليف غير العارف ، فممّا تلقّنه من « المواقف » وشرحها بلفظه ، من دون معرفة بعدم صلوحه للجواب ، فإنّه يرد عليه أمور :

الأوّل : إنّه غير مرتبط بمراد المصنّف ؛ لأنّه أراد بغير العارف من لم يعرف الله تعالى ، لا الغافل عن التكليف.

الثاني : إنّه زعم أنّ شرط التكليف فهمه ، وفسّر الغافل بمن لا يفهم الخطاب ، ثمّ حكم بأنّ تكليفه غير محال ؛ وهو تناف ظاهر ؛ لأنّه إذا اشترط في التكليف فهمه ، وكان الغافل لا يفهم الخطاب ، فكيف يجوز تكليفه؟!

الثالث : إنّ كلام المصنّف اشتمل على مقدّمتين لا ربط لجواب الفضل بهما :

الأولى : إنّ غير العارف بالله ـ بما هو غير عارف به ـ يستحيل أن يعرف أنّ الله قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

الثانية : إنّه إذا استحال ذلك استحال أمر الله تعالى ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يصلح أن يكون ردّا لإحدى المقدّمتين لو كان له معنى!

١٦٢

مباحث الصفات الإلهيّة

١٦٣
١٦٤

الله تعالى قادر على كلّ مقدور

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

المسألة الثالثة

في صفاته تعالى

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور

الحقّ ذلك ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، فيكون الله تعالى قادرا على جميع المقدورات.

وخالف في ذلك جماعة من الجمهور :

فقال بعضهم : إنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد (٢).

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٦٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٠ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٦٣ ؛ والقول لأبي القاسم البلخي.

١٦٥

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على غير (١) مقدور العبد (٢).

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على القبيح (٣).

وقال آخرون : إنّه لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلّق بما علمناه مكتسبا (٤).

وكلّ ذلك بسبب سوء فهمهم ، وقلّة تحصيلهم!

والأصل في هذا أنّه تعالى واجب الوجود ، وكلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه إنّما يصدر عنه ، ( أو يصدر عمّا يصدر عنه ) (٥).

ولو عرف هؤلاء الله تعالى حقّ معرفته لم تتعدّد آراؤهم ، ولا تشعّبوا بحسب ما تشعّبت أهواؤهم.

__________________

(١) كذا في الأصل والمصدر ، وفي أغلب المصادر المنقول عنها : « عين » ، وفي بعضها : « نفس » ؛ فلاحظ!

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٦٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤١ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح المواقف ٨ / ٦٤ ؛ والقول لأبي علي وأبي هاشم الجبّائيّين.

(٣) الملل والنحل ـ للبغدادي ـ : ٩١ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ١٣٠ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٤٧ ـ ٤٨ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٠ ، المواقف : ٢٨٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٦٣ ؛ والقول للنظّام.

(٤) لعلّ هذا هو قول عبّاد بن سليمان ، تلميذ هشام الفوطي ؛ فانظر مؤدّاه في : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ١٣٣.

(٥) ما بين القوسين ليس في المصدر.

١٦٦

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ قدرته تعالى تعمّ سائر المقدورات ، والدليل عليه : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها (٢).

هذا مذهبهم ، وقد وافقهم الإمامية في هذا وإن خالفهم المعتزلة.

فقوله : « خالف في ذلك جماعة من الجمهور » إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس ، وإراءة للطالبين أنّ مذهبهم هذا ؛ لأنّ « الجمهور » ـ في هذا الكتاب ـ لا يطلقه إلّا على الأشاعرة ، وبالجملة : تعصّبه ظاهر ، وغرضه غير خاف.

وأمّا قول بعضهم : إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ؛ فهو مذهب أبي القاسم البلخي (٣).

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) المواقف : ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ٦٠.

(٣) وأبو القاسم البلخي هو : عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، ولد عام ٢٧٣ ه‍ ، من متكلّمي المعتزلة البغداديّين ، ومن نظراء أبي علي الجبّائي ، صنّف في الكلام كتبا كثيرة ، منها : كتاب المقالات ، وكتاب الغرر ، والتفسير الكبير ، وغيرها.

يقال إنّه كان رئيسا لفرقة من المعتزلة تدعى الكعبية نسبت إليه ، أقام في بغداد ، وعاد إلى بلخ خراسان حتّى توفّي فيها سنة ٣١٩ وقيل ٣٢٩ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ٩ / ٣٨٤ رقم ٤٩٦٨ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٥ رقم ٣٣٠ ، سير

١٦٧

وأمّا أنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا ، فهو مذهب جماعة مجهولين ، ولم أعرف من نقله سوى هذا الرجل ، والحقّ ما قدّمناه.

