[ أدلّة الأشاعرة وإبطالها ]
هذا ، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة ، وإبطالها ، تتميما للفائدة ، فنقول :
استدلّوا على مذهبهم بالعقل ـ وقد تقدّم بما فيه (١) ـ وبالنقل ، وهو أمران :
[ الأمر ] الأوّل :
ما يدلّ على إمكان الرؤية ، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى عليهالسلام : ( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (٢) ..
والحجّة به من جهتين :
[ الجهة ] الأولى :
إنّ موسى عليهالسلام سأل الرؤية لنفسه ، ولو امتنعت لما سألها (٣).
وأجيب عنه بأمور ..
__________________
(١) راجع الصفحة ٦٣ وما بعدها من هذا الجزء.
(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.
(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٠ ـ ٦١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.
أحسنها : أنّه إنّما سألها على لسان قومه ، ويشهد لصحّته أمور :
الأوّل : الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى عليهالسلام.
الثاني : قوله في هذه الآية : ( سُبْحانَكَ ) (١) فإنّه ظاهر في تنزيه الله عن الرؤية ، وهو يقتضي كونها نقصا ممتنعا عليه سبحانه ، فإذا كان عالما بكونها نقصا ، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.
واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال ـ لو تمّ بالنسبة إلى موسى ـ كان لنا لا علينا ؛ لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!
على إنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية ، ولذا قال : ( سُبْحانَكَ ).
الثالث : قوله تعالى حكاية عن موسى عليهالسلام : ( قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) (٢) فإنّ المراد ب : ( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية ، كما عن جماعة من المفسّرين (٣).
فإن قلت :
على هذا كان ينبغي أن يقول : أرهم ينظرون إليك.
__________________
(١) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.
(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٥٥.
(٣) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٧٧ ، تفسير الماوردي ٢ / ٢٦٥ ، الكشّاف ٢ / ١٢١ ، زاد المسير ٣ / ٢٠٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٢٠ ، تفسير القرطبي ٧ / ١٨٧ ، تفسير البيضاوي ١ / ٣٦٢ ، البحر المحيط ٤ / ٢٩٩ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٣٩ ، الدرّ المنثور ٣ / ٥٦٩.
قلت :
إنّما قال : ( أَرِنِي ) لأنّه أثبت لظلمهم ، وأقوى حجّة عليهم ؛ لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسبيبهم طلب الرؤية ـ والحال أنّ سائلها لنفسه موسى ، وهو المقرّب عند الله تعالى ـ فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريرا للباطل ، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة ، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلما فتمتنع.
الجهة الثانية :
إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه ، وهو استقرار الجبل ، والمعلّق على الممكن ، ممكن (١).
وفيه :
منع الكبرى إذا كان المقصود مجرّد فرض الطرفين أو أحدهما ، لا الحقيقة.
ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعا بالغير ، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه ، ولذلك صحّ العكس ، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (٢).
__________________
(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٨١ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٢.
(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٢.
على إنّه يكفي في صحّة التعليق على الممكن ، إمكان الرؤية في اعتقاد السائلين ، ليترتّب عليه معرفة الامتناع بالعقاب على السؤال ، الذي هو أدلّ من القول ، مضافا إلى قول موسى بعد ذلك : ( سُبْحانَكَ ) الدالّ على الامتناع كما عرفت.
الأمر الثاني :
ما دلّ على وقوع الرؤية ، وهو آيات وأخبار عندهم.
أمّا الآيات ، فهي :
قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (١).
وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (٢) ، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية (٣).
وقوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (٤) ؛ لأنّ المراد بالزيادة : الرؤية ، كما رواه صهيب عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذهب إليه كثير من المفسّرين (٥).
__________________
(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٢ و ٢٣.
(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ١٥.
(٣) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٥٩ و ٦٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٩٢ و ٢٩٥ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٢ و ١٩٥.
(٤) سورة يونس ١٠ : ٢٦.
(٥) انظر مثلا : تفسير الطبري ٦ / ٥٥١ ح ١٧٦٤١ ، تفسير البغوي ٢ / ٢٩٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٨١ ، تفسير القرطبي ٨ / ٢١٠.
وأمّا الأخبار :
فروايات كثيرة (١) ، حتّى قال القوشجي : « روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة » (٢).