__________________

أعلام النبلاء ١٤ / ٣١٣ رقم ٢٠٤ ، لسان الميزان ٣ / ٢٥٥ رقم ١١٠٣ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٨١ حوادث سنة ٣١٩ ه‍.

١٦٨

وأقول :

لا يخفى أنّ المقدّمة الأولى من دليلهم ـ المذكور ـ القائلة : « إنّ المقتضي للقدرة هو الذات » مبنية على إنّ صفاته تعالى غير ذاته ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّها عين ذاته.

كما أنّ المقدّمة الثانية القائلة : « المصحّح للمقدورية هو الإمكان » مستلزمة للدور أو التسلسل ؛ لأنّ صفاته سبحانه عندهم ممكنة ، ومنها القدرة ، فيلزم أن تكون القدرة مقدورة ، وهو دور أو تسلسل.

وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة : إنّ نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فمحلّ إشكال ؛ كيف؟! واقتضاء الذات لصفاتها الممكنة عندهم بالإيجاب ، ولباقي الممكنات بالاختيار ؛ فتختلف النسبة.

وعليه : فمن الجائز أن تكون مقدورية بعض الممكنات للذات مشروطة بشرط منتف ، أو أنّ لمقدوريّتها لها مانعا ، فلا يثبت عموم قدرته.

فالأولى الاستدلال عقلا لعموم قدرته تعالى ، بما ذكره المصنّف من أنّ المقتضي ـ أي العلّة ـ لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، ضرورة توقّف ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على القدرة.

فإن قلت :

إنّما يثبت بهذا الدليل عموم مقدورية الممكنات لا عموم قدرته تعالى ، إذ لو أثبت عمومها لأثبت عموم قدرة العبد أيضا ، لجريان الدليل بعينه فيها ، فيجوز أن يكون بعض الممكنات مقدورا لله تعالى ، وبعضها

١٦٩

مقدورا للعبد خاصة لاختلاف الخصوصيات.

قلت :

الإمكان يستدعي الحاجة إلى المؤثّر والانتهاء إلى الواجب تعالى ، فيصلح هذا الدليل دليلا لعموم قدرته تعالى ، بلحاظ ما يستتبعه الإمكان من حاجة كلّ ممكن إليه عزّ وجلّ ، لا بلحاظ ذات الإمكان فقط حتّى يلزم عموم قدرة العبد أيضا.

فإن قلت :

الحاجة إنّما تقتضي تأثّر الممكن عن الواجب ـ ولو بنحو الإيجاب ـ فلا يلزم عموم قدرته لكلّ ممكن ، لجواز كونه سبحانه موجبا لبعض الممكنات كما يقوله الأشاعرة في صفات الباري سبحانه (١) ، والإيجاب مناف للقدرة على الصحيح ، لاعتبار أن تكون صالحة للفعل والترك.

قلت :

لا يصحّ فرض كونه تعالى موجبا ، لاستلزامه تعدّد القدماء ، وهو باطل ، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس » ..

__________________

(١) المواقف : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ٥٦ ـ ٥٩.

١٧٠

ففيه :

إنّه أراد به من قدّموا على أمير المؤمنين عليه‌السلام غيره ، لتصريحه في المبحث الآتي بأنّ أبا هاشم (١) من الجمهور ، وفي مباحث البقاء ، بأنّ النظّام (٢) منهم ، مع إنّهما من المعتزلة ، فلا تلبيس منه.

هذا ، وللقوم أقوال أخر لم يتعرّض لها المصنّف ، ذكر في « المواقف » بعضها (٣) ، وذكر ابن حزم في أواخر الجزء الثاني من « الملل والنحل » جملة منها (٤).

__________________

(١) هو : عبد السّلام بن أبي علي محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام الجبّائي المعتزلي ، ولد سنة ٢٤٧ ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ، له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب الجامع الكبير ، كتاب العرض ، وكتاب المسائل العسكرية ، توفّي في بغداد سنة ٣٢١ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ٥٥ ـ ٥٦ رقم ٥٧٣٥ ، وفيات الأعيان ٣ / ١٨٣ ـ ١٨٤ رقم ٣٨٣ ، سير أعلام النبلاء ١٥ / ٦٣ ـ ٦٤ رقم ٣٢ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٨٩ حوادث سنة ٣٢١ ه‍.

(٢) هو : أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري ، كان مولى للزياديّين ، وهو من ولد العبيد قد جرى عليه الرقّ في أحد آبائه ، كان من شيوخ المعتزلة ، وهو شيخ الجاحظ ، له تصانيف ، منها : الطفرة ، الجواهر والأعراض ، حركات أهل الجنّة ، كتاب الوعيد ، وكتاب النبوّة.

كان متكلّما أديبا ، وشاعرا بليغا ، وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلّمين ، وقيل : إنّه كان نظّاما للخرز في سوق البصرة ، توفّي سنة بضع وعشرين ومائتين ، وقيل : سنة ٢٣١ ه‍.

انظر : الفهرست ـ للنديم ـ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، الفرق بين الفرق : ١١٣ ـ ١١٤ ، تاريخ بغداد ٦ / ٩٧ ـ ٩٨ رقم ٣١٣١ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٤١ رقم ١٧٢ ، لسان الميزان ١ / ٦٧ رقم ١٧٣.

(٣) المواقف : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٦٣.

(٤) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٦٨ ـ ٧٠ وج ٣ / ١٢٨ وما بعدها.

١٧١

وحكى نصير الدين الطوسي في كتاب « قواعد العقائد » القول بأنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما يتعلّق بما علمناه مكتسبا (١).

واعلم أنّ قولنا : بأنّه تعالى قادر على القبيح ؛ لا دخل له بالوقوع ، فإنّ القدرة على الشيء بما هو ممكن بالذات لا تنافي امتناعه أو وجوبه بالغير ، وهو ظاهر.

ويدلّ من النقل على عموم قدرته تعالى ، مثل قوله تعالى : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢).

__________________

(١) انظر مؤدّاه في قواعد العقائد : ٤٤٦ ، وراجع الصفحة ١٦٦ الهامش ٤ من هذا الجزء.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٨٤ ، سورة آل عمران ٣ : ٢٩ و ١٨٩ ، سورة المائدة ٥ : ١٧ و ١٩ و ٤٠ ، سورة الأنفال ٨ : ٤١ ، سورة التوبة ٩ : ٣٩ ، سورة الحشر ٥٩ : ٦.

١٧٢

الله تعالى مخالف لغيره

قال المصنّف ـ طيّب الله ضريحه ـ (١) :

المبحث الثاني

في أنّه تعالى مخالف لغيره

العقل والسمع متطابقان على عدم ما يشبهه تعالى ، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته.

وذهب أبو هاشم ـ من الجمهور ـ وأتباعه إلى أنّه تعالى يخالف ما عداه بصفة الإلهية ، وأنّ ذاته مساوية لغيره من الذوات (٢).

وقد كابر الضرورة ـ ها هنا ـ الحاكمة بأنّ الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد ، لا يجوز اختلافها فيه.

فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات ، لساواها في اللوازم ، فيكون القدم ، أو الحدوث ، أو التجرّد ، أو المقارنة .. إلى غير ذلك من اللوازم ، مشتركا بينها وبين الله ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ إنّهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ هذه الصفة الموجبة

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٣٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٢٣ ، المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٥.

١٧٣

للمخالفة غير معلومة ، ولا مجهولة ، ولا موجودة ، ولا معدومة! (١).

وهذا الكلام غير معقول ، وفي غاية السفسطة (٢).

* * *

__________________

(١) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٦٩.

(٢) في المصدر : السقوط.

١٧٤

وقال الفضل (١) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه (٢).

وهكذا ذهب إلى أنّ : المخالفة بين كلّ موجودين من الموجودات إنّما هي بالذات ، وليس بين الحقائق اشتراك إلّا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقوّمة (٣).

وقال قدماء المتكلّمين : ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة ، وإنّما يمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة : الوجوب ، والحياة ، والعلم التامّ ، والقدرة التامّة (٤).

وأمّا عند أبي هاشم : فإنّه يمتاز عمّا عداه من الذوات بحالة خاصة خامسة ، هي الموجبة لهذه الأربعة ، تسمّى ب‍ « الإلهيّة » (٥) ، وهذا مذهب أبي هاشم ، وهو من المعتزلة.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢ ـ ٥) تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ المسألة الخامسة ، المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤ ـ ١٥.

١٧٥

وأقول :

هذا كلّه من كلام « المواقف » وشرحها إلى قوله : « تسمّى ب‍ :

الإلهية » (١) ، فكأنّه جاء ناقلا لكلامهما بلا فائدة تتعلّق بالجواب عن أبي هاشم وغيره من مثبتي الأحوال.

وقوله : « هو من المعتزلة » لا ينفعه ؛ لأنّ بعض مثبتي الأحوال من الأشاعرة (٢) ، وهم قائلون بمقالة أبي هاشم! على إنّ المصنّف بصدد الردّ على الجمهور مطلقا من دون خصوصية للأشاعرة.

ثمّ إنّ الأشعري يقول : إنّ الاشتراك بالأحكام يستلزم الاشتراك بالذات والذاتيّات (٣) ؛ فما معنى حكمه بالمخالفة بين الموجودات في الذات مع اشتراكها في الأحكام؟! اللهمّ إلّا أن يريد ب‍ « الأحكام » الأمور الاعتبارية لا الحقيقية.