وفيه :
إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه ، يجب التصرّف في الظواهر كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (٣) ، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط ، التي هي المستفادة من تلك الظواهر ، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.
ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه (٤) ، لا سيّما وهو إلى الآن لم يعرف ما هو؟! ولم يحك الاستعمال عليه في مورد!
على إنّ أخبارهم ليست حجّة علينا ، خصوصا وجلّها ـ أو كلّها ـ مطعون بأسانيدها عندهم ، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها ، مع إنّهم إن كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!
__________________
(١) انظر : التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة ـ للآجري ـ : ٣٧ ـ ١١٣ ح ١ ـ ٦٤.
(٢) شرح التجريد : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.
(٣) سورة الفجر ٨٩ : ٢٢.
(٤) وهو كون الرؤية معنى يحصل في الرائي أو يحدثه الله فيه وإن فقدت جميع شروط الرؤية ، من المقابلة وسلامة الحاسّة وقصد الرؤية وعدم البعد المفرط وغيرها ، وقد لا تحدث الرؤية وإن توفّرت جميع هذه الشروط.
وأمّا الآية الأخيرة : فلا ظهور لها في المدّعى ، والرجوع في تفسيرها إلى رواية صهيب عمل بالرواية ، وقد عرفت ما فيه.
وأمّا الآية الثانية : فظاهرها الحجب عن الله تعالى بلحاظ المكان ، وهو غير مراد قطعا ؛ لأنّ الله سبحانه لا يحويه مكان ، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها ، بل يحتمل ـ كما هو الأقرب ـ إرادة الحجب عن رحمته ، ومحلّ القرب المعنوي منه (١).
وأمّا الآية الأولى : فيمكن أن تكون فيها ( ناظِرَةٌ ) بمعنى : منتظرة ، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، ونسب إلى مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحّاك (٢).
وأورد عليه :
أوّلا : بإنكار استعمال النظر بمعنى : الانتظار ، لا سيّما مع التعدية ب ( إلى ).
وثانيا : بأنّ انتظار النعمة غمّ فلا يقع في الجنّة.
والجواب عن الأوّل : إنّ إنكار الاستعمال لا يلتفت إليه مع نصّ علماء اللغة على الوقوع ، كصاحب « القاموس » (٣) ، وعن « الصحاح » وغيره (٤).
__________________
(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٢٦٧ ، الكشّاف ٤ / ٢٣٢ ، مجمع البيان ١٠ / ٢٦٣.
(٢) مجمع البيان ١٠ / ١٧٧ ، وانظر : تفسير الطبري ١٢ / ٣٤٣ ـ ٣٣٤ ح ٣٥٦٥٦ ـ ٣٥٦٦٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٢٤٧ وما بعدها.
(٣) القاموس المحيط ٢ / ١٥٠ مادّة « نظر ».
(٤) الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ / ٧٨ ، لسان العرب ١٤ / ١٩٢ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٩ ، مادّة « نظر ».
وقد ورد به الكتاب العزيز وغيره ...
قال تعالى. ( فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (١) .. ( انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (٢) .. ( غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) (٣).
وقال الشاعر (٤) :
وجوه ناظرات يوم بدر |
|
إلى الرحمن يأتي بالفلاح |
وقال آخر (٥) :
كلّ الخلائق ينظرون سجاله (٦) |
|
نظر الحجيج إلى طلوع هلال |
فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام ، ولو أريد به الرؤية لعدّاه إلى ( سجال ) ب ( إلى ) كما قيل.
والجواب عن الثاني : إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته ، وطوع مشيئته ، بل ذلك زيادة في نعيمه.
على إنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة ، فلعلّه يوم القيامة ، كما
__________________
(١) سورة النمل ٢٧ : ٣٥.
(٢) سورة الحديد ٥٧ : ١٣.
(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٣.
(٤) نسبه الباقلّاني في تمهيد الأوائل : ٣١٢ إلى حسّان بن ثابت ، ولم نجده في ديوانه ؛ فلاحظ ، فلعلّه ممّا أسقط من أشعاره فلم يذكر في ديوانه.
وانظر : تبصرة الأدلّة في أصول الدين ـ للنسفي ـ ١ / ٣٩٧ ، مجمع البيان ١٠ / ١٧٥ ، تفسير الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٨ و ٢٣٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٢ ، باختلاف يسير في بعضها.
(٥) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٢.