هذا ، واستدلّ ـ أيضا ـ أصحابنا وغيرهم على المخالفة ، بأنّه تعالى لو شاركه غيره في الذات والحقيقة لخالفه بالتعيين ، لضرورة التعدّد ، ولا ريب أنّ ما به الافتراق غير ما به الاتّفاق (٤) ، فيلزم التركيب في هويّة الواجب تعالى ، وهو باطل.

__________________

(١) المواقف : ٢٦٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤ ـ ١٥.

(٢) كالقاضي أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني ، المتوفّى سنة ٤٠٣ ه‍.

انظر : الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٢.

(٣) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤) انظر : المراسلات بين القونوي والطوسي : ٩٩ وما بعدها ، نهاية الحكمة : ١٨.

١٧٦

وبقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١).

واستدلّ أبو هاشم وأتباعه على المساواة ، بأنّ الذات تنقسم إلى : الواجب والممكن ، ومحلّ القسمة مشترك بين أقسامه (٢).

وردّ بأنّ « المشترك » هو مفهوم الذات ، وهو اعتباري ، فلا ينفع الاشتراك فيه في إثبات الاشتراك بالحقيقة والماهيّة.

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ : ١١.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٧١.

١٧٧
١٧٨

إنّه تعالى ليس بجسم

قال المصنّف ـ ضاعف الله ثوابه ـ (١) :

المبحث الثالث

في أنّه تعالى ليس بجسم

أطبق العقلاء على ذلك ، إلّا أهل الظاهر كداود (٢) ، والحنابلة كلّهم ، فإنّهم قالوا : إنّ الله تعالى جسم يجلس على العرش ، ويفضل عنه من كلّ جانب ستّة أشبار بشبره (٣)!!

وإنّه ينزل في كلّ [ ليلة ] جمعة على حمار [ و ] ينادي إلى الصباح :

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) هو : داود بن علي بن خلف الكوفي ، أبو سليمان الأصفهاني ، المعروف بالظاهري ، ولد سنة ٢٠٢ ، وتوفّي سنة ٢٧٠ ه‍ ، وهو إمام أهل الظاهر.

رحل إلى نيسابور ، ثمّ قدم بغداد فسكنها وصنّف كتبه بها ، ومنها : إبطال التقليد ، إبطال القياس ، كتاب المتعة ، كتاب مسألتين خالف فيهما الشافعي.

انظر : تاريخ بغداد ٨ / ٣٦٩ ـ ٣٧٥ رقم ٤٤٧٣ ، وفيات الأعيان ٢ / ٢٥٥ رقم ٢٢٣ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٢ / ٢٨٤ رقم ٦٢ ، هديّة العارفين ٥ / ٣٥٩.

أو هو : داود الجواربي ، الذي هو رأس في التجسيم.

انظر : لسان الميزان ٢ / ٤٢٧ رقم ١٧٥٧.

(٣) انظر : التوحيد ـ لابن خزيمة ـ : ١٠٧ ، الكامل في التاريخ ٧ / ١١٤ في ذكر فتنة الحنابلة سنة ٣٢٣ ه‍.

١٧٩

هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ (١)!!

وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها.

والسبب في ذلك قلّة تمييزهم ، وعدم تفطّنهم بالمناقضة التي تلزمهم ، وإنكار الضروريات التي تبطل مقالتهم.

فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ جسم لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وقد ثبت في علم الكلام أنّهما حادثان ، والضرورة قاضية بأنّ ما لا ينفكّ عن المحدث فإنّه يكون محدثا ، فيلزم حدوث الله تعالى.

والضرورة [ الثانية ] قاضية بأنّ كلّ محدث فله محدث ، فيكون واجب الوجود مفتقرا إلى مؤثّر ، ويكون ممكنا ، فلا يكون واجبا [ وقد فرض أنّه واجب ] ، وهذا خلف.

وقد تمادى أكثرهم فقال : إنّه تعالى يجوز عليه المصافحة ، وإنّ المخلصين ( في الدنيا ) (٢) يعانقونه في الدنيا (٣).

وقال داود (٤) : أعفوني عن الفرج واللحية ، واسألوني عمّا وراء ذلك!! (٥).

__________________

(١) انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٧ ، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ: ١٢٦ ، الأسماء والصفات ـ للبيهقي ـ ٢ / ١٩٦.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢١٤ ، شرح المواقف ٨ / ٣٩٩.

(٤) هو داود الجواربي ، وقد تقدّمت الإشارة إليه في الصفحة السابقة ه‍ ٢.

(٥) الفرق بين الفرق : ٢١٦ ، التبصير في الدين ـ للإسفرايني ـ : ١٢٠ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٩٣ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ٥ / ٦٤٣ ( الهشامي ) ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٢٤ ؛ وانظر : شرح المواقف ٨ / ٣٩٩ ولم يصرّح باسم القائل ، بل نسبه إلى : « بعضهم ».

١٨٠