(٦) السجال : الخير والكرم والجود هنا على المجاز ، ورجل سجل : جواد ، وأشجل الرجل : كثر خيره وبرّه وعطاؤه للناس ؛ انظر مادّة « سجل » في : لسان العرب ٦ / ١٨١ ، تاج العروس ١٤ / ٣٣٤.
يناسبه ما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ )(١).
ولو سلّم أنّ ( ناظِرَةٌ ) ليس بمعنى : منتظرة ، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ؛ لأنّ النظر : تأمّل العين للشيء ، لا الرؤية كما في « القاموس » وغيره (٢) ..
ولذا يتحقّق بدون الرؤية ، قال تعالى : ( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٣) مع إنّه قال : ( تَراهُمْ يَنْظُرُونَ )
والرؤية لا ترى ، وإنّما يرى تأمّل العين وتقليب الحدقة.
وأيضا : يقال : نظرت إلى الهلال فرأيته ؛ ولو كان النظر بمعنى الرؤية ، لما صحّ تفريعها عليه.
وأيضا : يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية ، كالشزر والخشوع ، ونحوهما ، فلا يكون بمعناها.
فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.
ودعوى : إنّ النظر ، وإن لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها ، إلّا أنّ تأمّل عيونهم ، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم ، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى ، فيلزم أن تكون ممكنة ، وإن لم تلزم فعليّتها.
إذ لو كانت نقصا عليه تعالى ، وممتنعة ، لنهوا عن التأمّل إليه ..
باطلة ؛ لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.
__________________
(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٤ و ٢٥.
(٢) القاموس المحيط ٢ / ١٤٩ ، الصحاح ٢ / ٨٣٠ ، لسان العرب ١٤ / ١٩١ ، تاج العروس ٧ / ٥٣٨ ، مادّة « نظر ».
(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٩٨.
ومن الواضح أنّ التأمّل ليس بنفسه نعمة وفائدة .. فلا بدّ :
إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته ، فيكون مجازا في المفرد ، ويثبت مطلوبهم ...
أو من حذف مضاف ، أي : ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه ، فيكون مجازا في الحذف.
ولا معيّن للأوّل ، بل المتعيّن الثاني ، لتعديته ب ( إلى ) ، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.
فمع هذه الأمور كلّها ، كيف يمكنهم الاستدلال بالآية؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية ، تكون ظاهرة في الرؤية المعروفة ذات الشرائط الخاصة ، وهم لا يقولون بها كما ذكروا ، فلا بدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر ، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.
هذا ، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين عليهالسلام أنّ المعنى : ناظرة إلى ثواب ربّها (١).
فمن الغرائب إعراصه عنه بعد النسبة ، وأخذه بغيره!!
فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعديل القرآن ، الذي أمروا بالتمسّك به ، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!
واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين ، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني ، فتكون مؤيّدة له ؛
__________________
(١) شرح التجريد : ٤٣٥.
لأنّ احتمال الامتناع ـ ما دام باقيا ـ لا ترفعه الظواهر الظنّية.
والمسألة ممّا يطلب فيها اليقين ، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي ، أو ضرورة ، كالرازي والتفتازاني وشارح « المواقف » وغيرهم(١).
ونحن لمّا أثبتنا الامتناع بضرورة العقل ، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييدا لحكم العقل.
__________________
(١) الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ و ٢٧٧ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨١ و ١٩١ ، شرح المواقف ٨ / ١١٥ و ١١٦ و ١٢٩ ، شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.
مباحث النظر
العلم بالنتيجة واجب بعد المتقدّمتين
قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :
المسألة الثانية
في النظر وفيه مباحث :
[ المبحث ] الأوّل
إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم
الضرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة.
وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين : أنّ العالم حادث ، و [ لا ] أنّ النفس جوهر ، [ أ ] وأنّ الحاصل أوّلا أولى من حصول هذين.
وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك (٢) ، فلم يوجبوا حصول
__________________
(١) نهج الحقّ : ٤٩ ـ ٥٠.
(٢) انظر : شرح العقائد النسفية : ٦٩ ـ ٧٠ ، شرح المقاصد ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٠٧ ـ ٢٢٤.
العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل!
ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة » ؛ وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث ، أو أنّ النفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان ، أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة »!
وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الاثنين ، والاثنين نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث؟!
وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغيّر محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وأنّ زيدا يأكل ، ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث؟!
وهل هذا إلّا عين السفسطة؟!
وقال الفضل (١) :
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم ـ الذي هو النتيجة ـ عقيب النظر الصحيح ، بالعادة.
وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على إنّ جميع الممكنات مستندة ـ عنده ـ إلى الله سبحانه ابتداء ، أي بلا واسطة ، وعلى إنّه قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلّا بإجراء العادة ، بخلق بعضها عقيب بعض ، كالإحراق عقيب مماسّة النار ، والريّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والريّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال.
وإذا تكرّر صدور الفعل منه ، وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ؛ وإذا لم يتكرّر ، أو تكرّر قليلا ، فهو خارق العادة أو نادر.
ولا شكّ أنّ العلم بعد النظر ممكن ، حادث ، محتاج إلى مؤثّر ، ولا مؤثّر إلّا الله ، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثريّ ، فيكون عاديّا (٢).
هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.
(٢) شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وانظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين : ٦٦.
وقد بيّنّا في ما سبق أنّ المراد من العادة ماذا (١).
فالخصم إمّا أن يقول : إنّ استلزام النظر الصحيح للعلم واجب ، وتخلّفه عنه محال عقلا ؛ فهذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [ عقلا ] ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.
وإن أراد الوجوب عادة ـ بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا ـ ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّنّا.
وأمّا قوله : إنّ الأشاعرة « جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا » ، فافتراء محض ؛ لأنّ من قال بالاستلزام عادة ـ على حسب ما ذكرناه من مراده ـ لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته ، وكأنّه لم يفرّق بين اللزوم العادي ، وكون الشيء اتّفاقيا ؛ أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير.
والله العالم.
* * *
__________________
(١) انظر الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.
وأقول :
قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأولى (١) أنّه لو قلنا باستناد الممكنات كلّها إلى الله تعالى بلا واسطة ، وأنكرنا العلاقة والسببية بين الحوادث المتعاقبة خارجا ، أو طبعا ، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وكلّها باطلة ... إلى غير ذلك ممّا مرّ.
ومنه يعلم ما في قوله : « لا مؤثّر إلّا الله تعالى » كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
وأمّا قوله : « فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وإن يوجد الإحراق بدون المماسّة ».
فإن أراد به أنّ له أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما ، فممنوع ؛ إذ ليس محلّا للقدرة ، لكونه محالا.
وإن أراد به أنّ له الإيجاد ، مع تغيير الطبيعة ، فمسلّم ؛ ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.
كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّة إن أراد به الإحراق المطلق ، فمسلّم.
وإن أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار ، فممنوع.
ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ؛ لأنّ المقدور
__________________
(١) انظر الصفحة ٥١ وما بعدها من هذا الجزء.
بالواسطة مقدور.
كما أنّ وجوب المسبّب بعد اختيار السبب لا ينافي القدرة والاختيار ، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.
وقوله : « هذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط » ..
واضح البطلان ؛ لأنّه إن أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم ـ من العقل ، والحياة ، وعدم النوم ، والغفلة ـ فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.
وإن أراد بها خصوص شرائط القياس ، فإمكان عدم التفطّن مسلّم ، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مباحث بمثل المقام.
وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، افتراء محض ؛ فغريب!
إذ لم يرد المصنّف بكون الحصول اتّفاقيا الحصول في بعض الأوقات دون بعض ، بل أراد به الحصول بلا لزوم ؛ لأنّه قال : « اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل » فوصف الاتّفاقي بما يمكن حصوله وعدمه ، لا بالحصول في وقت دون آخر ؛ وهو صريح في ما قلنا.
على إنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصول في بعض الأوقات ، لم يبعد عن الصدق ؛ لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائميا ، بل قال : هو دائم أو أكثري ، كما هو عين كلام شارح « المواقف ».
فإنّه نقل لفظ « المواقف » وشرحها بعينه ، من قوله : « بناء » إلى قوله : « فيكون عاديّا » (١) ، وحينئذ فأيّ الأمرين أراده المصنّف يكون ما صوّره من الأمثلة واردا عليهم ؛ وهو ظاهر.
__________________
(١) المواقف : ٢٧ ، شرح المواقف ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٣.